الأحد، 5 نوفمبر 2017

هذا أوان الجدار الزجاجي

هذا أوان الجدار الزجاجي ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   


كثير جداً من أبطال التاريخ الإنساني خلقت بطولاتهم في بطون السجون ووراء قضبان الأسر . إنه لمن المؤسف حقاً بعد هذا أن يدور اسم (السجن) في أيامنا على نحو ما ليس عليه أصله .. فأن السجن الآن هو (اصلاح وتهذيب) ، إلا أنه في أصله الحقيقي هو (اطلاق وتحرير) .. لقد ظن كثير من أصحاب الهيئات الرسمية وبعض القضاة أنهم حين يحكمون على إنسان ما بالسجن قيداً من الزمن أنهم بذلك يقضون عليه بتوقيع عقاب على جرم اقترفته يداه .. ولكن هذا الحكم بالعقاب هو لدى هذا القاضي في ظنه وحسب .. فالسجن ليس هو الحوائط  من الخارج والجدران وقضبان الحديد ليكون هو العقاب ، بل السجن هو في داخلنا وفي أعماق نفوسنا .. فنحن بني الإنسان لا تسجننا الحدود ولا الأسلاك الشائكة وأسنة سكاكين البنادق لدى الجنود على الأبواب ومن فوق البروج .. وإنما تسجننا القيود التي تضج في إسارها تطلعات النفوس وأشواق الذات والوجدان .. فإن ظننا أن حبس الجسد حبساً لكان كل حظ ذا الجرم من سجنه فقط إنفاذ العقاب على خطاياه ، ويكون جل ألمه من ضيق نطاق الحركة وعدم رؤية الناس وعدم اشباع الحاجات بما يلذ للنفس ويطيب ، وأيضاً لا مال ولا جاه هناك ولا سيادة .. فهذا سيظل يفقد في السجن أيامه ثم يخرج خواء ، ويكون كما راح جاء .. ولكن هناك الحقيقة للسجن لدى من ضيق السجن عليه جسده لتنطلق الروح والعقل خارج حدود هذا الجسد وخارج جدران السجن بل وخارج أسوار المدائن كلها ، حيث لا يحد العقل سوى كل الوجود .. ونرى كم من زعيم ساد الدنيا بخطاه كان السجن له خير حقل نبتت فيه أفكاره وخططه ، وكان خير فرصة لسعة اطلاعه وتأمله فيما كان وما يمكن أن يكون .. وكم من كاتب دونت ريشته الروائع فقط لأن زنزانة السجن كانت سانحة له لا عليه أن يترك مطالب الجسد ليصعد في مراقي العقل والروح بغذاء من صفحات الاسفار والكتب .. لقد ألزم بطل رواية (الرهان) للكاتب العالمي (أنطون تشيخوف) نفسه بالسجن طواعية في محبس بقبو قصر الرجل الثري لخمسة عشرة سنة لم يخطوا فيها خطوة خارج سجنه ولكنه بنهايتها كان قد اتقن ستة لغات عالمية وبها قرأ كل تراث الإنسانية وكل الثقافات التي كانت تلك اللغات مفتاحاً لها ، ففهم عن شعوب كثر وقبائل بما كان سيستحيل عليه لو أنه كان طوال تلك الفترة حر الجسد يسعى بين الخلائق ..
وحتى فكرة السجن نفسها بجدرانها وسقفها ألهمت ذاك السجين ذو الخيال الجامح أن ماذا لو صارت حجرة السجن ملعباً لأشد أنواع الرياضات البدنية وأحوجها عزماً وقدرة ، فصار زنزانة السجن هي ملاعب رياضة (الاسكواش) ذات الكرة المطاطية الصغيرة والمضارب الرفيعة ، تلك الرياضة التي تتطلب لياقة بدنية ذات متوالية تفوق مطلوب اللياقة في أفسح الميادين .. فليس إذن أن الأصل في نظام السجن هو عزل الإنسان المجرم عن المجتمع كفياً لشره وفي نفس الوقت عقاباً رادعاً لئلا يعود للجرم ثانية ، وحتى إن تاب وعاهد الله والناس على ألا يعود لجرمه كان لزاماً عليه رغم ذلك أن يمضي عقاب الحبس إلى منتهى فترته المعلومة .. وإنما نظام السجن في مبتغاه الأصل هو نزع فتيل الشر من عقل الإنسان المذنب ولا يكون ذاك إلا بالتغيير الشامل للبناء النفسي لديه .. فيكون ما هو خصم من حرية الجسد هو بذات الوقت كسب في حرية النفس والروح أن تنطلق نحو النقاء والخير بعيداً عن إسار الحاجات والشهوات وجوع الغرائز .. وليست الدعوة بهذا أن يصير الإنسان مجرماً في الأول حتى ينتقل من بعد إلى الأفق العقلي والنفسي السامي .. وليس الحق أن كلنا لا محالة داخلون السجن ذا الجدر المحصنة والأبواب العازلة من حديد لكي نطلق ملكات الابداع فينا .. لا ليس على ذاك النحو طالما أننا نستطيع أن ننشئ جداراً زجاجيا شفافاً بيننا وبين الناس الآخرين ، فنراهم ويروننا ولكنهم لا يستطيعون ولوجاً إلى ما خلف الجدار حيث نقف إلا بحسب ما نشاء .. وهم يكلموننا ولكنهم لا يسمعون منا إلا ما نلقيه لهم من فوق الجدار أوراقا ورسائل وكتب .. فما أحوجنا حقاً إلى تلك الجدر الزجاجية في زمان بتنا نعض فيه على أصول الشجر ونقبض على الجمر من فرط الفتن وهدر الطاقات والأوقات ..               

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق