الخميس، 7 يونيو 2018

الانسان الحائر بين الحقيقة والخيال

الانسان الحائر بين الحقيقة والخيال
(بحث في جدلية العلم الكوني والمجلد السردي والنص المحكم)
د. وائل أحمد خليل الكردي
مدخل :
هذه المقالة تبحث في العلاقة الجدلية للتناسب العكسي بين اتساع الخيال وضيق القوانين العلمية ليكون الناتج هو مجلدات سردية سواء بالمرويات الأدبية أو بالنظريات العلمية، مما يستوجب الاسترشاد والتوجيه بمراجع كونية علوية هي النصوص المحكمة.
جدلية العلم والسرد والرسم الخيالي :
ذكر (جيلبرت رايل) Gilbert Ryle في محفل فلسفي حكاية الفلاحين الذين اذهلتهم صافرة القطار البخاري وهو يتحرك لأول مرة يشاهدوه فيها، وكيف أن مطران كنيستهم جمعهم في محاضرة شرح لهم فيها كيف تعمل الآلة البخاري. فقام أحد الفلاحين وقال "نعم سيدي المطران، نحن قد فهمنا تماماً كل ما قلته عن الآلة البخارية، ولكن بالفعل هنالك حصان ما داخل تلك الآلة، أليس كذلك؟". (1) 
إن هذا الفلاح البسيط لم تيسر له نشأته وبيئته من حوله أن يتصور قط أن تتحرك آلة من غير أن تجرها خيل، وبالتالي فكل ما قد عناه تطور الآلة البخارية لديه فقط أن الحصان لم يعد يقود القاطرة من الخارج وانما من الداخل، هذا منتهى ما وصل إليه عقله في الاستدلال. وبالرغم مما يبدو من سذاجة الفكرة لأول وهلة إلا أنه لو حدث الأمر كما تصوره الفلاح فعلياً، عندها كان سيكون هذا فتحاً في تاريخ الكشوفات العلمية أعظم ربما من اختراع الطائرة دون طيار. إذا أن ذلك سوف يعني أن العلم Science قد بلغ درجة إلى الحد الذي أمكن فيه تطوير عقل الحصان ليحل محل الإنسان في قيادة القطار فيكون هو وحده القائد والمتحكم فيه. هكذا تكمن خطورة الابداع الإنساني فيما يسمى (الخيال).
ولو أننا اعطينا كل فرد في العالم في وقت واحد ورقة بيضاء، وطلبنا منهم أن يرسموا كائناً خرافياً أو اسطورياً بمحض الخيال المجرد، ثم جمعنا كلها وأخضعناها للمقارنة الدقيقة لما وجدنا أي تطابق بين أي منها، ولكنها كلها برغم هذا التباين لم تخرج عن حدود مفردات الواقع المشتركة بينهم من طول وعرض وارتفاع وعمق ودائرة ومثلث ومربع ومتوازي والخط المستقيم والخط المتعرج والمنحني ومبدأ العين ومبدأ الأنف والفم واليد والأرجل، وهكذا. هي فقط إعادة تشكيل وتركيب وترتيب أوضاع بتصورات فردية لنفس المفردات الواقعية المشتركة بين الجميع والتي تشكل سقف أو حدود الخبرة لديهم ودون أن يأتي أحد بمفردة أو عنصر خارج عن هذا العالم الذي نعيش فيه مما يعني أن احتمالات تكوين وإعادة تكوين الاشكال من هذه العناصر أو المفردات وفق الخيال الإنساني المجرد هي احتمالات مفتوحة أو لا نهائية. وفي مجمل الأمر، يحاول الانسان دائماً الخروج من حدود أو إطار الواقع المفروض أمامه إلى آفاق الخيال المرسوم في ذهنه عن هذا الواقع. وعلى هذا يمكن القول أن كل الابداعات العلمية النظرية قد ظهرت على أساس من افتراضات أملتها هذه المخيلة الإنسانية كتفسير لحقيقة الوجود الذي نعيش فيه. وما يدعم هذا القول هو الكشف عن طبيعة مسألة الفرضية العلمية في ذاتها ومن أين يأتي وكيف يتكون في ذهن العالم، فإذا علمنا أن أكثر ما يتصل بنشأة الفرضيات العلمية هو العامل الباطني – هذا بخلاف العوامل الخارجية التي تنتج الفرضية بناء على مقدمات مسبقة تترتب عليها نشأة الفرضية منطقياً – لتأكد لدينا دور المخيلة التجريدية المهم في البناءات العلمية. فهذا (عبد الرحمن بدوي) يؤكد على لسان الطبيب وفيلسوف العلم الفرنسي (كلود برنارد) C. Bernard في كتابه الشهير (مدخل إلى دراسة الطب التجريبي) أن أكثر الظواهر التي شاهدها كبار العلماء وأقاموا عليها افتراضاتهم العلمية هي نفسها التي يشاهدها الناس كل يوم دون أن يثير ذلك أدنى انتباه لديهم، فظاهرة سقوط الاجسام مثلاً هي ظاهرة مشاهدة في كل وقت وعند كل انسان ومع ذلك لم يصل أحد قبل (نيوتن) I. Newton إلى وضع قانون الجاذبية، فالأمر يتوقف في هذه الحالة على العوامل الباطنة أي الأفكار التي تثيرها الظواهر الخارجية في نفس المشاهد، وهذه العوامل الباطنة هي ما تجعلنا نفترض بنوع من الوجدان أو العيان الحدسي ما عسى أن يكون القانون الذي عليه تجري الظاهرة وبحيث أننا لا نستطيع أن نضع قواعد للاختراع في العلم ولا أن نعلم القواعد التي يمكن أن تراعى في إنشاء الفرضيات الجيدة أو المنتجة لأن هذه مسألة فردية خالصة، إنما القواعد التي نستطيع أن نضعها هي تلك المتصلة بما يتلو وضع الفرضية، أما قبل وضع الفرضية فالأمر يتعلق بشيء ذاتي (2) وهو ليس شيئاً غير ما نسميه بالمخيلة والخيال. إن تكوين الافتراض العلمي في ذهن العالم يتبع تماماً رهان (بيضة كولمبوس)، فعندما عاد (كريستوفر كولمبوس) Ch. Columbus من رحلة استكشافه لأمريكا غانماً استخف بعض حساده بكشفه وقللوا من شأن إنجازه في حفل تكريم ملك اسبانيا له حتى أن أحدهم قال أنه لو أطلق سفينة شراعية بلا ربان فحتماً ستصل إلى ما وصل إليه، فاستمع إليهم (كولمبوس) ثم استأذن الملك في الرد عليهم، فأخذ بيضة من السلة وتحداهم أن يستطيع أحدهم أن يوقف البيضة على رأسها المدبب، فهذ حتماً أسهل من اكتشاف أمريكا، فعجز الجميع عن ذلك، أما (كولمبوس) فقد نقر قمة البيضة المدببة فأحدث في قشرتها تجويفاً صغيرا فكان أن أمكن للبيضة أن تستقر واقفة عليها. كلهم كان من الممكن أن يفعلوا ما فعله (كولومبوس) ولكنهم كانوا لا يمتلكون نفس مخيلته، فضاقت أبصارهم عن رؤية الفرضية الكامنة وراء حجته. وكذلك سقطت الملايين من ثمار الأشجار على رؤوس ملايين العلماء أو ما نحو ذلك دون أن يستنبط أحد منهم فكرة الجاذبية، وحده (نيوتن) Newton I. فعل.
ثم رأينا كيف أدى العامل الباطني في تكوين الفرضية العلمية إلى ادخال مفاهيم جديدة في العلم مثل : (دور الملاحظ) role of observer و(سقوط السببية ) collapse of causality و(حرية إرادة الالكترون) free well of Electron حيث لوحظ أن الالكترون في مداره حول نواة الذرة يخرج عنه دون سابق انذار ودون مسوغ معلوم ليبدأ مساراً جديداً مما يدل على عدم خضوع الجسيمات الدقيقة لقانون سببي (3). ولقد ترتب على هذه المفاهيم التصور بانفلات المادة بفعل الانعكاسات المتبادلة بين (الكون – الوعي) الأمر الذي أفرز ما سمى بظاهرة (الشذوذ السببي) causal anomalies والتي تتجاوز القياس الاستقرائي التقليدي ويفقد بسببها عنصر التنبؤ العلمي (4)، ومن ثم أصبحنا نستطيع أن نتصور - على غرار مبدأ اللا نهايتين لدي (بليز باسكال) – عوالم على مدى الكون الكبير (نسبية أينشتاين) والكون الصغير (الكوانتم) يكون من المستحيل فيها فيزيائيا تطبيق أياً من منهجي (التحقق) Verification و(التكذيب) Falsification على قضايا تجريبية معينة إلا على نحو احتمالي فقط (5)، وهو ما تمثل في ما عرف في الأدبيات فيزياء الكوانتم Quantum physics بمبدأ الارتياب أو اللايقين uncertainty principle لدى (هايزنبيرج) Heisenberg ويفيد عدم قدرتنا على الحكم بماهية الجسيم لكم الطاقة نسبة لعلاقته بالضوء المسلط عليه معملياً، فالجسيم أصلاً في حالة حركة فإذا اسقط عليه الضوء من مصدر بعيد تشتت تركيز الأشعة الضوئية المنتشرة ولم تكفي لإدراكه، وإذا اسقط من قريب زاد تركيز الأشعة الضوئية من سرعة حركة الجسيم فلم يمكننا تعيينه أيضاً (6). وانحسب هذا الأمر إلى ميدان الرياضيات كذلك حيث برز العالم الألماني (كورت جودل) K. Goedel بمبرهنة (عدم الاكتمال) incomplete فحتى الرياضيات في شكلها الصوري الصرف القائم على البديهيات تنفلت من تحت يدها قضايا سوف تبقى بالنسبة للإنسان إلى الأبد غير قابلة للفصل فيها لأنه لا يمكن اثباتها ولا دحضها، إذن فالرياضيات التي تفسر بها قوانين العالم ليست دائماً مكتملة (7). وهكذا تذوب الأحكام المنطقية الصارمة على كل القضايا بالصدق والكذب وحدهما، وصار الاتجاه نحو تكوين واحلال (منطق القيم – المتعددة) Many – valued logic حيث اثبات اشتمال الحساب المنطقي على قيم غير محددة أو غير متعينة بين طرفي الصدق والكذب، فالقضايا يمكن أن تقع في حالة ظرفية معينة من أحوال حدوثها ولا يكون في مقدورنا وقتها القطع بأحكام الصدق أو الكذب عليها (8). وكان هذا هو المنطق الذي أدى ببعض العلماء الفيزياء المعاصرين ممن اتسعت لديهم مساحة الخيال فتواضعوا على نظرية فيزيائية تضم كافة نتائج الفيزياء الحديثة (الكوانتم والنسبية) تعرف بنظرية (الأوتار الفائقة) Superstring theory والتي تم التعبير عنها بنحو اخر بنظرية M (M Theory) ليخلصوا فيها إلى أن هذا الكون هو أكوان متعددة متوازية قد تتحقق فيها كل الاحتمالات الساقطة أو التي تم استبعادها عن كوننا هذا الذي نعيش فيه من خلال تمدد جسيمات الطاقة ونفاذها إلى تلك المتوازيات الوترية الكونية فلا يصدر – كما نتوقع والحال هكذا – خيال بإعادة تشكيل مفردات على غير الواقع في الكون الراهن ألا ولزم له صدى وتجسد في كون آخر، فقد صممت هذه النظرية بطموح أن تحوي كل شيء. وعندما سئل الفيزيائي النظري في المركز الأوروبي للبحوث النووية في سويسرا (جون إليس) J. Ellis عن نظرية الأوتار الفائقة، قال بأنه يعتقد أن من الخير أن نفكر في صورة الأوتار التقليدية التي نعرفها ونألفها كأوتار آلة (الكمان) على سبيل المثال، فنحن إن قرنا وتر بالكمان أمكنه أن يهتز بتوترات عديدة وعلى مستويات مختلفة، والوتر الفائق على هذا المنوال فأنواع الجسيمات الأولية المختلفة تقابل فيما يبدو الاشكال المختلفة لاهتزازات تلك الحلقة المنتجة للأنغام المختلفة الصادرة عن وتر كماني واحد، فهناك في الحقيقة عدد غير محدود من الأساليب الاهتزازية التي يمكن أن يتخذها الوتر الفائق، والجسيمات الأساسية التي نعرفها حتى اليوم والأشياء التي يتكون منها كل ما حولنا تقابل بالضبط السلم المنخفض في البناء النغمي لما يمكن أن يصدر من وتر واحد معين (9). إذن ليس بغريب أن يسعى الخيال السردي لدى الروائي الإسباني (ثيرفانتس) أن يبدع ضمن أشهر روائع الأدب العالمي لشخصية خلاقة بنحو (دون كيشوت) Don Quishott فيجعله يغرق في أدب الفروسية وقصص الفرسان في زمان النبل والنبلاء الذي أفل منذ سنوات بعيدة حتى تمثلها كلية واختلطت بشخصيته وتصوراته وطغت على عينه فلا يعود يرى الحاضر الذي يعيش فيه، ولا يرى نفسه إلا فارساً يعيد اسطورة شرف الفرسان وعهد النبلاء بكل تقاليد النبل والفروسية حتى ولو كان ذلك محض خيال رمى به إلى مبارزة طواحين الهواء على أنها عمالقة أشرار فيسقط على الأرض مدرجاً بالدماء والجراح تنزف، ولكن ما يجعلنا نفسر الأمل الذي كان دافعة للقيام والمضي في طريقه الذي عزم  كان أن يكون هذا الخيال قد جري حقاً على وتر كوني آخر في لحظة ما ولو بشكل ضمني في عقل الكاتب. ولكن الشاهد في هذه السردية التراجيدية الساخرة لدون كيشوت أن يستحضر بخياله آفاقاً غير متحققة بالواقع الراهن أو أنها أنجزت في ماضٍ سحيق ولم تعد، أو أنها تكمن في مستقبل بعيد. 
كل هذا يمثل سرداً كونياً لمحاولات الإنسان أن يؤكد قدرته على وضع يده على العالم بأسره بأن يبني من حصيلة الشواهد حوله افتراضات لرؤى كونية شاملة world-view من أجل أن يعطي بها تفسيراً مستساغاً للعالم، وربما ظن أنه كلما تطورت خبرته وازدادت حصيلة هذه الشواهد المدركة لديه واتسعت بها عنده حجم الافتراضات التفسيرية كلما ضاقت الهوة بين نسبة الحقيقة ونسبة الخيال في الواقع وفي وعي الانسان، ولكنه في كل مرة يجدها تتسع أكثر. فإذا كان البطل الاغريقي الأسطوري (سيزيف) قد حكم عليه بأن يصعد بالصخرة إلى قمة الجبل العالي وعندما يبلغها تسقط الصخرة إلى سفح الجبل ليعود (سيزيف) ليحملها مرة أخرى إلى القمة وهكذا إلى الأبد، فإن العلم في بحوث العلماء يفعل نفس ما يفعله (سيزيف) بالصخرة حيث أن العلماء في كل مرة يحققون كشفاً يبلغون به قمة العلم سرعان ما يتبين لهم أن هنالك قمم أخرى أعلى ورائها عليهم بلوغها لدرجة أن يظهر أن جهل الانسان هو الذي يتسع وليس علمه فسبحان القائل ".. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (القرآن الكريم، الاسراء 85). ولكن الانسان في نهاية الأمر يجد لزاماً عليه أن يتحرك في الوجود حوله ولا مفر، وينشئ بهذه الحركة ضروباً في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وهو ما يتطلب اتجاهاً للحركة وغاية لها وهذا بدوره يفرض أمام الانسان قيمة ما تدله على المعنى والمغذى الذي اختاره لوجوده في العالم والحياة، فإما أن يكون أثراً وإما أن لا يكون ، ولذلك فكما أن الغلاف الجوي يحيط بالكرة الأرضية في مدارها الكوني كذلك يحيط الخيال بالعلم ويلتف العقل الانساني حول الحقائق الثابتة والقوانين العلمية في معرض تأويلها وتوظيفها بحسب ما لديه من رؤية كونية شاملة. ولأجل هذا كثيراً ما ينشئ الانسان مجلداً سردي يضع فيه ظواهر وأحوال وقوانين ونظريات الوجود، وكل مجلد سردي هو ملف معني بقضية محددة تصنف فيه كل المحاولات التخيلية تجاه هذه القضية، وهذا التصنيف هو مما يفيد ويغذي النقد Criticism. وهكذا فإن السرد هو القالب التداولي في التعبير الضروري عن الفكرة العلمية في جملة المحيط العقلي الخيالي، كما أنه الناقل للخبرات المتراكمة بين أجيال الإنسان - في رسائل منطقية على مستوى الفهم - وفي رسائل أدبية على مستوى الشعور – لتؤدي دورها الأساسي وهو إعادة بناء وتصور الواقع والعالم على نحو اكثر تطوراً في كل مره بنفس القدر الذي يجسد فيه السرد أيضاً ما خفي على مدونات التاريخ قياساً على ما ثبت من هذا التاريخ. كما أن المجلد السردي الذي يدون فيه الانسان ما يقع لديه من الكون إنما يمثل على الأرجح المسافة أو فضاء الجدال بين الحقيقة الواقعة المعلوم ثبوتها والافق الخيالي على غرار اللوحة التشكيلية المتكاملة العناصر والابعاد. ولذلك كان النقد criticism يفرض على السرديات شرطي البناء النسقي systematics والتراتب والتكامل والاتساق السياقي coherence of context لعناصر المروية أو القصة، فالسرد إذن هو أداة الخيال ومطيته. أما على صعيد التأثير السردي في رسم مقولات العدم والمصير والمجهول القادم فيمكن أن نجد تعبيراً عنه في ذلك القلق الناشئ عن تلك الفكرة السردية التي ضمنها (دان براون) Dan Brawn بالنص اللافت للانتباه في روايته (الأصل) Origin التي صدرت مؤخراً :
"تذكر (لانغدون) أن اختبار تورينغ كان تحدياً اقترحه مفكك الرموز (آلان تورينغ) لتقييم قدرة الآلة على التصرف بطريقة لا يمكن تمييزها عن سلوك الانسان. في الأساس، يقوم حَكَم بشري بالإصغاء إلى حديث بين آلة وإنسان. وفي حال لم يتمكن من معرفة أي من المشاركين هو الانسان، تعتبر الآلة ناجحة في الاختبار. تم اجتياز تحدي تورينج في الاختبار الشهير الذي اجري عام 2014في الجمعية الملكية في لندن. ومنذ ذلك الحين تقدمت تكنولوجيا الذكاء الصناعي بوتيرة سريعة للغاية." (10)، هكذا يعكس هذا النص جدلية تطور الذكاء الاصطناعي في الانتقال من حالة العقل الحسابي Reason الذي لا يتجاوز عمليات تحصيل الحاصل المنطقية الرياضية tautology في معالجة المعلومات المعطاة على نظام التغذية الراجعة feed back وهو ما جعل الآلة حتى الان رهن تحكم الانسان وسيطرته، إلى حالة العقل الانفعالي Mind والذي يتجاوز حدود التفكير الرياضي استقراءً واستنباطاً ليبلغ العمليات الشعورية الآدمية ومهارة ارسالها بالطبقات الصوتية للغة مما لا يخضع لأي وظائف حسابية أو صياغات علمية ابتداءً، وهذا العقل الانفعالي يحتوي العقل الحسابي ويسيطر عليه في التوظيف والاستخدام التداولي في الحياة العامة، وهو ما يجعل البشر بشراً. والان وبعد اختبار تورينح ودخول الذكاء الاصطناعي بقدراته الفائقة فضاء العقل الانفعالي فما مظان أحوال الانسان في الوجود بعدها وكيف سيعيد رسم أدواره المستقبلية في خضم ما أوكت يداه وبما كسبت. إن دخول هذا الأمر إلى الأنماط السردية على هذا النحو الذي يثير المخاوف على مكانة الانسان في العالم من حيث بقاؤه وتميزه إنما يعيد السؤال حول الخصوصية العقلية للإنسان بكونه يملك المخيلة الفريدة التي مكنته دوماً من ممارسة حياته في هيئة شعوب وقبائل يختلفون في ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وطرق وأنماط حياتهم، ثم بالدرجة الأعلى أنهم عبروا عن هذا كله  بكيفيات متعددة حتى في استخدام اللغة الواحدة (11)، فكان التعبير عن طريقة ما في الحياة يتناسب وكيفية معينة في استخدام اللغة العادية الأمر الذي قد لا يتصور أن يسمح به تطور الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالمستوى الخاص لٍكل طريقة حياة على حده وإن كان من الممكن تصوره بالنسبة لصور الانفعال البشري على وجه العموم أي في كلياته المبدئية وليس في خصوصيته لدى كل طريقة في الحياة لشعب أو قبيلة وفي صياغات وأشكال التعبير عنها، وهذا إذا سلمنا ابتداء بأن تعدد واختلاف وتمايز بني الانسان الذي يجعل منهم شعوباً وقبائل إنما هو خلق رباني ماضٍ بلا تبديل ما دامت السماوات والأرض وهو في قوله تعالى "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" (القرآن الكريم، الحجرات 13). وليس هذا فحسب، فإن التعبير اللغوي التداولي الذي يعد مكوناً لازماً لكل طريقة في الحياة ليس فقط يمثل النسيج الرابط لعقول الأفراد المنتمين لشعب معين أو قبيلة وإنما أيضا هو الناقل لكافة محمولات ومضامين الخبرة لدى الشعوب الأخرى إلى داخل الشعب المعين ليتم إعادة التفاعل معه وهو ما يجعل مجمل الخبرات الحياتية لدى كافة الشعوب مما يمكن نقله إلى العالمية من خلال الوسيط والقوالب السردية. وهذا ما يمكن أن يكون قد دعا علماء وفقه اللغات وفلاسفة اللغة إلى افتراض تصوري للغة المتداولة عرفوه اصطلاحاً (اللغة الفوقية) Meta-language فتكون هذه اللغة الفوقية لغة شارحة على (لغة الموضوع) Object-language والتي هي نمط اللغة المحكية المستعملة تداولياً لدى شعب أو قبيلة تبعاً لطريقتهم في الحياة واختلافها عن غيرها من طرق الحياة الأخرى، وكان ذلك التقسيم حرصاً على الفهم والتفسير الكامل للوسيط اللغوي وما يحويه.
 ولأجل هذا من المناطقة من جعل (اللغة الفوقية) هذه على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى disjoint هي اللغة الفوقية المنفصلة عن لغة الموضوع وتدرس العناصر والمضامين والدلالات التي تحويها لغة الموضوع فهي بمثابة شرح لهذه المضامين والدلالات وليس شرحاً مباشرا لسياقات اللغة نفسها، والمرتبة الثانية overlaps هي اللغة الفوقية المتداخلة في لغة الموضوع لتعنى بشرح مكوناتها النحوية والتركيبية في سياقاتها، والمرتبة الثالثة  containsهي اللغة الفوقية التي تحتوي لغة الموضوع وتحيط بها من حيث أنها تشرح الأطر الصورية الرياضية والقواعد المنطقية العامة في بناء كل لغات الموضوع (12).
ولكن بالرغم من افتراض لغة شرح فوقية كانت من أجل الإحاطة الكاملة بفعالية اللغة والتحكم في أدائها التداولي والنقلي للخبرة، يظل السؤال قائماً (إذا كانت لغات الموضوع تتجلى ابداعياً في التكييف السردي التخيلي لسمات الملكة العقلية والتصورية والوجدانية لشعب ما، وأنها تظل تتسع على مر الزمان من حيث ارتباط فكرة العقل باللغة ليس بكونها فقط وسيلة للتعبير والاتصال وإنما بكونها عنصراً تكوينياً في طريقة حياة يتوافق مع كل العناصر الأخرى فيها لتشكل وعياً حضارياً معيناً، فكيف إذن للغة الفوقية أو لغة الشرح أن تلحق بهذا الاتساع المستمر للغة الموضوع وتقوم بالإحاطة والتداخل والتخارج بصددها)، إن الأمر في هذا لأشبه بمحاولة علماء فيزياء الكوانتم بالإحاطة والسيطرة على جسيم الطاقة وتفسير ماهيته برغم حالته في مبدأ الارتياب أو اللايقين لدى (هايزنبيرج). 
النظرية العامة للزومية النص المحكم :       
  عندما يواجه الانسان الكون بعقل مكشوف اعزل من المراجع والنصوص، فإنه يمكن وصف حاله قياساً على ما كتبه (كارل بوبر) K. Popper فيما ما يحدث الطفرات في داخل البنية الجينية الوراثية لدى الكائن " إن الطفرات على المستوى الجيني ليست فقط عشوائية، بل أيضاً عمياء تماماً، إنها عمياء بمغذيين فأولاً، ليس هناك أي تعقب لهدف محدد. وثانياً، بقاء طفرة لا يمكنه أن يحكم الطفرات الأبعد ولا ترددات واحتمالات حدوثها" (13). وكذلك "على المستوى العلمي، نجد أن اتخاذ حدس افتراضي أو نظرية جديدة قد يحل مشكلة أو مشكلتين لكنه دائماً يفسح المجال للعديد من المشكلات الجديدة ولنظرية ثورية جديدة تمارس فعلها تماماً كما لو كانت عضواً جديداً فعالاً من أعضاء الإحساس، وإذا كان التقدم لافتاً فسوف تختلف المشكلات الجديدة عن المشكلات القديمة، سوف تكون المشكلات الجديدة على درجة من العمق تختلف اختلافاً جذرياً، وعلى سبيل المثال حدث هذا مع نظرية النسبية وحدث مع ميكانيكا الكوانتم ويتحقق الأن بشكل مذهل مع البيولوجيا الجزيئية. في كل حالة من هذه الحالات تفتح النظرية الجديدة آفاقاً جديدة مترامية من المشكلات غير المتوقعة" (14).
إن ما تشمله دلالة الخيال والمتخيل ليس فقط كافة الممكنات غير المحدودة في تأليف وإعادة التأليف لمفردات الخبرة في مركبات ذهنية جديدة في كل مرة، وإنما أيضاً الحيز المتسع من المتغيرات غير المحدودة أمام كل ثابت علمي، على منوال استشهادات (كارل بوبر) تلك، وكلاً منهما يغذيان التصور السردي للعالم لدى الانسان. ولكن الفرق أن منها ما يتحقق في وجود عيني فعال، ومنها ما يظل مجرد حالة سردية لا تتحقق. وبقول آخر من السرد المتخيل ما يكون فرضية تتحقق كاكتشاف علمي أو اختراع صناعي، ومنها ما يظل دوماً في حيزه كفرضية لا تقبل التحقق.
والمشكلة ليست في المخيلة بذاتها وإنما المشكلة هي أن المجتمع الإنساني يحتاج إلى طريق يسير عليه بثبات مهما تغيرت الصور المتخيلة من حوله حتى لا يضيع. والمقصود هو حاجة الانسان لثوابت قيمية برغم كل المتغيرات، وهذه الثوابت هي ما يضمن لديه الحق الواحد والعدل الواحد والاستفادة الإيجابية من كل متغير علمي والاستخدام السليم لكل ثابت علمي. فالأمر تماماً كالدستور بالنسبة للدولة، فالدولة بلا دستور حتماً زائلة وبسرعة. ولكن هذه الثوابت للقيمة الارشادية للإنسان في الكون حتماً لابد من اشتمالها على الوصف الكلي للكون ما علمنا منه وما لم نعلم، ولا يكون هذا ممكناً إلا إذا نظرنا إلى الأمر وفق (حجة الساعة) كما قدمها (وليم بيلي) W. Paley في كتابه المشهور (اللاهوت الطبيعي) Natural Theology رداً على الالحادية الداروينية، حيث أنه في أثناء سيره في الطريق الخلوي تعثرت قدمه بحجر ولم يكن من المستغرب وجود هذا الحجر في هذا المكان فهو ضمن السياق الفطري للطبيعة، ولكن عندما اصطدمت قدمه في ذات الطريق بساعة كانت ملقاة، هنا يثور العجب والدهشة والسؤال فالساعة بما فيها من عقارب وتروس ليست من قبيل الحجر ولا شيء من أشياء الفطرة في الطبيعة الحرة فهي صنعة لها صانع هو من له الفصل في أمرها وسميت تلك بحجة الساعة. فللوجود صانع عنده الحل والعقد في أمره، أم نعود فنقول أن الحل هو أن يضرب كل انسان في مرماه بهواه ولكل أن يعتقد فيما يشاء ويمضيه على الحياة بأسرها في كل ما يلحق بها من قيم وأخلاق وسلوك. ولذلك جعل الله تعالى من القرآن الآيات المحكمات على ظاهر نصوصها بما لا يمثل شبهة ولا يحتاج لتأويل وهو أغلب آي القرآن "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" (القرآن الكريم، آل عمران 7). والتي هي ترسي الثوابت التي لا يؤدي الخيال الانساني دوراً فيها بذاتها ولا يملك الانسان إلا اتباعها دون فحص العلة الربانية منها على نحو سؤال العلماء للسببية في الطبيعة، وربما صح في ذلك مذهب (ابن حزم) الظاهري عندما قال "لسنا نقول إن الشرائع كلها لأسباب، بل نقول ليس منها لسبب إلا ما نص عليه منها أنه لسبب، وما عدا ذلك فإنما هو شيء أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء" (15)، والحديث النبوي الصحيح أيضاً على منوال ذلك. وإنما للخيال السردي أن يدور كما يشاء وكيفما شاء حول هذه الثوابت المطلقة المعطاة بالنص المحكم ولكن ليس في تأويلها بذاتها، ثم لعل أن النص المحكم يكون هو العامل الوحيد الذي يسمح لأصحاب النظريات العلمية – نظرية (داروين) Ch. Darwin في تطور الجنس البشري مثلاً – أن يكون لها من الفائدة في فهم الحقائق الراهنة بين أيدينا، أي في مجالاتها وتطبيقاتها الفعلية القريبة في الوجود الفعلي للإنسان أمام الطبيعة في العالم ممن خضع بصورة حية إلى إجراءات الملاحظة العلمية والتجربة. أما أن تجعل مثل هذه النظرية من نفسها شرطاً لتفسير الأصول البعيدة وأحوال النشأة الأولى وتفرعاتها فهذا مما لا يمكن قبوله نظرياً أو عملياً بحال بكون ذاك أمر لم يزل في حيز الافتراضات التي لا تتحقق برغم كل التقدم العلمي الراهن، فإن الله تعالى قد حسم فيه القول "ما اشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا" (القرآن الكريم،الكهف 51). فالإشهاد هنا لا يعني فقط الرؤية البصرية، حيث لا دليل في النص على قصره عليها، لذلك يمكن أخذ الاشهاد على معناه المطلق بما يفيد كل ما يدل على التثبت اليقيني. والمطالبة بتوقف العملية التخيلية الافتراضية في هذا الأمر يكون بسبب أن التخييل لا يكون إلا على مفردات وردت إلى حيز الخبرة عبر المنافذ الادراكية الحسية أولاً ثم يتم تركيبها في أشكال وهيئات متخيلة، ولكن عملية الخلق الأول لم ترد إلى المنافذ الإدراكية الحسية أصلاً لتكون عنصراً من عناصر الخبرة لدى الانسان.
إذن فالنص المحكم في القرآن الكريم هو محدد الثوابت في توجيه حركة الانسان في الوجود والقيم التي عليه أن يحملها في إدارة الحياة. وعموم آيات القرآن الكريم هي اللغة الفوقية الشارحة والضابطة الوحيدة الممكنة ليس على لغات الموضوع التداولية بين الشعوب والقبائل وإنما على مفردات وتأليفات المخيلة الإنسانية ومجلداتها السردية حول الأسئلة الكلية على ماهية الوجود والعدم والغاية والمبتدأ والمنتهى مما لم نشهد خلقه في هذا الكون.
خلاصة :
إن الانسان يحمل العالم في رأسه ويعيد بنائه فيه مرات ومرات ربما بلا منتهى ثم يضع ما تصوره برسم خياله في حكايات وصور وفرضيات تفسيرية، فالخيال المجرد كالدائرة التي لا تبدأ لتنتهي بل تستمر، فإن لم يكن هناك عقال رابط للخيال الدائر بحد من الثوابت الأخلاقية والمعرفية يركن إليها الإنسان كمنطلق ومرشد وغاية في ممارسته الذهنية تلك لظل يدور بلا غاية وربما ينتج علماً وعمراناً ولكنه لن ينتج حضارة مجتمعية وقيم إنسانية وكونية عليا، ولربما أضاع الانسان نفسه. 
الاحالات المرجعية:
(1) Gilbert Ryle - Philosophical symposium (The physical basis of Mind) – Basil Blackwell, Oxford , 1957, p. 75.
(2) عبد الرحمن بدوي – مناهج البحث العلمي – وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثالثة، 1977م. ص 147، 148.
(3) Dictionary of philosophy – edited by; I. Frolor , Progress publication , 1984 , p. 348.
(4) Robert Ackermann – An introduction to many-valued logic – Rutledge & Kagan Paul , London , 1967.p. 24.
(5) Hans Reichenbach – philosophic foundation of Quantum mechanics – University of California, 1944 , p. 29 , 30.
(6) ستيفن هوكينج – موجز في تاريخ الزمان – ترجمة/ عبد الله حيدر، أكاديميا، بيروت، الطبعة الأولى، 1990م، ص 74، 75.
(7) رولان أومنيس – فلسفة الكوانتم، فهم العلم المعاصر وتأويله – ترجمة/ أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 350، 2008م، ص 151.
(8) Robert Ackermann – An introduction to many-valued logic – p. 23.
(9) بول ديفيس، جوليان براون – الأوتار الفائقة، نظرية كل شيء – ترجمة/ أدهم السمان، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الثانية، 1997م، ص 142.
(10) دان براون - الأصل – ترجمة/ زينة إدريس، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2018، ص 50.
(11) Ray monk – Wittgenstein and the two cultures – BBC radio, 66 prospect, July 1999 , pp. 1-2.
(12) Michael Fisher – Language, Meta-language – J. of the IGPL, vol. 4, no 2, p. 260.
(13) كارل بوبر – اسطورة الإطار، في دفاع عن العلم والعقلانية – ترجمة/ يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، العدد 292، 2003م، ص 38.
(14) كارل بوبر – اسطورة الإطار – ص 37.
(15) محمد أبو زهرة – ابن حزم، حياته وعصره آراؤه وفقهه – دار الفكر العربي، ص 436.
 

العقوبة المتعدية .. ومظالم ما وراء الحجب

العقوبة المتعدية .. ومظالم ما وراء الحجب

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
هنالك نظرية انجليزية قديمة في الفقه القانوني البريطاني تدعى بنظرية (اندماج سبب الدعوى في الحكم) The doctrine of merger of cause of action in judgment   وبمقتضى هذه النظرية يفقد سبب الدعوى ذاتيته بمجرد صدور الحكم وينقضي سبب الدعوى بأن يحل الحكم محله كمصدر للحق أو الالتزام .. وقد اوضح القانوني البارز (هنري رياض) ذلك شارحاً بأنه لا يجوز للخصم أن يرفع دعوى اخرى بناء على نفس سبب الدعوى حتى لو كان طلبه في الدعوى الثانية مختلفاً تماما عن طلبه في الدعوى الاولى وحتى لو تولدت الحاجة الى الطلب الثاني عقب صدور الحكم على الاول، اي ان القانون لا يعترف سوى بمطلب واحد على سبب الدعوى وبالتالي يسقط اي مطلب اخر ينشا عن نفس سبب الدعوى في حال الحكم القضائي على موجب المطلب الاول .. وهكذا تؤدي نظرية الاندماج هذه الى حرمان الشخص من التقدم بطلب مبني على نفس سبب الدعوى السابق وذلك بدافع تقصير آماد النزاع ومن ثم حث الخصوم على التقدم بكل طلباتهم دفعة واحدة حتى يتم الفصل فيها بحكم واحد .. ولكن اليس يحمل هذا اشارة لتعدي الحكم الصادر في مطالبة على سبب دعوى ما الى ان يلغي كل المطالبات التي قد تنشأ على نفس سبب الدعوى مستقبلا والتي قد يكون فيها حق لصاحب الدعوى وإن لم تظهر حيثيات ذلك الا بعد صدور الحكم على المطالبة الاولى فتقع بذلك مظلمة بينة على صاحب الحق لتكون بمثابة عقوبة ضمنية له بإسقاط الحق له في رفع دعوى قضائية لمطلب جديد على نفس سبب الدعوى المحكوم فيها .. اوليس هذا هو الوجه الاخر للعقوبة التي تتعدى موضع القدم مني لتبلغ نحو موضع الرأس لدى غيري  .. اوليس بداية اية قصة ظلم قانوني تنشأ في الاصل عن جملة من الافهام الخاطئة .. وأن ليس حقيقة ما نرى من سراب على الشوارع هو بماء ..
وما نخص الذكر به هنا هو توضيح أن من الحقوق ما هو موصول بمفهوم العمل الذي هو قيمة لا تعلوها قيمة لما فيه من سبب لعمران الارض وبقاء للشعوب ..  وهذا ما تعطيه يد العامل أيا ما كان عمله سواءً اقام بين الاضابير بالدواوين أو طعن بطن الارض والصخر بالمنجل والمعول .. فكيف تعيش الشعوب والامم إن نحن قطعنا عن عاملها مداد الماء والغذاء والكساء .. فإن يكن العامل هو المحرك لعجلة الوجود بدفعه المستمر في العمل، فإن ما يتقاضاه من أجر راتب على ذلك هو ما يكون زوادة عيش أسرته واهله وخاصة بيته .. تلك الأسر التي هي الوحدات اللازمة ليتألف منها عموم المجتمع وبضياعها يضيع، فلو أن عاملا قد اخطأ وجنت يداه بجرم ذات مرة وتم ايقافه عن العمل اشهر او سنوات الى حين اصدار الحكم النهائي عليه وتم تجميد الراتب طوال تلك المدة، فهكذا لم يعاقب هو كفرد قائم بنفسه بل تعدى العقاب بذلك لكل من تبع لقوامته ممن يعول من ابرياء النساء والولدان ومن بلغوا ورائه من الكبر عتيا، فإن ثبتت عليه الادانة وتحققت التهمة في حقه ثم أودع السجن عاش هو أيامه تحت ظل نفقة هذا السجن ما شاء الله له فيه وهناك المال عن اهله مقطوع .. فتلك هي العقوبة المتعدية بظلم حيث تطال عائلة الفرد الخاطئ اكثر مما تطاله بنفسه، واذ نكون قد كففنا عن المجتمع ظلم الجاني من بوابته فإننا قد اعدنا ظلم المجتمع من بوابة اسرته .. وبهذا تنهار العدالة في الدنيا .
لذلك أتى أمر الله تعالى أن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) و(أن ليس للإنسان الا ما سعى)  ليكون قانوناً على الأرض تدور حولة اقصى درجات العدالة في كل شرائع بني آدم .. فلا عقوبة تتعدى مرتكب الخطيئة ، ولعل لذلك أن اتى العقاب جله في شريعة الله تعالى بالتوقيع على جسد الاثيم الجاني إما جلداً أو قطعاً أو نفياً أو اعداماً، ولكن ليس يتعداه الى ما يقيم أود رعيته وأبنائه من اسباب لقمة العيش وسترة الحال، إذ هم في الشرع قد صاروا اوصياء من حكم وليسوا اوصياء من ظلم أو اخذ نفسه بجرم فتعطلت بذلك مسؤوليته عليهم وصار لزاماً على الحاكم للمجتمع حق عقاب الجاني ولزاماً عليه لعائلة المحكوم بعقوبة حق خلفته فيهم لحين ان يرجع ..
ووفقاً لهذا المنطق ومن وجه اجتماعي غير ذاك الجنائي، أنه من الممكن اعتبار فائدة ما بعد الخدمة أو راتب المعاش لمن تقاعد عن العمل ببلوغه السن المقررة رسميا أو دونها أنها ليست لأجله هو وانما لأجل أن لا ينقطع مداد الحياة وأسبابها عمن تعلقت رقابهم بعنقه فلا يضيع منهم أحد .. هكذا يكون دوماً عدل الله في شريعته .. ورغم ذلك فلربما كان احياناً في (المعاش) كراتب دون عمل شيء من ظلم مؤثر على المجتمع .. إذ يحرم المجتمع نفسه من عطاء انسان قد تقاعد وهو ما يزال يقدر بقوة على العمل والكد وغرس الفسائل تحت التراب وصارت له من الخبرات ما يطاول به اعالي الجبال .. فإن كان لا محالة من منحه صفة المعاش وراتبه ليعيش من يعول دونه، فإذن من الممكن أن لا نجعلها (ما بعد الخدمة) بأن يكون قيد الخدمة مستمراً ولكن بمستوى مختلف عن ذي قبل إلى أن يبلغ مبلغ العجز الشديد عن الاداء .. وليس حجةً أن ندعي اخلاء المقاعد من الامام حتى يتاح للدماء الجديدة ولوج الوظائف بمداخل الخدمة من الخلف .. فإن كان لا محالة مدفوع راتب المعاش لهذا ومدفوع راتب الخدمة لذاك، فلابد اذن من عدم جعل هذا الرجل المعاشي عالة براتب معاشه على الدولة بنيل المال بغير عمل فهذه عقوبة تتعدى نفس العامل المنتج القادر الى المجتمع العريض دون جرم من احد، فلندع إذن كلاهما عاملاً ففي ذاك كسب للبلاد وبركة للعامل ورزق كريم للعائلة .. والأمر في هذا قد لا يحتاج الا لنوع من التقنين وتوفيق حال التوظيف والاستعمال وصياغة ابعاد مستحدثة للأوصاف الوظيفية وتعيين أوجه ومستويات الفائدة من العامل عقب تجاوزه للسن القانونية المسماة للتقاعد وبحيث لا يكون هناك تقاعد إلا لمن صار مقعداً أو معاقاً أو ذو حاجة خاصة .. وهناك الكثير على مثل ذاك من المتعديات بظلم خلف الجدر أو من وراء الحجب ..

احفاد (النورسي) نحو خط الاستواء

احفاد (النورسي)  ، نحو خط الاستواء ..
د. وائل احمد خليل الكردي   
Wailahkhkordi@gmail.com                                             

ورد في اسطورة  قديمة (أن أما اضاعت ولدها , فالتقت الذئبة  فسألتها عنه ، فأجابت انها شاهدته ، ففرحت الام وقالت : اين هو ؟ فضحكت الذئبة وقالت : اكلته ) .. وهكذا تم أكل افريقيا فضاعت فرحة الأم بالعثور على وليدها ، ويا ليتها ما فرحت .. ولنبدأ الامر من اوله ..
لم يكن يوما قيام دولة اسرائيل هدفا بذاته وغاية ، إلا لدى بني اسرائيل وحدهم .. فدول اوروبا التي سعت واصدرت القرارات في انشاء دولة اسرائيل ، قد خالفت بذلك مبادئها الموروثة منذ عصر النهضة والتنوير ، حيث أن هذه الدول منذ الثورة الفرنسية صارت عقيدتها الرسمية هي الوضعية التجريبية التي جعلتهم يرفضون تماما اي تدخل لحق سامي أو تعاليم لاهوتية في ادارة الدول وبناء نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل وحتى الاخلاقية .. لقد صار كل هذا عندهم شانا انسانيا صرفا ، ومحكوم بمجريات العلم التجريبي والحق الطبيعي والتحقق المادي ولا شيء وراء ذلك .. وحتى الولايات المتحدة الامريكية ساد فيها الفكر الأداتي  البرجماتي  الذي لا يؤمن بمعيار سوى النجاح في تحقيق المصلحة الشخصية بغض النظر عن القيم والاخلاق والدين .. فكيف بالله يدعون ويدعمون ويحاربون من أجل قيام دولة على كيان لاهوتي بالكامل .. اذن ، فالغرض من بناء دولة اسرائيل لدى الأوروبيين والامريكان هو بخلاف الحق اللاهوتي الممنوح لهم في الاسفار المقدسة .. وانما اقتضت المصلحة العملية لديهم أن يزرعوا كيانا في قلب الشرق الاوسط يكون مركزا للهيمنة الاقتصادية والسيادة السياسية والقيادة الادارية على منطقة تتوسط العالم وتمسك بعظم خيراته .. لذا كان لابد ان يكون الوعد بالقيام لدولة إسرائيل مزودا بضمانات الاستثمار المالي الثر .. على أن لا يكون هذا الاستثمار على ارض الاحتلال نفسها وانما على ارض لا تتطأها كثيرا ارجل الرأسمالية في العالم بصورة منفرده .. ومن هنا استغلت اسرائيل ومن ورائها أوروبا وامريكا غياب رؤوس الأموال العربية في افريقيا لتدخل هي إليها عبر شركات استثمارية متعددة الجنسيات حتى تتفرق الدماء بين الدول ، ولكنه في الاصل بمال مساهمة إسرائيلي بنسبة غالبه .. والان يأتي في خواتيم العام ٢٠١٧ (رجب اردوجان)   وزمرة من أحفاد (بديع الزمان سعيد النورسي) بقرابهم لصب جملة من اعمالهم في عمق افريقيا عبر مشاريع ومؤسسات تركيا الواعدة .. وكم يعلم الناس أن (النورسي) الذي تربى هؤلاء الاتراك الجدد على تعاليمه لم يكن لديه طريقة مخصوصة سوى أن يضرب سياجا من الايمان حول قلوب الناس لصونها من قصف العواصف .. و(اردوجان) من حفدة (النورسي) في العقل والفكرة ، فحمل لواء رسالته وانطلق بها من منصة السيادة والحكم في تركيا نحو خط الاستواء في قلب افريقيا .. اذن ، فتركيا الجديدة التي تجتاح افريقيا الان علما ومالا وعمرانا هي دولة اسلامية تؤمن بدينها وتنطلق منه .. هنا تصبح الدول اسرائيل وتركيا اندادا في ارض التنافس وعلى نفس العهد والمنطلق الديني لكليهما .. فإن صدق رجال تركيا أحفاد (النورسي) ما عاهدوا الله عليه كانت لهم الغلبة حتما واليد العليا ولكن ليست بثوب عثماني هذه المرة بل بعباءة (النورسي) الايمانية التي قاتل ابناؤه متلفحين بها في اعماق صدورهم طغيان (اتاتورك) في طمس كل ما يمت بسبب للاسلام من قريب أو بعيد في كافة مظاهر الحياة التركية وظن أنه نجح ، ولكنه لو يعلم هذا (الاتاتورك) الان في قبره انه هزم من أول لحظة  اعطى فيها الماسوني (قره صوه)  قرار العزل للسلطان (عبد الحميد) آخر معاقل الخلافة الاسلامية .. وأنه فشل ايضا حتى نهاية حياته في غلق محابس المد الإيماني المتدفق بالإسلام التي اطلقها (النورسي)  وابناؤه من بعده ليثمر الان في الاحفاد صدقا وعزما وتوكلا على الله .. لقد قال الله تعالى   (من كان يظن ان لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) .. من هنا ، يجب النظر إلى تركيا (اردوجان) اليوم وفق طريقة (النورسي)  ، فلقد سلك (اردوجان) نفس مسلك (النورسي) في الاصلاح بإنبات الايمان وتعهده في الأنفس حتى تزكى دون العجلة في ضرب الظاهر من المجتمع فيحرق القديد قبل شوائه ..

الأربعاء، 21 فبراير 2018

الرواق الجديد في بلاد الحرمين


~~~~~~~~~~~

الرواق الجديد ، في بلاد الحرمين ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

أسس (زينون) Zeno الاغريقي في أعوام ميلاد المسيح الأولى مدرسة أخلاقية كانت على رواق يعبر فيه المشاؤون من الطلاب مع معلميهم .. وأثناء المسير كان علم المنطق يختلط بالقيم النبيلة وبالغايات السامية للإدراك وبالعلوم وبالفن ثم بمقامات الزهد التربوي .. هكذا كانت مدرسة الرواق قديماً ، يأكلون فيها الخبز مع المحبة بالعلم ومن حولهم الأخلاق وسواء النفوس وحقول الالهام .. لكأنما هذًا المعلم (زينون) قد عرف في زمانه أن العلم في الدنيا لا يرثه بحقه إلا من كان قلبه منذ نعومة الأظافر وبراءة الطرف مهبطاً للسمو الروحاني ومحلاً للسكينة والوقار ..
ولكن جاء علينا زمان كنا نحن فيه صغاراً قبل عقود وسنوات .. كنا نرى عصا الاستاذ قائمة خلف الأسطر والكلمات .. ويلوح لنا في الخيال شبح زملائنا في الصف وهم يهزئون على حالنا لحظة أن يوبخنا المعلم علناً على ذنب سقط من جوارحنا سهواً ولم تستوعبه عقولنا الصغيرة تلك حينها ، يهزئون بأفواههم وابتساماتهم المرسومة اصطناعاً لتخفي من دونها انتفاضة في الصدر زعراً وهلعاً وأسفاً على حالهم مثل حالنا عندما يأتي الغد ويسقط الذنب من جوارهم سهواً كما سقط منا وهم لا يدرون ، فينزل بهم العقاب وليس على صوم او صلاة .. حقاً لقد كان التعليم للمعلومات في المدارس قوياً شامخاً متين الجنبات والبنيان .. ولكن .. أين كان الإنسان وقتذاك بين صفحات الكتب وكراسات الدروس وأسنة الأقلام ؟ .. وها قد عادت الطفولة في البلاد اليوم كما كانت في ماضينا تشتهي أن تأكل الحلوى مع كل رفع ونصب وجمع وطرح واعراب وما نحو ذاك ، ولكن هيهات .. وبعد أن كبرنا ، كبرت معنا مخاوفنا على أبنائنا من عصا الأستاذ ومن سوء المنقلب لهم إذا ما يوماً اختلطت في حقائبهم المثقلة أوراق الإملاء برهبة الامتحان وسرعة دقات القلوب الواجفة في الصدور الصغيرة وتدافع الزفرات والعبرات في أنبوب الهواء عند انقطاع الحبر من المحبرة أو كسر سنة القلم الرصاص وقد محى الأستاذ كل المكتوب على السبورة بين غفلة الحلم منهم وانتباههم .. فيضيع منهم الحفظ ويعز الكلام عن الخروج ، فماذا يفيد العلم والنفوس منكسرة والهناءة مفقودة .. ولكن كل ذاك الخوف مني على أبنائي تساقط كأوراق الأشجار اليابسة عندما الحقتهم برواق جديد في بلاد الحرمين الأكرمين .. لم اكن أنظر حينها إلى حشو الرؤوس بالعلوم والوجدان خاوِ ، ولكن الاعتبار عندي كان لمليء النفوس بالثقة والمحبة والأمان والأمل .. هنا إذا تعلم الابن حرفاً بحب واعزاز نفع به وانتفع بطول حياته ، وإن تلقى الابن درسه بكره طارت كل اسفار العلوم من رأسه كأن لم تجاوز حلقه المسدود بالخوف إلى صدره يوماً .. لقد وجدت هناك في السعودية المعلم والمعلمة في مدارس الأولاد والبنات وذاك الخلق الكريم بعينه يسعى بين فلذات الأكباد يسبغون عليهم الأدب والنفس السوية وكرامة الانسان منذ المهد .. وكم حلقت أرواح أبنائي سعادة بفضل المعلم السعودي والمعلمة ، وحلقت معهم ، عندما ارتاحت نفوسهم لمدارسهم وتصالحت عقولهم مع قلوبهم فصار الدرس أشهى والرواح للمدرسة نزهة وشغف .. إن أهم ما قد غرسه المعلم السعودي في الأبناء التلاميذ ثقتهم بأنفسهم وانطلاق قدراتهم ومواهبهم من طي أعماقهم ، فأثمر العلم بهذا سعة للأفق لديهم وخبرة ليست باليسيرة .. وكم ترقرق الدمع في المقل من روعة مواقف ذاك المعلم معهم في العدل ورد الحقوق وطيب الكلام وعاطر العبارات وشكر العمل الطيب إن جادوا به ولو قل والرحمة والعفو منه فيما أخطأوا .. كيف لا واوراق ابنتي شاهدة على ما دونته المعلمات لها من شكر وشكر جزيل ممهوراً بالتواقيع عندما تصيب في الحلول والأجوبة ، وكم لهذا الشكر الكريم من المربي على الغض الصغير من وقع وأثر .. إنها أخلاق دين الله التي تتحدث فيهم ، فحين قال الأخرون من الجفاة (لا شكر على واجب) أبى الله إلا أن يتم نوره بأن لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى وأن كل فعل واجب كان أو نافلة يجزى عليه المرء بعشرة أمثاله ثواباً من عند الله ويضاعفه لمن يشاء .. ذلكم هو الرواق الجديد بروح ذاك الرواق القديم وتعاليم رب السماء .. فلله دركم أيها المعلم والمعلمة في أرض الحرمين وبلاد الرسول الأمين ..

بعد التحية والاحترام


~~~~~~~~~~~~~~

بعد التحية والاحترام ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

في الأمس القريب .. قدر لي حضور محاضرة كانت تحمل عنوان (علمانية الدولة .. أم دينية الدولة) .. ووسط جمع غفير من الشباب المتحمس ضد المألوف والتواق للمخالفة والخروج على المعتاد ، جلست .. واستمعت لأولئك الأساتذة الأفاضل وهم يحللون أزمة الدولة وكيف اسقطها التوجه ذا الصبغة الدينية في مأزق تاريخي حالك .. وانبرا تلكم الأساتذة جميعاً  للدفاع عن علمانية الدولة ، فتحدثوا عنها تفصيلاً واسهاباً وكيف أن العلمانية تمتد بأصولها إلى الأديب والروائي الإيطالي النهضوي (بلزاك) Balzac وأنها لا تعارض الدين ابتداء ولكنها فقط لا تسمح له بالخروج عن مضمونه الحقيقي في التعبد والنسك الشخصي بين الانسان وربه ليمارس سلطة ليست من شأنه على شؤون الحياة المجتمعية الإنسانية الحرة ومظاهرها ، فالحرية لديهم تقضي بإعطاء كل مشرب واتجاه حريته في الحياة والممارسة ، وأن الدين إن خاض السياسة والمجتمع صار بديلاً للأيديولوجيا الشمولية يرفعها ويقعد محلها ، فلا نكون إذن قد فعلنا شيئاً في تحرير الانسان واطلاق قدراته أياً كانت معتقداته فناً وسياسة وثقافة وفكراً .. كان الدفاع عن العلمانية محتدماً ذلك اليوم ، وقيل فيها كل ما يمكن أن يقال بل وسيقت في معرض التبرير لها بعضاً يسيراً من قصص ومواقف في التاريخ الإسلامي القديم .. والحق أنهم جعلوا العلمانية تتحدث عن نفسها بكل حرية وبما يكفي .. ولكنهم لم يتركوا للدين فرصة للحديث عن نفسه بدعوى أنه لا دين يتحدث عن نفسه ولكن نحن من نتحدث عنه .. بل نحو في ذلك نحواً أبعد بقولهم أننا حتى لم نعد نفهم نصوص الدين من كتاب وسنة ، بالتالي يحل لهم رسم البدائل واللجوء الى المواضعة البشرية في كل حال وأمر ..
ولكن بعد التحية والاحترام لهؤلاء الأساتذة ، نسألهم .. كيف بربهم لا يتحدث الدين عن نفسه وهو مدون في نصوص مكتوبة بلغتهم العربية التي ولدتهم عليها امهاتهم وربتهم صغارا ، وقرأوا بها وبحثوا وكتبوا المقالات الطوال بها كباراً ثم هم يلقون بها في ذاك الحين محاضرتهم تلك .. وكيف بربهم يجعلون العلمانية تتحدث عن نفسها وهي أيضاً في نصوص ولغة ، بل وفيها بلغتها اللاتينية المندثرة الشيء غير القليل من الاصطلاح والتعقيد بما لم تألفه أي لغة أم ، فإن كان الدين إذن لا يتحدث عن نفسه ولا يفهم فكذلك العلمانية لا تتحدث عن نفسها ولا تفهم سواء بسواء .. ثم كيف بربهم يأخذون اقتباساً معضدا لدفاعهم عن العلمانية من الممارسة الإسلامية التاريخية ما هو دون المشهور فيها أو مواقف فاصلة .. ولعل المشهور في تاريخ الاسلام إذا ما تم ايراده على حقيقته دون زيغ أو هوىً إذن لوقف شاهداً ضدهم لا معهم .. ثم كيف بربهم يحشدون في كل كلامهم كلمات ومقولات رنانة وقعها في أذن العامة بنحو (الانسانية) و(الحرية) كأسس تقوم عليها دعواهم وهم يعتبرونها مسلمات بديهية لا اختلاف للناس في دلالاتها .. وحق لنا أن نتسأل ونحن نرى أمامنا أن الانسان عبر تاريخه لم يختلف فكرياً إلى حد الصراع والحرب بقدر ما اختلف حول هاتين المقولتين .. لقد تنازع الانسان في تفسير الإنسانية أهي حيوانية في طابعها وجذرها أم هي روحانية أم مادية .. وقامت الحروب على أعقاب بعضها بالمدفع والكلمة على حد سواء لنصرة الحرية . ولكن هل الحرية هي وجودية فردانية أم ذرائعية تبريرية أم مجتمعانية اشتراكية أم هي محض ماء مسكوب على الأرض لا حدود لها أم هي شيء للتنازل عنها لمرشد أعلى .. والجدال لا ينتهي .. فكيف لنا ولهم بربنا أن نبني بنياناً شاهقاً ثابتاً على قوائم تتحرك ورمال لا تستقر حباتها على بعضها برهة .. أولسنا إذن نحتاج بذلك إلى حكم عدل وهو الصانع ليس سواه .. كتب (وليام بيلي) W. Paley في كتابه المشهور (اللاهوت الطبيعي) Natural Theology في الفصلين الأول والثاني منه أنه في أثناء سيره في الطريق الخلوي تعثرت قدمه بحجر ولم يكن من المستغرب وجود هذا الحجر في هذا المكان فهو ضمن السياق الفطري للطبيعة ، ولكن عندما اصطدمت قدمه في ذات الطريق بساعة كانت ملقاة .. هنا يثور العجب والدهشة والسؤال فالساعة بما فيها من عقارب وتروس ليست من قبيل الحجر ولا شيء من أشياء الفطرة في الطبيعة الحرة فهي صنعة لها صانع هو من له الفصل في أمرها وسميت تلك بحجة الساعة .. فللوجود صانع عنده الحل والعقد في أمره ، أم نعود فنقول أن الحل هو أن يضرب كل انسان في مرماه بهواه ولكل أن يعتقد فيما يشاء ويمضيه على الحياة بأسرها في كل ما يلحق بها من قيم وأخلاق وسلوك .. فكيف من ثم سنقيم دولة ذات نظم وقوانين عامة فوق اختلافات البشر ، ففي حين يتعدد أفراد الرعية بمذاهبهم لا يكون مناص للدولة إلا أن تلزم نفسها بمذهب واحد لأجل تجرد القوانين والنظم الموحدة الحاكمة ، هذا وإلا ضاعت الدولة .. هنا نقولها كلمة أخيرة ، أن خالق الإنسانية والحرية هو من له الحق في حسم معناها ومقصدها .. وقد كان .. فلعل الأساتذة لم يمنحوا أنفسهم الفرصة الوجيزة لينظروا نظرة في القرآن العظيم ليعرفوا أنفسهم أهم أصلاً من المتدبرين أم أنهم ممن على قلوبهم أقفالها .. فغاية الأمر أن حق لنا جميعاً أن نعتقد فيما نشاء وأن عليه نقضي ما نحن به قاضون .. لكن لا يحق لنا أن ندعي لأنفسنا ملكة وقوامة وضع مكاناً للدين في الحياة بإرادتنا نحن وحسبما نظن ، فإن الدين لا محالة هو ما يضع لنا أماكننا في الحياة ويضعنا على مواضعنا ..

الأحد، 28 يناير 2018

دبيب النمل ..

دبيب النمل ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

يسعى الكبر في النفوس كسعي النمل بين الأنام ، لا يترك أثراً على المسير ولكن يصدح عنه صراخ المتألم من عقصته ..
حلق عالم وكاهن وفتى مراهق على متن طائرة صغيرة وبينما هم في حالة من شرود الذهن إذ اعلن الطيار فجأة أن عطلاً قد أصاب محركات الطائرة ويجب عليهم إخلائها فوراً . ثم أعلن على استحياء الخبر المحبط التالي : يوجد فقط ثلاثة مظلات (باراشوت) لهم هم الأربعة . هنا كان عليهم اتخاذ القرار الصعب (من الثلاثة الذين سيحصلون على المظلات ؟) ، وعلى الفور بادر العالم بالقول وهو يصادر لنفسه بحق التقدم على الآخرين (أنا عالم بارز ، والعلم هو اكثر ما يثري الانسانية بإسهامه في تقدم المعرفة ، بينما أن هذا الكاهن لا يفعل شيئاً سوى الاعتداد بخرافات نيافته . إنني وبكل صراحة استحق واحدة من هذه المظلات لذا سارتدى واحدة وأقفز بها خارجاً وآمل أن نلتقي أنا وأنتم الاثنين (الطيار والفتى) على الأرض بسلام) وما لبث أن قفز العالم من الطائرة وهو يرتدي إحدى المظلات . التفت الكاهن نحو الاثنين الآخرين وقال صائحاً (ماذا نفعل الآن ؟) فأجابه الفتى بهدوء (ليس هناك داع للجزع ، فهنالك مظلة لكل واحد منا) أردف الكاهن قائلاً (كيف وقد سمعت الطيار يقول أن هنالك ثلاثة مظلات فقط ؟ وقد صار لدينا الآن اثنان فقط) فقال الفتى شارحاً (ولكن العالم الفذ يحلق الآن في الجو بحقيبة ظهري) .
هكذا توزع الكبر بين الناس بين مغالط لغيره ومغالط لنفسه .. أما المغالط لغيره فذاك الذي أحب أن يحمد بما لم يفعل ، كذاك العالم الذي لم ينجيه كبره بما تعلم من موته بجهل ما لم يعلم .. وكم في الديار من رجال ونساء تاهوا خيلاءً بما كسبوا فاستعلوا على الناس وكشف الزمان بعد حين عورات جهلهم بزلة قدم شائنة ربما أبانت أن الذي كان الأدنى فيهم كان هو العلي ولكن الصمت واراه .. وكم من عالم تواضع لله بذل وللمؤمنين فحاز بين العوام شرفاً وقصداً للحوائج وحباً ، فنسبوا له ألقاب الفخار ما لم يدعيه هو لنفسه وإن حازها بملك يمينه .. وليس الفتى من قال ها أنا ذا ، ولكن الفتى من قال هاؤم أقرءوا كتابيا .. فتدل عليه فعاله ولا يدل هو على الفعال .. لقد زم الله العزيز من حملوا التوراة ثم لم يحملوها .. ومثلهم كل من حاز التشريف بجراب أجوف فتباهى زيفاً والله يقول فيه (لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) ومنهم من يعلم ما هو عليه ومنهم من حسب أنه يحسن صنعاً ، ولكن الانسان على نفسه بصيرا في كل الأحوال .. ألا رحم الله استاذي ومعلمي الجليل الدكتور (عبد الله محمد توم) الذي رحل في صمت العظماء بعد أن انهى اشرافه على رسالتي للماجستير .. رحل بعد أن علمني كيف يكون الصبر على العلم .. والصبر على أحاقد أدعياء العلم وإن نالوا أعلى الرتب والألقاب .. علمني كيف يكون الصمت عن اللغو .. وكيف يكون السير قدما في دروب المعارف بصدق وحق طريق محفوف بالنيران ولكن مبلغه ألى الجنة .. علمني كيف يمنح الانسان كل ما في عقله من علم لخير القاصي والداني ، ولخير الوجيه البارز كما للأشعث الأغبر ، وأن البخيل من ضن على الناس بحرف من علم ناله يوماً بسمع وبصر .. علمني كيف أن محك النقد يصقل الفكرة ويزنها بقسطاس مستقيم فتصير أجدى وأنفع  .. علمني كيف أحذر ادعاء العلم وأنا أجهل ، فدعي العلم يظل قوله غثاً وبلا مريدين وإن دون عشرات الكتب والأسفار ، ويبقى للمخلص في غير تفاخر أجر علمه عند الله وبين الناس وإن لم يدون في العلم الرصين سوى صفحة من جريد مقطعة الأطراف .. علمني (عبد الله محمد توم) كل ذلك بشخصه دون قول وبلا تلقين .. رحم الله استاذي الجليل فقد حق لى أن أشهد له بغير تزكية أنه (المعلم) بعقد الألف واللام ، رجل لا يجب أن تنساه ساحات جامعة الخرطوم  فقد أنجبته وبر بها .. وأن لا ينساه من بات يوماً تحت جنحه طالباً .. فلقد مات والقلم يحتضر في يده يعبث بالورق ويخط حروفاً وكلمات ، ويا ليتها اكتملت ..

الانسان والسوبرمان ..

الانسان والسوبرمان ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

منذ ان اعلن (ريتشارد دوكنز) R. Dawkins أن مقصود (داروين) Ch. Darwin   من تعيين أصل الانسان في سلالة الحيوان يجعله ابن عم للقرد الشمبانزي والجوريلا في نسب عائلي واحد ، وبالتالي فهم معا على قيمة واحدة متساوية في الوجود .. فاقتضى هذا ارساء مبدأ حيونة الانسان وليس أنسنة الشمبانزي .. فنحن اذن كما الانعام من ابناء عمومتنا لا يهمنا من الدنيا سوى البحث عن الطعوم النابتة على الارض أو الساعية على اربع في بواطن الوديان أو سابحة بزعانفها وخياشيمها في اعماق البحار .. نأكل ونشرب ونلهو بأطفال وبنين ، ولا شيء وراء ذلك .. ونتقاتل من أجل لقمة العيش والنسل ومتاع الطبيعة .. فمنذ ذاك ونحن نسأل أنفسنا ، والسؤال يلح ويطرق الاذان (من أين جاءنا – والحال هكذا – التطلع الدائم للعلو فوق ما نحن عليه .. ونخلق فينا ما اسميناه الحضارة ؟) .. أهي الدافعية الحيوانية داخلنا هي ما تسوقنا الى صعود درجات اعلى في الوجود ، ونرقى مراقي المجد ؟ .. لقد ذكر صديقي الفيلسوف السعودي المتفوق (عبد الرحمن بن مرشود) في اقتباس له في ختام محاضرته عن السردية والانسان أن الذئاب حين تتقاتل لا تباهي بانتصار ولا تفاخر ببطولة ، ذلك لأنها لا تسرد القصص .. فمن اين اذن جاء الانسان بالسرد والقصة ينقل بها تطلعنا نحو ما هو أقوى وأجدى .. لعلى ازعم أن كل انسان يرنوا نحو السوبرمان ، نحو ذاك الإنسان الاعلى في نفسه .. بشر بذلك (نيتشه) F. Nitzsche  في فلسفة القوة والعدمية وقلب القيم رأسا على عقب .. وبشر به (كيركيجارد) S. Kierkegaard فيلسوف الوجودية فيما وراء العقل من وجدان وفيما وراء الجماعات من أفراد تتفوق ذواتهم على ذواتهم .. وبشرت به الماركسية في فناء الآحاد في المجموع وحذف الفردانية والملكية الخاصة .. وبشر به الصوفي المغرق (ابن ابراهيم الجيلي) في مقالتة (الانسان الكامل) المترقي بأحوال الالوهية الثرة .. بشر به (هتلر) و(بوذا) و(زرادشت) و(غاندي) و(فرعون) .. ولقد كانت فكرة السوبرمان هي الملهم لغسيل أوهام الافكار في رواية (بيرنارد شو) B. Sh. (الانسان والسوبرمان) ، وهي الملهم لعلو (هاملت) بعقدة اوديب لدى (شكسبير) .. وكلنا هكذا يبشر بالسوبرمان إما بقلم أو بندقية أو اخلاق أو قسوة أو عطاء بلا حساب أو بسلطة أو بإيثار أو بجريمة .. وتتجلى في ثنايا هذا التبشير كل كلمات الانسانية والحرية والكفاح والايمان والالحاد والفداء والخوف والرجاء .. هكذا يبقى الانسان يؤكد ذاته في مسيرة الحياة كلها .. ويظل لا يقنع بالراهن والماضي الا من حيث ينتظر المستقبل .. هنا يفارق الانسان أبناء عمومته من الشمبانزي والجوريلا والاورانج أوتان في حقيقة الوجود عندما ما لم يجد لحياة القطيع شيئا في فطرته الانسانية ، فيأبى أن يكون رأسا في قطيع ، بل هو ذات نادرة ، تمر في الوجود مرة دون تكرار ما بين ميلاد الفرد وموته فتترك أثرا غير كل أثر ..
لقد بلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ليس للإنسان من ماله الا ما أكل فأفنى ولبس فأبلى وتصدق فأبقى .. ومن بين هذه الكلمات كانت الحقيقة تبرز نفسها بأن قيمة الانسان ليست اكل وملبس وعيش مثل البهائم على هوام الأرض وخشاشها .. وانما قيمة الانسان أن يصير أكثر عمرانا لنفسه ومجتمعه وأعلى انسانية في قيمه ومبادئه واعظم اثرا في قوله وفعله .. فالحيوانات من ابناء عمومتنا - الذين يزعمون – إن لم تجد الكلاء حاضرا تحت حوافرها استسلمت لواقعها واسلمت نفسها للهجرات البعيدة أو للجوع محلها حتى الفناء ولم ولن تكلف نفسها لحظة عناء ببذر بذرة في طين رطب تنبت منها قمحا أو شعيرا تأكله قبل حصاده ناهيك عن أن تصنع منه خبزا أو حساء ..أما الانسان من بني آدم فهو من ضرب الارض بباطن قدمه فارتقى لأعلى ثم أعلى.. هو من دون لنفسه تاريخا من وقائع واحداث .. والا فكيف يفسر ابناء عمومتنا قيام اكبر ثورات التاريخ الحديث في اوروبا حال بلوغ الانسان أبعد دركات الانحطاط في متاع الدنيا .. انها تلك الثورة الفرنسية التي حرك نحوها قلم (فولتير) وصحبه شعوبا التصق الجلد منهم بالعظم جوعا وتقاتل الظمآى منهم على شربة من دم جيفة بليت منذ زمن .. فكيف كان للعراة الجوعى أن يحركهم القلم وتقودهم الكلمة نحو تغيير واقعهم من اصوله إلا أن يكون هو الانسان .. ان الانسان هو الكائن النازح قدما نحو السوبرمان طبعا وفطرة .. وكل على طريقته ينزع لذاك .. فلا عاد لنا قول بعدها لمن ادعى (أن الرجال والنساء لا يقرأون وهم جياع ، ولا ينصتون للخطب) .. لقد قرأ شعب (فولتير) حكاية (كنديد) وهم جائعون مدقعون في الفقر بتخمة الامراء واصحاب الثراء ، فنهض وثار وغير .. فأي عذر لنا أمام التاريخ في اوطاننا إن صدقت فينا اقوال الدعاية الاستبدادية قهرا (أن القمح والشعير هما فقط حياة الانسان .. وأن الشعوب قطعان بعير) ..
 

اصنع عدوك .. تأكله

اصنع عدوك .. تأكله
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

وحين كبرت .. لم أحصل على تأشيرة للبحر ..
لم ابحر ..
وأوقفني جواز غير مختوم على الشباك ..
لم أعبر ..
(هشام الجخ)
لم يدور بخلدي قبلاً أن يأتي يوماً أدرك فيه أن أصحاب (وعد بلفور) قد أوعزوا سراً إلى سيد شباب ثورة يوليو 1952م (جمال عبد الناصر) رحمه الله ، أن يقود حملته للنضال والبطولة عبر .طريق حافل بالبطولات رسموه له كما رسموه الماسون من قبل للسلطان عبد الحميد العثماني أخريات عهد الخلافة الإسلامية فانهارت وتم نفي السلطان وإعلان العلمانية الأتاتوركية .. ولكن طريق الثوار في يوليو 52 كان لابد أن يكون مختلفاً .. فحيث لم تعد هناك خلافة إسلامية كان لابد للطريق الجديد أن يكون معبداً باسم القومية  .. القومية العربية .. ليدفع الثوار عن بلاد العرب مستعمريها بجحافل من الخيل والسياسة ، ثم توحيد الأمة تحت راية (العروبة) الجديدة .. ولا أدري من بالتحديد  من بين أصحاب ذلك الوعد لقيام  دولة الشعب المختار على أرض أبناء كنعان عام 1948م  الذي أوعز للثائر الشاب أنك إن اردت هزيمة اليهود في بلاد العرب ، فحاربهم باسم العروبة وبهدف إعلاء القومية العربية .. فانجرف المد الطاغي من الشعوب بفعل الخطب المشتعلة وراء زعيمهم في كل مكان (ناصرياً) كان أم (بعثياً) لقتال صهيون وتحرير فلسطين المحتلة .. فكان كل نصيبهم حصد الرؤوس منهم والأرواح ، وليبقى اليهود هم كما هم .. لم يفطن اولئك العرب أنهم يقاتلون يهوداً هم جميع شعوب العالم منهم جمعتهم وحدة العقيدة والدين ، فكيف للعرق الواحد أن يغلب خليطاً من كل الأعراق .. هذا كان في الماضي القريب ، ولكن ما يحدث اليوم أدهى وأمر .. فلقد انقلب السقاء على الساقي وتبعثر الماء بعد كسر الإناء ، وأكلت قطة يعرب أبنائها .. وبات القتل والقتال في البيت الواحد تماماً كما خطط له .. فلقد فطن أصحاب الوعد قديماً أن غرس الود والوفاق وجمع الشمل على كلمة ومبدأ (القومية) ، سيعمل على مدى الزمن في تهشيش المفاصل ونخر العظام والأكتاف .. وكحال كل القوميات في التاريخ لن يصمد ما اجتمع عليه بني يعرب  ليكون يوماً حائط الصد المنيع بينهم وبين أنفسهم حال ما تنازعوا الأرض والسلطان .. وها قد خرت القومية العربية صرعى ، وصارت جامعة الدول العربية ما هي إلا صورة للفتة الكبرى وللربيع العربي الذي تساقطت أوراقه الصفراء وتعر الشجر ..
والآن يعود كل فرع لأصله من كل جنس وملة .. فمن عادوا إلى حاضرة الفرعون في مصب النيل .. ومن رجعوا إلى عمق أفريقيا السمراء وغابات الباباي والمانجو .. ومن عادوا إلى البربر الأشداء في مضارب الساحل والصحراء .. ومن ردوا إلى بابل وأشور وسومر على ضفاف الفرات .. فكلُ قد كفر بيعرب وقالوا لنا دونها أصل .
هكذا ضل الناس الطريق . فلم تجمع القومية يوماً قط قوماً .. واليوم ، زالت القومية وبقي اللسان ، شاهداً على العرب ونذير بين يدي خطر قد اقترب .. فوعد (بلفور) كان ، إذن ، مؤلف من عهدين .. عهد ظاهر ، وهو التمكين لليهود في دولة على أرض فلسطين مخالفين بذلك كافة مبادئ المشروعية الدولية في نشؤ الأمم والبلدان وحسب حق تاريخي مزعوم لو وافقهم الناس عليه لفتحوا بذلك على أنفسهم أبواباً لدعوى حقوق تاريخية لدى كل شعوب العالم عند بعضهم ولن تنسد إلا بفتنة حاصدة خاصة  بعدما تداخلت الأنساب وانتشرت الشعوب وأعيد ترسيم الرقاع .. أما العهد الباطن ، فلعلنا نضرب فيه مثلاً (إن كان ثمة عدوُ لا محالة ناهض لك .. فاسبق أنت بصنع عدوك من عجوة ، لتأكله حين الطلب) .. ولقد صنع وعد (بلفور) في طي بنوده هذا الخصم الرخو من عجوة .. وصار في كل حين يأكل منه كيفما شاء .. ولو أن هذا الوعد لم يصنع خصمه الهزيل (القومية العربية) كبديل منطقي بعد حسم الخلافة العثمانية ، لنهض أمامه عملاق الإسلام من جديد بالصارم البتار عدواً له ولا يقدرون عليه ،  وليجهض الحلم بأرض الميعاد في منامة بني اسرائيل .. نعم إن القومية العربية هي صنيعة وعد (بلفور) لتكون هي الخصم الفاشل أمام دولة صهيون حال قيامها .. ثم هكذا يظل يدور الشرق الملتهب في لعبة الكراسي .. ولكن لا ينتهى العد أبداً ولا تدق صافرة ً النهاية .. ولن نعلم من يجلسون على المقاعد ومن يظل واقفاً فيخرج من اللعبة

مفارقة الكذاب ..

مفارقة الكذاب ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

دخل الفيلسوف الرياضي إلى قاعة المحاضرات العامة ، ونظر الى الحضور ، ثم قال (كل من في هذه القاعة كذابون .. كل من في القاعة .. فهل أنا كذاب ؟) .. قال احدهم (نعم انت كذاب .. لان كل من بالقاعة كذابون ، وانت منهم) .. فرد الفيلسوف قائلاً (أنا قد صدقت في قولي أن كل من بالقاعة كذابون .. فكيف أكون صادقا وأنا كذاب ؟) .. فقال آخر (اذن .. أنت صادق) .. فرد الفيلسوف (   وكيف اذن يكون كل من بالقاعة كذابون ، وأنا منهم؟ .. كيف يمكن ان اكون صادقا من حيث اني كذاب ، أو أكون كذابا من حيث اني صادق ؟) ..
سميت هذه المفارقة في ادبيات الفلسفة التحليلية والرياضية (مفارقة الكذاب)Lier paradox     .. ولكنها لم تعد مشكلة رياضية منطقية صرف وانما دارت دوائرها في رحى المجتمعات الانسانية والشعوب .. فكمن أراد أن يصير ملحدا عاد للسؤال البدائي الذي تجاوزته جهود المستدلين والمستنبطين منذ ازمان غابرة (اثبت لي ان الله موجود ؟) .. وكمن اعتلى منصة للرئاسة ازاح من بعد اعتلائه كل السلم الصاعد في العمران من قبله ليبدأ الناس معه مرة أخرى من بداية الدرج وفق عهده هو لا من سواه .. وكمن تعددت زوجاته ففسد اولاده الكثر منهن ، فقال لست أنا السبب فقد ربتهم أمهاتهم ، فيبرأ من الكل ويبدأ بواحدة جديدة ثم أخرى ثم اخرى وهلم جرا .. والكل يجد لنفسه عذرا ..
ثم تظهر (مفارقة الكذاب) كاشفة من ولي أمر أمة فأضاق على أهلها عيشهم بسوء فعاله .. فهل هو من هذا الشعب ؟ اذن ، فلا مناص له من أن يعيش شقاء عيشهم وشظفه .. وإما أن لا يكون منهم ، عندها لا حق له في حكمهم أصلاً .. وليسأل كل حاكم على الناس نفسه قبل أن يسألوه .. هل يجد هو ما يجدون من عنت بنفس القدر يد بيد وساق بساق جوعا وفقرا وربطا للحجارة على البطن وتذللا للقمة العيش ومصاريف الحياة وأغراضها .. أم أنه هو الوالي لا يشقى بشقاء شعبه وكل شيء لأجله ميسر .. فأن كان هو ذاك الملك الذي اقترح على الناس أن يأكلوا الكيك والكاتوه حين عز الخبز على الناس لينه ويابسه ، فليتبوأ له مقعدا من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فشقق عليه) .. ولا يقولن أحد أن للحكم والسلطان لأبهة بالضرورة فيها تلبية لكل حاجات النفس لمن رأس كي يفرغ لملكه العريض ،ولكي يقدر على السياسة ويقوى على الإدارة .. فهذا قول هراء باطل .. ابطلته تجربة (عمر بن عبد العزيز) في زمانه حيث لا نبي ولا صحابة .. وحيث ميراث الحكم في ذاك الزمان ارضا امتدت نحو أقصى الشرق وأقصى الغرب وحملت فوقها اكثر الناس والخلق .. وحيث لم يكن مع كل هذا الاتساع طائرات ولا سيارات ولا صواريخ عابرة للقارات تجعل من أمر تنفيذ أي قرار هونا ويسرا ، وبلوغ اطراف الارض لمحا بالبصر .. ولكن (عمرا) حين صدق واشاع عدلا شهدت له الدنيا وأغنى به كل الخلائق من فضل الله دانت له كل الارض طوعا بأمر الله وتقاربت اليه اطرافها على اظهر النوق والخيل دون طائرات ووسائط اتصال .. صار (عمر) اشد بني الامة فقرا وضيق عيش وبكاء بعد الولاية وهو الذي كان ربيب النعم واليسار قبلها .. وكان كفاه أن بحث الناس في بلاده عن فقير مسكين ليعطوه من مال الدولة المتدفق ذكاة ، فلم يجدوا سواه محتاجا ..  لقد عم في عامين فقط  كل أمصار الدنيا على عهد (عمر) خير زاد عن حاجة الطالبين .. في عامين فقط .. أما في حاضرنا وبكل التقنيات ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة واسباب المال العظمى ومنافذ الطاقة ومشروعات الاستثمار ومازال من يحكمون يطلبون من شعوبهم أن يصبروا قهرا على مهلة سنوات بالعشرات من اجل فقط الاعداد لشيء من العدل ضئيل محتمل ، وقد يكون وقد لا يكون .. رحم الله (عمر بن عبد العزيز) بما اثقل به التركة على ظهر كل من أتى وسيأتي عقبا له حاكما على امته في أي زمان .. ولقد افحم (عمر) التاريخ بحجة لا عذر لمعتذر بعدها أن لا يعدل بين الشعب ونفسه هو وليس فقط بين الشعب وبعضه .. فسيشقق الله تعالى وإن طال الأمد على من شق على أمته وسلبها مالها وشرفها وحقها أن تحيا ، واضاق عيش أمته بهناءة عيشه ، وقض مضاجع نومهم في عراء بارد ورفل هو في دفئ فرش الحرير والديباج ووسائد ريش النعام في داخل قصره المعروش .. ولعل لسان حاله ومقاله يرد على الجياع (انما هي ارزاق العباد يقسمها الله كيف شاء) وصدق .. لكن تظل دعوة الرسول قائمة عليه بما كسبت يداه ولا مفر ..  أما واجب العباد فهو شكر النعم بأفضل الجهاد وهو قولة حق أمام سلطان جائر ..

تقنيات منطقية لمحاورة الساينتيزم Scientism

(دورة تدريبية)
تقنيات منطقية لمحاورة الساينتيزم Scientis
اعداد وتنفيذ / د. وائل أحمد خليل الكردي

أولاً / هدف الدورة :
تهدف الدورة إلى تحقيق رفع الكفاءة المنطقية في الرد التناظري على الاتجاهات الساينتزمية (العلموية) ، وتوظيف وإدارة الأفكار في ذلك .

ثانياً / وسائل الدورة :
1- المحاضرة التفاعلية
2- عروض مشاهدة
3- نصوص
4- السيناريو الدرامي
5- المراجع

ثالثاً / القيد الزمني للدورة :
من 5 إلى 8 جلسات – على مدى 3 إلى 5 أيام

رابعاً / محاور الدورة :
المحور الأول : تفصيل بيان اتجاهات الساينتزم ونتائجه :
1- الوثوقية العلمية (أساس الساينتزم) : يقوم على تفسير إيجابي على نتائج العلوم الطبيعية وإثبات منطق القيم – الثنائية .
2- الا-أدرية : شكية تقوم على تفسير سلبي على نتائج العلوم الطبيعية على مرجعية (ديفيد هيوم) .

النتائج الساينتزمية :
1- النزعة الإنسانية : وهي الكفر بكافة الأديان ورفض فكرة الدين مع بقاء الاعتقاد بالخالق أو الإلحاد الكامل .
2- النزعة التعطيلية : وهي حذف دور الدين من الحياة العامة رغم الاعتقاد فيه الدور -  الذاتي فقط للدين (العلمانية Secularism ) .

المحور الثاني : ضروب لاستدلال العام :
1- أشكال القياس Syllogism
2- الاستقراء والاستنباط  Induction & Deduction
3- المسلمات Axioms   والفرضيات Hypotheses
4- القوانين Laws ، القواعد Rules ، النظريات Theories

المحور الثالث : تقنية المواجهة في الغرفة المظلمة :
(أ) ألإشارة إلى أن نتائج الساينتزم مبنية على النظريات العلمية وليس القوانين العلمية . 
(ب) مبدأ الإعجاز العام للقرآن الكريم من الناحية العلمية هو صفة (إدارة المعرفة العلمية) ، من جهة فك الارتباط بين القوانين العلمية والعقيدة من حيث بنية القوانين العلمية . وإثبات الارتباط من جهة الإشارة العقدية إليها وفق منطق (الرؤية الكونية الشاملة) واحتواء الكل للجزء والأعلى للأدنى (سنريهم آياتنا ...) .
(ج) ضرب نقاط الفاقد المعرفي لدى الساينتزم الوثوقي وليس نقاط الثابت المعرفي (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) – وذلك على قسمين :
1- دحض الساينتزم اللا-أدري وفق حجة (الانتظام الكوني الغائي والوظيفي) .
2- دحض الساينتزم الوثوقي وفق حجة (خرق النتظام الكوني) ومشكلة السببية (قوائم مل Mill ) .


المحور الرابع : تقنية الرد التوليدي (المنهج السقراطي) :
1- بيان المنهج التوليدي السقراطي وعناصره .
2- دلالة الخلق الكوني للخالق (الادعاء بالخلق) – حجة ابراهيم عليه السلام .
3- تحويل دوافع إثبات الإلحاد الساينتزمي إلى دوافع مضادة له  (تقنية أحمد ديدات).
4- سؤال العدم .

المحور الخامس : تقنية استغلال العقل الآخر :
وهو دلالة الفائدة الوظيفية للإيمان وضرورته العملية في تحديد ورسم معاني المفاهيم على مستوى الشعوب والقبائل  :
1- الإنسانية ، لحرية ، التطور الاجتماعي والعمراني ، الأخلاق .
2- اللغة القرآنية .
3- الحجة التاريخية .
4- نظرية البارادايم Paradigm   واللا-قياسية .