الأربعاء، 21 فبراير 2018

بعد التحية والاحترام


~~~~~~~~~~~~~~

بعد التحية والاحترام ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

في الأمس القريب .. قدر لي حضور محاضرة كانت تحمل عنوان (علمانية الدولة .. أم دينية الدولة) .. ووسط جمع غفير من الشباب المتحمس ضد المألوف والتواق للمخالفة والخروج على المعتاد ، جلست .. واستمعت لأولئك الأساتذة الأفاضل وهم يحللون أزمة الدولة وكيف اسقطها التوجه ذا الصبغة الدينية في مأزق تاريخي حالك .. وانبرا تلكم الأساتذة جميعاً  للدفاع عن علمانية الدولة ، فتحدثوا عنها تفصيلاً واسهاباً وكيف أن العلمانية تمتد بأصولها إلى الأديب والروائي الإيطالي النهضوي (بلزاك) Balzac وأنها لا تعارض الدين ابتداء ولكنها فقط لا تسمح له بالخروج عن مضمونه الحقيقي في التعبد والنسك الشخصي بين الانسان وربه ليمارس سلطة ليست من شأنه على شؤون الحياة المجتمعية الإنسانية الحرة ومظاهرها ، فالحرية لديهم تقضي بإعطاء كل مشرب واتجاه حريته في الحياة والممارسة ، وأن الدين إن خاض السياسة والمجتمع صار بديلاً للأيديولوجيا الشمولية يرفعها ويقعد محلها ، فلا نكون إذن قد فعلنا شيئاً في تحرير الانسان واطلاق قدراته أياً كانت معتقداته فناً وسياسة وثقافة وفكراً .. كان الدفاع عن العلمانية محتدماً ذلك اليوم ، وقيل فيها كل ما يمكن أن يقال بل وسيقت في معرض التبرير لها بعضاً يسيراً من قصص ومواقف في التاريخ الإسلامي القديم .. والحق أنهم جعلوا العلمانية تتحدث عن نفسها بكل حرية وبما يكفي .. ولكنهم لم يتركوا للدين فرصة للحديث عن نفسه بدعوى أنه لا دين يتحدث عن نفسه ولكن نحن من نتحدث عنه .. بل نحو في ذلك نحواً أبعد بقولهم أننا حتى لم نعد نفهم نصوص الدين من كتاب وسنة ، بالتالي يحل لهم رسم البدائل واللجوء الى المواضعة البشرية في كل حال وأمر ..
ولكن بعد التحية والاحترام لهؤلاء الأساتذة ، نسألهم .. كيف بربهم لا يتحدث الدين عن نفسه وهو مدون في نصوص مكتوبة بلغتهم العربية التي ولدتهم عليها امهاتهم وربتهم صغارا ، وقرأوا بها وبحثوا وكتبوا المقالات الطوال بها كباراً ثم هم يلقون بها في ذاك الحين محاضرتهم تلك .. وكيف بربهم يجعلون العلمانية تتحدث عن نفسها وهي أيضاً في نصوص ولغة ، بل وفيها بلغتها اللاتينية المندثرة الشيء غير القليل من الاصطلاح والتعقيد بما لم تألفه أي لغة أم ، فإن كان الدين إذن لا يتحدث عن نفسه ولا يفهم فكذلك العلمانية لا تتحدث عن نفسها ولا تفهم سواء بسواء .. ثم كيف بربهم يأخذون اقتباساً معضدا لدفاعهم عن العلمانية من الممارسة الإسلامية التاريخية ما هو دون المشهور فيها أو مواقف فاصلة .. ولعل المشهور في تاريخ الاسلام إذا ما تم ايراده على حقيقته دون زيغ أو هوىً إذن لوقف شاهداً ضدهم لا معهم .. ثم كيف بربهم يحشدون في كل كلامهم كلمات ومقولات رنانة وقعها في أذن العامة بنحو (الانسانية) و(الحرية) كأسس تقوم عليها دعواهم وهم يعتبرونها مسلمات بديهية لا اختلاف للناس في دلالاتها .. وحق لنا أن نتسأل ونحن نرى أمامنا أن الانسان عبر تاريخه لم يختلف فكرياً إلى حد الصراع والحرب بقدر ما اختلف حول هاتين المقولتين .. لقد تنازع الانسان في تفسير الإنسانية أهي حيوانية في طابعها وجذرها أم هي روحانية أم مادية .. وقامت الحروب على أعقاب بعضها بالمدفع والكلمة على حد سواء لنصرة الحرية . ولكن هل الحرية هي وجودية فردانية أم ذرائعية تبريرية أم مجتمعانية اشتراكية أم هي محض ماء مسكوب على الأرض لا حدود لها أم هي شيء للتنازل عنها لمرشد أعلى .. والجدال لا ينتهي .. فكيف لنا ولهم بربنا أن نبني بنياناً شاهقاً ثابتاً على قوائم تتحرك ورمال لا تستقر حباتها على بعضها برهة .. أولسنا إذن نحتاج بذلك إلى حكم عدل وهو الصانع ليس سواه .. كتب (وليام بيلي) W. Paley في كتابه المشهور (اللاهوت الطبيعي) Natural Theology في الفصلين الأول والثاني منه أنه في أثناء سيره في الطريق الخلوي تعثرت قدمه بحجر ولم يكن من المستغرب وجود هذا الحجر في هذا المكان فهو ضمن السياق الفطري للطبيعة ، ولكن عندما اصطدمت قدمه في ذات الطريق بساعة كانت ملقاة .. هنا يثور العجب والدهشة والسؤال فالساعة بما فيها من عقارب وتروس ليست من قبيل الحجر ولا شيء من أشياء الفطرة في الطبيعة الحرة فهي صنعة لها صانع هو من له الفصل في أمرها وسميت تلك بحجة الساعة .. فللوجود صانع عنده الحل والعقد في أمره ، أم نعود فنقول أن الحل هو أن يضرب كل انسان في مرماه بهواه ولكل أن يعتقد فيما يشاء ويمضيه على الحياة بأسرها في كل ما يلحق بها من قيم وأخلاق وسلوك .. فكيف من ثم سنقيم دولة ذات نظم وقوانين عامة فوق اختلافات البشر ، ففي حين يتعدد أفراد الرعية بمذاهبهم لا يكون مناص للدولة إلا أن تلزم نفسها بمذهب واحد لأجل تجرد القوانين والنظم الموحدة الحاكمة ، هذا وإلا ضاعت الدولة .. هنا نقولها كلمة أخيرة ، أن خالق الإنسانية والحرية هو من له الحق في حسم معناها ومقصدها .. وقد كان .. فلعل الأساتذة لم يمنحوا أنفسهم الفرصة الوجيزة لينظروا نظرة في القرآن العظيم ليعرفوا أنفسهم أهم أصلاً من المتدبرين أم أنهم ممن على قلوبهم أقفالها .. فغاية الأمر أن حق لنا جميعاً أن نعتقد فيما نشاء وأن عليه نقضي ما نحن به قاضون .. لكن لا يحق لنا أن ندعي لأنفسنا ملكة وقوامة وضع مكاناً للدين في الحياة بإرادتنا نحن وحسبما نظن ، فإن الدين لا محالة هو ما يضع لنا أماكننا في الحياة ويضعنا على مواضعنا ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق