الجمعة، 30 ديسمبر 2016

ماسون السودان ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
منذ أخريات العام 1969م ظل الرئيس (جعفر نميري) رحمه الله ، يغلق المحافل الماسونية التي وسع انتشارها في مدن السودان الكبرى الخرطوم وعطبره  ومدني وبورتسودان .. ولعل ما أرشده إلى هذا الفعل عن وعي وإدراك بين ، هو الدور المهم جداً الذي لعبته مقالات الأستاذ (خضر حمد) رحمه الله ، والتي جمعت هي والمقالات المعقبة عليها من آخرين ثم نشرها في كتابه (هذه هي الماسونية) الصادر بالخرطوم في مايو 1969م .. وكيف أن هذا الكتاب حوى على صغره دسماً كثيراً عن حقيقة الماسونية وخطورتها البالغة .. كل هذا في زمان كانت فيه الصحافة هي بالفعل الصائد لانتباهات  العقول وقاطفة لثمار الوعي وباعثة للحقائق حول الناس ..
لقد فعلت الماسونية فعلها في نسيج البلاد الفكري والعقدي والاجتماعي بما لم يزل أثره فينا إلى الآن . وكان هذا عبر منظومة من الشعائر الطقوسية الرمزية والتي وافقت إلى مدى بعيد ما تهواه أرواح الشرق وأفريقيا من شغف للغموض والأسرار .. فأقام عشائر (البناءون الأحرار) – أي الماسون – نظامهم على عمودين راسخين لديهم وهما (الإخاء المطلق) و(السرية المشددة) .. ولقد أورد (خضر حمد) في المقالة الأولى من كتابه إشارة لذلك ما يلي : (يتحتم على الماسوني في جميع الأحوال أن يساعد أخاه ويرشده ويدافع عنه ولو خاطر بحياته ، وهذا طبعاً حتى لو كان الأخ المشار إليه صهيونياً .. أليس أخاً ماسونياً ؟) .. (في منشور صدر في سنة 1892م جاء : يجب أن يكتم الأخوان السر الماسوني كتماناً كلياً)..
أما عن المراسيم التي يتبعها جماعة البناءون الأحرار (الماسون) في تعميد أعضائهم من أجل تحقيق السرية والإخاء  في سبيل تنفيذ السيطرة على الشعوب والمجتمعات وتسييرها نحو الوجهات المرسومة لها في العهد القديم (التوراة) وكتاب (التلمود) و(بروتوكولات حكماء صهيون) ، فقد تم تدوينها في كتاب صغير سمي (الشعائر الأصلية لشعائر الماسونية – التابعة للمحفل الانكليزي الأعظم) وقد تم ترجمة نسخة منه إلى العربية علي يد الأخ الواجب الاحترام (يحى عمران) نائب الأستاذ الإقليمي الأعظم لمصر والسودان بحسب التقاليد والتسميات المتبعة في الماسونية .. وقد جاء في مقدمة الطبعة العربية الصادرة بتاريخ مارس 1962م والمطبوعة بمطبعة التمدن بالخرطوم (ولما عرض على الأخ الواجب الاحترام الأستاذ "محمد صالح الشنقيطي" الأستاذ الأعظم الإقليمي لمصر والسودان ، تفضل ووافق على نشره) .. ومن ابرز ما جاء في هذا الكتاب هو نص (التعهد) الذي يقوم به طالب الماسونية على عدم افشاء الأسرار بأي صورة من الصور وإلا فإنه يقر بوقوعه تحت طائلة ما يعاقب به الغادر الحانث الناقض للعهد .. ثم بعد العهد يعطيه رئيس المحفل التحذير التالي – ولاحظ أن النقاط هي كلمات حذفت قصداً من النص بالكتاب لسبب غير معلوم أو أنها من ضمن الأسرار - (واعلم أنك بحسن انقيادك هذه الليلة .. قد نجوت من خطرين عظيمين هما "..." والخنق فقد كان هذا الخـ .. موجهاً إلى صدرك عند دخولك من باب الهيكل ، حتى إذا بدر منك سؤ نية كنت ساعياً إلى قتل نفسك طعناً به ويكون الأخ الذي يحمله قد قام بما وجب عليه . ولقد كان هذا "..." في عنقك حتى إذا حاولت النكوص خنقت به في الحال . وأما الخطر الذي يجب عليك أن تحذره ما حييت فهو العقاب الذي حكمت به على نفسك في تعهدك وهو أن تؤثر "..." على إفشاء أسرارنا . وبما إنك قد الزمت نفسك التعهد اللازم والميثاق الواجب في الماسونية فأخبرك أن للماسونية درجات وأن لكل درجة منها أسراراً يكشفها الرئيس للطالب على قدر استحقاقه وأهليته) ..


إن هذا الكتاب ، والذي ربما لا يوجد له نظير حالياً ، يوضح بدقة الممارسات الطقوسية الحاكمة لأسرار المحافل الماسونية في السودان وقت أن كانت معلنة تماماً في مجتمعاتنا مثلها مثل النوادي الاجتماعية والرياضية والتنظيمات الخيرية . وبرغم من علانيتها تلك لم يدر أحد من الناس في خارج الماسونية ما هي حقيبة الأسرار المخصصة لكل رتبة من رتب الترقي في درجاتها والتي تبلغ كل منها من الخطورة ما يكلف إفشاء العضو لأي كلمة منها حياته حتماً .. وربما يكون الشاهد في هذا الأمر أن الرمزية الشديدة والتي تملئ الحيز في محافل الماسون بالخوف والرهبة أثناء طقوس وشعائر فتح المحفل وإغلاق المحفل ما يوجد رابطاً ومبرراً منطقياً  وإجرائياً في اتخاذ بعض الحركات والطرق الاجتماعية ذات الشكل العقدي كثيرة الانتشار لشعائر رمزية قريبة الشبه من تلك التي للماسونية مما ييسر جعلها مطية للماسون في تنفيذ أغراضهم عبرها في الوقت الذي حظر فيه النشاط العلني للماسونية .. إن هذا الأمر ليس مصادفة بل هو ترتيب نتائج على مقدمات والشواهد على ذلك من التاريخ والواقع ماثلة للعيان .    
من يدري عن .. (مارون عبود)؟
د. وائل أحمد خليل الكردي   
لقد عثرت على (مارون عبود) دون قصد مني بين كتب عتيقة على رفوف مكتبة عريقة في أحد شوارع الخرطوم القديمة .. وكان ذلك منذ زمن ليس بالقريب. فعرفت أن قليلون هم جداً في بلادنا اليوم من يعرفون (مارون عبود) - 1886- 1962م - ذلك الرجل من الطراز الفريد النادر في خلقه وفكره وسعة وعيه وفيض إيمانه . (مارون عبود) رجل مسيحي ماروني متشدد في تدينه  إلى درجة الصواب ولمس الفطرة الحقة والنقاء الإنساني الخالص ..
 (مارون عبود) رجل ولد وتربى وهرم في قريته الريفية (عين كفاع) بالجنوب اللبناني ، وهو وإن كان قد خرج مراراً من قريته تلك إلى جميع العالم إلا أنه حملها معه نموذجاً دائما لمواد قلمه الثر.. فأحاديث قريته بين نفسه وبين الناس لا تنضب . ومن جهات أخرى ، فالحق أقول أنني لم أرى من فاق (مارون عبود) في تفسير ووصف بنية وحقيقة الشخصية العربية الأصلية بما لها وما عليها في مقالاته الفذة نقداً ونثراً وشعراً وفلسفة ، وكيف أنه قد صاغ بشيء واضح من التبرير المتسق مع واقع الحال أن كل بيت في قصيد العرب يدل على خاصية حياتهم وهويتهم الأولى وسمات منطقهم ، ولعله في هذا قد أثبت أطروحات الفلسفات التحليلية المعاصرة بأن الفكر الصواب هو ما سلك منهجاً لفهم وإيضاح طرق الحياة المختلفة للشعوب والقبائل ، فكان هو من أقدر الكتاب على تحليل ونقد طريقة حياة الناس وأحوالهم في بلاد العرب ومنطق عقولهم ..
إن  (مارون عبود) ذلك المسيحي الصالح المتشدد الذي دعته سلامة فطرته إلى الدعوة إلى تصحيح العقيدة لدى أبناء جلدته بما يرضي الرب ويصلح الأرض ، حتى أنه زعم أن المسيح إن عاد ورأى ما قد أحدثه الناس في أعياد الميلاد لما عرفهم  ولأنكر منهم كل فعل .
(مارون عبود) هو صاحب القضية الكبرى في حب رسولنا الكريم (محمد) صلى الله عليه وسلم من بين بني النصارى حتى مجدت قصائده (محمداً) ، ولم يطرق داراً  ولا حدثاً ولا أمراً إلا وقدم له بأية من القرآن المجيد أو دل عليه بحديث شريف قبل أن ينص عليه من الإنجيل . وقد بلغ من احترامه لمحمد صلى الله عليه وسلم  شأناً أن سمى ولده (محمداً) فثارت الدنيا عليه من بني جلدته ولم تهدأ. وحسبنا شاهداً عليه من كلامه أبيات في مدح الحبيب المصطفى وتسمية ابنه عليه :
عشت يا ابني، عشت يا خير صبي ولدته أمه في (رجبِ)
فهتفنا واسمُهُ محمدٌ أيها التاريخ لا تستغربِ
خَفّفِ الدهشةَ واخشعْ إن رأيتَ ابنَ مارونٍ سميّاً للنبي
اُمّه ما ولَدتْهُ مسلماً أو مسيحياً ولكن عربي
والنبيُّ القرشيُّ المصطفى آية الشرق وفخر العربِ
يا ربوع الشرق أصغي واسمعي وافهمي درساً عزيز المطلبِ
زرع الجهل خلافاً بيننا فافترقنا باسمنا واللقبِ
(فالأفندي) مسلمُ في عرفنا والمسيحيُّ (خواجه ) فاعجبي
شغلوا المشرق في أديانةِ فغدا عبداً لأهل المغربِ
يا بني اعتزَّ باسمٍ خالدٍ وتذكّرْ إن تعشْ، أوفى أبِ
جاء ما لم يأِتهِ من قبلهِ عيسويٌّ في خوالي الحقبِ
فأنا خصم ُالتقاليد التي ألقتِ الشرقَ بشرّ الحَرَبِ
بخرافاتِهِِمِ استهزئ وقلْ: هكذا قد كان من قبلي أبي.
وغداً يا ولدي، حين ترى اثري متبَّعاً تفخر بي
بكَ قد خالفتُ يا ابني ملّتي راجياً مطلعَ عصر ذهبي ..
ولعل المغذى المستفاد من إيراد سيرة رجل مثل (مارون عبود) يكون قول الله تعالى في القرآن المجيد "ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" .. وأحسب أن في قلب هؤلاء رغبة وتمني أن لو كانوا مسلمين فيجدون الحياة بذلك أفضل وأرحب وأكبر معنى ، ولعل أولئك من أهل الكتاب الذين قال فيهم الله تعالى "وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" .. فكم فينا وبيننا ممن سلمت فطرتهم ، وأثمر الرجاء الطيب فيهم بإنفاذنا معهم أمر الله تعالى بقوله "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون" .. وكم ضيعنا الكثير من الفرص في تكثير أمة الإسلام ليس بغث كثيف من أبناءنا وإنما بمن هم ذوي نفع وجلد وعزم وعلم في أصحاب الملل الأخرى  و(مارون عبود) يقف في قبره خير شاهد ودليل لنا في ذلك .. أدعوا الله أن يكون (مارون عبود) النصراني الصالح قد أعلن في قلبه لله وحده أنه مسلم .. وأرجو لنا أن نقرأ من سيرته وسيرة أمثاله وما كتبوا وألفوا لعلنا نكسب شيئاً من المستقبل مع هؤلاء في ظل الإيمان قبل فوات الأوان .




   
كن كشافاً دوماً..
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

لا أنسى تلك الأيام التي كنا نداولها بيننا صغاراً .. حول الخيام ووسط الأشجار في الغابات أو على ضفاف نهر النيل العظيم .. لا أنسى كيف أن الأب المربي القائد (ربيع محمد خير) - رحمه الله - أشهر قادة الفرقة العاشرة والحادية عشرة كشافة ، وواحد من أقوى قادة الكشافة السودانية في تاريخها العريق .. والذي أشهد له عند الله تعالى أنه كان يقطع حفلات التتويج – وهي أهم الاحتفالات الكشفية لإثبات العضوية ومنح الجوائز والشارات – وقت الصلاة ليصلي بأولياء أمور الكشافين إماماً  في زمان مضى كانت رعاية حقوق الله فيه أمراً طي النسيان لدى أغلب طبقات المجتمع ، ثم يعاود تتمة الاحتفال .. كيف كان هذا الرجل الشاب وقتها  قائداً بالفعل دون القول .. يزرع ويشتل ويحصد في أنفسنا منذ الصبا الباكر أصول قيادة الذات والآخرين والاعتماد على النفس في كل حين ،  وقدرة التصرف في أي ظرف وحال فقط بما يحيطنا من إمكانات متاحة مهما قلت أو شحت ..  لقد أسلم (ربيع محمد خير) روحه إلى بارئها بعد أن أسس صرح كشافة دولة الإمارات العربية المتحدة فحمل في ذلك اسم السودان عالياً .. ألا رحمه الله وأسكنه الجنة ..
ولقد كان مما يحفزنا على الصبر وطول الجلد والالتزام ويثير حاسة الحماس والفخر في نفوسنا ذلك الملبس الموحد الذي يضاهي في بهائه أزياء الضباط والأفراد بالقوات العسكرية .. والمنديل المعقود على الأعناق مذكراً بعظم المسؤولية وشارة العضوية الكشفية المعلقة على جهة القلب تحمل في طيها -  روحاً أو نصاً -  الشعار الكشفي الدائم (كن مستعداً) .. ثم ذلك الكم الهائل على الأكمام من شارات الكفاية والجدارة والهواية تعلن للناس أن هنا كشاف ماهر فاطمئنوا ولا تحقرن حداثة سنه فهو شبل ابن ليث ..  ثم تلك التحية الكشفية المميزة باليد اليمنى الثلاثة أصابع المشرعة تذكر ببنود الوعد الكشفي في واجبنا نحو الله ثم الوطن وأن نساعد جميع الناس في جميع الأحوال ، والإصبعين المعقودين أحدهما فوق الأخر يدلان على توقير الكبير ورحمة الصغير ثم الحلقة المستديرة بين الإصبعين المعقودين تدل على دائرة الرابطة الكشفية بين كل من انتمى يوماً إلى الحركة الكشفية في أي مكان من العالم .. لم أجد أبداً من نسي أنه كان يوماً كشافاً ، إذا كان .. ولا كيف أنه مازال حتى أرذل العمر يفاد مما تلقاه فيها وإن طال عليه الأمد بينه وبينها وبعدت الشقة ..
لم أجد فيما علمت تنظيماً تربوياً وتدريبياً مثلما الكشافة بين نمط القيادة العسكرية من جهة والقيادة المدنية من جهة أخرى .. القيادة العسكرية بانتظامها الشكلي والحركي فرقاً وطلائع ، التي تقضي بالالتحام مع الطبيعة الحرة والبقاء في الظروف الخلوية الصعبة ومواجهة المخاطر والطاعة العمياء للتنفيذ المباشر في الميدان براً وبحراً وجواً وحيث لا وقت للتوقف للسؤال وللإجابة، والأهمية القصوى لعامل الزمن وحساب الاحتمالات ألاستراتيجيه .. والقيادة المدنية التي تعتمد على التفسير والإيضاح لكل المواقف ، والمشاركة في صناعة القرارات ، والاتصال المباشر بالجمهور وعموم الناس ، والترتيب المدني للحياة ..
وعن المستقبل ، فقد أثبت تأسيس فرقة كشفية مؤخراً بإحدى أبرز مناطق الفساد والجريمة بقيادة جمعية الكشافة السودانية وبإشراف ورعاية  جامعة الرباط الوطني في تحويل حالة هذه المنطقة من تلك التي كانت عليها إلى منطقة تنموية ناهضة بأيدي الكشافين الصغار أن الكشافة قد أصابت هدفها الكبير (نحو غدا أفضل) بالفعل والعمل والتدريب لا مجرد الشعار .. هذا كله ناهيك عن علو قدرها في الملمات والخطوب بيئيةً كانت أو إنسانية .. ومن يرى خدمة الكشافين صغاراً وكباراً للحجيج في مواسم الحج يوقن بأن الأمر الكشفي ليس لهواً ولعباً وإنما تدريب وتربية ، وغير ذلك كثير .. شهد التاريخ على هذا منذ حرب (البوير) وظهور كتاب (Scouting for Boys) لمؤلفه المؤسس الأول للكشافة اللورد (بادن باول) B.P.  في العقد الأول من القرن العشرين .. ثم إلى يومنا هذا ..

فلتكن أيدك الله كشافاً يوماً .. تكن كشافاً دوماً .  
"كعصفور العابور على قضيب الدبق" .. حال البحث العلمي
د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com
"كعصفور العابور على قضيب الدبق" عبارة مستعارة عن (مارون عبود) في كتابه (حبر على ورق) وصف بها من تعلقوا جماعات على لوح الصيد اللزج كناية عن أصحاب الشهادات الكثر يصطفون طابوراً أمام مكتب التوظيف ليفوز منهم واحد فقط ثم يسرح الباقون على وجوههم في الأرض , لا انتفعوا ولا نفعوا ..
هكذا يمكن أن يكون وصف حال (البحث العلمي) في ديارنا وزماننا على الأغلب .. فقد ازداد مد القلم على الأوراق لدى من ظنوا أنفسهم بحاثة وعمال علم ، في حين أنهم على الحقيقة أصحاب غث .. فليلتفت أولئك إلى ماض من الزمان كان فيه رجال يموتون قتلاً أو حتف أنوفهم لتشتعل الدنيا بعدهم بعلوم ومعارف وحقائق لا تموت ..
والأمر على صنفين من بحاثة العلم .. صنف لم يأخذ من البحث العلمي إلا شكله إدعاءً بعد أن ضرب مراراً بطون الأسفار على هيئاتها وهياكلها ، فلم يخرج منها إلا بحمأة وقليل ماء ونزر من علم يسير دون باع له فيه .. وبرغم ذلك نراه قد أغرق اسواق الوراقين بآلاف الكتب والصفحات ، ولكنها خرجت بلا مبتدأ ولا خبر من أجل حياة الناس واجتماعهم وهمومهم ، عمله "كاجترار العنز في القيلولة" كما قال (مارون عبود) أيضاً .. فماذا ينشد من وراء ذلك إلا عرض زائل .. 
لقد كتب (هيجل) G. W. Hiegel وهو من أعظم فلاسفة الجرمان كتباً ذات دسم ثقيل انهال عليه الشراح من كل حدب وصوب .. ولكنه بكل هذا لم يمكنه أن يثبت الدولة (البروسية) في المانيا آنذاك من أن تزول أقدامها وأن تصبح كما اراد لها أن تكون (نهاية التاريخ) .. إلى أن يأتي (ماركس) K. Marx فيقلب هرم (هيجل) نفسه رأسه على عقبه تماماً فيقيم به على يد (لينين)  V. Lenin دولة عظمى جثمت على نصف العالم سبعين سنة ..
أما الصنف الثاني ، فهم ما قل وندر ولكنهم حققوا وقدموا .. وهم ما جرى على أيديهم شرط البحث العلمي ذو الزنة والقيمة والنفع العام .. وهو شرط على ثلاثة وجوه :
أولاً -  أن يتجاوز البحث الاقتصار على ملامسة سطح الموضوع أو القضية بل ينفذ إلى المحاور والنقاطها المركزية والبنيات الأساسية .
ثانياً – أن يقوم البحث اعتماداً على الاستدلالات التحليلية والبنائية لدى الباحث بنسبة لا تقل عن 79% من عموم البحث والباقي احالات توثيقية ، فمجهود الباحث ليس مجرد إطار يضفيه على الموضوع فلا يكون الأمر سوى تبديل وتغيير أزياء وألوان ، وإنما عمل الباحث هو خلق للبحث .
ثالثاً – أن يقدم البحث إضافة معرفية حقيقية وإيجابية جديدة ومعتبرة على مستوى طرح المشكلات وصوغ الفرضيات عليها ثم إثبات الحلول الفاعلة مع أصالة الصياغة العامة للبحث ، أي تطوير المعرفة العلمية لموضوع البحث ..
وهكذا .. فلقد مات الراهب (جونيبر) في رائعة (جسر سان لويس ري) لـ (ثورنتون وايلدر) محكوماً عليه بالحرق مع كتابه الوحيد ، لأنه بحث فيه أن سيرة حياة الناس في الدنيا ليست بمحض أقدار عمي لا يعلمها الله ولا العباد .. وإنما ربما هي قوانين ربانية واعية قاصدة غرست في قلب الوجود ولا مكان فيها للصدفة ، ويمكن لجميع بني آدم معرفتها من غير واسطة من راهب أو سلطان .. كتاب وحيد ولكنه عندما تسربت منه نسخة ما .. زلزلت الأرض تحت سيطرة الآباء ..
فاختر أيها الصديق إما أن تصير بين الناس أثراً ودرة تاج يحسبها الرائي خرزة عين بما قدمت يداك .. أو أن تصير فيهم محض لقب يزهو بحامله عمر قصير (.. كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) فهذا قول رب العالمين ..
وأردد دائماً لقلبي .. لا يغرن نفسك الزبد الكثيف يغطي وجه البحر بياضاً ، فإنه يذهب جفاءً وإن كثر ويبقى اللؤلؤ في أعماقه ساكناً ..   


علي البارودي .. الرجل القابض على الجمر
د. وائل أحمد خليل  الكردي   د. وائل أحمد خليل
wailahkhkordi@gmail.com                           

 شريان نبع من بطون حلفا وما وراءها .. هو رجل من أولئك الرجال الذين تعرفهم فوراً ومنذ أول وهلة فظاهره يخبر عن باطنه دون إخفاء ولا مداراه ودون اختلاق .. مهيب الطلعة .. قوي النظرة في استحياء .. عالي الهمة والهامة .. يمشي سوياً على صراط مستقيم ..   تبدو للعيان مآثره الثرة عندما يبدأ حديثه .. وعندما يصمت تصبك نفحات الوقار وسكون النفس . والرجل إن كان عادته الصمت فلقد حدث عن نفسه كثيراً فعلاً وعملاً إذ كان حياً ، وبعدما مات وجب علينا نحن أن نحدث عنه قولاً وخبرا بعدما انقطع العمل ..
لقد فاق (علي أحمد البارودي) في صفاته مضارب الأمثال من أبناء العجم ذوي البشرة البيضاء فيما وراء البحار نظاماً ونظافة وأمانة ودقة والتزام ، وهكذا المسلم حقاً .. لم يدع يوماً صلاة الفجر في جماعة وتلاوة ورد من القرآن كل صباح .. وله دائماً مشياً قاصداً بوقع الخطى قبل مغيب الشمس .. وبعد العشاء كان ككل الصالحين من السالفين يأوي إلى نومه في الشطر الباكر من الليل ، فجمع بكل ذلك الخير من أطرافه .. كان كل شيء عنده وكل شاردة وواردة بميعاد وساعة .. شغل نفسه بجادة الأمور عن لغو الخبر وأحاديث الناس ..
أما عن أخلاقه فلا أقول أنه غالب هوى نفسه وغلبه .. بل أن الهوى بفعل أدنى المنكرات لم يراود نفسه أصلاً سجية وفطرةً ، فُيرى الصلاح في محياه طبعاً لا تكلفاً .. ولم يذكره ذاكر في حال حياته وبعد موته إلا بالخير ثم الخير .. مات الرجل وكان لابد أن يموت فلقد ضرب المثل وعقد القدوة .. هذا عن حاله مع نفسه .. أما عن حاله مع العمل الرسمي فلقد كان الرجل مديراً للبنك الزراعي بـ (ود مدني) ، ثم ترقى من بعد مشرفاً عاماً على كل أفرع البنك الزراعي بقطاع ولاية الجزيرة  .. ولم يشهد البنك الزراعي ازدهاراً وقوة – والشهادة للقائلين ممن عملوا معه – مثلما شهد في عصره .. فلقد كانت أفرع ذلك القطاع أفضل البنوك عملاً وأقومها منهجاً وأبرزها طهارة في المال والعقار بقيادة الرجل ، خاصة وأنها كانت تتعهد أخطر وأعظم مشاريع الثروة في السودان (مشروع الجزيرة) ..
كم رد(علي البارودي) هدايا وهبات كانت تأتيه سعياً من أصحاب المصالح بحسن نية أو بسوء نية سيان لديه ، فلم يقبل .. كان يقف على رأس عمله ويرعى رعيته بنفسه بحسم وحزم دون ظلم أو بغي فيرتدع كل مرتدع ويحذر كل حاذر ، ويأمن الكريم الخلوق في عمله فإن فوق رؤوسهم القوي الأمين .. وكفى بما خطت يدا مدراء عموم البنك بخطابات الشكر والإشادة شاهدة عليه وبما له من علو يد وفضل ..
أما المغذى من هذا الذكر للرجل .. أن بلادنا كم هي مليئة بمثله ، وأن النماذج المثلى والقدوات العالية لم تنتهي .. فهذا الإنسان هو رجل من زماننا .. كان كما السلف في ثوب عصري .. حكم فيما يليه فعدل والتزم وأجاد بجدارة .. فلا ييئسن الناس بأن زمان الراشدين قد انتهى .. فمن قبل كان (عمر بن عبد العزيز) مثلاً أعلى في العدل والحكمة والورع وقوة القيادة وسياسة الناس على طريق الصلاح ، وهو الذي انقطع الطريق بينه وبين أجيال النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه بسنوات طوال .. ولكنه وفي عامين فقط أزال فيها كل ما ران على قلب الأمة من جور بني أمية ..وأحق الحق .. وفاض بيت المال .. وانعدم كل مسكين وفقير إلا هو .. فكان لابد أن يموت .. كما كان لابد أن يموت (علي البارودي) ليبقى بعدهم المثل والأمل ..

هي عبرة أنا قائلها ، أخرج بها الأمر عن ضميري إلى الناس دون تزكية لأحد على الله إلا بذكر إحسان من ماتوا وأقبروا .. فمتى لنا أن نقدر أمثاله من رجال بلادنا ونسائها ونكتب عن مآثرهم ونحكي لأجيال قادمة تأتي وتمر . 

الخميس، 29 ديسمبر 2016

علامة ترقيم في الإستراتيجية السياسية الراهنة
د. وائل أحمد خليل  الكردي   د. وائل أحمد خليل
wailahkhkordi@gmail.com                           
إن النجاح في لعبة الشطرنج   يعتمد أكثر الشيء أولا - على اتخاذ خانت إستراتيجية على الرقعة .. بمعنى التمركز والسيطرة على المواقع التي تمثل نقاط استشراف عام على الرقعة  وتيسر الوصول إلى الهدف بأسرع واقصر السبل .. وثانياً – على التوزيع المناسب والمتكامل للقطع على هذه الأماكن الإستراتيجية على الرقعة بحسب أدوارها الوظيفية .. وثالثاً – على بذل شيء من التضحية الضرورية ببعض القطع المهمة من أجل فتح الطريق وكشف مواطن الثغرات لدى قوات العدو مما ييسر استغلالها ثم النفاذ منها ..
وليس الرقعة الطبيعية في المعارك الحقيقية على اختلاف كثير مما هو الوضع على رقعة الشطرنج .. فذات المبادئ الإستراتيجية التي يمكن أن ترجح فرصة النصر على رقعة الشطرنج هي بذاتها – على نحو ما – تتمثل في الواقع الحقيقي ..

 فبغض النظر عن الدوافع الحزبية القريبة داخل وحول السودان وراء ما يجري من أحداث وتأويلات ذلك  ..  فان الأمر يبدو على المستوى الاستراتيجي العام والمتقدم للمنطقة كلها انه يسير في اتجاه صحيح..  واقصد بذلك القوة الضاربة الجديدة ليس على المستوى العسكري فحسب وإنما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وهي قوة تحالف المثلث الكبير السعودية وتركيا والسودان (وإن لم يكن بتعاقد رسمي مباشر ومعلن إلا جزئياً) ..  هذا التحالف يشكل مركز القلب جغرافيا وبشريا واقتصاديا في المنطقة والذي سيجعل من السهولة السيطرة والتحكم حتى في التوجهات السياسية للدول الكبرى ومجلس الأمن..  
لا ينبغي أن نضيق نظرتنا للأمور في حدود المشكلات الداخلية المتفرقة مثل الفساد والتمرد والمعارضة وما نحو ذلك..  فربما أصبحت  تلك من الأمور التابعة للازمة الإستراتيجية الشاملة للعالم واجتهادات السبق نحو احتلال خانات سياسية دولية تقود دفة دول المنطقة إلى موازين قوى دولية جديدة ، ولا يجدي قطع الذنب والرأس حي..  ثم لا يجب أن ننسى ضلع رابع لهذا التحالف المثلث على درجة عالية من الخطورة  ولا يظهر لكثير من الناس ولكنه حاضر بقوة في مشروع التمكين للسيادة الجديدة للكتلة الأفريقية الأسيوية في كفة الميزان الدولي للصراع..  هذا الضلع هو الصين..  والتي ظهر دورها الخطير ليس كما هو في السابق على المستوى الاقتصادي كما اعتدنا أن نراها دائما..  وإنما على المستوى السياسي داخليا وخارجيا - منذ مقتل (جون قرانق) بيد من هذه الصين - والى الآن..  وعلى هذا الأساس حتى فصل الجنوب ينبغي إعادة النظر إليه بصورة أخرى..  فما تكشف عنه الأحداث الراهنة أن الجنوب كان يؤكل في الماضي كوجبة غير ناضجة السواء سياسيا وعسكرياً من جملة الوجبة العامة للقصعة السودانية  بتداعي أكلة الدول الكبرى إليها ..  والآن أيضا يعاد طهيه كوجبة ولكنها هذه المرة ناضجة وببهارات مختلفة ولكي يبدو الأمر كسب وضم لأراضي جديدة على الرقعة الجغرافية الإستراتيجية للسودان حتى لو بدا في الظاهر أنها منفصلة سياسيا واجتماعيا فهذا سيكون أقوى لمصلحة التحالف الثلاثي ذا الضلع الرابع من أن تكون السودان والجنوب دولة واحدة كما في السابق..  
ينبغي أن لا ننشغل بمشكلة المعايش اليومية ونعظم من شانها كهم أوحد للمواطن في بلادنا ونغفل الايدولوجيا  الجديدة في التخطيط الشامل للمنطقة والعالم   والتي من قد تتطلب نوعاً من التحقيق للمبدأ الثالث في لعبة الشطرنج .. ولكن بما لا يخل مطلقاً بحرمة دم الإنسان ، وبما لا يخترق حدود الله في بسط السياسة الشرعية .. تلك هي الموازنة الصعبة..
عالم المثل المفارق ..

د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

تلك هي العبارة التي كانت ترددها زوجتي (رشا البارودي) كلما مررنا بعدد من الاعلانات التجارية المنتصبة على أطراف الشوارع .. (عالم المثل المفارق .. هنا في بلادنا) ..
وقصة هذه العبارة وما ورائها من حقيقة ، أن (أفلاطون) Plato  الأعظم شهرة في تاريخ الفلسفة والفكر العالمي ، كان قد بنى مجمل تصوره للكون والإنسان والسياسة والمجتمع على افتراض عالمين بديعين .. أحدهما عالم الوقائع الحسية المادية والجزئية المتفرقة والذي نعيش فيه على الأرض وهو العالم الأخس أو الأدنى قيمة .. وعالم آخر عظيم هو عالم المثل المفارق الذي هو عالم عقلي فيه حقائق وكليات الأشياء ، هو عالم الخير المطلق والحق المطلق والجمال المطلق بلا حدود وبلا وصف .. وعالمنا الأرضي ما هو إلا صورة باهتة ناقصة التفاصيل لهذا العالم العظيم المفارق ، بنحو ذلك الكهف الذي افترض (أفلاطون) أن أناس ولدوا وعاشوا عمرهم مقيدي الأيدي والأرجل والأعناق باتجاه حائطه وخلفهم بابه لا يلتفتون إليه ولا يقدرون ، ذلك أنهم لا يرون فقط إلا خيالات وظلال الأجسام الأصلية في الخارج عندما تعكسها أشعة الشمس على جدار الكهف فيحسبون أن تلك الخيالات والظلال هي كل ما هنالك من حقيقة في العالم .. وعندما يكسرون القيد ويخرجون حينها يدركون الفرق بين الحقيقة والخيال ..
ولعل الحال - بحسب مقولة (رشا البارودي) – أن التناقض بين العالمين قد وقع على الحقيقة في حيز صغير من الكرة الأرضية .. هنا في البلد ..  فعندما يسير الراكب أو الراجل في الطرقات ويرفع رأسه قليلاً ليرى كل ذلك الزهو والأبهة والروعة والأناقة والنقاء والنظافة لصور البلد في لوحات الإعلانات التجارية أياً كان موضوعها .. ثم ما أن يخفض  هذا السائر رأسه وبصره نحو أرض الشارع الواقع تصعقه كل تلك الأهوال من أكداس النفايات والأوساخ ، والطرقات التي أبلت عزائمها أمطار الخريف .. فيعلم أن ما في تلك الصور واللافتات إن هو إلا عالم المثل المفارق ومحض خيال وظلال .. وعندما يشاهد ذي العينين هؤلاء الأشخاص اللامعين المنعمين المطرزين بالحلي والثياب القشيبة وعليهم دلالات الحياة المترفة بإعلانات التلفاز ، يحسب أن البلد لا شقاء فيها ولا عنت .. ولكن سرعان ما يلطمه الواقع بمشهد أبناء الشمس والشحاذين والبؤساء في أسواق المدن وزقائقها  كبئر معطلة دون قصر مشيد ..
لقد حاول الإعلام - كعادته – أن يرسم صور زائفة لواقع مغاير جداً لما عليه تلك الصور .. حتى يظن من يتصدع رأسه من غلبة الغناء والطرب على برامج قنوات البلد الفضائية الغثة أن الشعب كله يغني ويطرب ، ولا يرى مسحات الحزن ولوعات الأسى وغوائر الدموع الجافة على وجون رجالها ونسائها وأطفالها .. وحالهم كلهم الستر ..

وحتى الاعلام نفسه واقعه مغاير .. فمن صنع لذاته أمام الناس صورة أنه الحامل لهمومهم والمحاكم لمسئوليهم وحكامهم والمتفقد لمواطن السقط والزلل .. إنما هي مجرد صورة للشخص عينه وقد أثرى هو نفسه بتقربه خفية وزلفى لأولي الأمر من وراء حجب مهتوكة لم تستر عن فطنة الناس عوراته وطفح الثراء المحدث على محياه بغير حق .. وحتى يبلغ به المدى ليفتح قناة جديدة باسم البلد ليفسد ما بقي من قليل لم يفسد بعد .. ولكن الإنسان على نفسه بصيرا ولو ألقى معاذيره .. ذلك قانون الله باق في الخلق .. ويوم الدينونة تتطاير الصحف .. وإنه ديَن البلد لا بد أن يوفي من الأعناق لو يعلمون ولو طال الزمن .. فقد روعت الصدمات القلوب عند زيغ الخطو بالنقلة الكارثية من مشاهدة عالم افتراضي مثالي إلى معاينة واقع أليم مرير .. ولله الحمد .
حيث ضحايا الصباح هم جلادو المساء ..
                 د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

كلنا يعلم أن الديانة المسيحية منذ مطلع عهودها على يد السيد المسيح عليه السلام هي ديانة التسامح العالي .. (فمن ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضاً .. ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً .. ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين).  ثم جاء الإسلام معضداً ومؤيداً لهذا التسامح العالي .. (ادفع بالتي هي أحسن .. والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس .. لا إكراه في الدين .. ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصا ..) والكثير الكثير من التعاليم الربانية بإفشاء التسامح والسلام بين الناس جميعاً ..
لذا كان لابد أن يكون هناك تفسير آخر لتلك الأحداث الجسيمة والآلام التي تحدث عنها "إكتور أباد فاسيولينسي" H. A. faciolince في روايته الواقعية (النسيان) والتي كتبت بالأسبانية وذكر بخط صغير على مطلع صفحة العنوان (انتقامي الوحيد .. أن أقول الحقيقة)  فقد قال فيها ما نصه (إذا صح ما لاقاه شهداء المسيحية في سنواتها الأولى من شهادة بطولية عندما تقبلوا الموت على أيدي الرومان دفاعاً عن الصليب وعن فكرة الإله الواحد في مواجهة الآلهة الوثنية المتعددة ، ورغم تقبلهم الاستشهاد بألسنة النيران أو أنياب الأسود أو حد السيف بنفس غير مبالية ... فإن بطولتهم ... لم تكن أعظم أو أشد ألماً من بطولة السكان الأصليين الذين استشهدوا على أيدي ممثلي الإيمان المسيحي . فلم تكن قسوة المسيحيين ووحشيتهم في القارة الأمريكية بأقل مما ارتكب الرومان في حق المسيحيين في أوروبا القديمة ... باسم نفس الصليب الذي تكبدوا الشهادة من أجله ، أقدم الغزاة المسيحيون على قتل بشر آخرين ... سعياً لإبادة الشر المتمثل في مجتمعات تؤمن بلون آخر من ألوان العقائد الأخروية ... وكل هذا كي يفرضوا عن طريق الكراهية ما يفترض به أن يكون دين حب الأخر والرب الرحوم والتآخي بين الناس جميعاً ... وفي تلك الرقصة ، رقصة الموت ، حيث ضحايا الصباح هم جلادو المساء ..)  وربما استند في هذا الذي ذكره بالرواية – وهو الليبرالي الثائر ضد التقاليد الكاثوليكية – على ورد نصه في (انجيل متى 35,10) (لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً ، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنه ضد حماتها ..) كذلك ربما استند على نفس النص اولئك الذين صاروا هم جلادو المساء بعد أن كانوا ضحايا الصباح ، بقتل وتعذيب من خالفهم العقائد والمذاهب ..

ولعلي إذا عدت بذاكرتي نحو عهد الصبا فيما مضى من الزمن حيث كنا تلاميذ بكلية (كمبوني) Commboni الخرطوم .. كيف كان الأب الإيطالي (جرومينو) Groumino ناظر الكلية – وهو من جملة بابوات طليان كثر في ذلك الوقت - يتلوا باللاتينية في طابور الصباح الصلوات الواجبة من (العهد الجديد) بخشوع وتضرع لله ، لدرجة قد يظن معها من يأتي عابراً عند الباب ويرى ذلك المشهد أن الملائكة تتنزل عليه في ذلك المكان وبتلك اللحظات .. ولكنه كان سرعان ما يمحو ذلك الخشوع بإسدال ستار عليه من العنف والقسوة البالغة في معاقبة من يأتي من الفتية دقيقة واحدة بعد بدء الصلوات .. وكان ذلك بأن يستدعيه إلى مكتبه ثم ينهال عليه بجلدات ساخنات ملهبة من سوط غليظ يختاره من بين ترسانة سياط معلقة كلها على جدار مكتبه الأنيق والمهيب أيضاُ .. وكم كانت تمر تلك اللحظات مرعبة تدمي القلب على الفتى وهو ينتظر فيها متى ينتهي سير الطوابير نحو الفصول ويرجع الأب (جرومينو) إلى مكتبه لتوقيع العقاب الأليم عليه .. اليوم فقط وجدت تفسيراً لكل ذلك .. بأن المشكلة ليست في تعاليم الدين ، وإنما تكمن في ذات الإنسان الذي يتأول هذه التعاليم مرة .. ويلتزم بها كما هي مرة أخرى .. ويضرب عنها صفحاً مرة ثالثة .. إن الإنسان هو المذنب دائماً وليس النصوص والآيات .. هو من في قلبه زيغ نحو ما يطمع فيه ويملئ به ما فرغ من جراب شخصيته .. الإنسان هو من إذا مسه الشر جذوعا وإذا مسه الخير منوعا .. الإنسان هو دائماً من يبرر لنفسه سوء نفسه وفساد قصده باقتطاع نصوص وآيات بعينها من أصولها في الكتاب فيجعلها (عضين) ويعيد رصها وترتيبها بحسب هواه لتبين في مجمل الأمر سنداً وحجة لضلاله .. حقاً  (إن الإنسان ليطغى ..) فلا ينبغي بعد هذا أن نخطئ الهدف (فالتختة بارزة) كما يقول العسكريون في بلادي .. والإنسان يقف هناك شاهداً  بجرمه على مدى التاريخ ..      
أي عدد على ما لا نهاية .. يساوي صفر
د. وائل أحمد خليل  الكردي   د. وائل أحمد خليل
wailahkhkordi@gmail.com                           
بالأمس القريب استوقفتني قصة قصيرة جداً كتبها في بضعة وريقات معدودات عملاق الأدب الروسي (أنطون تشيخوف) Anton Chekhov ..قصة بعنوان (الرهان) .. لقد بدت هذه القصة القصيرة هي نوع من الكبسولات الدوائية التي تبدو أصغر ما تكون في حجمها .. ولكنها متى ما ولجت إلى جوف الإنسان سرعان ما تنفجر فتحدث أثراً عظيماً لا يتصور من مدى حجمها الضئيل في الخارج ..
هكذا كانت قصة (الرهان).. والتي تدور أحداثها في رهان بين صيرفي ثري ومحام شاب متواضع الحال .. فقد نشأ خلاف بينهما حول أيهما أكثر أخلاقية ورحمة (حكم الإعدام) أم (السجن المؤبد) .. وكان المحامي الشاب يقول بالمؤبد ، أما الصيرفي فيقول بالإعدام .. فقام الرهان بينهما على أن يمكث المحامي الشاب خمسة عشر عاماً في حبس إنفرادي دون انقطاع ، مقابل أن يدفع له الصيرفي الثري مبلغ مليوني (روبل) روسي .. فالصيرفي إذن قد راهن بمليوني روبل أن الشاب لن يحتمل في الحبس الانفرادي أكثر من بضعة أشهر .. بينما راهن المحامي الشاب بحريته لخمسة عشر سنة لا تنقص دقيقة واحدة .. وبدأ التنفيذ في الليلة المتفق عليها .. ودخل الشاب الحبس الانفرادي بمحض إرادته في قبو فيلا الصيرفي وليس من حق له في دنياه الجديدة إلا كل ما يريده من الكتب وفي أي موضوع ، وآلة موسيقية، ورسائل يرسلها دون أن يكون من حقه تلقي رد عليها .. مرت السنوات ، وقرأ الشاب آلاف الكتب من قصص وروايات وعلوم وآداب وفلسفة وتاريخ .. ثم انتهى إلى الكتب الروحية واللاهوتية الدينية .. كل هذا بعد أن تعلم بنفسه في سجنه ستة لغات مختلفة قرأ بها كل تلك الآلاف من الكتب وعاش معها مئات الحيوات والحضارات والشخوص .. ولكنه بعد أن انتهى إلى الإغراق في الكتب الدينية والروحية بلغ منتهى القناعة لديه بالعالم أنه يساوي صفراً أمام الموت وبطلان الحياة الدنيوية في مقابل الخلود الأبدي.. كتب المحامي هذه النتيجة في رسالة مطولة إلى سجانه واحتقر له فيها الدنيا وكل متعلقاتها حتى تلك الاثنين مليون روبل الموعودة .. وصلت هذه الرسالة إلى السجان بعد أن لم يتبقى على نهاية مدة حبسه سوى دقائق ، وفي الوقت الذي انتاب الصيرفي فيه كل اليأس من أن يربح الرهان لاسيما وأنه قد خسر في إحدى مغامراته المالية كل ثروته ولم يتبقى منها سوى الاثنين مليون روبل قيد الرهان .. ولكن بعد أن بلغ به اليأس حداً إلى التفكير الجدي في قتل سجينه ، استوقفته العبارات الأخيرة في رسالته أنه قد قرر التخلي عن الرهان وخسارة الاثنين مليون روبل وأنه عندما تصله الرسالة سيكون قد غادر القبو بعد كل هذه السنوات من الحبس الانفرادي الاختياري إمعاناً في احتقار السجان والدنيا والمال وأنه لا يوجد ما يستحق ..
ولنا أن نستفيد من هذه القصة ثلاثة قيم أساسية :
القيمة الأولى - أن العمر الحقيقي للإنسان أمام الموت هو أن (أي عدد على لا نهاية يساوي صفر .. فعدد أيام عمر الفرد من الناس لا تساوي قيمة حقيقية إذا ما قيست بصيغة السؤال (كم ؟) .. ولكن الحساب يبدأ إذا قسنا بصيغة (كيف؟) .. فكيف فعل بعمره ، وماذا قدم ، وماذا ترك .. والرابح هو من تجاوز الزمن في عمره وعدد الأيام وحواجز الأمكنة والأشياء القريبة .. وإليك المثل الأعظم في سيد الخلق (محمد) صل الله عليه وسلم ، عاش فقط ثلاثة وستون عاماً ولكن عمره أمتد إلى مئات السنين منذ أن كان وحتى الآن ، بل وسيظل يمتد إلى قيام الساعة .. وكذلك يكون كل من ترك خلفه بعد مماته ما لا ينقطع به عمله ..
ولعل النعمة المغبون فيها كثير من الناس (الفراغ) هي فترات في عمر الإنسان يخلو فيها من كل شغل أو إنشغال .. فإما أن يضيع هذه الفترات ، وإما أن يستثمرها فيكسب بها أعماراً إلى عمره ، فهي ليست فراغاً مطلقاً وإنما توقف للحظات قد تطول وقد تقصر .. هي فرصة يأخذها الإنسان طوعاً أو قصراً .. وربما لا يأخذها أبداً .. فيجعل منها ميدان لمزيد من التعلم وبناء الذات والعطاء المجرد عن كل أجر إلا أجر الله تعالى ..
والقيمة الثانية – فهي المعنى الكبير للكتاب .. فمعظمنا كان يري (الكتاب) على وظيفته كمادة للعلم والمعرفة ، يستفيد منه دروسه وخطبه وأوراقه وكتب جديدة ينتجها ويصدرها للناس .. وحسب . ولكن القيمة الجديدة هنا هو أن (يعيش) القارئ أنماطاً واسعة من الحياة .. ليس فقط يتعلم بل يعيش .. يعيش عادات ومعتقدات وعلاقات آلاف البشر الذين لم يعرفهم في حياته أبداً ..

والقيمة الثالثة – فإن الرجل إذا أصدر قراراً من فيهِ بشأن نفسه ، فعليه أن يمضيه .. وأن لا يكون في ذلك من شيء ذا اعتبار عنده في التراجع  إلا أن يظن أنه يصيب من حدود الله ما حرم على عباده .. ونحن هنا نعيش بأيام نحتاج فيها من القرارات أصعبها دون أهونها .. وأن لا نرخي العزائم في العض على أصول الشجر .. وأن يظل التحدي قائماً ..     
أي عدد على ما لا نهاية .. يساوي صفر
د. وائل أحمد خليل  الكردي   د. وائل أحمد خليل
wailahkhkordi@gmail.com                           
بالأمس القريب استوقفتني قصة قصيرة جداً كتبها في بضعة وريقات معدودات عملاق الأدب الروسي (أنطون تشيخوف) Anton Chekhov ..قصة بعنوان (الرهان) .. لقد بدت هذه القصة القصيرة هي نوع من الكبسولات الدوائية التي تبدو أصغر ما تكون في حجمها .. ولكنها متى ما ولجت إلى جوف الإنسان سرعان ما تنفجر فتحدث أثراً عظيماً لا يتصور من مدى حجمها الضئيل في الخارج ..
هكذا كانت قصة (الرهان).. والتي تدور أحداثها في رهان بين صيرفي ثري ومحام شاب متواضع الحال .. فقد نشأ خلاف بينهما حول أيهما أكثر أخلاقية ورحمة (حكم الإعدام) أم (السجن المؤبد) .. وكان المحامي الشاب يقول بالمؤبد ، أما الصيرفي فيقول بالإعدام .. فقام الرهان بينهما على أن يمكث المحامي الشاب خمسة عشر عاماً في حبس إنفرادي دون انقطاع ، مقابل أن يدفع له الصيرفي الثري مبلغ مليوني (روبل) روسي .. فالصيرفي إذن قد راهن بمليوني روبل أن الشاب لن يحتمل في الحبس الانفرادي أكثر من بضعة أشهر .. بينما راهن المحامي الشاب بحريته لخمسة عشر سنة لا تنقص دقيقة واحدة .. وبدأ التنفيذ في الليلة المتفق عليها .. ودخل الشاب الحبس الانفرادي بمحض إرادته في قبو فيلا الصيرفي وليس من حق له في دنياه الجديدة إلا كل ما يريده من الكتب وفي أي موضوع ، وآلة موسيقية، ورسائل يرسلها دون أن يكون من حقه تلقي رد عليها .. مرت السنوات ، وقرأ الشاب آلاف الكتب من قصص وروايات وعلوم وآداب وفلسفة وتاريخ .. ثم انتهى إلى الكتب الروحية واللاهوتية الدينية .. كل هذا بعد أن تعلم بنفسه في سجنه ستة لغات مختلفة قرأ بها كل تلك الآلاف من الكتب وعاش معها مئات الحيوات والحضارات والشخوص .. ولكنه بعد أن انتهى إلى الإغراق في الكتب الدينية والروحية بلغ منتهى القناعة لديه بالعالم أنه يساوي صفراً أمام الموت وبطلان الحياة الدنيوية في مقابل الخلود الأبدي.. كتب المحامي هذه النتيجة في رسالة مطولة إلى سجانه واحتقر له فيها الدنيا وكل متعلقاتها حتى تلك الاثنين مليون روبل الموعودة .. وصلت هذه الرسالة إلى السجان بعد أن لم يتبقى على نهاية مدة حبسه سوى دقائق ، وفي الوقت الذي انتاب الصيرفي فيه كل اليأس من أن يربح الرهان لاسيما وأنه قد خسر في إحدى مغامراته المالية كل ثروته ولم يتبقى منها سوى الاثنين مليون روبل قيد الرهان .. ولكن بعد أن بلغ به اليأس حداً إلى التفكير الجدي في قتل سجينه ، استوقفته العبارات الأخيرة في رسالته أنه قد قرر التخلي عن الرهان وخسارة الاثنين مليون روبل وأنه عندما تصله الرسالة سيكون قد غادر القبو بعد كل هذه السنوات من الحبس الانفرادي الاختياري إمعاناً في احتقار السجان والدنيا والمال وأنه لا يوجد ما يستحق ..
ولنا أن نستفيد من هذه القصة ثلاثة قيم أساسية :
القيمة الأولى - أن العمر الحقيقي للإنسان أمام الموت هو أن (أي عدد على لا نهاية يساوي صفر .. فعدد أيام عمر الفرد من الناس لا تساوي قيمة حقيقية إذا ما قيست بصيغة السؤال (كم ؟) .. ولكن الحساب يبدأ إذا قسنا بصيغة (كيف؟) .. فكيف فعل بعمره ، وماذا قدم ، وماذا ترك .. والرابح هو من تجاوز الزمن في عمره وعدد الأيام وحواجز الأمكنة والأشياء القريبة .. وإليك المثل الأعظم في سيد الخلق (محمد) صل الله عليه وسلم ، عاش فقط ثلاثة وستون عاماً ولكن عمره أمتد إلى مئات السنين منذ أن كان وحتى الآن ، بل وسيظل يمتد إلى قيام الساعة .. وكذلك يكون كل من ترك خلفه بعد مماته ما لا ينقطع به عمله ..
ولعل النعمة المغبون فيها كثير من الناس (الفراغ) هي فترات في عمر الإنسان يخلو فيها من كل شغل أو إنشغال .. فإما أن يضيع هذه الفترات ، وإما أن يستثمرها فيكسب بها أعماراً إلى عمره ، فهي ليست فراغاً مطلقاً وإنما توقف للحظات قد تطول وقد تقصر .. هي فرصة يأخذها الإنسان طوعاً أو قصراً .. وربما لا يأخذها أبداً .. فيجعل منها ميدان لمزيد من التعلم وبناء الذات والعطاء المجرد عن كل أجر إلا أجر الله تعالى ..
والقيمة الثانية – فهي المعنى الكبير للكتاب .. فمعظمنا كان يري (الكتاب) على وظيفته كمادة للعلم والمعرفة ، يستفيد منه دروسه وخطبه وأوراقه وكتب جديدة ينتجها ويصدرها للناس .. وحسب . ولكن القيمة الجديدة هنا هو أن (يعيش) القارئ أنماطاً واسعة من الحياة .. ليس فقط يتعلم بل يعيش .. يعيش عادات ومعتقدات وعلاقات آلاف البشر الذين لم يعرفهم في حياته أبداً ..

والقيمة الثالثة – فإن الرجل إذا أصدر قراراً من فيهِ بشأن نفسه ، فعليه أن يمضيه .. وأن لا يكون في ذلك من شيء ذا اعتبار عنده في التراجع  إلا أن يظن أنه يصيب من حدود الله ما حرم على عباده .. ونحن هنا نعيش بأيام نحتاج فيها من القرارات أصعبها دون أهونها .. وأن لا نرخي العزائم في العض على أصول الشجر .. وأن يظل التحدي قائماً ..