الأحد، 28 يناير 2018

مفارقة الكذاب ..

مفارقة الكذاب ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

دخل الفيلسوف الرياضي إلى قاعة المحاضرات العامة ، ونظر الى الحضور ، ثم قال (كل من في هذه القاعة كذابون .. كل من في القاعة .. فهل أنا كذاب ؟) .. قال احدهم (نعم انت كذاب .. لان كل من بالقاعة كذابون ، وانت منهم) .. فرد الفيلسوف قائلاً (أنا قد صدقت في قولي أن كل من بالقاعة كذابون .. فكيف أكون صادقا وأنا كذاب ؟) .. فقال آخر (اذن .. أنت صادق) .. فرد الفيلسوف (   وكيف اذن يكون كل من بالقاعة كذابون ، وأنا منهم؟ .. كيف يمكن ان اكون صادقا من حيث اني كذاب ، أو أكون كذابا من حيث اني صادق ؟) ..
سميت هذه المفارقة في ادبيات الفلسفة التحليلية والرياضية (مفارقة الكذاب)Lier paradox     .. ولكنها لم تعد مشكلة رياضية منطقية صرف وانما دارت دوائرها في رحى المجتمعات الانسانية والشعوب .. فكمن أراد أن يصير ملحدا عاد للسؤال البدائي الذي تجاوزته جهود المستدلين والمستنبطين منذ ازمان غابرة (اثبت لي ان الله موجود ؟) .. وكمن اعتلى منصة للرئاسة ازاح من بعد اعتلائه كل السلم الصاعد في العمران من قبله ليبدأ الناس معه مرة أخرى من بداية الدرج وفق عهده هو لا من سواه .. وكمن تعددت زوجاته ففسد اولاده الكثر منهن ، فقال لست أنا السبب فقد ربتهم أمهاتهم ، فيبرأ من الكل ويبدأ بواحدة جديدة ثم أخرى ثم اخرى وهلم جرا .. والكل يجد لنفسه عذرا ..
ثم تظهر (مفارقة الكذاب) كاشفة من ولي أمر أمة فأضاق على أهلها عيشهم بسوء فعاله .. فهل هو من هذا الشعب ؟ اذن ، فلا مناص له من أن يعيش شقاء عيشهم وشظفه .. وإما أن لا يكون منهم ، عندها لا حق له في حكمهم أصلاً .. وليسأل كل حاكم على الناس نفسه قبل أن يسألوه .. هل يجد هو ما يجدون من عنت بنفس القدر يد بيد وساق بساق جوعا وفقرا وربطا للحجارة على البطن وتذللا للقمة العيش ومصاريف الحياة وأغراضها .. أم أنه هو الوالي لا يشقى بشقاء شعبه وكل شيء لأجله ميسر .. فأن كان هو ذاك الملك الذي اقترح على الناس أن يأكلوا الكيك والكاتوه حين عز الخبز على الناس لينه ويابسه ، فليتبوأ له مقعدا من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فشقق عليه) .. ولا يقولن أحد أن للحكم والسلطان لأبهة بالضرورة فيها تلبية لكل حاجات النفس لمن رأس كي يفرغ لملكه العريض ،ولكي يقدر على السياسة ويقوى على الإدارة .. فهذا قول هراء باطل .. ابطلته تجربة (عمر بن عبد العزيز) في زمانه حيث لا نبي ولا صحابة .. وحيث ميراث الحكم في ذاك الزمان ارضا امتدت نحو أقصى الشرق وأقصى الغرب وحملت فوقها اكثر الناس والخلق .. وحيث لم يكن مع كل هذا الاتساع طائرات ولا سيارات ولا صواريخ عابرة للقارات تجعل من أمر تنفيذ أي قرار هونا ويسرا ، وبلوغ اطراف الارض لمحا بالبصر .. ولكن (عمرا) حين صدق واشاع عدلا شهدت له الدنيا وأغنى به كل الخلائق من فضل الله دانت له كل الارض طوعا بأمر الله وتقاربت اليه اطرافها على اظهر النوق والخيل دون طائرات ووسائط اتصال .. صار (عمر) اشد بني الامة فقرا وضيق عيش وبكاء بعد الولاية وهو الذي كان ربيب النعم واليسار قبلها .. وكان كفاه أن بحث الناس في بلاده عن فقير مسكين ليعطوه من مال الدولة المتدفق ذكاة ، فلم يجدوا سواه محتاجا ..  لقد عم في عامين فقط  كل أمصار الدنيا على عهد (عمر) خير زاد عن حاجة الطالبين .. في عامين فقط .. أما في حاضرنا وبكل التقنيات ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة واسباب المال العظمى ومنافذ الطاقة ومشروعات الاستثمار ومازال من يحكمون يطلبون من شعوبهم أن يصبروا قهرا على مهلة سنوات بالعشرات من اجل فقط الاعداد لشيء من العدل ضئيل محتمل ، وقد يكون وقد لا يكون .. رحم الله (عمر بن عبد العزيز) بما اثقل به التركة على ظهر كل من أتى وسيأتي عقبا له حاكما على امته في أي زمان .. ولقد افحم (عمر) التاريخ بحجة لا عذر لمعتذر بعدها أن لا يعدل بين الشعب ونفسه هو وليس فقط بين الشعب وبعضه .. فسيشقق الله تعالى وإن طال الأمد على من شق على أمته وسلبها مالها وشرفها وحقها أن تحيا ، واضاق عيش أمته بهناءة عيشه ، وقض مضاجع نومهم في عراء بارد ورفل هو في دفئ فرش الحرير والديباج ووسائد ريش النعام في داخل قصره المعروش .. ولعل لسان حاله ومقاله يرد على الجياع (انما هي ارزاق العباد يقسمها الله كيف شاء) وصدق .. لكن تظل دعوة الرسول قائمة عليه بما كسبت يداه ولا مفر ..  أما واجب العباد فهو شكر النعم بأفضل الجهاد وهو قولة حق أمام سلطان جائر ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق