الأحد، 28 يناير 2018

اصنع عدوك .. تأكله

اصنع عدوك .. تأكله
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

وحين كبرت .. لم أحصل على تأشيرة للبحر ..
لم ابحر ..
وأوقفني جواز غير مختوم على الشباك ..
لم أعبر ..
(هشام الجخ)
لم يدور بخلدي قبلاً أن يأتي يوماً أدرك فيه أن أصحاب (وعد بلفور) قد أوعزوا سراً إلى سيد شباب ثورة يوليو 1952م (جمال عبد الناصر) رحمه الله ، أن يقود حملته للنضال والبطولة عبر .طريق حافل بالبطولات رسموه له كما رسموه الماسون من قبل للسلطان عبد الحميد العثماني أخريات عهد الخلافة الإسلامية فانهارت وتم نفي السلطان وإعلان العلمانية الأتاتوركية .. ولكن طريق الثوار في يوليو 52 كان لابد أن يكون مختلفاً .. فحيث لم تعد هناك خلافة إسلامية كان لابد للطريق الجديد أن يكون معبداً باسم القومية  .. القومية العربية .. ليدفع الثوار عن بلاد العرب مستعمريها بجحافل من الخيل والسياسة ، ثم توحيد الأمة تحت راية (العروبة) الجديدة .. ولا أدري من بالتحديد  من بين أصحاب ذلك الوعد لقيام  دولة الشعب المختار على أرض أبناء كنعان عام 1948م  الذي أوعز للثائر الشاب أنك إن اردت هزيمة اليهود في بلاد العرب ، فحاربهم باسم العروبة وبهدف إعلاء القومية العربية .. فانجرف المد الطاغي من الشعوب بفعل الخطب المشتعلة وراء زعيمهم في كل مكان (ناصرياً) كان أم (بعثياً) لقتال صهيون وتحرير فلسطين المحتلة .. فكان كل نصيبهم حصد الرؤوس منهم والأرواح ، وليبقى اليهود هم كما هم .. لم يفطن اولئك العرب أنهم يقاتلون يهوداً هم جميع شعوب العالم منهم جمعتهم وحدة العقيدة والدين ، فكيف للعرق الواحد أن يغلب خليطاً من كل الأعراق .. هذا كان في الماضي القريب ، ولكن ما يحدث اليوم أدهى وأمر .. فلقد انقلب السقاء على الساقي وتبعثر الماء بعد كسر الإناء ، وأكلت قطة يعرب أبنائها .. وبات القتل والقتال في البيت الواحد تماماً كما خطط له .. فلقد فطن أصحاب الوعد قديماً أن غرس الود والوفاق وجمع الشمل على كلمة ومبدأ (القومية) ، سيعمل على مدى الزمن في تهشيش المفاصل ونخر العظام والأكتاف .. وكحال كل القوميات في التاريخ لن يصمد ما اجتمع عليه بني يعرب  ليكون يوماً حائط الصد المنيع بينهم وبين أنفسهم حال ما تنازعوا الأرض والسلطان .. وها قد خرت القومية العربية صرعى ، وصارت جامعة الدول العربية ما هي إلا صورة للفتة الكبرى وللربيع العربي الذي تساقطت أوراقه الصفراء وتعر الشجر ..
والآن يعود كل فرع لأصله من كل جنس وملة .. فمن عادوا إلى حاضرة الفرعون في مصب النيل .. ومن رجعوا إلى عمق أفريقيا السمراء وغابات الباباي والمانجو .. ومن عادوا إلى البربر الأشداء في مضارب الساحل والصحراء .. ومن ردوا إلى بابل وأشور وسومر على ضفاف الفرات .. فكلُ قد كفر بيعرب وقالوا لنا دونها أصل .
هكذا ضل الناس الطريق . فلم تجمع القومية يوماً قط قوماً .. واليوم ، زالت القومية وبقي اللسان ، شاهداً على العرب ونذير بين يدي خطر قد اقترب .. فوعد (بلفور) كان ، إذن ، مؤلف من عهدين .. عهد ظاهر ، وهو التمكين لليهود في دولة على أرض فلسطين مخالفين بذلك كافة مبادئ المشروعية الدولية في نشؤ الأمم والبلدان وحسب حق تاريخي مزعوم لو وافقهم الناس عليه لفتحوا بذلك على أنفسهم أبواباً لدعوى حقوق تاريخية لدى كل شعوب العالم عند بعضهم ولن تنسد إلا بفتنة حاصدة خاصة  بعدما تداخلت الأنساب وانتشرت الشعوب وأعيد ترسيم الرقاع .. أما العهد الباطن ، فلعلنا نضرب فيه مثلاً (إن كان ثمة عدوُ لا محالة ناهض لك .. فاسبق أنت بصنع عدوك من عجوة ، لتأكله حين الطلب) .. ولقد صنع وعد (بلفور) في طي بنوده هذا الخصم الرخو من عجوة .. وصار في كل حين يأكل منه كيفما شاء .. ولو أن هذا الوعد لم يصنع خصمه الهزيل (القومية العربية) كبديل منطقي بعد حسم الخلافة العثمانية ، لنهض أمامه عملاق الإسلام من جديد بالصارم البتار عدواً له ولا يقدرون عليه ،  وليجهض الحلم بأرض الميعاد في منامة بني اسرائيل .. نعم إن القومية العربية هي صنيعة وعد (بلفور) لتكون هي الخصم الفاشل أمام دولة صهيون حال قيامها .. ثم هكذا يظل يدور الشرق الملتهب في لعبة الكراسي .. ولكن لا ينتهى العد أبداً ولا تدق صافرة ً النهاية .. ولن نعلم من يجلسون على المقاعد ومن يظل واقفاً فيخرج من اللعبة

مفارقة الكذاب ..

مفارقة الكذاب ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

دخل الفيلسوف الرياضي إلى قاعة المحاضرات العامة ، ونظر الى الحضور ، ثم قال (كل من في هذه القاعة كذابون .. كل من في القاعة .. فهل أنا كذاب ؟) .. قال احدهم (نعم انت كذاب .. لان كل من بالقاعة كذابون ، وانت منهم) .. فرد الفيلسوف قائلاً (أنا قد صدقت في قولي أن كل من بالقاعة كذابون .. فكيف أكون صادقا وأنا كذاب ؟) .. فقال آخر (اذن .. أنت صادق) .. فرد الفيلسوف (   وكيف اذن يكون كل من بالقاعة كذابون ، وأنا منهم؟ .. كيف يمكن ان اكون صادقا من حيث اني كذاب ، أو أكون كذابا من حيث اني صادق ؟) ..
سميت هذه المفارقة في ادبيات الفلسفة التحليلية والرياضية (مفارقة الكذاب)Lier paradox     .. ولكنها لم تعد مشكلة رياضية منطقية صرف وانما دارت دوائرها في رحى المجتمعات الانسانية والشعوب .. فكمن أراد أن يصير ملحدا عاد للسؤال البدائي الذي تجاوزته جهود المستدلين والمستنبطين منذ ازمان غابرة (اثبت لي ان الله موجود ؟) .. وكمن اعتلى منصة للرئاسة ازاح من بعد اعتلائه كل السلم الصاعد في العمران من قبله ليبدأ الناس معه مرة أخرى من بداية الدرج وفق عهده هو لا من سواه .. وكمن تعددت زوجاته ففسد اولاده الكثر منهن ، فقال لست أنا السبب فقد ربتهم أمهاتهم ، فيبرأ من الكل ويبدأ بواحدة جديدة ثم أخرى ثم اخرى وهلم جرا .. والكل يجد لنفسه عذرا ..
ثم تظهر (مفارقة الكذاب) كاشفة من ولي أمر أمة فأضاق على أهلها عيشهم بسوء فعاله .. فهل هو من هذا الشعب ؟ اذن ، فلا مناص له من أن يعيش شقاء عيشهم وشظفه .. وإما أن لا يكون منهم ، عندها لا حق له في حكمهم أصلاً .. وليسأل كل حاكم على الناس نفسه قبل أن يسألوه .. هل يجد هو ما يجدون من عنت بنفس القدر يد بيد وساق بساق جوعا وفقرا وربطا للحجارة على البطن وتذللا للقمة العيش ومصاريف الحياة وأغراضها .. أم أنه هو الوالي لا يشقى بشقاء شعبه وكل شيء لأجله ميسر .. فأن كان هو ذاك الملك الذي اقترح على الناس أن يأكلوا الكيك والكاتوه حين عز الخبز على الناس لينه ويابسه ، فليتبوأ له مقعدا من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فشقق عليه) .. ولا يقولن أحد أن للحكم والسلطان لأبهة بالضرورة فيها تلبية لكل حاجات النفس لمن رأس كي يفرغ لملكه العريض ،ولكي يقدر على السياسة ويقوى على الإدارة .. فهذا قول هراء باطل .. ابطلته تجربة (عمر بن عبد العزيز) في زمانه حيث لا نبي ولا صحابة .. وحيث ميراث الحكم في ذاك الزمان ارضا امتدت نحو أقصى الشرق وأقصى الغرب وحملت فوقها اكثر الناس والخلق .. وحيث لم يكن مع كل هذا الاتساع طائرات ولا سيارات ولا صواريخ عابرة للقارات تجعل من أمر تنفيذ أي قرار هونا ويسرا ، وبلوغ اطراف الارض لمحا بالبصر .. ولكن (عمرا) حين صدق واشاع عدلا شهدت له الدنيا وأغنى به كل الخلائق من فضل الله دانت له كل الارض طوعا بأمر الله وتقاربت اليه اطرافها على اظهر النوق والخيل دون طائرات ووسائط اتصال .. صار (عمر) اشد بني الامة فقرا وضيق عيش وبكاء بعد الولاية وهو الذي كان ربيب النعم واليسار قبلها .. وكان كفاه أن بحث الناس في بلاده عن فقير مسكين ليعطوه من مال الدولة المتدفق ذكاة ، فلم يجدوا سواه محتاجا ..  لقد عم في عامين فقط  كل أمصار الدنيا على عهد (عمر) خير زاد عن حاجة الطالبين .. في عامين فقط .. أما في حاضرنا وبكل التقنيات ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة واسباب المال العظمى ومنافذ الطاقة ومشروعات الاستثمار ومازال من يحكمون يطلبون من شعوبهم أن يصبروا قهرا على مهلة سنوات بالعشرات من اجل فقط الاعداد لشيء من العدل ضئيل محتمل ، وقد يكون وقد لا يكون .. رحم الله (عمر بن عبد العزيز) بما اثقل به التركة على ظهر كل من أتى وسيأتي عقبا له حاكما على امته في أي زمان .. ولقد افحم (عمر) التاريخ بحجة لا عذر لمعتذر بعدها أن لا يعدل بين الشعب ونفسه هو وليس فقط بين الشعب وبعضه .. فسيشقق الله تعالى وإن طال الأمد على من شق على أمته وسلبها مالها وشرفها وحقها أن تحيا ، واضاق عيش أمته بهناءة عيشه ، وقض مضاجع نومهم في عراء بارد ورفل هو في دفئ فرش الحرير والديباج ووسائد ريش النعام في داخل قصره المعروش .. ولعل لسان حاله ومقاله يرد على الجياع (انما هي ارزاق العباد يقسمها الله كيف شاء) وصدق .. لكن تظل دعوة الرسول قائمة عليه بما كسبت يداه ولا مفر ..  أما واجب العباد فهو شكر النعم بأفضل الجهاد وهو قولة حق أمام سلطان جائر ..

تقنيات منطقية لمحاورة الساينتيزم Scientism

(دورة تدريبية)
تقنيات منطقية لمحاورة الساينتيزم Scientis
اعداد وتنفيذ / د. وائل أحمد خليل الكردي

أولاً / هدف الدورة :
تهدف الدورة إلى تحقيق رفع الكفاءة المنطقية في الرد التناظري على الاتجاهات الساينتزمية (العلموية) ، وتوظيف وإدارة الأفكار في ذلك .

ثانياً / وسائل الدورة :
1- المحاضرة التفاعلية
2- عروض مشاهدة
3- نصوص
4- السيناريو الدرامي
5- المراجع

ثالثاً / القيد الزمني للدورة :
من 5 إلى 8 جلسات – على مدى 3 إلى 5 أيام

رابعاً / محاور الدورة :
المحور الأول : تفصيل بيان اتجاهات الساينتزم ونتائجه :
1- الوثوقية العلمية (أساس الساينتزم) : يقوم على تفسير إيجابي على نتائج العلوم الطبيعية وإثبات منطق القيم – الثنائية .
2- الا-أدرية : شكية تقوم على تفسير سلبي على نتائج العلوم الطبيعية على مرجعية (ديفيد هيوم) .

النتائج الساينتزمية :
1- النزعة الإنسانية : وهي الكفر بكافة الأديان ورفض فكرة الدين مع بقاء الاعتقاد بالخالق أو الإلحاد الكامل .
2- النزعة التعطيلية : وهي حذف دور الدين من الحياة العامة رغم الاعتقاد فيه الدور -  الذاتي فقط للدين (العلمانية Secularism ) .

المحور الثاني : ضروب لاستدلال العام :
1- أشكال القياس Syllogism
2- الاستقراء والاستنباط  Induction & Deduction
3- المسلمات Axioms   والفرضيات Hypotheses
4- القوانين Laws ، القواعد Rules ، النظريات Theories

المحور الثالث : تقنية المواجهة في الغرفة المظلمة :
(أ) ألإشارة إلى أن نتائج الساينتزم مبنية على النظريات العلمية وليس القوانين العلمية . 
(ب) مبدأ الإعجاز العام للقرآن الكريم من الناحية العلمية هو صفة (إدارة المعرفة العلمية) ، من جهة فك الارتباط بين القوانين العلمية والعقيدة من حيث بنية القوانين العلمية . وإثبات الارتباط من جهة الإشارة العقدية إليها وفق منطق (الرؤية الكونية الشاملة) واحتواء الكل للجزء والأعلى للأدنى (سنريهم آياتنا ...) .
(ج) ضرب نقاط الفاقد المعرفي لدى الساينتزم الوثوقي وليس نقاط الثابت المعرفي (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) – وذلك على قسمين :
1- دحض الساينتزم اللا-أدري وفق حجة (الانتظام الكوني الغائي والوظيفي) .
2- دحض الساينتزم الوثوقي وفق حجة (خرق النتظام الكوني) ومشكلة السببية (قوائم مل Mill ) .


المحور الرابع : تقنية الرد التوليدي (المنهج السقراطي) :
1- بيان المنهج التوليدي السقراطي وعناصره .
2- دلالة الخلق الكوني للخالق (الادعاء بالخلق) – حجة ابراهيم عليه السلام .
3- تحويل دوافع إثبات الإلحاد الساينتزمي إلى دوافع مضادة له  (تقنية أحمد ديدات).
4- سؤال العدم .

المحور الخامس : تقنية استغلال العقل الآخر :
وهو دلالة الفائدة الوظيفية للإيمان وضرورته العملية في تحديد ورسم معاني المفاهيم على مستوى الشعوب والقبائل  :
1- الإنسانية ، لحرية ، التطور الاجتماعي والعمراني ، الأخلاق .
2- اللغة القرآنية .
3- الحجة التاريخية .
4- نظرية البارادايم Paradigm   واللا-قياسية .

الأحد، 5 نوفمبر 2017

هذا أوان الجدار الزجاجي

هذا أوان الجدار الزجاجي ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   


كثير جداً من أبطال التاريخ الإنساني خلقت بطولاتهم في بطون السجون ووراء قضبان الأسر . إنه لمن المؤسف حقاً بعد هذا أن يدور اسم (السجن) في أيامنا على نحو ما ليس عليه أصله .. فأن السجن الآن هو (اصلاح وتهذيب) ، إلا أنه في أصله الحقيقي هو (اطلاق وتحرير) .. لقد ظن كثير من أصحاب الهيئات الرسمية وبعض القضاة أنهم حين يحكمون على إنسان ما بالسجن قيداً من الزمن أنهم بذلك يقضون عليه بتوقيع عقاب على جرم اقترفته يداه .. ولكن هذا الحكم بالعقاب هو لدى هذا القاضي في ظنه وحسب .. فالسجن ليس هو الحوائط  من الخارج والجدران وقضبان الحديد ليكون هو العقاب ، بل السجن هو في داخلنا وفي أعماق نفوسنا .. فنحن بني الإنسان لا تسجننا الحدود ولا الأسلاك الشائكة وأسنة سكاكين البنادق لدى الجنود على الأبواب ومن فوق البروج .. وإنما تسجننا القيود التي تضج في إسارها تطلعات النفوس وأشواق الذات والوجدان .. فإن ظننا أن حبس الجسد حبساً لكان كل حظ ذا الجرم من سجنه فقط إنفاذ العقاب على خطاياه ، ويكون جل ألمه من ضيق نطاق الحركة وعدم رؤية الناس وعدم اشباع الحاجات بما يلذ للنفس ويطيب ، وأيضاً لا مال ولا جاه هناك ولا سيادة .. فهذا سيظل يفقد في السجن أيامه ثم يخرج خواء ، ويكون كما راح جاء .. ولكن هناك الحقيقة للسجن لدى من ضيق السجن عليه جسده لتنطلق الروح والعقل خارج حدود هذا الجسد وخارج جدران السجن بل وخارج أسوار المدائن كلها ، حيث لا يحد العقل سوى كل الوجود .. ونرى كم من زعيم ساد الدنيا بخطاه كان السجن له خير حقل نبتت فيه أفكاره وخططه ، وكان خير فرصة لسعة اطلاعه وتأمله فيما كان وما يمكن أن يكون .. وكم من كاتب دونت ريشته الروائع فقط لأن زنزانة السجن كانت سانحة له لا عليه أن يترك مطالب الجسد ليصعد في مراقي العقل والروح بغذاء من صفحات الاسفار والكتب .. لقد ألزم بطل رواية (الرهان) للكاتب العالمي (أنطون تشيخوف) نفسه بالسجن طواعية في محبس بقبو قصر الرجل الثري لخمسة عشرة سنة لم يخطوا فيها خطوة خارج سجنه ولكنه بنهايتها كان قد اتقن ستة لغات عالمية وبها قرأ كل تراث الإنسانية وكل الثقافات التي كانت تلك اللغات مفتاحاً لها ، ففهم عن شعوب كثر وقبائل بما كان سيستحيل عليه لو أنه كان طوال تلك الفترة حر الجسد يسعى بين الخلائق ..
وحتى فكرة السجن نفسها بجدرانها وسقفها ألهمت ذاك السجين ذو الخيال الجامح أن ماذا لو صارت حجرة السجن ملعباً لأشد أنواع الرياضات البدنية وأحوجها عزماً وقدرة ، فصار زنزانة السجن هي ملاعب رياضة (الاسكواش) ذات الكرة المطاطية الصغيرة والمضارب الرفيعة ، تلك الرياضة التي تتطلب لياقة بدنية ذات متوالية تفوق مطلوب اللياقة في أفسح الميادين .. فليس إذن أن الأصل في نظام السجن هو عزل الإنسان المجرم عن المجتمع كفياً لشره وفي نفس الوقت عقاباً رادعاً لئلا يعود للجرم ثانية ، وحتى إن تاب وعاهد الله والناس على ألا يعود لجرمه كان لزاماً عليه رغم ذلك أن يمضي عقاب الحبس إلى منتهى فترته المعلومة .. وإنما نظام السجن في مبتغاه الأصل هو نزع فتيل الشر من عقل الإنسان المذنب ولا يكون ذاك إلا بالتغيير الشامل للبناء النفسي لديه .. فيكون ما هو خصم من حرية الجسد هو بذات الوقت كسب في حرية النفس والروح أن تنطلق نحو النقاء والخير بعيداً عن إسار الحاجات والشهوات وجوع الغرائز .. وليست الدعوة بهذا أن يصير الإنسان مجرماً في الأول حتى ينتقل من بعد إلى الأفق العقلي والنفسي السامي .. وليس الحق أن كلنا لا محالة داخلون السجن ذا الجدر المحصنة والأبواب العازلة من حديد لكي نطلق ملكات الابداع فينا .. لا ليس على ذاك النحو طالما أننا نستطيع أن ننشئ جداراً زجاجيا شفافاً بيننا وبين الناس الآخرين ، فنراهم ويروننا ولكنهم لا يستطيعون ولوجاً إلى ما خلف الجدار حيث نقف إلا بحسب ما نشاء .. وهم يكلموننا ولكنهم لا يسمعون منا إلا ما نلقيه لهم من فوق الجدار أوراقا ورسائل وكتب .. فما أحوجنا حقاً إلى تلك الجدر الزجاجية في زمان بتنا نعض فيه على أصول الشجر ونقبض على الجمر من فرط الفتن وهدر الطاقات والأوقات ..               

بدائع الذوق عند اللبنة المفقودة

بدائع الذوق عند اللبنة المفقودة ..

د. وائل أحمد خليل الكردي

 أذكر عندما كان الدكتور (سعيد توفيق) – من مصر – يقدم لنا محاضراته في فلسفة الفن وعلم الجمال بآداب القاهرة فرع الخرطوم أخريات الثمانينات .. كيف كان يحقق (المذهب الظاهراتي) Phenomenology لدى الفيلسوف الألماني البارز (ادموند هوسرل) E.Husserl وأتباعه في تكوين وتفسير التذوق الجمالي وبناء الحكم النقدي بصورة عملية .. وكيف أن الخيال الجمالي يخضع أيضاً لنوع من التحليل المنطقي بنحو متميز ولكن هذا ربما لا يبدو بوضوح إلا عندما يقف الإنسان مباشرة أمام عمل أدبي أو فني ما ثم يتفاعل معه دونما وسيط شارح .. وإن الكاتب ليكتب بالقلم ، وإن القارئ المتأمل ليكتب بالرؤية والخيال الحر .. وبحسب هذا المذهب الظاهراتي فإن العمل الروائي الناضج يعطيك نفسه محملاً بكل ما يمكن من حدود للخيال الذي يمكن أن ينصب حوله من جانب المتلقين الذواقة .. إن كل خيال مهما عظم وانطلق له حدود وسقف يلزمه به تراص الكلمات في السياقات حتى لا تكون القراءة تفكيك وفوضى .. وفي نفس الوقت يكون هذا السقف مرناً جداً إلى الحد الذي قد يتجاوز بعيداً لدى المتلقي مما قد بلغه إفق خيال كاتب الرواية الأدبية نفسه .. فالرواية هي تماماً كذلك الملعب الفسيح يتحرك فيه اللاعبون بإبداع متجدد ولكنهم لا يخرجون عن رقعته .
لقد قال الدكتور زكي نجيب محمود في مقالته النادرة (الفلسفة والنقد الأدبي) " إن الأديب يؤنسن الأشياء " .. ويمكننا القول على هذا أن القارئ المتذوق يضفي مزيداً من الأنسنة على ما قد أنسنه الكاتب من قبل من أشياء .. حيث يمكن استنباط هذا المعنى من وصف الدكتور زكي نجيب لمهمة الناقد بقوله "أما مهمة الناقد فهي أشبه بمهمة صياد السمك عندما يطرح الشباك في الأماكن التي يتوقع أن يجد فيها مطالبه، وينتظر إلى أن يقع السمك في الشباك فيجذبها ، وإذا به يخرج إلى السطح ما لم تراه العين . كذلك يصنع الناقد مع العمل الأدبي ، فهو يبحث في الرواية – مثلاً – عن فكرة يستنبطها ربما لم ترد على خاطر الأديب نفسه ... إن العملية النقدية والعملية الفلسفية يلتقيان في أنهما يتجاوزان السطح ويتجهان إلى العمق" ..
بهذا ، يمكن رسم ثلاث مستويات للنقد والتذوق الجمالى .. المستوى الأول هو (مستوى الوضوح) ، وهو محض الوصف التفصيلي للأحداث الواقعية في مشهد كامل ، وهو يتبع صفة (الفن محاكاة وتقليد) لدى (أرسطوطاليس) Aristotle حيث لا يدع المؤلف للقارئ ما يضيفه من خياله بل يصبح رهناً بالكلية لإرادة الكاتب وتصوراته ولا يملك من أمر نفسه شيئاً أمام العمل الأدبي إلا أن يتلقاه كما هو ثم يتطهر به ويسمو ، وهذا هو إبداع (شكسبير) Shakespeare.. والمستوى الثاني هو (مستوى الغموض) وهو المستوى الذي تكون فيه القصة مكتملة المشاهد والعناصر ولكنها مع ذلك تفتح لدى القارئ فرصة للتأويل ومخالفة الكاتب برسم صور خيالية مغايرة ، حيث يرسم المؤلف صور وسياقات غير واضحة وغير وصفية مباشرة ليتحرك فيها ذوق المتلقي بحرية إبداعية موازية للمؤلف . وهو إبداع (بريشت) B. Brecht.. أما المستوى الأخير والعالي فهو (مستوى الحذف) وبتعبير آخر (مستوى اللبنات المفقودة) .. وهي نموذج السرديات الروائية ذات الطابع الوجودي  Existential  فالأمر هنا ليس متعلق بعناصر واضحة أو غامضة ، وإنما هو متعلق بعناصر أو مشاهد محذوفة ومتروكة بالكلية لخيال المتلقي . ورغم ذلك فإن هذه العناصر المحذوفة لا تسمح بتفكيك النص الروائي ، وإنما هي فراغات تخيلية تكون بمثابة اللبنات المفقودة في البناء الجداري عن قصد .. فهي لا تسمح بانهيار الجدار ولكن تسمح بامتداد أفق الخيال في استدعاء المحذوف أو المفقود على صور وأشكال ومشاهد متعددة ولكنها كلها ملائمة لأن توضع موضع تلك اللبنات المفقودة فيشارك الناقد المتذوق المؤلف جمالية العمل في بناؤه الكلي أو يتفوق عليه .. وهذه العناصر المحذوفة تدل عليها عناصر أخرى قائمة في النص الروائي وهي عبارة عن مقولات أو فقرات يمكن اجتزائها منه وتقبل بمفردها تعدد تأويلات وتصورات القارئ حولها ، ويمكن لهذه المقولات أن تكمن في مكان (العقدة) من النص أو في مكان (الشخصية) أو في مكان (الحل) .. فعندما نجتزئ مثلاً فقرة نصية من عمل عربي سعودي بديع اسمه (عند حصاد البرسيم) تقول "وهل يغير لون الفنجان مذاق القهوة يا أماه .." نجد أن رابطة الفقرة بالحدث القائم حولها في القصة هي رابطة رمزية تسمح بحذف لبنات هذا الحدث ثم إعادة رسمها بمشاهد جديدة لدى المتلقين .. وهنا حيث تكون الثقة الإبداعية لدى  الكاتب في أن تلك اللبنات المفقودة هي المحفز الأكبر لجماليات الخيال لدى القارئ ، وبالتالي هي المانح للقيمة العليا لجمالية الرواية الأدبية في عمومها .. والجمالية هنا جمالية التأليف والنقد على السواء .. وعلى هذا يمكننا القول بأن القيمة الحقيقية للعمل الأدبي لا تتمثل في استقاء معلومات جديدة أو افهام جديدة لدى المتلقي وإنما يتمثل في بعث وتوليد ما هو مدرك ومفهوم بالفعل ولكن على هيئات وصور جديدة في كل مرة مما يستدعي في القلب انفعالات ممتعة ويستنفر في الجوارح حاسة الذوق الراقي .. ولنا في تباين جدلية الخير والشر في صورة (فاوست) Faust  لدى (مارلو) Marlowe وصورته لدى (جوته) Goethe مثلاً محققاً .. عند هذا الحد لا يموت المؤلف ، ولا يغترب القارئ .. ولكن يبقى الكل هناك ..

السبت، 21 أكتوبر 2017

نقد العقل الفلسفي المحض

نقد العقل الفلسفي المحض
The critique of pure philosophical mind
د. وائل أحمد خليل الكردي
مقدمة /
من الصحيح أن تعتبر هذه المقالة معضداً لتأييد الاتجاهات التحليلية المعاصرة الداعية إلى رفض الفلسفة ، وذلك حيث أن المقصود ليس هو الرفض التام أو المطلق لمبدأ الفلسفة والفعل الفلسفي وإنما رفض الأسس التي بنيت عليها الفلسفة المحضة أو المجردة على نحوها التقليدي في بناء اأنساق أيديولوجية شمولية لتفسير الكون والحياة ، أو على نحوها النقدي الذي يمارس فعالية سلبية مستديمة بخلاف التحليل والبناء ، فهذا مما أدى في خاتمة المطاف إلى جعلها دراسة أكاديمية مستقلة الأمر الذي تمخضت عنه أزمات معرفية مستمرة تجلت في محورين أساسيين هما الذين سيقوم عليهما جملة النقد لهذا العقل الفلسفي المحض .
المحور الأول / اصطناع الماورائية النسقية  Meta-System .
المحور الثاني / توليد المشكلات الزائفة pseudo-problems  .
وهنالك محور ابتدائي في معرض التدعيم المنطقي  في نقد العقل الفلسفي المحض بتحرير مفهومين متمايزين للعقل .

العقل الحسابي الأداتي Reason والعقل الانفعالي Mind :
نشير أولاً إلى أن الفارق بين هذه المحاولة لنقد العقل الفلسفي المحض ومحاولة (إيمانويل كانط) E. Kant  في نقد العقل المحض ، أن محاولة (كانط) كانت قائمة على ملكة العقل المجردة باعتباره أهلية أو إمكانية للتفكير أصلاً ، أي العقل كميكانيزم  لتلقي أياً مما يلائمه من معلومات ترد إليه عبر الحس ليحولها بفعل حساسيتي الزمان والمكان وتصنيفات المقولات الذهنية إلى مدركات مفهومة ومنتظمة .  أما المحاولة القائمة هنا فهي تتسم بأنها ليست على نقد أصل العقل كأداة وفاعلية على نحو ما ذهب (كانط) وإنما على العقل المتكون والحامل لنوع معين من أنواع المعارف ، فالعقل الفلسفي عقل مختص وقائم وممتلئ بمعرفة معينة هي المعرفة الفلسفية ، وهو المعنى المتقارب شيئاً ما نحو فكرة (كانط) في نقد العقل العملي ونقد ملكة الحكم حيث خرج من مرحلة التجريد للعقل كآلية وملكة إلى عقل ذو مكون معرفي محدد بما يمكن تسميته بالعقل الأخلاقي أو العقل الجمالي . وعلى ذات النحو يتم معالجة العقل الفلسفي مع إلصاق كلمة (محض) له للدلالة على نوع مكونه المعرفي من جهة ، ومن جهة أخرى للدلالة على كونه مقتصراً على هذا المكون دون النزع أو القصد إلى موضوع غيره بصورة أصيلة ، كأن يتساوى هذا المكون الفلسفي مع مكون الدين والعلم على سبيل المثال ، في حين لا يمنع ذلك من أن يتناول قضايا الدين والعلم في ثناياه وكبعض منه دون أن يفقد قائميته المستقلة كإطار أيديولوجي . وعلى هذا الأساس يمكن وضع تصنيف منطقي للتمييز بين عقل حسابي (Reason) وعقل انفعالي (Mind) . ذلك ، مع الوضع في الاعتبار أن هذا التصنيف أو التقسيم هو أمر لغرض وظيفي في التفسير والإيضاح وليس نتيجة  قاطعة تبعاً لقانون علمي محض .
(أ) العقل الحسابي Reason  :
هو العقل القائم بعمليات الاستنباط Deduction والاستقراء Induction  ، ومن ثم يعمل على رسم الانساق الرياضية والمنطقية الصورية Formal systems   ، لذا فهو يتسم بالموضوعية المجردة عن أي أبعاد ذاتية الأمر الذي يجعل اعتماداته المعرفية الأساسية مبنية على قوانين – دون النظريات - الفيزياء والرياضيات . وعلى هذا النوع للعقل قام النقد الكانطي لإثبات حدوده ومنع تجاوزه نحو القضايا غير الخاضعة لقوالبه وتصنيفاته ، حيث أن هذا التجاوز كان السبب في أكثر المشكلات التي واجهت الفكر الفلسفي دون أن تكون مشكلات حقيقية . وأيضاً كان هذا العقل محل تأسيس اللغة المثالية الاصطناعية التي اجتهد فلاسفة الذرية المنطقية والوضعية المنطقية في بنائها على نسق رياضي وتعميمها بصورة حاسمة على كافة أنماط التفكير اللغوي الموضوعي لتكون اللغة – الشارحة Meta-language وراءها (والتي مازالت لم تتحقق) . إذن فالعقل الحسابي هو عقل جزئي أداتي وإجرائي محدود في أفعاله وتأثيراته ونطاق تنفيذه .
(ب) العقل الانفعالي Mind  :
هو العقل القائم على احتواء كافة عناصر وخصائص العقل الحسابي ، وذلك في اطار المعالجات البنائية لهذا العقل ا لانفعالي على أساس الاحساس والشعور ، وتكوين الأنظمة الصورية التداولية Formal Pragmatic Systems  ثم ما يتبع ذلك من قواعد سايكلوجية وخصائص وصفات ذاتية Subjective بجانب المقتضيات الموضوعية Objective . وهو الذي يحول اللغة – الشارحة ليس نحو لغة اصطناعية مكتملة منطقية فوق اللغات الطبيعية والعادية Natural/Ordinary Language وإنما نحو كيفيات الاستخدام التداولي على هذه اللغات الطبيعية والعادية ذاتها بحسب طرق وأنماط الحياة لدى الشعوب والقبائل . الأمر الذي يؤهل هذا العقل لرسم الرؤى الكلية الشاملة World-Views بناء على النماذج المعرفية Paradigms المختلفة والمتغيرة وبذلك تنشأ الأنواع الفلسفية المحضة .
ويمكن القول بأن هذا العقل الانفعالي هو عقل متصل بموضوعه المعرفي وممتلئ به على النحو الذي عناه (ادموند هوسرل) E. Husserl في بناء منهجه الفينومينولوجي (الظاهراتي) Phenomenology أي (الوعي القاصد حتماً نحو موضوع ما) . وهذا التصنيف لعقل حسابي وعقل انفعالي ليس هو من قبيل فصل (كانط) بين عقل محض وعقل عملي وملكة حكم ، إذ أن هذا التصنيف في نقد العقل الفلسفي المحض إنما يحتوي فيه العقل الانفعالي للعقل الحسابي كدائرة أوسع وأعم وكلاهما مسخر هنا لبناء مضامين العقل الفلسفي المحض , وهو ما يقوم عليه النقد .


إصطناع الماورائية النسقية  Meta-System :
ذلك أن من سمات العقل الفلسفي المحض أو المجرد اعتبار أن الفلسفة هي ذات مضمون يجعل منها بناءاً تركيبياً معرفياً مستقلاً بنحو كافة التخصصات الأكاديمية الأخرى ، وهو ما يسمح لها بتداولها على هذا النحو التجريدي في فصول وملازم دراسية معتمدة بذاتها بغض النظر عن الارتباط التداخلي لها مع أصناف أكاديمية أخرى . وقد انتجت هذه التخصصية البنائية للاعتقاد الفلسفي المستقل لدى القائمين عليه نوعاً بارزا من التقديس لتاريخ الفلسفة والذي هو في نهاية الأمر عبارة عن مجموعة تجارب فكرية لأفراد وجماعات ذات صلات وارتباطات لأحوال حضارية متلازمة عبر مرور الزمن والتدوين ، والتي أخذت تتلاشى شيئاً فشيئاً من حالة الصروح الأيديولوجية الكبرى إلى أن صارت اليوم عبارة عن رؤىً ومواقف منهجية .
وليس المقصود بمبدأ (الماورائية) – والذي هو المحور الأول الذي يقوم عليه نقد العقل الفلسفي المحض – فكرة (الميتا-فيزياء) Meta-physics التي يتم الاقتراح فيها لعوالم وكيانات عقلية مجردة وغيبيات اعتقاديه (مثلما في الديانات غير السماوية) فتتميز تماماً عن عوالم وكيانات طبيعية مادية تدخل إلى وعي الإنسان عبر منافذ الإدراك الحسي المعروفة . وإنما المعني بالماورائية هنا ذاك الربط بين الحقائق وتصنيفها وجمعها في منظومة واحدة على اختلاف أنواعها لتصب في نهاية الأمر نحو إنجاز غرض حياتي محدد . وذلك يتم عبر رسم التصورات الكلية التوجيهية المسماة بالرؤية الكونية الكلية الشاملة World – view  . والتفسير لهذا هو أن العلم Science باستقراء المسيرة التاريخية لتطوره إنما ينمو نحو التجزؤ والتفاصيل الأكثر دقة والأكثر حصراً مما يوفر لدى العالم نفسه إمكانية الربط الكلي لحصيلة النتائج العلمية البالغة التخصص والكثرة . ومن ثم يحتاج الأمر بالضرورة إلى نشاط بحثي يرتد عكسياً فينطلق إلى التعميم والرسم الكلي والأطر التوجيهية ، وهو ما يسمى (بالبحث الفلسفي) . ولكن السؤال الذي ينشأ هنا . على أي أساس ووفق أي مرجعية يتم رسم هذه الأطر التوجيهية للمعرفة ؟ فتأتي الإجابة من العقل الفلسفي المحض لتحيل الأمر إلى حالة من الاستنباط العلمي المنظم ولكن دون أسس حاسمة ونهائية مما يسمح بتعدد أنواع واتجاهات هذه الأطر الكلية التوجيهية للنظم المعرفية epistemological systems  في مذاهب مختلفة في آن واحد ، ولكلٍ شهودها ، ولكلٍ مؤيديها . فالمنظومة الماركسية الاشتراكية التي قامت في بلاد آسيا وشرق اوروبا وادعت أنها قد قالت الكلمة الحاسمة والأخيرة في التوجيه المعرفي للعلم والحياة لم تمنع أو تحد من قيام المنظومات الرأسمالية المضادة للرؤية الكونية الماركسية في  بلاد غرب أوروبا ومستعمراتها والولايات المتحدة الأمريكية . إذن ، فليس هنالك كلمة حاسمة  وأخيرة ونهائية في الوقت الذي تحتاج فيه البشرية والمجتمعات الإنسانية إلى هذه الكلمة حتى لا يضيع عمر الكون والإنسان في تجارب ناقصة ومتغيرة تحتاج دائماً إلى استكمال أو تحويل في رسم الرؤى الكونية الشاملة . وحتى لا يدفع – على سبيل المثال -  ضحايا الإنسانية ثمن حرب شاملة جراء الأيديولوجيا الهتلرية النازية ، وكما دفع المتسللين عبر سور برلين الشرقية نحو الغرب حياتهم وهم يبحثون عن شيء من الحرية . فما المبرر المرجعي الكوني الحق والمطلق الذي يعطي الماركسية الحق في قلب الهرم الديالكتيكي الهيجلي ثم يظل هذا الهرم مع هذا محتفظاً بأتباعه ومؤيديه في نفس الوقت ونفس المرحلة الحضارية .
إن الواقع المشاهد مباشرة هو أن العملية المعرفية للعلم تنقسم إلى شقين : شق هو الاكتشاف العلمي المختبري المعين كحقيقة جزئية قائمة بذاتها في ميدان بحثي معين ، ثم يظل هذا الاكتشاف أو الكشف العلمي المختبري المعين محايداً حتى تأتي ضرورة استخدامه على نحو ما ، وهو الموضوع الآخر من العملية المعرفية للعلم الذي موضوعه الإدارة المنهجية والمعرفية والتوجيهية للكشف العلمي (إدارة العلم) وهو الشق الأكثر خطورة في العملية العلمية لأنه يضع الحقيقة العلمية المكتشفة قيد العمل والاستخدام بصورة ضرورية في إطار منظومة فكرية توجيهية أياً كانت (روحية أو مادية) ليؤدي آخر الأمر هذا الاستخدام للحقيقة العلمية الواحدة ووفق منظومة ما من المنظومات الأيديولوجية إلى آثار وبناءات وسياسات حياتية قد تختلف جذرياً عن تلك الآثار والبناءات والسياسات الحياتية لنفس الحقيقة العلمية تلك إذا ما تداولت في مستوى أيديولوجيا مغايرة .
إن العقل الفلسفي المحض يضع كل هذه الأنساق الفكرية والأيديولوجيات التوجيهية جنباً إلى جنب على نحو تراكمي أفقي منذ أفلاطون وحتى النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت دون قول الكلمة الحاسمة لأيٍ منها حتى الوقت الراهن . وليس المعني بالكلمة الحاسمة نهاية المطاف وختام الحقائق وإنما المعني هو الطريق أو القناة الكلية التي يوضع عليها العلم بكل عناصره ومكوناته فينطلق في تطوره الطبيعي صاحباً معه حياة كافة الشعوب الإنسانية نحو استمرار في الترقي والتطور من أجل تحقيق التكليف بتعمير الكون دون خلافات وارتدادات وانتكاسات فكرية عوداً على بدء .
 وحتى تلك المذاهب والفلسفات النقدية منذ السفسطائية الإغريقية القديمة مروراً بالكانطية وحتى الفينومينولوجيا الهوسيرليانية وصولاً إلى النقدية الفرانكفورتية وإنما هي أيضاً تنطلق من مواقف ومحددات فكرية ، فهي وإن لم تفرض هذه المحددات الفكرية صراحة إلا أنها وفق استراتيجية النقد تقوم بإغلاق بعض المنافذ والطرق حتى لا يكون هناك سبيل أمام العقل والوعي إلا المرور عبر المنافذ والطرق الأخرى المفتوحة ، وحتى دون أن تشير هذه الاتجاهات النقدية إليها قصداً وتعييناً بنحو مباشر . فمثلاً عندما نقرر النتيجة النهائية لأعمال مدرسة فرانكفورت النقدية نجد لديها أن تطور واختلاف الشروط الحضارية يوجب فناء بعض نظم التفكير والمعرفة والإدارة ، ويوجب توليد نظم بديلة وملائمة ، فنظل هكذا ننتقل من تراث إلى معاصرة ومن حداثة إلى ما بعد الحداثة ، ويظل الإنسان هكذا دائماً في انتظار ما سيأتي به المستقبل من شروط حضارية جديدة تتغير معها حياته وهو كالريشة في مهب الريح تضيع معها هويته دوماً ، وهنا يناسب في وصف الحال التعبير القراني " أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم" .
هنا وعند هذا الحد ، ينبغي أن يسلم العقل الفلسفي المحض الراية في قيادة ناصية العلم والحياة إلى (الدين) حيث لا يصح في مقام الدين إلا الدين الإسلامي تحديداً . وينبغي أن ننتبه جيداً أننا عندما نتكلم عن الدين الإسلامي فإنه يختلف تماماً عن أي ديانة أخرى ، أي أن مفهوم الدين في الإسلام لا يتم الحكم به على مفهوم الدين في الإسلام لأ يتم الحكم عليه بمثل ما يحكم به على مفهوم الدين لدى الديانات الأخرى المعاصرة سواء كانت سماوية أم غير سماوية . فإن الخطأ الكبير الذي وقع فيه العقل الفلسفي المحض أنه تناول الدين عموماً – بما في ذلك الدين الإسلامي – باعتباره منظومة من ضمن نظم أخرى وفعالية من بين جملة فعاليات أخرى وجنباً إلى جنب معها دون طغيان أو هيمنة لإحداها على غيرها وهو الأمر الذي يجعل في الدين الإسلامي مجرد موضوع يبحث الناس عن المكان المناسب الذي يضعونه فيه بين النظم . والحق أن الدين الإسلامي تحديداً باعتباره الدعوة السماوية النهائية أو الخاتمة يتجاوز تماماً الظرفية التاريخية في التفسير والتي مثلت عنصراً حاكماً على الديانات السابقة عليه في الحدود الإقليمية لنزولها ولارتباطها بمحددات مرحلية معينة للوعي الإنساني في أزمانها لا يمكن وهكذا ، وصولاً بالضرورة إلى ما يمكن تسميته بحالة (الوعي المفتوح) والذي هو خاصة الدين الإسلامي في مصدريه (القرآن والسنة) منذ نزوله وإلى قيام الساعة ، مما يجعله و الحلقة الكلية لاستيعاب كافة الظرفيات التاريخية لهذه الديانات ومن ثم رسم المستقبل . لذا فالإسلام ليس مجرد معتقد تعبدي بالمعنى الشعائري فحسب وإنما هو بطبيعة تكوينه العملي ونصوصه الإطارية العامة الضابطة والموجهة لكافة فعاليات الحياة الإنسانية والمعرفة . ويمكن صياغة الفرضية التفسيرية وراء ذلك بأن كل ما يحدث في حاضرنا ومستقبلنا يمكن أن ترد أصوله إلى الماضي إلى المرحلة التمهيدية أو التدريجية في تكون الحضارة المعرفية للإنسان أو بالأحرى القالب العام للوعي الإنساني منذ بدء الخليقة وحتى ختام النبوة ، فختام النبوة هو اكتمال اكتملت به رسالة السماء ونفس الوقت اكتملت به صياغة عقل الإنسان ووعيه ليصبح كل ما بعده نوع من الممارسة المتقدمة والمستدامة لهذا الأصل المكتمل ، وحتى لو حسبناه أنه فكر جديد ووعي جديد فهو ليس بفكر أو وعي جديد وإنما ثياب وأنماط ومظاهر وأشكال مستحدثة لهذا الأصل الواحد للوعي .  والرد بهذا إلى ماضي ما وراء النبوة المحمدية يوضح نماذج لأبرز جدليات وصراعات الإنسان مع الوجود في سبيل تكون الوعي ، فأتى بذلك نقياً ومباشراً ومجرداً من تعقيدات الأشكال المعاصرة والمتقدمة له بحيث إذا أضعنا حقيقة ما في خضم هذه التعقيدات والتركيبات ساعد كثيراً في العثور عليها وفهمها بالرجوع لمثالها في الماضي إلى عهد النبوة وما قبلها لاكتشاف القلب الصلب أو الشكل المركزي لها في مصدرها التاريخي عند ابتداء نشأتها في الوعي الإنساني وتكون الخبرة المعرفية عليها ، وذلك بما يكشف عن ماهيتها والمسوغات المنطقية والحجية في تطوراتها التداولية وصولاً إلى أشكالها في عصرنا الراهن . إذن ، يظل العصر القياسي في فهم الأزمات المعرفية وتداولها هو ما امتد فيما قبل النبوة المحمدية وإلى أن ختم بها ، هنالك تشكلت الأنواع والأصناف والفئات لصور الوجود والحياة في وعي الإنسان ومنا انطلقت وتعممت . ويمكن تحقيق ذلك من وجوه أهمها :
أولاً – أن حجة البرهان والإثبات على شرط صحة الحفظ والجمع بالنسبة للقرآن ، وشرط صحة النقل والإسناد  للحديث النبوي لا تقبل الدحض إلا بحجة بطلان أقوى من حجة الإثبات تلك أو على الأقل تكافئها ، وهو – وفق الشواهد التاريخية - ما لم يحدث مطلقاً . كما أنه شرط لم يتوفر في الكتب الأخرى بحكم نوع التدوين عليها والتي تثبت نصوصها أن الوسيط الإنساني عن الله وعن النبي بكونه المدون للأحداث والأفكار هو مصدر منطوق هذه النصوص وتأليفها بحسب قدراته الوصفية والتأويلية .
ثانياً – أن الرسالة الإسلامية هي الرسالة التي صممت ليكون إطاراً كلياً يدير وينظم كافة طرق الحياة على تعددها واختلافها وتباينها مع الإبقاء عليها بنحو ما هي عليه باعتبارها سنة من السنن الكونية في خلق الإنسان بدليل قول الله تعالى بالأمر الإلهي في تقسيم بني آدم إلى شعوباً وقبائل وأجرى عليهم خاصة اختلاف الألوان والألسن ، فكانت تلك معادلة جمع الثوابت والمتحولات والتي قصرت عنها الرسالات الأخرى .
 بهذا يصبح القرآن والحديث هما الإطار الكلي الوحيد الحق الجامع لسائر المنظومات والفعاليات بوظيفة توجيهية وإرشادية ضابطة ودون أن يكون هو بذاته أحد هذه المنظومات والفعاليات ودون حذف أو إلغاء لحقائقها الجوهرية . بمعنى أنه القائم حقيقة بإدارة المعرفة العلمية . وهذا يخرج رسالة الإسلام من دائرة أن الدين بالضرورة حكر على التدين فالإسلام تدين وإدارة . وأن هذه الإدارة إدارة عالمية International أو عولمية Global . ولعل الشاهد على ذلك هو منطق (الصدمة التاريخية) Historical chock التي نزل بها القرآن في جزيرة العرب ، حيث أن تلك الإطارية العالمية الشاملة للقرآن زماناً ومكاناً بلا انقطاع وبلا انتهاء لم يقدم لها بمقدمات معرفية حضارية في واقع جزيرة العرب أوان التنزيل إلا مستى معين من التهيئة اللغوية متسعة العبارات مع ضيق الدلالات ، ولهذا أصبح من المستحيل أن يؤلف هذا القرآن بواسطة عقل عربي آنذاك الأمر الذي جعل وصف القران بالغريب يكون وصفاً مناسباً ومعبراً عن دلالة خرق الاتساق التاريخي العام للعالم بنزوله حيث نزل تحديداً مما أحدث لفت الانتباه نحوه لدى كل مناطق وشعوب الأرض . ولو أن هذا القرآن نزل وقتها على مناطق الحضارات اليونانية والرومانية المزدهرة والقائدة للوعي العالمي لعد لدى كثير من شعوب الأرض النائية أنه حلقة منطقية من حلقات التطور المعرفي للعقل الغربي . ويمكن الاستدلال على ذلك القول برصد حكمة ما في نزول القرآن منجماً تبعاً لأسباب النزول بأن اسباب النزول هذه ليست حالات احتكارية تصادر على تفسير النص القرآني لحدودها المعينة ، وإنما هي فقط مناسبات تشير إلى نمو الوعي الإنساني في أدنى مستوياته نحو بلوغ الدرجة التي  يستوعب فيها العقل دلالة النص القراني وأحكام ولو بحدها الظاهر البسيط ، فالقران مكتوب في الأزل جملة واحدة ولا يصطنع الايات بحسب الوقائع الاجتماعية والتاريخية عقب أو حال حدوثها بل إن القرآن يكون قبلياً Apriori  ثم تأتي هذه الوقائع لاحقاً عليه بكونها فقط العامل الضروري لتكون وتطور الخبرة المعرفية فيكون ملائما إنزال الآيات المعينة حينها ، لذا نزل القرآن منجما لمراعاة تنامي وعي الإنسان لبلوغ حد القرآن وليس العكس .
خلق وتوليد المشكلات الزائفة  pseudo-problems :
 لقد كتب (محمد إقبال) في (تجديد التفكير الديني في الإسلام ) ما يلي "إن روح الفلسفة هي روح البحث الحر ، تضع كل سند موضع الشك ، ووظيفتها أن تتقصى فروض الفكر الإنساني التي لم يمحصها النقد إلى أغوارها وقد تنتهي من بحثها هذا إلى الإنكار أو إلى الإقرار في صراحة  بععجز التفكير العقلي البحت عن إكتناه الحقيقة القصوى ، أما جوهر الدين فهو – على عكس هذا – الإيمان" .
هذا يثبت لنا الاتفاق مع (كانط) في حال أننا فصلنا فاعلية العقل المجرد عن التفاعلية التداولية للدين المتصدر في الآيات والنصوص ، هذا الفصل الذي يجعل الفلسفة المطلقة ميدانا للعقل والمنطق والاستدلال وبه تتحدد معالمها دون الإيمان الذي قال عنه (إقبال) أن كالطائر يعرف طريقه الخالي من المعالم غير مسترشد بالعقل" . وهذا منشأ ما عرف في الأدبيات الفلسفية بـ (المشكلات الزائفة) pseudo-problems . فليست الجدوى بتمييز أنواع للعقل في جانب الماهية بين عقل نظري مجرد يختص بما لا يختص به عقل آخر عملي ، وإنما الجدوى تكون بتوحيد حقيقة العقل على جانب الماهية والجوهر مع إثبات تعدد الاتجاهات الوظيفية له على جانب الفاعلية .
بناء على ذلك ، وفيما يتعلق بالأثر الوظيفي للعقل الفلسفي المحض المبني على اعتماده أنساقاً منطقيةً استنباطية في تحقيق الجدل الفلسفي فإن هذا الأمر من شأنه أن ينشئ مذاهب اعتقادية قائمة فقط على استدلالات برهانية لفظية ، مما يخلق صراعاً بين ما هو قائم في العالم وبين ما يعتقد فيه الإنسان الأمر الذي يعني أن المشكلة التي قام بصددها الاستدلال هي مشكلة زائفة تنهض عن حكم يستوي فيه حجة الاثبات وحجة النفي ، الرأي والرأي المعارض ، الأطروحة ونقيضها ، ومن ذلك ما ذهب إليه (بارمنيدس) Parmenides المشهور في تاريخ الفلسفة ما قبل (سقراط)  والذي قد زعم بنفي الكثرة أو التعدد والحركة المشهودة في الكون ، وأن هذا وهم ، وأن الحق هو الوحدة والسكون . ولم يكن ليصير لهذا الزعم قدر من الوجاهة إلا أن قام له الدليل البرهاني في الاثبات لدى تلميذه (زينون) Zeno بافتراضه لحجة سلحفاة (أخيلوس) وغيرها وهي حجج محض لفظية قائمة على المستوى المنطقي في شرط السلامة الصورية للاستدلال .
إن المشكلات الزائفة تقع عندما يحاول العقل الفلسفي المحض أن يرسم تصورات كلية تتجاوز حصيلة مفردات الخبرة المحدودة لديه بصدد ما تحقق عنده من اكتشاف جزئي للعالم . ومثال ذلك ما قد عبر عنه (زكي نجيب محمود) رحمه الله ، في كتابه (موقف من الميتافيزيقا) بأن الفارق بين موقف النبي وموقف الفيلسوف هو أن الفلاسفة من قبيل (أفلاطون) و(أرسطو) مثلاً ، يدعي الأول منهم بأن الحقائق والماهية الكلية للكائنات هي مجردة عنها وموجودة بصورة مستقلة في عالم المثل المفارق ، ثم يأتي الثاني ليرفض ذلك ويدعي أن الحقائق والماهية الكلية للكائنات ليست موجودة كصور مجردة في عالم مفارق بل إنما هي محايثة ومباطنة في عين الكائنات بذواتها وشخوصها ، وفي كلا الحالتين لا يتم إدراكها إلا عقلياً فحسب . الشاهد في هذا لدى (زكي نجيب محمود) أن كل قول من هذين القولين لديه حجة برهانية منطقية مساوية لحجة القول الآخر ويظل العقل الفلسفي المحض غير قادر على حسم الخلاف بترجيح قول على آخر إلا فقط بما تهوى الأنفس .
أما عن النبي فإنما هو فقط يبلغ رسالة أوحي إليه بها من ربه كما هي ولا يدعي أنه ابتدعها بعقله ، ولا يحق له أن يغير فيها حرفاً واحداً حسبما يرى هو أو يبدو له . لهذا فقد فطن فلاسفة التحليل المعاصرين أمثال (مور) و(فيتجنشتاين) و(رسل) إلى هذه القضية وعملوا على تحويل البحث الفلسفي إلى عمل إيضاحي وليس أنساقاً أيديولوجيه .
وإذا طلبنا مثلاً على نوع المشكلات الزائفة ، فهي مشكلة (العلاقة الجدلية بين العقل والنص) – وبتعبير التراث الإسلامي مشكلة العلاقة بين العقل والنقل - والتي أفضت إلى أزمات فكرية ومذهبية أظهرت اختلافاً كبيراً في قراءة وفهم الأصول النصية في ميدان الدين والأدب والسياسة والتاريخ وغيرها ، وكذلك الاستنباط منها والقياس عليها مما ولد مشكلات بنحو القول بقدم العالم أو حدوثه ، والقول بالجبر أو الاختيار ، وجدل الوجود والعدم ، وغير ذلك من مشكلات وكلها ناشئة عن المستوى اللفظي التداولي بالقراءة المجردة للنصوص بمحض الاستدلال العقلي . وبرهان ذلك في جدلية (العقل – النص) أن العقل ليس هو نسق System يوضع بجانب أنساق أخرى ومنها (النص) ، وإنما هو حصيلة من الأدوات Tools أي أنه محض فاعلية أو نشاط Activity ، فلا مجال إذن للاشتراك الدلالي بين مفهوم العقل كفاعلية وأداة ومفهوم النص كنسق وسياق Context إذ أن تصور الاشتراك الدلالي هو أحد مسببات طرح السؤال الزائف حول الحاكمية لأحد الطرفين على الآخر ، في حين أن الأمر هنا هو تفاعل واتصال ومعياره صحة الفهم أو سؤ الفهم . وينسحب هذا البرهان أيضا في الرد على من يقيمون على مفهوم (العدم) أنساقاً معرفية بنفس قاعدة مفهوم (الوجود)  كما تفعل الفلسفة الوجودية ، فالعدم لا يكون إلا مردوداً لغوياً لكلمة (الوجود) وليس لديه ماهية معرفية قائمة مستقلة بذاتها في علمنا إلا بكونه حالة السلب للوجود ، فالوجود هو فقط ما يمكن أن نشير إليه كعيان متحقق مدلولاً عليه بلفظة (يكون) To be أما العدم فلا يمكن الإشارة إليه أصلاً بـ (العدم يكون ...) . إذن فالعدم هو مجرد سحب لصفة وخاصة الكينونة لدى الكائنات ولا يكون هو بذاته كائناً ، وإلا فيكون هذا من قبيل اخراج العلامة Sign وعلاقاتها المنطقية عن حقلها الدلالي أي السقف الذي يحدها وتنتهي عنده ليصبح ما وراء هذا الحد مجرد سؤال مستمر دون أمل في إجابة قاطعة . فهذا إذ يسوغ القول بأن البقاء في حيز العقل الفلسفي المحض المستند إلى ذاته فحسب من شأنه أن يجعل الإنسان والفكر عموماً يدور في حلقة من الأزمات المستمرة والمشكلات الزائفة . وقد ظهر هذا مع تحول الأنساق المنطقية ، ففي الماضي كان التصور لليقين أنه تابع لاعتبار الحكم على أي قضية هو حكم بقيم ثنائية فقط  Two-valued logic فإما بالصدق وإما بالكذب . أما مع نتائج العلم المعاصر وتوسعاته المستمرة بما يفتح آفاقاً جديدة مرة تلو مرة فقد تبين أن مساحة الفاقد المعرفي لدى الإنسان بالكون لا تقارن بمساحة البناء المعرفي به لديه ، فالفاقد قد يبلغ مدى غير متصور من الاتساع . وقد عبرت أنساق منطق القيم – المتعددة Many-valued logics عن هذا الفاقد المعرفي بوجود فراغات في عمليات البناء الاستدلالي لا يمكن سدها إلا بعد معرفة أصلها في في الحقيقة الكونية ، وهذا لا يتم دون أن يسبق عليه الاكتشاف العلمي أولاً . إن اتساع الفاقد المعرفي قد أدى بالضرورة إلى افتراض قيم ثلاثية ورباعية .. إلى لا متناهية ، مما يمثل نوعاً من الحياد أو التوسط بين قيمتي الصدق والكذب . ولمزيد من الإيضاح فإن العبارات أو القضايا لابد أن توصف بأنها ذات قيمة توسطية عندما لا نستطيع أن نقبلها أو نرفضها في الوقت الحاضر ، أي أن القضية يمكن أن تقع في حالة ظرفية معينة من أحوال حدوثها ولا يكون في مقدورنا وقتها القطع بحكم الصدق أو الكذب بصددها . ويمكن القول بأن منطق القيم – المتعددة يحاول أن يستمد الضرورة الشرعية من خلال تطور البحث العلمي عبر نتائج الفيزياء الحديثة ، وذلك لما يبدو من أن هذه النتائج تتوافق مع الخروج من نطاق ما يسمى بأنماط (المنطق المعياري) Standard logic وتقرير الحاجة إلى نوع بديل من أنواع المنطق يطلق عليها (المنطق اللامعياري) . وفي حين يوحي المنطق المعياري بتقرير الثابت المعرفي لحاصل الخبرة البشرية في استخدام اللغة من خلال الحكم القاطع بالصدق أو الكذب ، أي الأحكام الإيجابية الناتجة عن مسلمة تقرير حدود الخبرة فيما أمكن معرفته على نحو مطلق ، جاء المنطق اللامعياري (منطق القيم-المتعددة) للحكم على ظاهرة أفرزتها بحوث الفيزياء الحديثة عقب (النظرية النسبية) Theory of relativity و(ميكانيكا الكم) Quantum mechanics  وتتجاوز القياس الاستقرائي التقليدي اطلق عليها (ظاهرة الشذوذ السببي) والتي لم يمكن تفسيرها تبعاً للتصورات التجريبية الوصفية في حدود المنطق المعياري (منطق القيم – الثنائية) . عند هذا الحد يتحرر التأويل الفلسفي من القيود العقلية العامة والأطر القواعدية الملزمة في إصدار الأحكام ويجنح نحو التأويل المفتوح الذي يرد كل الأمر إلى الذات في فهم وتفسير أي ظاهرة دون الرد إلى الحقيقة الموضوعية لهذه الظاهرة على نحو ما هي عليه في الواقع بالفعل . وعليه فقد تحول التحليل البنائي إلى تفكيك ، كما تحول مبدأ المسؤولية الوجودي في التأليف إلى مبدأ موت المؤلف وبالتالي فصل هوية العمل عن هوية مؤلفه والحكم عليه ليس بحسب محددات فهم المؤلف المنتج له وليس بحسب منطق عام يحكمه ويضمن تماسك بنائه وإنما بحسب محددات الذات الفاهمة المتلقية له . إذن تتحول على ذلك كل الثوابت إلى متغيرات.
والمفارقة هنا أنه سواءً ذهبنا نحو لتقييم السليم للواقع مع الراهن والأوضاع الحالية في أي ميدان ، أو لرسم خطط مستقبلية للإدارة العامة للنظم برؤية كلية أو لمحض تحقيق رؤية كونية شاملة ، فإن الأمر على كل الأصعدة يحتاج منا إلى سد ثغرات هذا الفاقد المعرفي وفق مرجعية تفوق مجرد العقل الفلسفي المحض .    
عليه ، يجدر القول مع أصحاب فلسفات التحليل المعاصرة بتحويل البحث الفلسفي إلى محض منهج للتوضيح والفهم على نحو ما قام به (فيتجنشتاين) في فلسفة اللغة العادية بتأليفه منهجية إيضاح العقول الأخرى Other Minds لتصبح الفلسفة بعده فاعلية أو نشاط وليست نسقاً .
وإذا قمنا بدورنا في توجيه هذه المنهجية لإيضاح البناء التركيبي والدلالي للنص القرآني على وجه التعيين لصدر لدينا نسقاً منطقياً جديداً يسد الثغرات الفراغية في الاستدلال لدى منطق القيم – المتعددة المعبر عن الفاقد المعرفي الكبير للوعي الانساني بالوجود على اطلاقه . ويكون ذلك بنقل أساس التركيز في الحكم المنطقي من مشكلة محاولة إيجاد القيم المكملة للصدق والكذب في الحالات غير المعروفة إلى تعيين المستويات الدلالية المتعددة المحتملة في النص والتي تستوعب كافة الأحكام بصدد الوجود العام على أساس قيم الصدق والكذب دون الحاجة إلى افتراض قيم زائدة .
خلاصة أساسية :  
الفكر الفلسفي على ثلاثة أنواع ، اثنين منها تقع ضمن العقل الفلسفي المحض وهما : (أ) التيار الإيجابي في الفلسفة ، وهو بناء الأنساق والمذاهب المعرفية الكلية الشمولية مثل الهيجلية والماركسية . (ب) التيار السلبي في الفلسفة ، وهو المواقف النقدية لرفض المذاهب الفلسفية والنسقية سواء بالدحض أو إثبات الثغرات ونقاط التفكيك على نحو مدرسة فرانكفورت النقدية والوضعية المنطقية .
أما النوع الثالث ، فهو خارج اطار العقل الفلسفي المحض ، وهو نوع الفلسفة التفاعلية أي التفاعل وفق الوظيفة التحليلية على أي كيان موضوعي بهدف الفهم والتطوير سواء على طرق الحياة الاجتماعية أو التطبيقات العلمية وهو اتجاهات التحليلية اللغوية لدى (فيتجنشتاين) وأصحاب مدرسة اكسفورد .
مراجع الدراسة :
1/ زكريا ابراهيم – دراسات في الفلسفة المعاصرة – مكتبة مصر ، القاهرة .
2/ وائل أحمد خليل صالح الكردي – منطق المشكلات الزائفة – سلسلة ندوات التنوير ، اصدارة 4 ، مركز التنوير المعرفي ، الخرطوم ، 2007م .
3/ وائل أحمد خليل – قاعدة خرق الاتساق – مجلة تفكر ، معهد إسلام المعرفة ، جامعة الجزيرة ، السودان ، مجلد 6 عدد 2 ، 2005م .
4/ وائل أحمد خليل صالح الكردي – مسألة الحرية في الوعي الغربي – مجلة اسلامية المعرفة ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، السنة الثامنة عدد 31،32 ، 2002 – 2003م .
5/  وائل أحمد خليل صالح الكردي – تحولات الأنساق المنطقية في بناء القواعد التشريعية – – مجلة تفكر ، معهد إسلام المعرفة ، جامعة الجزيرة ، السودان ، مجلد 7 عدد 1 ، 2005م .
6/ وائل أحمد خليل صالح الكردي – في منطق النقد القواعدي – مجلة العلوم الإنسانية ، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا ، الخرطوم ، مجلد 15 عدد 1 ، 2014م .
7/ عبد الرحمن بدوي - مناهج البحث العلمي – وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1977م .
8/ محمد اقبال – تجديد التفكير الديني في الإسلام – ترجمة / عباس محمود ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة .
9/ Ludwig Wittgenstein – Philosophical Investigations – translated by : G. E. M. Anscombe , Basil Blakwell , Oxford , 1953 .
10/ Robert Ackermann – An Introduction to many-valued logics –
 Routledge & Kegan Paul LTD ,London , 1967 .
11/ Ray Monk – Wittgenstein and the two culture – BBC Radio 3 , Prospect July 1999 .
12/ Hilary Staniland – Universals – London , The Macmillan press LTD , p. 54 . 

الأربعاء، 27 سبتمبر 2017

غريزة الحرب ..

غريزة الحرب ..
د. وائل أحمد خليل الكردي  

منذ أن كان الرومان القدماء في امبراطورياتهم يلقون بالرجال المحكوم عليهم بالموت إلى حلبات الأسود الجائعة لتنهش لحومهم وعظامهم وهم أحياء في نشوة وتلذذ لدى جميع ممن حضروا قصداً لتلك المتعة يطلقون ضحكاتهم الصارخة في آذان من تمزقهم الأسود ليزيدوا في عذابهم ضعفين .. ومنذ أن كانت تنصب المقاصل في زمان غابر لتوضع تحتها رؤوس الخارجين فتفصلها أنصال المقاصل عن أجسادهم تحت أعين السمار رجالاً ونساء بساحات يتصاعد منها الغبار شاهداً على ظلم الإنسان وجرمه .. منذ ذاك ، وكثيرون هم الذين صاغوا أفكاراً سوداء حول غرائز الإنسان فقالوا أن الإنسان في الأصل كائن مجبول في أصله على فطرة الشر ، يكمن حب الصراع والمقاتلة في أبرز غرائزه .. فلا غرو إن كانت الحرب هي السمة الغالبة في حياة الناس وعلاقة البشر بعضهم ببعض ، فالإنسان هو ذئب على أخيه الإنسان ، والجميع هم في حرب ضد الجميع .. ومن ثم بحث أولئك طويلاً عن حلول لطغيان الإنسان حتى لا تؤدي تلك الحروب الغريزية إلى فناء الجنس البشري من أصله وحتى يسود حكم القانون ورسم الحقوق وتعيين الواجبات. ولكن بالرغم من سلطان التشريعات والحدود على الشعوب ، إلا أننا نظل نرى كيف أن تلك النزعة الغريزية للحرب تأبى إلا أن تخرج وتكشف عن نفسها في كل عصر وكل محفل هنا وهناك على صور شتى .. وسرعان ما تضرب الحرب سياطها فتجلد ظهور المدائن والبوادي .. وتشتعل النيران ويموت الآلاف تلو الملايين من ضحايا البشر ، ويلقى الناء القصي والداني حتفه صريع الحروب المضرمة ربما لأتفه الأسباب .. تتعدد الأوجه والأغراض وتبقى الحرب هي الحرب ..
لأجل هذا كان من أوحى للناس بتفريغ تلك الغريزة القاتلة عبر (كرة القدم) جديراً بألقاب البطولة الإنسانية .. فقد استثمر بكرة القدم  - وكذلك ما نحوها من رياضات التنافس – غريزة الحرب لدى أبناء آدم لتكون سبيلاً نحو التآلف السلمي بين الشعوب .. ولتصير ميادين كرة القدم حقلاً لإشباع تلك الغريزة بلا جراح أو موت أو تدمير .. فترى الناس يتقاتلون فيها دون قتل .. وفي نفس الوقت قد أظهرت هذه الرياضة من تلك الغريزة كل ما كان قد خفي منها في مشاهد مدرجات جماهير مشجعي كرة القدم الغفيرة وحماسهم الذي إن بلغ أعلى سنامه تجرد الفرد منهم بنحو وجد صوفي (هيستيري) عن الإحساس بذاته ومن حوله فيجيء بما لم يكن ليتصرف به قط وهو خارج الملعب .. وكل ما كان عليه لحظتها أن اختلط الولاء بالحب لفريقه حين الحرب ..
إن كرة القدم سرعان ما تحولت بتلبيتها لتلك الغريزة الخطرة في الإنسان إلى عامل له أثر كبير على تحولات الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية وربما السياسة أيضاً وعنصراً من عناصر الدبلوماسية الجديدة .. لم تعد كرة القدم كما يحلو للبعض تصويرها لفة من الجلد يركض وراءها إثنان وعشرون رجلاً ، بل صارت هي لغة الحرب المعاصرة .. ولكن هل يا ترى إذا تزايد المد الطاغي للتعصب عن حده في عشق وممارسة كرة القدم أن تتحول في المستقبل من الحال السلمي للقتال إلى حروب ذات جراح ودماء بأقسى مما عليه حروب المدفع والبندقية ؟ ..

وهم الحائط الرابع ..

وهم الحائط الرابع ..
د. وائل أحمد خليل الكردي  

افترض (أرسطوطاليس) Aristotle  أن الحياة كما المسرح .. هنالك منصة خشبية تحوطها ثلاث جدر عالية .. المنصة عليها المؤدون للعرض المسرحي .. وفي الأمام يجلس الجمهور باختلاف مشاربهم على الكراسي قبالة المسرح يشاهدون .. ومن يرى بعينيه لا يرى حاجزا بين الجمهور والمسرح ، فالحائط الرابع قائم خلف الجمهور وليس أمامهم .. ولكن (أرسطوطاليس) عد هذا الحائط الأخير حائطاً خامساً ، وأما الحائط الرابع فقد ضربه بين العرض المسرحي والجمهور ، حائطاً خيالياً وهمياً ولكنه أبلغ تأثيراً من الجدر الحجرية أو الخشبية البانية لهيكل المسرح .. وكان الغرض من هذا الحائط الافتراضي الجديد أن يقطع وصل الأثر من جانب الجمهور في الصالة نحو عناصر المسرحية ، وليكون الأثر ممتد فقط من العرض المسرحي نحو الجمهور .. فلا يمكن للجمهور المشاهد انتقاد المسرحية لأنه مستلب الإرادة أمامها فهو يتلقى منها فقط .. أما النقد فلا يكون إلا بين الجمهور تجاه بعضه البعض حول درجة استيعابهم وتمثلهم لغرض المحاكاة للفعل النبيل التام في المسرحية ثم مدى تحقيقهم (للتطهير) في أنفسهم بعد فعل المشاهدة .. ولقد جاء في زماننا من بعد (أرسطو) (بيرتولد بريشت) B. Brecht فحطم هذا الحائط الرابع الوهمي وكسر سلطة العرض على المشاهد وحرر الجمهور أمام المسرحية ، فصار الوصل متبادلاً والتفاعل كثيفاً والنقد مفعول على العرض والفكرة ..
وكذلك الحياة كلها .. فنحن كثيراً ما نضرب أمام أعيننا تجاه الأشياء من حولنا حوائط وهمية بأيدينا ثم نصبح أسرى لها ، ثم لا نزال نتساءل عن أسباب ما بنا من علة .. حتى في علم النفس ، فمنذ أن فصل (ديكارت) R. Descartes بحده بين النفس والجسد ، وأن الجسد هو كون وأن النفس هي كون آخر مختلف تماماً ولا وصل لهذا بذاك ، باتت كثير من الأدواء مجهولة أسبابها وحار فيها الطب وعز الشفاء .. فلم يجد الإنسان المعاصر مفر من كسر هذا الحائط الوهمي مرة أخرى وخلط الأوراق بين النفس والجسد ليصير تفسير نصيب مقدر من علل الإنسان بأنها أمراض (نفس - جسمية) Psycho-somatic .. ولو علم الرجال فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد دل على هذه الحقيقة في زمانه البعيد .. فقد ورد في صحيح البخاري (أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه فقال : اسقه عسلاً . فسقاه ، فقال إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً ، فقال : صدق الله وكذب بطن أخيك ) – وفي رواية الترمزي أنه كرر ذلك ثلاثاً .. والشاهد الدال في هذا في نحو من التفسير الممكن أن العسل يشفي العلة ذات السبب المادي العضوي للبطن كالتلوث أو الفيروسات أو الميكروبات الدقيقة ، وأما إن كان المرض ذا صلة نفسية تركت أثارها على وظائف الجسد ، فإن العلاج يكون له مقام آخر غير العقار الدوائي .. فلعل قوله (كذب بطن أخيك) أي أن سبب الاستطلاق ليس لعلة عضوية بالبطن برغم أنه عرض ومظهر للعلة العضوية .. حينها قد لا يجدى سقيا العسل شفاءً ، وإنما يجدي البحث في علل النفس وأحوالها البائسة والتي أدت إلى استطلاق البطن دون علة فيها .. إلى هذا الحد يصير الإيحاء النفسي بالمرض والعجز هو ما يحدث فعلاً المرض والعجز ، ولو أن النفس قويت لقوي بها الجسد واشتد .. وعلى ذات المثال في بوابة أخرى ، أن أظل منذ الصغر أدرس اللغة الأجنبية وإلى أن أبلغ من العمر عتيا ثم أظل بعد ذلك لا أجد في ذاكرتي كلمات منها ويتعقد لساني حين طلب الحديث بها .. ولكن الحق أنني ربما حملت من إجادة هذه اللغة الأجنبية حداً بعيداً واسعاً إلا أنني فقط قد نصبت حائطاً وهمياً بيني وبين خبرتي فلا أصل لما فيها وقت الطلب .. فلا رجاء إلا بكسر الحوائط الوهمية بالثقة أن الله خالق فينا سلامة الفطرة في الأصل وأنه لا خوف على المتقين ولا هم يحزنون .. ولكن فقط نحن بأيدينا من تأبى بطوننا إلا أن تكذب .        

القصعة واكلتها ..

القصعةُ وأكلتها ..
د. وائل أحمد خليل الكردي  

كثيراً ما يقع الناقد في ميدان المؤلفات الأدبية والفكرية ضحية الإشادة لعمل هو يستحق الإشادة بحق .. ولكنه عمل مستلب أو مستعار وغير منسوب لأصله .. ولكن برغم أنه يكون قد تم تحويره في النسخة المستعارة لتبدوا مغايرة شكلاً ، وليس مضموناً ، لما عليه أصل العمل أو أن يتم هذا التحوير ليس بنقل المكتوب إلى مكتوب آخر ولكن بنقل المكتوب سرداً إلى سيناريو ثم تحويله إلى عرض Performance من مشاهد وفصول وحلقات تظهر العمل المكتوب في أصله في ثوب جديد متحول .. برغم كل ذلك إلا أن اجتماع الأصل مع النسخة المنحولة في لحظة حضورٍ ومقارنةٍ واحدةٍ يظهر على الفور أن هذه اقتباس عن تلك أمام عين المطالع الهاوي ناهيك عن عين الناقد الحصيف الحاذق ..
لقد عرض على التلفاز في مطلع التسعينات مسلسل سوري غاية في القوة والإتقان وأصالة الفكرة وجودة الحبكة في المغذى والمضمون والصنعة ، وكان بعنوان (شبكة العنكبوت) قاده مؤدين بارزين مشهورين في الدراما العربية في سوريا .. وحكى عن صنف فريد ومعقد من العلاقة النفسية بين أفراد اسرة عربية عادية وكانت من جانب الولد الوحيد فيها على والدته وأخوته الثلاثة البنات ، حاول أن يخلق من هذه الأسرة (يوتوبيا) أي مدينة فاضلة منكفئة على نفسها فقط ومنعزلة عن العالم غيرها تماماً ويكون هو محورها وحاكمها ، واصطنع للحفاظ عليها هكذا شتى الوسائل والحيل ولو باصطناع المرض الذي افضى به إلى الوفاة في نهاية الأمر .. كان الناس وقت عرض المسلسل طي الاعجاب الشديد بذلك المؤلف العبقري الملهم الذي كتب قصته ليبلغ بها مصاف عظماء الرواية النفسية العالمية أمثال (دستويفسكي) أو (تشيخوف) أو (أندريه موروا) أو (كولن ويلسون) ومن هم على هذا المقام .. ومن فرط ما حظي به هذا المسلسل من اهتمام وثناء أن انبرى له شيخ النقاد في السودان الأستاذ (هاشم صديق) وأفرد له عدداً من حلقات برنامجه المشهود (دراما 90) وتحدث عنه بتفصيل وتدقيق وتحليل بالغ ورائع .. ولكن وبعد كل ذلك يشاء الله أن تقع بين يدي رواية فرنسية قديمة كانت في مكتبة المنزل ترجمت إلى العربية في عام 1965م بعنوان (العنكبوت) لمؤلفها (هنري تروايا) وقد حازت حال نشرها في فرنسا على جائزة (جونكور) العالمية في سنة 1939م ، فإذا بهذه الرواية الفرنسية هي أصل فكرة هذا المسلسل السوري دون أدنى ريب ، ولكنها مجسدة على واقع الحياة في فرنسا بينما أفلح منتج المسلسل السوري في تفصيلها ببراعة على الواقع السوري فينسجم وبنية المشاهد العربي فلا يشك في أنه عمل مقتبس ودون أية اشارة أو تلميح عن النص الأصلي ..
لعل من أهم منجزات عصرنا الراهن ذلك الاهتمام التشريعي والقانوني الكبير بحق الملكية الفكرية وحمايته .. فقد شاعت في بلادنا لعقود سلفت سرقة الحقوق الأدبية ظهر منها الكثير وما ظل خافياً كان أعظم ، لعدم الالتفات لجدوى رعاية هذا النوع من الحقوق إلا مؤخراً .. ولكن رغم ذلك تتطور الجريمة دائما تطوراً مساوقاً لتطور تدابير مكافحتها فتأتي بكل طارف ومستحدث .. ولكن ليعلم صاحب العمل النبيل أدباً كان أو علماً أو فكراً أن سارقه ليس بأغنى منه في رصيد الإحسان ، لأن لصاحب العمل النبيل بكل حرف يفيد منه إنسان حسنةً وأجر وفير .. بينما لسارقه بذات الحرف وزر وإثم كبير .. فالعمل الفكري لصيق بصاحبه التصاق الابن بأبيه ولا فكاك وإن تربى في غير موطنه ولكنه حتماً هو له .. وكفى للمرء حباً لمظلمة نفسه لدى العباد ما دام أن من سيدافع عنه هو الله .. وفضل الأكل في القصعة دوماً لصاحبها ولا غير ..

عودة (الجندر) Gender .. ماذا ورائها ؟


عودة (الجندر) Gender .. ماذا ورائها ؟

د. وائل أحمد خليل الكردي
(النساء شقائق الرجال) فالشق يتميز عن شقه الآخر بوظائفه ليصيب كل منهما سهما في الوجود بجانبه فتكتمل الصورة ، فالشق إذن يكمل شقه الثاني ولا يناقضه .
  منذ مطلع القرن العشرين بدأت في عالمنا الثقافي العربي أقوى دعاوى تحرير المرأة على منوال (قاسم أمين) و(مرقص فهمي) و(هدى شعراوي)  و(سهير القلماوي) و(نوال السعداوي) وآخرون وتسليمها حق المساواة الكاملة بالرجال دون تمييز لسهم أي منهما في الوجود .. وكان الظاهر من الأمر في ذلك هو تخليص النساء من قيد المجتمعات الذكورية على غرار ما فعلت أوروبا سلفاً عبر قادة الفكر الاجتماعي بها ولم يكن من الضروري لهؤلاء العرب معرفة الخفايا والأسرار والعلل البعيدة لنفس هذه الدعوة لدى نظرائهم الأوروبيين .. واليوم عادت تلك الدعوة من جديد بشكل ضارب في القوة بأحشاء مجتمعاتنا لتصير من الخانات الأولى في أجندات تغيير واقع وحياة الناس ..
ولكن .. ماذا كان هو الغرض الحقيقي المخفي من وراء ذلك ؟
لقد ذكر عالم الاجتماع الانجليزي (لويس مورغان) L. Morgan في كتابه المهم (المجتمع القديم ، أو البحث في خطوط التقدم البشري) في العام 1887م كيف أن النسب عند بعض شعوب العالم القديم  والتي لم يزل أثرها باقياً حتى عهده لم يكن إلى الأب بل إلى الأم ، وأن خط الأم كان يعتبر الخط الوحيد لتحديد نسب الأبناء على اعتبار أن العلاقات الجنسية كانت غير محدودة بالزواج الأحادي بل بتعدد الرجال على المرأة الواحدة ، وأن هذا الأمر أدى إلى نفي كل امكانية لتقديم الدليل الأكيد على الأبوة وبالتالي لم يكن من الممكن تقرير النسب إلا حسب خط الأم وبموجب (حق الأم) مما أدى إلى تمتع النساء بوصفهن أمهات بحيازة المصدر الوحيد للثقة بشأن إنشاء الأجيال الفتية ، وبلغ ذلك من الاحترام حد سيادة النساء التامة وظهور ما يعرف بـ (جينيكوقراطية) Gynecocratic أي (حكم النساء) .. ربما بذلك كانت المطالبة بتحرير المرأة على غير ما ترسمه التعاليم الدينية السماوية هدفها تحقيق الفرصة لمشاعية أنثوية بأسم الحرية والاختيار والانسانية المجردة ، فإذا تحقق هذا لهم سدوا بذلك كل فرصة أمام مقولات الصفاء العرقي والأجناس المتفردة بنحو ما حكمت الشيوعية الماركسية – اللينينية بالقضاء على سلطة العرق كأحد أهم الاجراءات للتذويب البشري العام في مجتمعات الاشتراكية العالمية ..
ثم تعالت حدة هذه الدعاوى لتحرير المرأة وما يخفيه من إحياء جديد (لحق الأم) عقب كارثة الحرب العالمية الثانية التي تسببت فيها الأفكار المنادية بضرورة تنقية العرق الآري المتفوق في مواجهة كافة شعوب العالم .. إذن فإلغاء العرقية – يمكن القول – كان هو السبب وراء حركة تحرير النساء ، وبسبب هذا تعاظم الزعم بحقوق (الجندر) وترقية مهام النوع الأنثوي ، ومن خلف ذلك مخطط آثم لضرب سنة الله في الخلق لشعوب وقبائل ، وأن تنصهر كافة طرق الحياة في داخل قارورة واحدة تختلط فيها كل الأعراق ثم لا تلبث أن تختفي جملة لتتحول إلى طريقة حياة واحدة عالمية بلا عرقية .. إن تلك القارورة ستؤدي في المستقبل نفس الدور الذي كان منوطاً ببناة (برج بابل) القديم الذي يجتمع كل البشر فيه ليعيشوا ويتحدثوا لغة وحياة واحدة .. ولكن ها الله تعالى أبى عليهم مطالبهم بأن أظهر بالعلم وسائل توثيق جديدة للأنساب مثل شفرة DNA بما يحفظ الحق الأبوي في الأبناء بجانب حق الأم ، وأيضاً لإبقاء تقسيمات الشعوب والقبائل كسمة اجتماعية وجودية يتم بها تعيين المعروف بين الناس ، وربما ما خفي كان أعظم ..
 (هو الإنسان .. لطالما يصر على على الصعود فوق مظانه وبناء قصور الأحلام عليها ، ثم يحسب دائماً أنه يحسن صنعاً .. ولكنه في كل مرة يعود ويرد إلى أسفل سافلين) ..