الأحد، 28 يناير 2018

دبيب النمل ..

دبيب النمل ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

يسعى الكبر في النفوس كسعي النمل بين الأنام ، لا يترك أثراً على المسير ولكن يصدح عنه صراخ المتألم من عقصته ..
حلق عالم وكاهن وفتى مراهق على متن طائرة صغيرة وبينما هم في حالة من شرود الذهن إذ اعلن الطيار فجأة أن عطلاً قد أصاب محركات الطائرة ويجب عليهم إخلائها فوراً . ثم أعلن على استحياء الخبر المحبط التالي : يوجد فقط ثلاثة مظلات (باراشوت) لهم هم الأربعة . هنا كان عليهم اتخاذ القرار الصعب (من الثلاثة الذين سيحصلون على المظلات ؟) ، وعلى الفور بادر العالم بالقول وهو يصادر لنفسه بحق التقدم على الآخرين (أنا عالم بارز ، والعلم هو اكثر ما يثري الانسانية بإسهامه في تقدم المعرفة ، بينما أن هذا الكاهن لا يفعل شيئاً سوى الاعتداد بخرافات نيافته . إنني وبكل صراحة استحق واحدة من هذه المظلات لذا سارتدى واحدة وأقفز بها خارجاً وآمل أن نلتقي أنا وأنتم الاثنين (الطيار والفتى) على الأرض بسلام) وما لبث أن قفز العالم من الطائرة وهو يرتدي إحدى المظلات . التفت الكاهن نحو الاثنين الآخرين وقال صائحاً (ماذا نفعل الآن ؟) فأجابه الفتى بهدوء (ليس هناك داع للجزع ، فهنالك مظلة لكل واحد منا) أردف الكاهن قائلاً (كيف وقد سمعت الطيار يقول أن هنالك ثلاثة مظلات فقط ؟ وقد صار لدينا الآن اثنان فقط) فقال الفتى شارحاً (ولكن العالم الفذ يحلق الآن في الجو بحقيبة ظهري) .
هكذا توزع الكبر بين الناس بين مغالط لغيره ومغالط لنفسه .. أما المغالط لغيره فذاك الذي أحب أن يحمد بما لم يفعل ، كذاك العالم الذي لم ينجيه كبره بما تعلم من موته بجهل ما لم يعلم .. وكم في الديار من رجال ونساء تاهوا خيلاءً بما كسبوا فاستعلوا على الناس وكشف الزمان بعد حين عورات جهلهم بزلة قدم شائنة ربما أبانت أن الذي كان الأدنى فيهم كان هو العلي ولكن الصمت واراه .. وكم من عالم تواضع لله بذل وللمؤمنين فحاز بين العوام شرفاً وقصداً للحوائج وحباً ، فنسبوا له ألقاب الفخار ما لم يدعيه هو لنفسه وإن حازها بملك يمينه .. وليس الفتى من قال ها أنا ذا ، ولكن الفتى من قال هاؤم أقرءوا كتابيا .. فتدل عليه فعاله ولا يدل هو على الفعال .. لقد زم الله العزيز من حملوا التوراة ثم لم يحملوها .. ومثلهم كل من حاز التشريف بجراب أجوف فتباهى زيفاً والله يقول فيه (لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) ومنهم من يعلم ما هو عليه ومنهم من حسب أنه يحسن صنعاً ، ولكن الانسان على نفسه بصيرا في كل الأحوال .. ألا رحم الله استاذي ومعلمي الجليل الدكتور (عبد الله محمد توم) الذي رحل في صمت العظماء بعد أن انهى اشرافه على رسالتي للماجستير .. رحل بعد أن علمني كيف يكون الصبر على العلم .. والصبر على أحاقد أدعياء العلم وإن نالوا أعلى الرتب والألقاب .. علمني كيف يكون الصمت عن اللغو .. وكيف يكون السير قدما في دروب المعارف بصدق وحق طريق محفوف بالنيران ولكن مبلغه ألى الجنة .. علمني كيف يمنح الانسان كل ما في عقله من علم لخير القاصي والداني ، ولخير الوجيه البارز كما للأشعث الأغبر ، وأن البخيل من ضن على الناس بحرف من علم ناله يوماً بسمع وبصر .. علمني كيف أن محك النقد يصقل الفكرة ويزنها بقسطاس مستقيم فتصير أجدى وأنفع  .. علمني كيف أحذر ادعاء العلم وأنا أجهل ، فدعي العلم يظل قوله غثاً وبلا مريدين وإن دون عشرات الكتب والأسفار ، ويبقى للمخلص في غير تفاخر أجر علمه عند الله وبين الناس وإن لم يدون في العلم الرصين سوى صفحة من جريد مقطعة الأطراف .. علمني (عبد الله محمد توم) كل ذلك بشخصه دون قول وبلا تلقين .. رحم الله استاذي الجليل فقد حق لى أن أشهد له بغير تزكية أنه (المعلم) بعقد الألف واللام ، رجل لا يجب أن تنساه ساحات جامعة الخرطوم  فقد أنجبته وبر بها .. وأن لا ينساه من بات يوماً تحت جنحه طالباً .. فلقد مات والقلم يحتضر في يده يعبث بالورق ويخط حروفاً وكلمات ، ويا ليتها اكتملت ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق