العقوبة المتعدية .. ومظالم ما وراء الحجب
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
هنالك نظرية انجليزية قديمة في الفقه القانوني البريطاني تدعى بنظرية (اندماج سبب الدعوى في الحكم) The doctrine of merger of cause of action in judgment وبمقتضى هذه النظرية يفقد سبب الدعوى ذاتيته بمجرد صدور الحكم وينقضي سبب الدعوى بأن يحل الحكم محله كمصدر للحق أو الالتزام .. وقد اوضح القانوني البارز (هنري رياض) ذلك شارحاً بأنه لا يجوز للخصم أن يرفع دعوى اخرى بناء على نفس سبب الدعوى حتى لو كان طلبه في الدعوى الثانية مختلفاً تماما عن طلبه في الدعوى الاولى وحتى لو تولدت الحاجة الى الطلب الثاني عقب صدور الحكم على الاول، اي ان القانون لا يعترف سوى بمطلب واحد على سبب الدعوى وبالتالي يسقط اي مطلب اخر ينشا عن نفس سبب الدعوى في حال الحكم القضائي على موجب المطلب الاول .. وهكذا تؤدي نظرية الاندماج هذه الى حرمان الشخص من التقدم بطلب مبني على نفس سبب الدعوى السابق وذلك بدافع تقصير آماد النزاع ومن ثم حث الخصوم على التقدم بكل طلباتهم دفعة واحدة حتى يتم الفصل فيها بحكم واحد .. ولكن اليس يحمل هذا اشارة لتعدي الحكم الصادر في مطالبة على سبب دعوى ما الى ان يلغي كل المطالبات التي قد تنشأ على نفس سبب الدعوى مستقبلا والتي قد يكون فيها حق لصاحب الدعوى وإن لم تظهر حيثيات ذلك الا بعد صدور الحكم على المطالبة الاولى فتقع بذلك مظلمة بينة على صاحب الحق لتكون بمثابة عقوبة ضمنية له بإسقاط الحق له في رفع دعوى قضائية لمطلب جديد على نفس سبب الدعوى المحكوم فيها .. اوليس هذا هو الوجه الاخر للعقوبة التي تتعدى موضع القدم مني لتبلغ نحو موضع الرأس لدى غيري .. اوليس بداية اية قصة ظلم قانوني تنشأ في الاصل عن جملة من الافهام الخاطئة .. وأن ليس حقيقة ما نرى من سراب على الشوارع هو بماء ..
وما نخص الذكر به هنا هو توضيح أن من الحقوق ما هو موصول بمفهوم العمل الذي هو قيمة لا تعلوها قيمة لما فيه من سبب لعمران الارض وبقاء للشعوب .. وهذا ما تعطيه يد العامل أيا ما كان عمله سواءً اقام بين الاضابير بالدواوين أو طعن بطن الارض والصخر بالمنجل والمعول .. فكيف تعيش الشعوب والامم إن نحن قطعنا عن عاملها مداد الماء والغذاء والكساء .. فإن يكن العامل هو المحرك لعجلة الوجود بدفعه المستمر في العمل، فإن ما يتقاضاه من أجر راتب على ذلك هو ما يكون زوادة عيش أسرته واهله وخاصة بيته .. تلك الأسر التي هي الوحدات اللازمة ليتألف منها عموم المجتمع وبضياعها يضيع، فلو أن عاملا قد اخطأ وجنت يداه بجرم ذات مرة وتم ايقافه عن العمل اشهر او سنوات الى حين اصدار الحكم النهائي عليه وتم تجميد الراتب طوال تلك المدة، فهكذا لم يعاقب هو كفرد قائم بنفسه بل تعدى العقاب بذلك لكل من تبع لقوامته ممن يعول من ابرياء النساء والولدان ومن بلغوا ورائه من الكبر عتيا، فإن ثبتت عليه الادانة وتحققت التهمة في حقه ثم أودع السجن عاش هو أيامه تحت ظل نفقة هذا السجن ما شاء الله له فيه وهناك المال عن اهله مقطوع .. فتلك هي العقوبة المتعدية بظلم حيث تطال عائلة الفرد الخاطئ اكثر مما تطاله بنفسه، واذ نكون قد كففنا عن المجتمع ظلم الجاني من بوابته فإننا قد اعدنا ظلم المجتمع من بوابة اسرته .. وبهذا تنهار العدالة في الدنيا .
لذلك أتى أمر الله تعالى أن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) و(أن ليس للإنسان الا ما سعى) ليكون قانوناً على الأرض تدور حولة اقصى درجات العدالة في كل شرائع بني آدم .. فلا عقوبة تتعدى مرتكب الخطيئة ، ولعل لذلك أن اتى العقاب جله في شريعة الله تعالى بالتوقيع على جسد الاثيم الجاني إما جلداً أو قطعاً أو نفياً أو اعداماً، ولكن ليس يتعداه الى ما يقيم أود رعيته وأبنائه من اسباب لقمة العيش وسترة الحال، إذ هم في الشرع قد صاروا اوصياء من حكم وليسوا اوصياء من ظلم أو اخذ نفسه بجرم فتعطلت بذلك مسؤوليته عليهم وصار لزاماً على الحاكم للمجتمع حق عقاب الجاني ولزاماً عليه لعائلة المحكوم بعقوبة حق خلفته فيهم لحين ان يرجع ..
ووفقاً لهذا المنطق ومن وجه اجتماعي غير ذاك الجنائي، أنه من الممكن اعتبار فائدة ما بعد الخدمة أو راتب المعاش لمن تقاعد عن العمل ببلوغه السن المقررة رسميا أو دونها أنها ليست لأجله هو وانما لأجل أن لا ينقطع مداد الحياة وأسبابها عمن تعلقت رقابهم بعنقه فلا يضيع منهم أحد .. هكذا يكون دوماً عدل الله في شريعته .. ورغم ذلك فلربما كان احياناً في (المعاش) كراتب دون عمل شيء من ظلم مؤثر على المجتمع .. إذ يحرم المجتمع نفسه من عطاء انسان قد تقاعد وهو ما يزال يقدر بقوة على العمل والكد وغرس الفسائل تحت التراب وصارت له من الخبرات ما يطاول به اعالي الجبال .. فإن كان لا محالة من منحه صفة المعاش وراتبه ليعيش من يعول دونه، فإذن من الممكن أن لا نجعلها (ما بعد الخدمة) بأن يكون قيد الخدمة مستمراً ولكن بمستوى مختلف عن ذي قبل إلى أن يبلغ مبلغ العجز الشديد عن الاداء .. وليس حجةً أن ندعي اخلاء المقاعد من الامام حتى يتاح للدماء الجديدة ولوج الوظائف بمداخل الخدمة من الخلف .. فإن كان لا محالة مدفوع راتب المعاش لهذا ومدفوع راتب الخدمة لذاك، فلابد اذن من عدم جعل هذا الرجل المعاشي عالة براتب معاشه على الدولة بنيل المال بغير عمل فهذه عقوبة تتعدى نفس العامل المنتج القادر الى المجتمع العريض دون جرم من احد، فلندع إذن كلاهما عاملاً ففي ذاك كسب للبلاد وبركة للعامل ورزق كريم للعائلة .. والأمر في هذا قد لا يحتاج الا لنوع من التقنين وتوفيق حال التوظيف والاستعمال وصياغة ابعاد مستحدثة للأوصاف الوظيفية وتعيين أوجه ومستويات الفائدة من العامل عقب تجاوزه للسن القانونية المسماة للتقاعد وبحيث لا يكون هناك تقاعد إلا لمن صار مقعداً أو معاقاً أو ذو حاجة خاصة .. وهناك الكثير على مثل ذاك من المتعديات بظلم خلف الجدر أو من وراء الحجب ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
هنالك نظرية انجليزية قديمة في الفقه القانوني البريطاني تدعى بنظرية (اندماج سبب الدعوى في الحكم) The doctrine of merger of cause of action in judgment وبمقتضى هذه النظرية يفقد سبب الدعوى ذاتيته بمجرد صدور الحكم وينقضي سبب الدعوى بأن يحل الحكم محله كمصدر للحق أو الالتزام .. وقد اوضح القانوني البارز (هنري رياض) ذلك شارحاً بأنه لا يجوز للخصم أن يرفع دعوى اخرى بناء على نفس سبب الدعوى حتى لو كان طلبه في الدعوى الثانية مختلفاً تماما عن طلبه في الدعوى الاولى وحتى لو تولدت الحاجة الى الطلب الثاني عقب صدور الحكم على الاول، اي ان القانون لا يعترف سوى بمطلب واحد على سبب الدعوى وبالتالي يسقط اي مطلب اخر ينشا عن نفس سبب الدعوى في حال الحكم القضائي على موجب المطلب الاول .. وهكذا تؤدي نظرية الاندماج هذه الى حرمان الشخص من التقدم بطلب مبني على نفس سبب الدعوى السابق وذلك بدافع تقصير آماد النزاع ومن ثم حث الخصوم على التقدم بكل طلباتهم دفعة واحدة حتى يتم الفصل فيها بحكم واحد .. ولكن اليس يحمل هذا اشارة لتعدي الحكم الصادر في مطالبة على سبب دعوى ما الى ان يلغي كل المطالبات التي قد تنشأ على نفس سبب الدعوى مستقبلا والتي قد يكون فيها حق لصاحب الدعوى وإن لم تظهر حيثيات ذلك الا بعد صدور الحكم على المطالبة الاولى فتقع بذلك مظلمة بينة على صاحب الحق لتكون بمثابة عقوبة ضمنية له بإسقاط الحق له في رفع دعوى قضائية لمطلب جديد على نفس سبب الدعوى المحكوم فيها .. اوليس هذا هو الوجه الاخر للعقوبة التي تتعدى موضع القدم مني لتبلغ نحو موضع الرأس لدى غيري .. اوليس بداية اية قصة ظلم قانوني تنشأ في الاصل عن جملة من الافهام الخاطئة .. وأن ليس حقيقة ما نرى من سراب على الشوارع هو بماء ..
وما نخص الذكر به هنا هو توضيح أن من الحقوق ما هو موصول بمفهوم العمل الذي هو قيمة لا تعلوها قيمة لما فيه من سبب لعمران الارض وبقاء للشعوب .. وهذا ما تعطيه يد العامل أيا ما كان عمله سواءً اقام بين الاضابير بالدواوين أو طعن بطن الارض والصخر بالمنجل والمعول .. فكيف تعيش الشعوب والامم إن نحن قطعنا عن عاملها مداد الماء والغذاء والكساء .. فإن يكن العامل هو المحرك لعجلة الوجود بدفعه المستمر في العمل، فإن ما يتقاضاه من أجر راتب على ذلك هو ما يكون زوادة عيش أسرته واهله وخاصة بيته .. تلك الأسر التي هي الوحدات اللازمة ليتألف منها عموم المجتمع وبضياعها يضيع، فلو أن عاملا قد اخطأ وجنت يداه بجرم ذات مرة وتم ايقافه عن العمل اشهر او سنوات الى حين اصدار الحكم النهائي عليه وتم تجميد الراتب طوال تلك المدة، فهكذا لم يعاقب هو كفرد قائم بنفسه بل تعدى العقاب بذلك لكل من تبع لقوامته ممن يعول من ابرياء النساء والولدان ومن بلغوا ورائه من الكبر عتيا، فإن ثبتت عليه الادانة وتحققت التهمة في حقه ثم أودع السجن عاش هو أيامه تحت ظل نفقة هذا السجن ما شاء الله له فيه وهناك المال عن اهله مقطوع .. فتلك هي العقوبة المتعدية بظلم حيث تطال عائلة الفرد الخاطئ اكثر مما تطاله بنفسه، واذ نكون قد كففنا عن المجتمع ظلم الجاني من بوابته فإننا قد اعدنا ظلم المجتمع من بوابة اسرته .. وبهذا تنهار العدالة في الدنيا .
لذلك أتى أمر الله تعالى أن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) و(أن ليس للإنسان الا ما سعى) ليكون قانوناً على الأرض تدور حولة اقصى درجات العدالة في كل شرائع بني آدم .. فلا عقوبة تتعدى مرتكب الخطيئة ، ولعل لذلك أن اتى العقاب جله في شريعة الله تعالى بالتوقيع على جسد الاثيم الجاني إما جلداً أو قطعاً أو نفياً أو اعداماً، ولكن ليس يتعداه الى ما يقيم أود رعيته وأبنائه من اسباب لقمة العيش وسترة الحال، إذ هم في الشرع قد صاروا اوصياء من حكم وليسوا اوصياء من ظلم أو اخذ نفسه بجرم فتعطلت بذلك مسؤوليته عليهم وصار لزاماً على الحاكم للمجتمع حق عقاب الجاني ولزاماً عليه لعائلة المحكوم بعقوبة حق خلفته فيهم لحين ان يرجع ..
ووفقاً لهذا المنطق ومن وجه اجتماعي غير ذاك الجنائي، أنه من الممكن اعتبار فائدة ما بعد الخدمة أو راتب المعاش لمن تقاعد عن العمل ببلوغه السن المقررة رسميا أو دونها أنها ليست لأجله هو وانما لأجل أن لا ينقطع مداد الحياة وأسبابها عمن تعلقت رقابهم بعنقه فلا يضيع منهم أحد .. هكذا يكون دوماً عدل الله في شريعته .. ورغم ذلك فلربما كان احياناً في (المعاش) كراتب دون عمل شيء من ظلم مؤثر على المجتمع .. إذ يحرم المجتمع نفسه من عطاء انسان قد تقاعد وهو ما يزال يقدر بقوة على العمل والكد وغرس الفسائل تحت التراب وصارت له من الخبرات ما يطاول به اعالي الجبال .. فإن كان لا محالة من منحه صفة المعاش وراتبه ليعيش من يعول دونه، فإذن من الممكن أن لا نجعلها (ما بعد الخدمة) بأن يكون قيد الخدمة مستمراً ولكن بمستوى مختلف عن ذي قبل إلى أن يبلغ مبلغ العجز الشديد عن الاداء .. وليس حجةً أن ندعي اخلاء المقاعد من الامام حتى يتاح للدماء الجديدة ولوج الوظائف بمداخل الخدمة من الخلف .. فإن كان لا محالة مدفوع راتب المعاش لهذا ومدفوع راتب الخدمة لذاك، فلابد اذن من عدم جعل هذا الرجل المعاشي عالة براتب معاشه على الدولة بنيل المال بغير عمل فهذه عقوبة تتعدى نفس العامل المنتج القادر الى المجتمع العريض دون جرم من احد، فلندع إذن كلاهما عاملاً ففي ذاك كسب للبلاد وبركة للعامل ورزق كريم للعائلة .. والأمر في هذا قد لا يحتاج الا لنوع من التقنين وتوفيق حال التوظيف والاستعمال وصياغة ابعاد مستحدثة للأوصاف الوظيفية وتعيين أوجه ومستويات الفائدة من العامل عقب تجاوزه للسن القانونية المسماة للتقاعد وبحيث لا يكون هناك تقاعد إلا لمن صار مقعداً أو معاقاً أو ذو حاجة خاصة .. وهناك الكثير على مثل ذاك من المتعديات بظلم خلف الجدر أو من وراء الحجب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق