الاثنين، 9 يوليو 2018

رائحة التراب

رائحة التراب ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
عندما تصمت كل دعاوى الهوية والمواطنة .. يعلو صوت أخير معلنا مصيرنا المحتوم بالأرض ، وتتكلم الأرض عن حقها.. يتغير الإنسان ويتبدل الأشخاص على مر الزمان ، ويأتي بشر على إثر بشر .. وتصير وجوه الناس حيناً حمراء وحيناً آخر بيضاء أو سمراء .. وتغادر اسراب الطيور مراتعها في قلب المدن دوماً إلى أماكن جديدة فربما هي لا تعرف معنى الأوطان .. وتظل الأرض هي الوطن الحق للإنسان ، تنبض بصمت تحت آثاره عليها فتطبع بصمتها على كل هامات المنازل والبيوت بأسطحها المربعة واحواش الرمال ، وتدمغ الشوارع والأرصفة ومنابت الأشجار وهوام الطريق بدمغة لا تتكرر في غيرها .. الوطني على الحقيقة هو من عشق أرض بلاده بلا تحديد لشمال أو جنوب وعشق من أجلها وجوه الناس فيها من كل مضرب وصوب ، وعشق لأجلها منازل الطابق الواحد والطابقين وقباب المساجد وقطاطي القش في الريف وعواصف الشمس الاستوائية وغبار الشتاء والصيف .. فأجمل ما في أرض بلادي أن ظل سمتها ومحياها بارزاً ولم يختفي ترابها الأسمر تحت أرصفة الحارات وتحت الأسفلت القاسي .. فلا يزال التراب الأسمر معلناً عن نفسه كلما بللته زخات المطر ورشات المياه برائحة كما رائحة الأم للطفل الرضيع يظل الواحد ينتشي بها حتى ارذل العمر .. ولن يضيع النيل العظيم وإن علت فوقه الجسور كثيفة ، وإن غطت العبّارات والعوامات الكثيرة وجه النهر .. والخير لبلادي في أن يظل شكل الأرض والعمران فيها ما كان منذ بدايات الخرطوم وامدرمان وحتى مطالع القرون الجديدة ، وأن الجديد فيها لا يمحو القديم ثم هكذا يكون أبنائها .. إن ارض السودان كانت هي أولى بكلمات الشاعر الأمريكي (وولت وايتمان) في ديوانه (أوراق العشب) :
)  إني اعتقد أن كل ورقة عشب لا تقل عن رحلات النجوم والافلاك
نجد الكمال نفسه في حبة الرمل وفي بيضة العصفور الصغير
على حين تحاكي الضفدعة أسمى أشياء الكون
وتخاطب أشجار الكروم اشجار الحور في السماء)
وأولى ايضاً بأوصاف الروائي الانجليزي (جورج ميرديث) في قصيدته 'ميلامباس) :
(تدور الغابات كظلال الشجر المورقة
تشبه حركاتها حركة الحياة ذات الجذور الضاربة
تمنع الفوضى حيث تنصت إلى التراتيل البدائية)
ولما كانت الحياة الطبيعية الحقيقية تصل إلى أعلى درجات كمالها في الإنسان الذي يعرف كيف يستمد طاقاته من الأرض .. وكما كان (ميلامباس) في الأسطورة الاغريقية يستمد الحكمة والنظر الثاقب من كائنات الأرض فتريه العاطفة البدائية النقية على حقيقتها .. وكما عرف (حي بن يقظان) في الرائعة الروائية الفلسفية بريشة (ابن طفيل) طريقه الى الله دون عون من بشر قط ولكن فقط بمحض تأملاته في ارضه وكائناتها .. كذلك نكون نحن ، أو علينا أن نكون ..
لقد كان الخلاف على هوية أهل السودان مثلاً اكثرنا حوله الجدال بسؤال انفسنا مراراً في محافل الثقافة والسياسة والعلم وحتى على موائد الطعام (من نحن .. وما هويتنا ؟ أهي العروبية أم هي الافريقانية ؟) .. والإجابة بالانحياز لأي منهما يخلق مشكلة زائفة ، فمن سلامة المنطق أن يكون القياس على الماهية بالدوائر الصغرى أو الأكثر تضييقاً حتى يأتي الحكم اشد تركيزاً ، والدائرة الضيقة هنا هي أرض الشعب وأرض القبيلة على سنة الله في الخلق وهي البلد وليست ارض شعوب كثيرة بنحو القارة .. وأفريقيا ما هي الا قارة أي قطعة واسعة تضم فيها اصحاب الأعراق الزنجية وبنو (حام) كما تضم شعوب البجر المتوسط وأطراف الأطلسي .. وسواءً تحدثوا العربية أو الامازيغية أو السواحلية او الفرنسية بلكنة عرجاء فليس هذا سبب كافٍ للقول بهوية أفريقية .. ليست هنالك هوية أفريقية كما ليست هنالك هوية عربية إذ العربية لسان وأداة تواصل وفهم .. ولكن الهوية هي الانتماء الحقيقي لأرض ولدنا فيها ونشأنا عليها واختلطت شمسها وهوائها بلحومنا ودمائنا ، ولا عزاء في ذلك لمن ولد ونشأ في بلد أخرى بأنه ينتمي إلى أرضنا فقط بوثيقة جواز سفره ولما يصبه من الأرض شيئاً مما أصاب قاطنيها .. فمن كان سودانيا فذلك لأنه خلق على أرض السودان وتلك هويته فلا يعود محتاجاً لاستيراد هوية من وراء حدود أرضه بعروبية أو بأفريقانية .
ولعل تأثير الأرض يظهر جليا في اسلوب ونمط التواصل ، فلأننا على هذه الأرض دون غيرها فإننا نتكلم العربية بدارجة محلية ليست تماثل دارجة من يتكلمونها في الأقطار الأخرى .. فالمحك إذن ليس هو ان السودانيون يتحدثون باللغة العربية ولا أن الجزائريون يتحدثونها ، وإنما المحك هو في كيف يتحدث السودانيون العربية وكيف يتحدث الجزائريون العربية .. بحيث إن اراد باحث أن يفهم عقول السودانيين في تواصلهم فليس عليه أن يدرس اللغة العربية في نسختها الفصيحة القياسية بل عليه أن يدرس خصوصية استخدام السودانيين للغة العربية في لهجاتهم الدارجة .. وأما عن الجانب القاري ، فلعل ابناء العمق الافريقي في الوسط والشرق والغرب والجنوب من ذوي الادمة الزنجية السمراء هم المهمومين من دون العالم برسم هويتهم على الاساس القاري بالآفريقانية وليس على اساس اختلاف مناطقهم وأراضيهم داخل أفريقيا .. في حين نرى الالماني والانجليزي والفرنسي في أوروبا لا يقسمون على أوروبا نفسها في تعيين هوياتهم وإنما يقسمون على بلدانهم مباشرة فالألماني يقول أنا ألماني والانجليزي يقول أنا انجليزي والفرنسي يقول أنا فرنسي ، وهكذا .. ومثل ذلك في دويلات آسيا وامريكا . والشاهد في هذه الدعوة إلى افريقانية الهوية هو خصوصية الحالة الاستعبادية التي خضع لها شعوب افريقيا السوداء منذ القرن الثامن عشر في بلاد اجنبية بعيدة خارج افريقيا تماماً نحو اواسط وأقاصي الغرب حُملوا اليها قهراً وتعذيباً من لدن اصحاب الجلد الأبيض القوقازيين أو الآريين، ومن هناك نشأت نداءات وحركات التحرر باسم كافة من ينتمون لشعوب افريقيا ، ثم من هناك ايضاً تحركت تلك النداءات بشكلها الجاهز هذا لتصير اجندة عمل وبرنامج ترسيم هوية داخل افريقيا نفسها ، أي انه تم استيراد الفكرة ..
إذن ، ليست القارية هوية وليست اللغة بذاتها كفصحى هوية ، وإنما الهوية هي الانتماء لأرض لتبدأ من القرية ثم ما اعلى منها .. وكلما اتسعت الدائرة ضعف أثر الهوية .. وهذه الأرض قد شكلت مزاج وعقل من قام عليها .. وعلى ذات المنطق تكون هوية السوداني أنه ابن ارض السودان وكفي ، ولنتجاوز ذلك الجدل الزائف حول أصل الهوية فإنسان هذه الأرض هو عنصر قد انصهرت فيه أعراق عديدة فلم يعد لها فيه بذاتها تمييز وتفصيل ، وليصبح كل واحد منا هو ما هو عليه نتاج أخير ومحصلة نهائية .
أظهرت لي الغربة .. كم اعشق ثرى وطني .. وكم طغى الحنين إليه فخنق الدمع الكلمات في أصل اللسان .. وكم حبست العبرات عن العيون النظر .. وكم صارت المآقي جوفى من شدة الظمأ لنيل جرى مجاري الدم فاختلط بنبض القلب وتعلق بأستار الروح .. وكم بات الوجد حاراً .. حاراً يصهر ما بين النفس والضلوع .. يصهر فؤادً لطالما نشق عبق أزهار النيم في مطالع الصيف بعد شتاء قصير ..
إن الوطن ليس هو بيوت وأناس وأرض وماء .. ليس هو رزق ومال وعلم ونماء ..
إن التعريف الوحيد للوطن هو انه (أم) فكما تشكلت في رحم أمي نطفة وعلقة ومضغة وطفلاً    تشكلت في رحم الوطن تراباً وعشقاً وشوقاً وهوى .. فأنا لي أم من بني الأديم كانت هي الإنسان .. ولي أم من بين البلدان كانت هي السودان ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق