الخميس، 7 يونيو 2018

احفاد (النورسي) نحو خط الاستواء

احفاد (النورسي)  ، نحو خط الاستواء ..
د. وائل احمد خليل الكردي   
Wailahkhkordi@gmail.com                                             

ورد في اسطورة  قديمة (أن أما اضاعت ولدها , فالتقت الذئبة  فسألتها عنه ، فأجابت انها شاهدته ، ففرحت الام وقالت : اين هو ؟ فضحكت الذئبة وقالت : اكلته ) .. وهكذا تم أكل افريقيا فضاعت فرحة الأم بالعثور على وليدها ، ويا ليتها ما فرحت .. ولنبدأ الامر من اوله ..
لم يكن يوما قيام دولة اسرائيل هدفا بذاته وغاية ، إلا لدى بني اسرائيل وحدهم .. فدول اوروبا التي سعت واصدرت القرارات في انشاء دولة اسرائيل ، قد خالفت بذلك مبادئها الموروثة منذ عصر النهضة والتنوير ، حيث أن هذه الدول منذ الثورة الفرنسية صارت عقيدتها الرسمية هي الوضعية التجريبية التي جعلتهم يرفضون تماما اي تدخل لحق سامي أو تعاليم لاهوتية في ادارة الدول وبناء نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل وحتى الاخلاقية .. لقد صار كل هذا عندهم شانا انسانيا صرفا ، ومحكوم بمجريات العلم التجريبي والحق الطبيعي والتحقق المادي ولا شيء وراء ذلك .. وحتى الولايات المتحدة الامريكية ساد فيها الفكر الأداتي  البرجماتي  الذي لا يؤمن بمعيار سوى النجاح في تحقيق المصلحة الشخصية بغض النظر عن القيم والاخلاق والدين .. فكيف بالله يدعون ويدعمون ويحاربون من أجل قيام دولة على كيان لاهوتي بالكامل .. اذن ، فالغرض من بناء دولة اسرائيل لدى الأوروبيين والامريكان هو بخلاف الحق اللاهوتي الممنوح لهم في الاسفار المقدسة .. وانما اقتضت المصلحة العملية لديهم أن يزرعوا كيانا في قلب الشرق الاوسط يكون مركزا للهيمنة الاقتصادية والسيادة السياسية والقيادة الادارية على منطقة تتوسط العالم وتمسك بعظم خيراته .. لذا كان لابد ان يكون الوعد بالقيام لدولة إسرائيل مزودا بضمانات الاستثمار المالي الثر .. على أن لا يكون هذا الاستثمار على ارض الاحتلال نفسها وانما على ارض لا تتطأها كثيرا ارجل الرأسمالية في العالم بصورة منفرده .. ومن هنا استغلت اسرائيل ومن ورائها أوروبا وامريكا غياب رؤوس الأموال العربية في افريقيا لتدخل هي إليها عبر شركات استثمارية متعددة الجنسيات حتى تتفرق الدماء بين الدول ، ولكنه في الاصل بمال مساهمة إسرائيلي بنسبة غالبه .. والان يأتي في خواتيم العام ٢٠١٧ (رجب اردوجان)   وزمرة من أحفاد (بديع الزمان سعيد النورسي) بقرابهم لصب جملة من اعمالهم في عمق افريقيا عبر مشاريع ومؤسسات تركيا الواعدة .. وكم يعلم الناس أن (النورسي) الذي تربى هؤلاء الاتراك الجدد على تعاليمه لم يكن لديه طريقة مخصوصة سوى أن يضرب سياجا من الايمان حول قلوب الناس لصونها من قصف العواصف .. و(اردوجان) من حفدة (النورسي) في العقل والفكرة ، فحمل لواء رسالته وانطلق بها من منصة السيادة والحكم في تركيا نحو خط الاستواء في قلب افريقيا .. اذن ، فتركيا الجديدة التي تجتاح افريقيا الان علما ومالا وعمرانا هي دولة اسلامية تؤمن بدينها وتنطلق منه .. هنا تصبح الدول اسرائيل وتركيا اندادا في ارض التنافس وعلى نفس العهد والمنطلق الديني لكليهما .. فإن صدق رجال تركيا أحفاد (النورسي) ما عاهدوا الله عليه كانت لهم الغلبة حتما واليد العليا ولكن ليست بثوب عثماني هذه المرة بل بعباءة (النورسي) الايمانية التي قاتل ابناؤه متلفحين بها في اعماق صدورهم طغيان (اتاتورك) في طمس كل ما يمت بسبب للاسلام من قريب أو بعيد في كافة مظاهر الحياة التركية وظن أنه نجح ، ولكنه لو يعلم هذا (الاتاتورك) الان في قبره انه هزم من أول لحظة  اعطى فيها الماسوني (قره صوه)  قرار العزل للسلطان (عبد الحميد) آخر معاقل الخلافة الاسلامية .. وأنه فشل ايضا حتى نهاية حياته في غلق محابس المد الإيماني المتدفق بالإسلام التي اطلقها (النورسي)  وابناؤه من بعده ليثمر الان في الاحفاد صدقا وعزما وتوكلا على الله .. لقد قال الله تعالى   (من كان يظن ان لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) .. من هنا ، يجب النظر إلى تركيا (اردوجان) اليوم وفق طريقة (النورسي)  ، فلقد سلك (اردوجان) نفس مسلك (النورسي) في الاصلاح بإنبات الايمان وتعهده في الأنفس حتى تزكى دون العجلة في ضرب الظاهر من المجتمع فيحرق القديد قبل شوائه ..

الأربعاء، 21 فبراير 2018

الرواق الجديد في بلاد الحرمين


~~~~~~~~~~~

الرواق الجديد ، في بلاد الحرمين ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

أسس (زينون) Zeno الاغريقي في أعوام ميلاد المسيح الأولى مدرسة أخلاقية كانت على رواق يعبر فيه المشاؤون من الطلاب مع معلميهم .. وأثناء المسير كان علم المنطق يختلط بالقيم النبيلة وبالغايات السامية للإدراك وبالعلوم وبالفن ثم بمقامات الزهد التربوي .. هكذا كانت مدرسة الرواق قديماً ، يأكلون فيها الخبز مع المحبة بالعلم ومن حولهم الأخلاق وسواء النفوس وحقول الالهام .. لكأنما هذًا المعلم (زينون) قد عرف في زمانه أن العلم في الدنيا لا يرثه بحقه إلا من كان قلبه منذ نعومة الأظافر وبراءة الطرف مهبطاً للسمو الروحاني ومحلاً للسكينة والوقار ..
ولكن جاء علينا زمان كنا نحن فيه صغاراً قبل عقود وسنوات .. كنا نرى عصا الاستاذ قائمة خلف الأسطر والكلمات .. ويلوح لنا في الخيال شبح زملائنا في الصف وهم يهزئون على حالنا لحظة أن يوبخنا المعلم علناً على ذنب سقط من جوارحنا سهواً ولم تستوعبه عقولنا الصغيرة تلك حينها ، يهزئون بأفواههم وابتساماتهم المرسومة اصطناعاً لتخفي من دونها انتفاضة في الصدر زعراً وهلعاً وأسفاً على حالهم مثل حالنا عندما يأتي الغد ويسقط الذنب من جوارهم سهواً كما سقط منا وهم لا يدرون ، فينزل بهم العقاب وليس على صوم او صلاة .. حقاً لقد كان التعليم للمعلومات في المدارس قوياً شامخاً متين الجنبات والبنيان .. ولكن .. أين كان الإنسان وقتذاك بين صفحات الكتب وكراسات الدروس وأسنة الأقلام ؟ .. وها قد عادت الطفولة في البلاد اليوم كما كانت في ماضينا تشتهي أن تأكل الحلوى مع كل رفع ونصب وجمع وطرح واعراب وما نحو ذاك ، ولكن هيهات .. وبعد أن كبرنا ، كبرت معنا مخاوفنا على أبنائنا من عصا الأستاذ ومن سوء المنقلب لهم إذا ما يوماً اختلطت في حقائبهم المثقلة أوراق الإملاء برهبة الامتحان وسرعة دقات القلوب الواجفة في الصدور الصغيرة وتدافع الزفرات والعبرات في أنبوب الهواء عند انقطاع الحبر من المحبرة أو كسر سنة القلم الرصاص وقد محى الأستاذ كل المكتوب على السبورة بين غفلة الحلم منهم وانتباههم .. فيضيع منهم الحفظ ويعز الكلام عن الخروج ، فماذا يفيد العلم والنفوس منكسرة والهناءة مفقودة .. ولكن كل ذاك الخوف مني على أبنائي تساقط كأوراق الأشجار اليابسة عندما الحقتهم برواق جديد في بلاد الحرمين الأكرمين .. لم اكن أنظر حينها إلى حشو الرؤوس بالعلوم والوجدان خاوِ ، ولكن الاعتبار عندي كان لمليء النفوس بالثقة والمحبة والأمان والأمل .. هنا إذا تعلم الابن حرفاً بحب واعزاز نفع به وانتفع بطول حياته ، وإن تلقى الابن درسه بكره طارت كل اسفار العلوم من رأسه كأن لم تجاوز حلقه المسدود بالخوف إلى صدره يوماً .. لقد وجدت هناك في السعودية المعلم والمعلمة في مدارس الأولاد والبنات وذاك الخلق الكريم بعينه يسعى بين فلذات الأكباد يسبغون عليهم الأدب والنفس السوية وكرامة الانسان منذ المهد .. وكم حلقت أرواح أبنائي سعادة بفضل المعلم السعودي والمعلمة ، وحلقت معهم ، عندما ارتاحت نفوسهم لمدارسهم وتصالحت عقولهم مع قلوبهم فصار الدرس أشهى والرواح للمدرسة نزهة وشغف .. إن أهم ما قد غرسه المعلم السعودي في الأبناء التلاميذ ثقتهم بأنفسهم وانطلاق قدراتهم ومواهبهم من طي أعماقهم ، فأثمر العلم بهذا سعة للأفق لديهم وخبرة ليست باليسيرة .. وكم ترقرق الدمع في المقل من روعة مواقف ذاك المعلم معهم في العدل ورد الحقوق وطيب الكلام وعاطر العبارات وشكر العمل الطيب إن جادوا به ولو قل والرحمة والعفو منه فيما أخطأوا .. كيف لا واوراق ابنتي شاهدة على ما دونته المعلمات لها من شكر وشكر جزيل ممهوراً بالتواقيع عندما تصيب في الحلول والأجوبة ، وكم لهذا الشكر الكريم من المربي على الغض الصغير من وقع وأثر .. إنها أخلاق دين الله التي تتحدث فيهم ، فحين قال الأخرون من الجفاة (لا شكر على واجب) أبى الله إلا أن يتم نوره بأن لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى وأن كل فعل واجب كان أو نافلة يجزى عليه المرء بعشرة أمثاله ثواباً من عند الله ويضاعفه لمن يشاء .. ذلكم هو الرواق الجديد بروح ذاك الرواق القديم وتعاليم رب السماء .. فلله دركم أيها المعلم والمعلمة في أرض الحرمين وبلاد الرسول الأمين ..

بعد التحية والاحترام


~~~~~~~~~~~~~~

بعد التحية والاحترام ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

في الأمس القريب .. قدر لي حضور محاضرة كانت تحمل عنوان (علمانية الدولة .. أم دينية الدولة) .. ووسط جمع غفير من الشباب المتحمس ضد المألوف والتواق للمخالفة والخروج على المعتاد ، جلست .. واستمعت لأولئك الأساتذة الأفاضل وهم يحللون أزمة الدولة وكيف اسقطها التوجه ذا الصبغة الدينية في مأزق تاريخي حالك .. وانبرا تلكم الأساتذة جميعاً  للدفاع عن علمانية الدولة ، فتحدثوا عنها تفصيلاً واسهاباً وكيف أن العلمانية تمتد بأصولها إلى الأديب والروائي الإيطالي النهضوي (بلزاك) Balzac وأنها لا تعارض الدين ابتداء ولكنها فقط لا تسمح له بالخروج عن مضمونه الحقيقي في التعبد والنسك الشخصي بين الانسان وربه ليمارس سلطة ليست من شأنه على شؤون الحياة المجتمعية الإنسانية الحرة ومظاهرها ، فالحرية لديهم تقضي بإعطاء كل مشرب واتجاه حريته في الحياة والممارسة ، وأن الدين إن خاض السياسة والمجتمع صار بديلاً للأيديولوجيا الشمولية يرفعها ويقعد محلها ، فلا نكون إذن قد فعلنا شيئاً في تحرير الانسان واطلاق قدراته أياً كانت معتقداته فناً وسياسة وثقافة وفكراً .. كان الدفاع عن العلمانية محتدماً ذلك اليوم ، وقيل فيها كل ما يمكن أن يقال بل وسيقت في معرض التبرير لها بعضاً يسيراً من قصص ومواقف في التاريخ الإسلامي القديم .. والحق أنهم جعلوا العلمانية تتحدث عن نفسها بكل حرية وبما يكفي .. ولكنهم لم يتركوا للدين فرصة للحديث عن نفسه بدعوى أنه لا دين يتحدث عن نفسه ولكن نحن من نتحدث عنه .. بل نحو في ذلك نحواً أبعد بقولهم أننا حتى لم نعد نفهم نصوص الدين من كتاب وسنة ، بالتالي يحل لهم رسم البدائل واللجوء الى المواضعة البشرية في كل حال وأمر ..
ولكن بعد التحية والاحترام لهؤلاء الأساتذة ، نسألهم .. كيف بربهم لا يتحدث الدين عن نفسه وهو مدون في نصوص مكتوبة بلغتهم العربية التي ولدتهم عليها امهاتهم وربتهم صغارا ، وقرأوا بها وبحثوا وكتبوا المقالات الطوال بها كباراً ثم هم يلقون بها في ذاك الحين محاضرتهم تلك .. وكيف بربهم يجعلون العلمانية تتحدث عن نفسها وهي أيضاً في نصوص ولغة ، بل وفيها بلغتها اللاتينية المندثرة الشيء غير القليل من الاصطلاح والتعقيد بما لم تألفه أي لغة أم ، فإن كان الدين إذن لا يتحدث عن نفسه ولا يفهم فكذلك العلمانية لا تتحدث عن نفسها ولا تفهم سواء بسواء .. ثم كيف بربهم يأخذون اقتباساً معضدا لدفاعهم عن العلمانية من الممارسة الإسلامية التاريخية ما هو دون المشهور فيها أو مواقف فاصلة .. ولعل المشهور في تاريخ الاسلام إذا ما تم ايراده على حقيقته دون زيغ أو هوىً إذن لوقف شاهداً ضدهم لا معهم .. ثم كيف بربهم يحشدون في كل كلامهم كلمات ومقولات رنانة وقعها في أذن العامة بنحو (الانسانية) و(الحرية) كأسس تقوم عليها دعواهم وهم يعتبرونها مسلمات بديهية لا اختلاف للناس في دلالاتها .. وحق لنا أن نتسأل ونحن نرى أمامنا أن الانسان عبر تاريخه لم يختلف فكرياً إلى حد الصراع والحرب بقدر ما اختلف حول هاتين المقولتين .. لقد تنازع الانسان في تفسير الإنسانية أهي حيوانية في طابعها وجذرها أم هي روحانية أم مادية .. وقامت الحروب على أعقاب بعضها بالمدفع والكلمة على حد سواء لنصرة الحرية . ولكن هل الحرية هي وجودية فردانية أم ذرائعية تبريرية أم مجتمعانية اشتراكية أم هي محض ماء مسكوب على الأرض لا حدود لها أم هي شيء للتنازل عنها لمرشد أعلى .. والجدال لا ينتهي .. فكيف لنا ولهم بربنا أن نبني بنياناً شاهقاً ثابتاً على قوائم تتحرك ورمال لا تستقر حباتها على بعضها برهة .. أولسنا إذن نحتاج بذلك إلى حكم عدل وهو الصانع ليس سواه .. كتب (وليام بيلي) W. Paley في كتابه المشهور (اللاهوت الطبيعي) Natural Theology في الفصلين الأول والثاني منه أنه في أثناء سيره في الطريق الخلوي تعثرت قدمه بحجر ولم يكن من المستغرب وجود هذا الحجر في هذا المكان فهو ضمن السياق الفطري للطبيعة ، ولكن عندما اصطدمت قدمه في ذات الطريق بساعة كانت ملقاة .. هنا يثور العجب والدهشة والسؤال فالساعة بما فيها من عقارب وتروس ليست من قبيل الحجر ولا شيء من أشياء الفطرة في الطبيعة الحرة فهي صنعة لها صانع هو من له الفصل في أمرها وسميت تلك بحجة الساعة .. فللوجود صانع عنده الحل والعقد في أمره ، أم نعود فنقول أن الحل هو أن يضرب كل انسان في مرماه بهواه ولكل أن يعتقد فيما يشاء ويمضيه على الحياة بأسرها في كل ما يلحق بها من قيم وأخلاق وسلوك .. فكيف من ثم سنقيم دولة ذات نظم وقوانين عامة فوق اختلافات البشر ، ففي حين يتعدد أفراد الرعية بمذاهبهم لا يكون مناص للدولة إلا أن تلزم نفسها بمذهب واحد لأجل تجرد القوانين والنظم الموحدة الحاكمة ، هذا وإلا ضاعت الدولة .. هنا نقولها كلمة أخيرة ، أن خالق الإنسانية والحرية هو من له الحق في حسم معناها ومقصدها .. وقد كان .. فلعل الأساتذة لم يمنحوا أنفسهم الفرصة الوجيزة لينظروا نظرة في القرآن العظيم ليعرفوا أنفسهم أهم أصلاً من المتدبرين أم أنهم ممن على قلوبهم أقفالها .. فغاية الأمر أن حق لنا جميعاً أن نعتقد فيما نشاء وأن عليه نقضي ما نحن به قاضون .. لكن لا يحق لنا أن ندعي لأنفسنا ملكة وقوامة وضع مكاناً للدين في الحياة بإرادتنا نحن وحسبما نظن ، فإن الدين لا محالة هو ما يضع لنا أماكننا في الحياة ويضعنا على مواضعنا ..

الأحد، 28 يناير 2018

دبيب النمل ..

دبيب النمل ..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

يسعى الكبر في النفوس كسعي النمل بين الأنام ، لا يترك أثراً على المسير ولكن يصدح عنه صراخ المتألم من عقصته ..
حلق عالم وكاهن وفتى مراهق على متن طائرة صغيرة وبينما هم في حالة من شرود الذهن إذ اعلن الطيار فجأة أن عطلاً قد أصاب محركات الطائرة ويجب عليهم إخلائها فوراً . ثم أعلن على استحياء الخبر المحبط التالي : يوجد فقط ثلاثة مظلات (باراشوت) لهم هم الأربعة . هنا كان عليهم اتخاذ القرار الصعب (من الثلاثة الذين سيحصلون على المظلات ؟) ، وعلى الفور بادر العالم بالقول وهو يصادر لنفسه بحق التقدم على الآخرين (أنا عالم بارز ، والعلم هو اكثر ما يثري الانسانية بإسهامه في تقدم المعرفة ، بينما أن هذا الكاهن لا يفعل شيئاً سوى الاعتداد بخرافات نيافته . إنني وبكل صراحة استحق واحدة من هذه المظلات لذا سارتدى واحدة وأقفز بها خارجاً وآمل أن نلتقي أنا وأنتم الاثنين (الطيار والفتى) على الأرض بسلام) وما لبث أن قفز العالم من الطائرة وهو يرتدي إحدى المظلات . التفت الكاهن نحو الاثنين الآخرين وقال صائحاً (ماذا نفعل الآن ؟) فأجابه الفتى بهدوء (ليس هناك داع للجزع ، فهنالك مظلة لكل واحد منا) أردف الكاهن قائلاً (كيف وقد سمعت الطيار يقول أن هنالك ثلاثة مظلات فقط ؟ وقد صار لدينا الآن اثنان فقط) فقال الفتى شارحاً (ولكن العالم الفذ يحلق الآن في الجو بحقيبة ظهري) .
هكذا توزع الكبر بين الناس بين مغالط لغيره ومغالط لنفسه .. أما المغالط لغيره فذاك الذي أحب أن يحمد بما لم يفعل ، كذاك العالم الذي لم ينجيه كبره بما تعلم من موته بجهل ما لم يعلم .. وكم في الديار من رجال ونساء تاهوا خيلاءً بما كسبوا فاستعلوا على الناس وكشف الزمان بعد حين عورات جهلهم بزلة قدم شائنة ربما أبانت أن الذي كان الأدنى فيهم كان هو العلي ولكن الصمت واراه .. وكم من عالم تواضع لله بذل وللمؤمنين فحاز بين العوام شرفاً وقصداً للحوائج وحباً ، فنسبوا له ألقاب الفخار ما لم يدعيه هو لنفسه وإن حازها بملك يمينه .. وليس الفتى من قال ها أنا ذا ، ولكن الفتى من قال هاؤم أقرءوا كتابيا .. فتدل عليه فعاله ولا يدل هو على الفعال .. لقد زم الله العزيز من حملوا التوراة ثم لم يحملوها .. ومثلهم كل من حاز التشريف بجراب أجوف فتباهى زيفاً والله يقول فيه (لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) ومنهم من يعلم ما هو عليه ومنهم من حسب أنه يحسن صنعاً ، ولكن الانسان على نفسه بصيرا في كل الأحوال .. ألا رحم الله استاذي ومعلمي الجليل الدكتور (عبد الله محمد توم) الذي رحل في صمت العظماء بعد أن انهى اشرافه على رسالتي للماجستير .. رحل بعد أن علمني كيف يكون الصبر على العلم .. والصبر على أحاقد أدعياء العلم وإن نالوا أعلى الرتب والألقاب .. علمني كيف يكون الصمت عن اللغو .. وكيف يكون السير قدما في دروب المعارف بصدق وحق طريق محفوف بالنيران ولكن مبلغه ألى الجنة .. علمني كيف يمنح الانسان كل ما في عقله من علم لخير القاصي والداني ، ولخير الوجيه البارز كما للأشعث الأغبر ، وأن البخيل من ضن على الناس بحرف من علم ناله يوماً بسمع وبصر .. علمني كيف أن محك النقد يصقل الفكرة ويزنها بقسطاس مستقيم فتصير أجدى وأنفع  .. علمني كيف أحذر ادعاء العلم وأنا أجهل ، فدعي العلم يظل قوله غثاً وبلا مريدين وإن دون عشرات الكتب والأسفار ، ويبقى للمخلص في غير تفاخر أجر علمه عند الله وبين الناس وإن لم يدون في العلم الرصين سوى صفحة من جريد مقطعة الأطراف .. علمني (عبد الله محمد توم) كل ذلك بشخصه دون قول وبلا تلقين .. رحم الله استاذي الجليل فقد حق لى أن أشهد له بغير تزكية أنه (المعلم) بعقد الألف واللام ، رجل لا يجب أن تنساه ساحات جامعة الخرطوم  فقد أنجبته وبر بها .. وأن لا ينساه من بات يوماً تحت جنحه طالباً .. فلقد مات والقلم يحتضر في يده يعبث بالورق ويخط حروفاً وكلمات ، ويا ليتها اكتملت ..

الانسان والسوبرمان ..

الانسان والسوبرمان ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

منذ ان اعلن (ريتشارد دوكنز) R. Dawkins أن مقصود (داروين) Ch. Darwin   من تعيين أصل الانسان في سلالة الحيوان يجعله ابن عم للقرد الشمبانزي والجوريلا في نسب عائلي واحد ، وبالتالي فهم معا على قيمة واحدة متساوية في الوجود .. فاقتضى هذا ارساء مبدأ حيونة الانسان وليس أنسنة الشمبانزي .. فنحن اذن كما الانعام من ابناء عمومتنا لا يهمنا من الدنيا سوى البحث عن الطعوم النابتة على الارض أو الساعية على اربع في بواطن الوديان أو سابحة بزعانفها وخياشيمها في اعماق البحار .. نأكل ونشرب ونلهو بأطفال وبنين ، ولا شيء وراء ذلك .. ونتقاتل من أجل لقمة العيش والنسل ومتاع الطبيعة .. فمنذ ذاك ونحن نسأل أنفسنا ، والسؤال يلح ويطرق الاذان (من أين جاءنا – والحال هكذا – التطلع الدائم للعلو فوق ما نحن عليه .. ونخلق فينا ما اسميناه الحضارة ؟) .. أهي الدافعية الحيوانية داخلنا هي ما تسوقنا الى صعود درجات اعلى في الوجود ، ونرقى مراقي المجد ؟ .. لقد ذكر صديقي الفيلسوف السعودي المتفوق (عبد الرحمن بن مرشود) في اقتباس له في ختام محاضرته عن السردية والانسان أن الذئاب حين تتقاتل لا تباهي بانتصار ولا تفاخر ببطولة ، ذلك لأنها لا تسرد القصص .. فمن اين اذن جاء الانسان بالسرد والقصة ينقل بها تطلعنا نحو ما هو أقوى وأجدى .. لعلى ازعم أن كل انسان يرنوا نحو السوبرمان ، نحو ذاك الإنسان الاعلى في نفسه .. بشر بذلك (نيتشه) F. Nitzsche  في فلسفة القوة والعدمية وقلب القيم رأسا على عقب .. وبشر به (كيركيجارد) S. Kierkegaard فيلسوف الوجودية فيما وراء العقل من وجدان وفيما وراء الجماعات من أفراد تتفوق ذواتهم على ذواتهم .. وبشرت به الماركسية في فناء الآحاد في المجموع وحذف الفردانية والملكية الخاصة .. وبشر به الصوفي المغرق (ابن ابراهيم الجيلي) في مقالتة (الانسان الكامل) المترقي بأحوال الالوهية الثرة .. بشر به (هتلر) و(بوذا) و(زرادشت) و(غاندي) و(فرعون) .. ولقد كانت فكرة السوبرمان هي الملهم لغسيل أوهام الافكار في رواية (بيرنارد شو) B. Sh. (الانسان والسوبرمان) ، وهي الملهم لعلو (هاملت) بعقدة اوديب لدى (شكسبير) .. وكلنا هكذا يبشر بالسوبرمان إما بقلم أو بندقية أو اخلاق أو قسوة أو عطاء بلا حساب أو بسلطة أو بإيثار أو بجريمة .. وتتجلى في ثنايا هذا التبشير كل كلمات الانسانية والحرية والكفاح والايمان والالحاد والفداء والخوف والرجاء .. هكذا يبقى الانسان يؤكد ذاته في مسيرة الحياة كلها .. ويظل لا يقنع بالراهن والماضي الا من حيث ينتظر المستقبل .. هنا يفارق الانسان أبناء عمومته من الشمبانزي والجوريلا والاورانج أوتان في حقيقة الوجود عندما ما لم يجد لحياة القطيع شيئا في فطرته الانسانية ، فيأبى أن يكون رأسا في قطيع ، بل هو ذات نادرة ، تمر في الوجود مرة دون تكرار ما بين ميلاد الفرد وموته فتترك أثرا غير كل أثر ..
لقد بلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن ليس للإنسان من ماله الا ما أكل فأفنى ولبس فأبلى وتصدق فأبقى .. ومن بين هذه الكلمات كانت الحقيقة تبرز نفسها بأن قيمة الانسان ليست اكل وملبس وعيش مثل البهائم على هوام الأرض وخشاشها .. وانما قيمة الانسان أن يصير أكثر عمرانا لنفسه ومجتمعه وأعلى انسانية في قيمه ومبادئه واعظم اثرا في قوله وفعله .. فالحيوانات من ابناء عمومتنا - الذين يزعمون – إن لم تجد الكلاء حاضرا تحت حوافرها استسلمت لواقعها واسلمت نفسها للهجرات البعيدة أو للجوع محلها حتى الفناء ولم ولن تكلف نفسها لحظة عناء ببذر بذرة في طين رطب تنبت منها قمحا أو شعيرا تأكله قبل حصاده ناهيك عن أن تصنع منه خبزا أو حساء ..أما الانسان من بني آدم فهو من ضرب الارض بباطن قدمه فارتقى لأعلى ثم أعلى.. هو من دون لنفسه تاريخا من وقائع واحداث .. والا فكيف يفسر ابناء عمومتنا قيام اكبر ثورات التاريخ الحديث في اوروبا حال بلوغ الانسان أبعد دركات الانحطاط في متاع الدنيا .. انها تلك الثورة الفرنسية التي حرك نحوها قلم (فولتير) وصحبه شعوبا التصق الجلد منهم بالعظم جوعا وتقاتل الظمآى منهم على شربة من دم جيفة بليت منذ زمن .. فكيف كان للعراة الجوعى أن يحركهم القلم وتقودهم الكلمة نحو تغيير واقعهم من اصوله إلا أن يكون هو الانسان .. ان الانسان هو الكائن النازح قدما نحو السوبرمان طبعا وفطرة .. وكل على طريقته ينزع لذاك .. فلا عاد لنا قول بعدها لمن ادعى (أن الرجال والنساء لا يقرأون وهم جياع ، ولا ينصتون للخطب) .. لقد قرأ شعب (فولتير) حكاية (كنديد) وهم جائعون مدقعون في الفقر بتخمة الامراء واصحاب الثراء ، فنهض وثار وغير .. فأي عذر لنا أمام التاريخ في اوطاننا إن صدقت فينا اقوال الدعاية الاستبدادية قهرا (أن القمح والشعير هما فقط حياة الانسان .. وأن الشعوب قطعان بعير) ..
 

اصنع عدوك .. تأكله

اصنع عدوك .. تأكله
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

وحين كبرت .. لم أحصل على تأشيرة للبحر ..
لم ابحر ..
وأوقفني جواز غير مختوم على الشباك ..
لم أعبر ..
(هشام الجخ)
لم يدور بخلدي قبلاً أن يأتي يوماً أدرك فيه أن أصحاب (وعد بلفور) قد أوعزوا سراً إلى سيد شباب ثورة يوليو 1952م (جمال عبد الناصر) رحمه الله ، أن يقود حملته للنضال والبطولة عبر .طريق حافل بالبطولات رسموه له كما رسموه الماسون من قبل للسلطان عبد الحميد العثماني أخريات عهد الخلافة الإسلامية فانهارت وتم نفي السلطان وإعلان العلمانية الأتاتوركية .. ولكن طريق الثوار في يوليو 52 كان لابد أن يكون مختلفاً .. فحيث لم تعد هناك خلافة إسلامية كان لابد للطريق الجديد أن يكون معبداً باسم القومية  .. القومية العربية .. ليدفع الثوار عن بلاد العرب مستعمريها بجحافل من الخيل والسياسة ، ثم توحيد الأمة تحت راية (العروبة) الجديدة .. ولا أدري من بالتحديد  من بين أصحاب ذلك الوعد لقيام  دولة الشعب المختار على أرض أبناء كنعان عام 1948م  الذي أوعز للثائر الشاب أنك إن اردت هزيمة اليهود في بلاد العرب ، فحاربهم باسم العروبة وبهدف إعلاء القومية العربية .. فانجرف المد الطاغي من الشعوب بفعل الخطب المشتعلة وراء زعيمهم في كل مكان (ناصرياً) كان أم (بعثياً) لقتال صهيون وتحرير فلسطين المحتلة .. فكان كل نصيبهم حصد الرؤوس منهم والأرواح ، وليبقى اليهود هم كما هم .. لم يفطن اولئك العرب أنهم يقاتلون يهوداً هم جميع شعوب العالم منهم جمعتهم وحدة العقيدة والدين ، فكيف للعرق الواحد أن يغلب خليطاً من كل الأعراق .. هذا كان في الماضي القريب ، ولكن ما يحدث اليوم أدهى وأمر .. فلقد انقلب السقاء على الساقي وتبعثر الماء بعد كسر الإناء ، وأكلت قطة يعرب أبنائها .. وبات القتل والقتال في البيت الواحد تماماً كما خطط له .. فلقد فطن أصحاب الوعد قديماً أن غرس الود والوفاق وجمع الشمل على كلمة ومبدأ (القومية) ، سيعمل على مدى الزمن في تهشيش المفاصل ونخر العظام والأكتاف .. وكحال كل القوميات في التاريخ لن يصمد ما اجتمع عليه بني يعرب  ليكون يوماً حائط الصد المنيع بينهم وبين أنفسهم حال ما تنازعوا الأرض والسلطان .. وها قد خرت القومية العربية صرعى ، وصارت جامعة الدول العربية ما هي إلا صورة للفتة الكبرى وللربيع العربي الذي تساقطت أوراقه الصفراء وتعر الشجر ..
والآن يعود كل فرع لأصله من كل جنس وملة .. فمن عادوا إلى حاضرة الفرعون في مصب النيل .. ومن رجعوا إلى عمق أفريقيا السمراء وغابات الباباي والمانجو .. ومن عادوا إلى البربر الأشداء في مضارب الساحل والصحراء .. ومن ردوا إلى بابل وأشور وسومر على ضفاف الفرات .. فكلُ قد كفر بيعرب وقالوا لنا دونها أصل .
هكذا ضل الناس الطريق . فلم تجمع القومية يوماً قط قوماً .. واليوم ، زالت القومية وبقي اللسان ، شاهداً على العرب ونذير بين يدي خطر قد اقترب .. فوعد (بلفور) كان ، إذن ، مؤلف من عهدين .. عهد ظاهر ، وهو التمكين لليهود في دولة على أرض فلسطين مخالفين بذلك كافة مبادئ المشروعية الدولية في نشؤ الأمم والبلدان وحسب حق تاريخي مزعوم لو وافقهم الناس عليه لفتحوا بذلك على أنفسهم أبواباً لدعوى حقوق تاريخية لدى كل شعوب العالم عند بعضهم ولن تنسد إلا بفتنة حاصدة خاصة  بعدما تداخلت الأنساب وانتشرت الشعوب وأعيد ترسيم الرقاع .. أما العهد الباطن ، فلعلنا نضرب فيه مثلاً (إن كان ثمة عدوُ لا محالة ناهض لك .. فاسبق أنت بصنع عدوك من عجوة ، لتأكله حين الطلب) .. ولقد صنع وعد (بلفور) في طي بنوده هذا الخصم الرخو من عجوة .. وصار في كل حين يأكل منه كيفما شاء .. ولو أن هذا الوعد لم يصنع خصمه الهزيل (القومية العربية) كبديل منطقي بعد حسم الخلافة العثمانية ، لنهض أمامه عملاق الإسلام من جديد بالصارم البتار عدواً له ولا يقدرون عليه ،  وليجهض الحلم بأرض الميعاد في منامة بني اسرائيل .. نعم إن القومية العربية هي صنيعة وعد (بلفور) لتكون هي الخصم الفاشل أمام دولة صهيون حال قيامها .. ثم هكذا يظل يدور الشرق الملتهب في لعبة الكراسي .. ولكن لا ينتهى العد أبداً ولا تدق صافرة ً النهاية .. ولن نعلم من يجلسون على المقاعد ومن يظل واقفاً فيخرج من اللعبة

مفارقة الكذاب ..

مفارقة الكذاب ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

دخل الفيلسوف الرياضي إلى قاعة المحاضرات العامة ، ونظر الى الحضور ، ثم قال (كل من في هذه القاعة كذابون .. كل من في القاعة .. فهل أنا كذاب ؟) .. قال احدهم (نعم انت كذاب .. لان كل من بالقاعة كذابون ، وانت منهم) .. فرد الفيلسوف قائلاً (أنا قد صدقت في قولي أن كل من بالقاعة كذابون .. فكيف أكون صادقا وأنا كذاب ؟) .. فقال آخر (اذن .. أنت صادق) .. فرد الفيلسوف (   وكيف اذن يكون كل من بالقاعة كذابون ، وأنا منهم؟ .. كيف يمكن ان اكون صادقا من حيث اني كذاب ، أو أكون كذابا من حيث اني صادق ؟) ..
سميت هذه المفارقة في ادبيات الفلسفة التحليلية والرياضية (مفارقة الكذاب)Lier paradox     .. ولكنها لم تعد مشكلة رياضية منطقية صرف وانما دارت دوائرها في رحى المجتمعات الانسانية والشعوب .. فكمن أراد أن يصير ملحدا عاد للسؤال البدائي الذي تجاوزته جهود المستدلين والمستنبطين منذ ازمان غابرة (اثبت لي ان الله موجود ؟) .. وكمن اعتلى منصة للرئاسة ازاح من بعد اعتلائه كل السلم الصاعد في العمران من قبله ليبدأ الناس معه مرة أخرى من بداية الدرج وفق عهده هو لا من سواه .. وكمن تعددت زوجاته ففسد اولاده الكثر منهن ، فقال لست أنا السبب فقد ربتهم أمهاتهم ، فيبرأ من الكل ويبدأ بواحدة جديدة ثم أخرى ثم اخرى وهلم جرا .. والكل يجد لنفسه عذرا ..
ثم تظهر (مفارقة الكذاب) كاشفة من ولي أمر أمة فأضاق على أهلها عيشهم بسوء فعاله .. فهل هو من هذا الشعب ؟ اذن ، فلا مناص له من أن يعيش شقاء عيشهم وشظفه .. وإما أن لا يكون منهم ، عندها لا حق له في حكمهم أصلاً .. وليسأل كل حاكم على الناس نفسه قبل أن يسألوه .. هل يجد هو ما يجدون من عنت بنفس القدر يد بيد وساق بساق جوعا وفقرا وربطا للحجارة على البطن وتذللا للقمة العيش ومصاريف الحياة وأغراضها .. أم أنه هو الوالي لا يشقى بشقاء شعبه وكل شيء لأجله ميسر .. فأن كان هو ذاك الملك الذي اقترح على الناس أن يأكلوا الكيك والكاتوه حين عز الخبز على الناس لينه ويابسه ، فليتبوأ له مقعدا من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فشقق عليه) .. ولا يقولن أحد أن للحكم والسلطان لأبهة بالضرورة فيها تلبية لكل حاجات النفس لمن رأس كي يفرغ لملكه العريض ،ولكي يقدر على السياسة ويقوى على الإدارة .. فهذا قول هراء باطل .. ابطلته تجربة (عمر بن عبد العزيز) في زمانه حيث لا نبي ولا صحابة .. وحيث ميراث الحكم في ذاك الزمان ارضا امتدت نحو أقصى الشرق وأقصى الغرب وحملت فوقها اكثر الناس والخلق .. وحيث لم يكن مع كل هذا الاتساع طائرات ولا سيارات ولا صواريخ عابرة للقارات تجعل من أمر تنفيذ أي قرار هونا ويسرا ، وبلوغ اطراف الارض لمحا بالبصر .. ولكن (عمرا) حين صدق واشاع عدلا شهدت له الدنيا وأغنى به كل الخلائق من فضل الله دانت له كل الارض طوعا بأمر الله وتقاربت اليه اطرافها على اظهر النوق والخيل دون طائرات ووسائط اتصال .. صار (عمر) اشد بني الامة فقرا وضيق عيش وبكاء بعد الولاية وهو الذي كان ربيب النعم واليسار قبلها .. وكان كفاه أن بحث الناس في بلاده عن فقير مسكين ليعطوه من مال الدولة المتدفق ذكاة ، فلم يجدوا سواه محتاجا ..  لقد عم في عامين فقط  كل أمصار الدنيا على عهد (عمر) خير زاد عن حاجة الطالبين .. في عامين فقط .. أما في حاضرنا وبكل التقنيات ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة واسباب المال العظمى ومنافذ الطاقة ومشروعات الاستثمار ومازال من يحكمون يطلبون من شعوبهم أن يصبروا قهرا على مهلة سنوات بالعشرات من اجل فقط الاعداد لشيء من العدل ضئيل محتمل ، وقد يكون وقد لا يكون .. رحم الله (عمر بن عبد العزيز) بما اثقل به التركة على ظهر كل من أتى وسيأتي عقبا له حاكما على امته في أي زمان .. ولقد افحم (عمر) التاريخ بحجة لا عذر لمعتذر بعدها أن لا يعدل بين الشعب ونفسه هو وليس فقط بين الشعب وبعضه .. فسيشقق الله تعالى وإن طال الأمد على من شق على أمته وسلبها مالها وشرفها وحقها أن تحيا ، واضاق عيش أمته بهناءة عيشه ، وقض مضاجع نومهم في عراء بارد ورفل هو في دفئ فرش الحرير والديباج ووسائد ريش النعام في داخل قصره المعروش .. ولعل لسان حاله ومقاله يرد على الجياع (انما هي ارزاق العباد يقسمها الله كيف شاء) وصدق .. لكن تظل دعوة الرسول قائمة عليه بما كسبت يداه ولا مفر ..  أما واجب العباد فهو شكر النعم بأفضل الجهاد وهو قولة حق أمام سلطان جائر ..

تقنيات منطقية لمحاورة الساينتيزم Scientism

(دورة تدريبية)
تقنيات منطقية لمحاورة الساينتيزم Scientis
اعداد وتنفيذ / د. وائل أحمد خليل الكردي

أولاً / هدف الدورة :
تهدف الدورة إلى تحقيق رفع الكفاءة المنطقية في الرد التناظري على الاتجاهات الساينتزمية (العلموية) ، وتوظيف وإدارة الأفكار في ذلك .

ثانياً / وسائل الدورة :
1- المحاضرة التفاعلية
2- عروض مشاهدة
3- نصوص
4- السيناريو الدرامي
5- المراجع

ثالثاً / القيد الزمني للدورة :
من 5 إلى 8 جلسات – على مدى 3 إلى 5 أيام

رابعاً / محاور الدورة :
المحور الأول : تفصيل بيان اتجاهات الساينتزم ونتائجه :
1- الوثوقية العلمية (أساس الساينتزم) : يقوم على تفسير إيجابي على نتائج العلوم الطبيعية وإثبات منطق القيم – الثنائية .
2- الا-أدرية : شكية تقوم على تفسير سلبي على نتائج العلوم الطبيعية على مرجعية (ديفيد هيوم) .

النتائج الساينتزمية :
1- النزعة الإنسانية : وهي الكفر بكافة الأديان ورفض فكرة الدين مع بقاء الاعتقاد بالخالق أو الإلحاد الكامل .
2- النزعة التعطيلية : وهي حذف دور الدين من الحياة العامة رغم الاعتقاد فيه الدور -  الذاتي فقط للدين (العلمانية Secularism ) .

المحور الثاني : ضروب لاستدلال العام :
1- أشكال القياس Syllogism
2- الاستقراء والاستنباط  Induction & Deduction
3- المسلمات Axioms   والفرضيات Hypotheses
4- القوانين Laws ، القواعد Rules ، النظريات Theories

المحور الثالث : تقنية المواجهة في الغرفة المظلمة :
(أ) ألإشارة إلى أن نتائج الساينتزم مبنية على النظريات العلمية وليس القوانين العلمية . 
(ب) مبدأ الإعجاز العام للقرآن الكريم من الناحية العلمية هو صفة (إدارة المعرفة العلمية) ، من جهة فك الارتباط بين القوانين العلمية والعقيدة من حيث بنية القوانين العلمية . وإثبات الارتباط من جهة الإشارة العقدية إليها وفق منطق (الرؤية الكونية الشاملة) واحتواء الكل للجزء والأعلى للأدنى (سنريهم آياتنا ...) .
(ج) ضرب نقاط الفاقد المعرفي لدى الساينتزم الوثوقي وليس نقاط الثابت المعرفي (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) – وذلك على قسمين :
1- دحض الساينتزم اللا-أدري وفق حجة (الانتظام الكوني الغائي والوظيفي) .
2- دحض الساينتزم الوثوقي وفق حجة (خرق النتظام الكوني) ومشكلة السببية (قوائم مل Mill ) .


المحور الرابع : تقنية الرد التوليدي (المنهج السقراطي) :
1- بيان المنهج التوليدي السقراطي وعناصره .
2- دلالة الخلق الكوني للخالق (الادعاء بالخلق) – حجة ابراهيم عليه السلام .
3- تحويل دوافع إثبات الإلحاد الساينتزمي إلى دوافع مضادة له  (تقنية أحمد ديدات).
4- سؤال العدم .

المحور الخامس : تقنية استغلال العقل الآخر :
وهو دلالة الفائدة الوظيفية للإيمان وضرورته العملية في تحديد ورسم معاني المفاهيم على مستوى الشعوب والقبائل  :
1- الإنسانية ، لحرية ، التطور الاجتماعي والعمراني ، الأخلاق .
2- اللغة القرآنية .
3- الحجة التاريخية .
4- نظرية البارادايم Paradigm   واللا-قياسية .

الأحد، 5 نوفمبر 2017

هذا أوان الجدار الزجاجي

هذا أوان الجدار الزجاجي ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   


كثير جداً من أبطال التاريخ الإنساني خلقت بطولاتهم في بطون السجون ووراء قضبان الأسر . إنه لمن المؤسف حقاً بعد هذا أن يدور اسم (السجن) في أيامنا على نحو ما ليس عليه أصله .. فأن السجن الآن هو (اصلاح وتهذيب) ، إلا أنه في أصله الحقيقي هو (اطلاق وتحرير) .. لقد ظن كثير من أصحاب الهيئات الرسمية وبعض القضاة أنهم حين يحكمون على إنسان ما بالسجن قيداً من الزمن أنهم بذلك يقضون عليه بتوقيع عقاب على جرم اقترفته يداه .. ولكن هذا الحكم بالعقاب هو لدى هذا القاضي في ظنه وحسب .. فالسجن ليس هو الحوائط  من الخارج والجدران وقضبان الحديد ليكون هو العقاب ، بل السجن هو في داخلنا وفي أعماق نفوسنا .. فنحن بني الإنسان لا تسجننا الحدود ولا الأسلاك الشائكة وأسنة سكاكين البنادق لدى الجنود على الأبواب ومن فوق البروج .. وإنما تسجننا القيود التي تضج في إسارها تطلعات النفوس وأشواق الذات والوجدان .. فإن ظننا أن حبس الجسد حبساً لكان كل حظ ذا الجرم من سجنه فقط إنفاذ العقاب على خطاياه ، ويكون جل ألمه من ضيق نطاق الحركة وعدم رؤية الناس وعدم اشباع الحاجات بما يلذ للنفس ويطيب ، وأيضاً لا مال ولا جاه هناك ولا سيادة .. فهذا سيظل يفقد في السجن أيامه ثم يخرج خواء ، ويكون كما راح جاء .. ولكن هناك الحقيقة للسجن لدى من ضيق السجن عليه جسده لتنطلق الروح والعقل خارج حدود هذا الجسد وخارج جدران السجن بل وخارج أسوار المدائن كلها ، حيث لا يحد العقل سوى كل الوجود .. ونرى كم من زعيم ساد الدنيا بخطاه كان السجن له خير حقل نبتت فيه أفكاره وخططه ، وكان خير فرصة لسعة اطلاعه وتأمله فيما كان وما يمكن أن يكون .. وكم من كاتب دونت ريشته الروائع فقط لأن زنزانة السجن كانت سانحة له لا عليه أن يترك مطالب الجسد ليصعد في مراقي العقل والروح بغذاء من صفحات الاسفار والكتب .. لقد ألزم بطل رواية (الرهان) للكاتب العالمي (أنطون تشيخوف) نفسه بالسجن طواعية في محبس بقبو قصر الرجل الثري لخمسة عشرة سنة لم يخطوا فيها خطوة خارج سجنه ولكنه بنهايتها كان قد اتقن ستة لغات عالمية وبها قرأ كل تراث الإنسانية وكل الثقافات التي كانت تلك اللغات مفتاحاً لها ، ففهم عن شعوب كثر وقبائل بما كان سيستحيل عليه لو أنه كان طوال تلك الفترة حر الجسد يسعى بين الخلائق ..
وحتى فكرة السجن نفسها بجدرانها وسقفها ألهمت ذاك السجين ذو الخيال الجامح أن ماذا لو صارت حجرة السجن ملعباً لأشد أنواع الرياضات البدنية وأحوجها عزماً وقدرة ، فصار زنزانة السجن هي ملاعب رياضة (الاسكواش) ذات الكرة المطاطية الصغيرة والمضارب الرفيعة ، تلك الرياضة التي تتطلب لياقة بدنية ذات متوالية تفوق مطلوب اللياقة في أفسح الميادين .. فليس إذن أن الأصل في نظام السجن هو عزل الإنسان المجرم عن المجتمع كفياً لشره وفي نفس الوقت عقاباً رادعاً لئلا يعود للجرم ثانية ، وحتى إن تاب وعاهد الله والناس على ألا يعود لجرمه كان لزاماً عليه رغم ذلك أن يمضي عقاب الحبس إلى منتهى فترته المعلومة .. وإنما نظام السجن في مبتغاه الأصل هو نزع فتيل الشر من عقل الإنسان المذنب ولا يكون ذاك إلا بالتغيير الشامل للبناء النفسي لديه .. فيكون ما هو خصم من حرية الجسد هو بذات الوقت كسب في حرية النفس والروح أن تنطلق نحو النقاء والخير بعيداً عن إسار الحاجات والشهوات وجوع الغرائز .. وليست الدعوة بهذا أن يصير الإنسان مجرماً في الأول حتى ينتقل من بعد إلى الأفق العقلي والنفسي السامي .. وليس الحق أن كلنا لا محالة داخلون السجن ذا الجدر المحصنة والأبواب العازلة من حديد لكي نطلق ملكات الابداع فينا .. لا ليس على ذاك النحو طالما أننا نستطيع أن ننشئ جداراً زجاجيا شفافاً بيننا وبين الناس الآخرين ، فنراهم ويروننا ولكنهم لا يستطيعون ولوجاً إلى ما خلف الجدار حيث نقف إلا بحسب ما نشاء .. وهم يكلموننا ولكنهم لا يسمعون منا إلا ما نلقيه لهم من فوق الجدار أوراقا ورسائل وكتب .. فما أحوجنا حقاً إلى تلك الجدر الزجاجية في زمان بتنا نعض فيه على أصول الشجر ونقبض على الجمر من فرط الفتن وهدر الطاقات والأوقات ..               

بدائع الذوق عند اللبنة المفقودة

بدائع الذوق عند اللبنة المفقودة ..

د. وائل أحمد خليل الكردي

 أذكر عندما كان الدكتور (سعيد توفيق) – من مصر – يقدم لنا محاضراته في فلسفة الفن وعلم الجمال بآداب القاهرة فرع الخرطوم أخريات الثمانينات .. كيف كان يحقق (المذهب الظاهراتي) Phenomenology لدى الفيلسوف الألماني البارز (ادموند هوسرل) E.Husserl وأتباعه في تكوين وتفسير التذوق الجمالي وبناء الحكم النقدي بصورة عملية .. وكيف أن الخيال الجمالي يخضع أيضاً لنوع من التحليل المنطقي بنحو متميز ولكن هذا ربما لا يبدو بوضوح إلا عندما يقف الإنسان مباشرة أمام عمل أدبي أو فني ما ثم يتفاعل معه دونما وسيط شارح .. وإن الكاتب ليكتب بالقلم ، وإن القارئ المتأمل ليكتب بالرؤية والخيال الحر .. وبحسب هذا المذهب الظاهراتي فإن العمل الروائي الناضج يعطيك نفسه محملاً بكل ما يمكن من حدود للخيال الذي يمكن أن ينصب حوله من جانب المتلقين الذواقة .. إن كل خيال مهما عظم وانطلق له حدود وسقف يلزمه به تراص الكلمات في السياقات حتى لا تكون القراءة تفكيك وفوضى .. وفي نفس الوقت يكون هذا السقف مرناً جداً إلى الحد الذي قد يتجاوز بعيداً لدى المتلقي مما قد بلغه إفق خيال كاتب الرواية الأدبية نفسه .. فالرواية هي تماماً كذلك الملعب الفسيح يتحرك فيه اللاعبون بإبداع متجدد ولكنهم لا يخرجون عن رقعته .
لقد قال الدكتور زكي نجيب محمود في مقالته النادرة (الفلسفة والنقد الأدبي) " إن الأديب يؤنسن الأشياء " .. ويمكننا القول على هذا أن القارئ المتذوق يضفي مزيداً من الأنسنة على ما قد أنسنه الكاتب من قبل من أشياء .. حيث يمكن استنباط هذا المعنى من وصف الدكتور زكي نجيب لمهمة الناقد بقوله "أما مهمة الناقد فهي أشبه بمهمة صياد السمك عندما يطرح الشباك في الأماكن التي يتوقع أن يجد فيها مطالبه، وينتظر إلى أن يقع السمك في الشباك فيجذبها ، وإذا به يخرج إلى السطح ما لم تراه العين . كذلك يصنع الناقد مع العمل الأدبي ، فهو يبحث في الرواية – مثلاً – عن فكرة يستنبطها ربما لم ترد على خاطر الأديب نفسه ... إن العملية النقدية والعملية الفلسفية يلتقيان في أنهما يتجاوزان السطح ويتجهان إلى العمق" ..
بهذا ، يمكن رسم ثلاث مستويات للنقد والتذوق الجمالى .. المستوى الأول هو (مستوى الوضوح) ، وهو محض الوصف التفصيلي للأحداث الواقعية في مشهد كامل ، وهو يتبع صفة (الفن محاكاة وتقليد) لدى (أرسطوطاليس) Aristotle حيث لا يدع المؤلف للقارئ ما يضيفه من خياله بل يصبح رهناً بالكلية لإرادة الكاتب وتصوراته ولا يملك من أمر نفسه شيئاً أمام العمل الأدبي إلا أن يتلقاه كما هو ثم يتطهر به ويسمو ، وهذا هو إبداع (شكسبير) Shakespeare.. والمستوى الثاني هو (مستوى الغموض) وهو المستوى الذي تكون فيه القصة مكتملة المشاهد والعناصر ولكنها مع ذلك تفتح لدى القارئ فرصة للتأويل ومخالفة الكاتب برسم صور خيالية مغايرة ، حيث يرسم المؤلف صور وسياقات غير واضحة وغير وصفية مباشرة ليتحرك فيها ذوق المتلقي بحرية إبداعية موازية للمؤلف . وهو إبداع (بريشت) B. Brecht.. أما المستوى الأخير والعالي فهو (مستوى الحذف) وبتعبير آخر (مستوى اللبنات المفقودة) .. وهي نموذج السرديات الروائية ذات الطابع الوجودي  Existential  فالأمر هنا ليس متعلق بعناصر واضحة أو غامضة ، وإنما هو متعلق بعناصر أو مشاهد محذوفة ومتروكة بالكلية لخيال المتلقي . ورغم ذلك فإن هذه العناصر المحذوفة لا تسمح بتفكيك النص الروائي ، وإنما هي فراغات تخيلية تكون بمثابة اللبنات المفقودة في البناء الجداري عن قصد .. فهي لا تسمح بانهيار الجدار ولكن تسمح بامتداد أفق الخيال في استدعاء المحذوف أو المفقود على صور وأشكال ومشاهد متعددة ولكنها كلها ملائمة لأن توضع موضع تلك اللبنات المفقودة فيشارك الناقد المتذوق المؤلف جمالية العمل في بناؤه الكلي أو يتفوق عليه .. وهذه العناصر المحذوفة تدل عليها عناصر أخرى قائمة في النص الروائي وهي عبارة عن مقولات أو فقرات يمكن اجتزائها منه وتقبل بمفردها تعدد تأويلات وتصورات القارئ حولها ، ويمكن لهذه المقولات أن تكمن في مكان (العقدة) من النص أو في مكان (الشخصية) أو في مكان (الحل) .. فعندما نجتزئ مثلاً فقرة نصية من عمل عربي سعودي بديع اسمه (عند حصاد البرسيم) تقول "وهل يغير لون الفنجان مذاق القهوة يا أماه .." نجد أن رابطة الفقرة بالحدث القائم حولها في القصة هي رابطة رمزية تسمح بحذف لبنات هذا الحدث ثم إعادة رسمها بمشاهد جديدة لدى المتلقين .. وهنا حيث تكون الثقة الإبداعية لدى  الكاتب في أن تلك اللبنات المفقودة هي المحفز الأكبر لجماليات الخيال لدى القارئ ، وبالتالي هي المانح للقيمة العليا لجمالية الرواية الأدبية في عمومها .. والجمالية هنا جمالية التأليف والنقد على السواء .. وعلى هذا يمكننا القول بأن القيمة الحقيقية للعمل الأدبي لا تتمثل في استقاء معلومات جديدة أو افهام جديدة لدى المتلقي وإنما يتمثل في بعث وتوليد ما هو مدرك ومفهوم بالفعل ولكن على هيئات وصور جديدة في كل مرة مما يستدعي في القلب انفعالات ممتعة ويستنفر في الجوارح حاسة الذوق الراقي .. ولنا في تباين جدلية الخير والشر في صورة (فاوست) Faust  لدى (مارلو) Marlowe وصورته لدى (جوته) Goethe مثلاً محققاً .. عند هذا الحد لا يموت المؤلف ، ولا يغترب القارئ .. ولكن يبقى الكل هناك ..