موازين النهوض..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
في خطبة للزعيم الصيني (ماوتسي تونغ) في العام 1948م قال:
(ففي الريف ينبغي للأجراء الزراعيين والفلاحين الفقراء والفلاحين المتوسطين والشغيلة الآخرين المتحدين جميعاً... وليس للفلاحين الفقراء والاجراء الزراعيين وحدهم أن يستولوا على الأنهار والجبال ويسودوها. في مجمل البلاد ينبغي للعمال والفلاحين - بمن فيهم الفلاحون الأغنياء الجدد – والحرفيين والتجار المستقلين الرأسماليين المتوسطين والصغار... والطلاب والمدرسين والأساتذة والمثقفين بصورة عامة وأفراد المهن الحرة والاقطاعيين المستنيرين والموظفين بصورة عامة والأقليات القومية المظلومة... جميعاً تحت قيادة الطبقة العاملة – وليس لأقلية من الشعب فقط – أن يستولوا على الأنهار والجبال ويسودوها)..
انتهى كلام (ماوتسي تونغ) وبدأ السؤال الكبير.. لماذا تنهار المجتمعات ذات الثروات الطبيعية الغزيرة ؟ .. ولماذا تنهض مجتمعات لا تحمل في تكويناتها الطبيعية وبيئاتها أي ثروات ومقومات عينية للنهضة؟.. المشاكل تكشف عن الحلول عليها في باطنها (فإن مع العسر يسرا)، فقط يحتاج الأمر إلى تحليل للظاهرة موضوع المشكلة بصورة كلية شاملة.. فلكم شاهدنا كيف أن أمم كان بالغ همها اخراج عطاء الإنسان فيها من ساعده وجبينه، فضربوا بمعاولهم وازاميلهم في باطن الحجر وظاهره ودقوا مساميرهم وربطوا براغيهم في الواح ومكائن وجدر هذه الأمم فنهضت دون السؤال عن رؤوس أموالهم التي خلت منها البنوك، ودون السؤال عن ثروات تفجرت من تحت أرجلهم انهاراً بغير حصر ولا حساب.. فنهضت تلكم الأمم وعاش الإنسان فيها عيشاً كريماً لنفسه وللآخرين.. ولكم عرفنا عن أمم تكدست رؤوس الأموال في محافظها وأنبتت الارض من حولهم من كل خير والسماء أُرسلت عليهم مدراراً فباتوا في رخاء ولكنه رخاء مهدد في كل لحظة بالزوال بعد أن تدير الحياة لهم ظهر المجن اذا ما تأذنت بالخطب وتبدل الحال.. وما ذاك لهم إلا لأن إنسانهم نشأ وعاش مستهلكاً لا منتجاً، تعلموا كيف يملئون رؤوسهم بالعلوم كصناديق مغلقة لا يخرج منها ضوء ولا يصدر عنها صوت صرير، فتليفت علومهم داخل صناديقها وتلفت..
عندما نرى بلاداً مثل (المانيا) التي تمزقت عقب الحرب قد صارت فيما بعد في مقدمة العالم الصناعي وهي لم تكن تملك ثروات في الأرض ولا موارد ولا حتى كفاية من رجال أشداء.. وعندما نرى بلاداً مثل (كوبا) قد خنقها الحصار المضروب حولها في كل الجهات سنوات طوال، ولكنك إن دخلتها وجدت أهلها اعزة في أرضهم أصحاب عيش رغيد.. وعندما نرى بلاداً بعكس تلك تملك الذهب من كل لون، ذهباً أصفراً (ذهب) وذهباً أسوداً (نفط) وذهباً اخضراً (زرع وضرع) وذهباً ازرقاً (ماء عذب)، ولكن يحيا أهلها شظف العيش وضنكاً مريراً بلا انتهاء.. لعلمنا أن العامل الفاعل والحاسم في نهضة وتطوير الشعوب هو هذا الإنسان وأنه هو الاستثمار الحق، ولعلمنا أيضاً أن الصحيح هو ما يلي:
أولاً، تحويل الشعوب إلى شعوب عمّالية في المقام الأول.. وصفة العمالية هذه تشمل كل زارع وصانع وتقني.
ثانياً، تقليص حجم كتلة التكنوقراط من حملة الشهادات الأكاديمية والخبرات النظرية إلى حد الضرورة القصوى التي تجعل منهم كوادر انتاج وتطوير وتسد بهم الحاجة إلى الخبرات الإدارية العليا.. وحد الضرورة هذا يجعل من فئة حاملي الشهادات الجامعية (ناهيك عن فوق الجامعية) النسبة الأقل جداً من جملة عموم المجتمع في مقابل أصحاب الحرف.
ثالثاً، تغيير الثقافة المجتمعية غير الحقيقية في أن المتعلمين مدرسياً وجامعياً هم صفوة المجتمع وشرفه وواجهته المشرقة.. في حين أن الشرف والفخار الحقيقي هو في تلك اليد العاملة الصانعة الزارعة الحاسبة، والكل في الشرف سواء.
رابعاً، تحويل المزارع والحقول وبوابات المصانع نفسها إلى نقاط تجارة للمنتجات لكي يصبح القطاع العام هو المُضارب الرأسمالي الفاعل في أسواق البلاد مما يحقق الوفرة السلعية بأذهد أسعار.
خامساً، عدم إلغاء الملكية الإنتاجية الخاصة وإنما تقليصها رأسياً وليس أفقياً، أي ليس تقليص أعداد الملكية والمالكين وإنما تحديد نوع الملكية وشروطها وسقف فائدة المالك فيها ابتداءً باعتبار أن الموارد ومواد الانتاج الخام خلقها الله عامة فهي ملك الجميع وليست حكراً مخصوصاً.. وهذا يعني أن المالك يملك المشروع الإنتاجي بنسبة ما فيه من آليات ومنشآت واجراءات تخطيطية وليس ملكية مطلقة من حيث المواد والمواد الخام.
سادساً، استبدال التعليم الأكاديمي في أغلب الجامعات بطرق (تدريب) لكوادر أعمال.
سابعاً، جعل النهضة الحقيقية للمجتمع قائمة على الموارد المستديمة (الزراعة والماشية وثروات المياه)، ولتعبر من دونها تلك الموارد الساكنة المحدودة بوقت انتهاء تنضب فيه (نفط ومعادن) كزيادة في الخير.. ألم نرى كيف أن الله تعالى يوجهنا دوماً في القرآن العظيم نحو خيرات الأرض المتجددة وكيف أن الأرض تظل هامدة حبلى بما فيها حتى ينزل عليها الماء فتهتز وتربوا وتنبت من كل زوج بهيج، وأن البحار والأنهار كم فيها من اللحم الطري والحلى التي تنتجها كائنات الماء بلا انقطاع..
إن من أهم التجارب الحاضرة للتنمية المستقبلية في اتجاها السليم ما تم في إحدى دول الخليج العربي ويتم راهناً، فقد توسعت توسعاً كبيراً في إنشاء الكليات التقنية لتستوعب العدد الأكبر من الكوادر الوطنية الشابة بها ذكوراً وإناثاً فتقيم بهم مجتمعاً انتاجياً.. والملفت للانتباه والاستحسان في هذه الكليات التقنية هو النظم الدقيقة الصارمة التي تدار بها بدءاً من الزي الرسمي بها طلاباً وأساتذة وإلى نظم التدريب والتقييم، الأمر الذي من شأنه أن يزرع في روع هؤلاء الكوادر تعظيم شعيرة العمل.. إن هذا التوجه نحو التعليم الفني والتدريب التقني الحرفي قمين بتحويل كبير يحدث في بنية المجتمع العملية والثقافية بل وحتى التربوية في تنشئة الأجيال الجديدة.
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
في خطبة للزعيم الصيني (ماوتسي تونغ) في العام 1948م قال:
(ففي الريف ينبغي للأجراء الزراعيين والفلاحين الفقراء والفلاحين المتوسطين والشغيلة الآخرين المتحدين جميعاً... وليس للفلاحين الفقراء والاجراء الزراعيين وحدهم أن يستولوا على الأنهار والجبال ويسودوها. في مجمل البلاد ينبغي للعمال والفلاحين - بمن فيهم الفلاحون الأغنياء الجدد – والحرفيين والتجار المستقلين الرأسماليين المتوسطين والصغار... والطلاب والمدرسين والأساتذة والمثقفين بصورة عامة وأفراد المهن الحرة والاقطاعيين المستنيرين والموظفين بصورة عامة والأقليات القومية المظلومة... جميعاً تحت قيادة الطبقة العاملة – وليس لأقلية من الشعب فقط – أن يستولوا على الأنهار والجبال ويسودوها)..
انتهى كلام (ماوتسي تونغ) وبدأ السؤال الكبير.. لماذا تنهار المجتمعات ذات الثروات الطبيعية الغزيرة ؟ .. ولماذا تنهض مجتمعات لا تحمل في تكويناتها الطبيعية وبيئاتها أي ثروات ومقومات عينية للنهضة؟.. المشاكل تكشف عن الحلول عليها في باطنها (فإن مع العسر يسرا)، فقط يحتاج الأمر إلى تحليل للظاهرة موضوع المشكلة بصورة كلية شاملة.. فلكم شاهدنا كيف أن أمم كان بالغ همها اخراج عطاء الإنسان فيها من ساعده وجبينه، فضربوا بمعاولهم وازاميلهم في باطن الحجر وظاهره ودقوا مساميرهم وربطوا براغيهم في الواح ومكائن وجدر هذه الأمم فنهضت دون السؤال عن رؤوس أموالهم التي خلت منها البنوك، ودون السؤال عن ثروات تفجرت من تحت أرجلهم انهاراً بغير حصر ولا حساب.. فنهضت تلكم الأمم وعاش الإنسان فيها عيشاً كريماً لنفسه وللآخرين.. ولكم عرفنا عن أمم تكدست رؤوس الأموال في محافظها وأنبتت الارض من حولهم من كل خير والسماء أُرسلت عليهم مدراراً فباتوا في رخاء ولكنه رخاء مهدد في كل لحظة بالزوال بعد أن تدير الحياة لهم ظهر المجن اذا ما تأذنت بالخطب وتبدل الحال.. وما ذاك لهم إلا لأن إنسانهم نشأ وعاش مستهلكاً لا منتجاً، تعلموا كيف يملئون رؤوسهم بالعلوم كصناديق مغلقة لا يخرج منها ضوء ولا يصدر عنها صوت صرير، فتليفت علومهم داخل صناديقها وتلفت..
عندما نرى بلاداً مثل (المانيا) التي تمزقت عقب الحرب قد صارت فيما بعد في مقدمة العالم الصناعي وهي لم تكن تملك ثروات في الأرض ولا موارد ولا حتى كفاية من رجال أشداء.. وعندما نرى بلاداً مثل (كوبا) قد خنقها الحصار المضروب حولها في كل الجهات سنوات طوال، ولكنك إن دخلتها وجدت أهلها اعزة في أرضهم أصحاب عيش رغيد.. وعندما نرى بلاداً بعكس تلك تملك الذهب من كل لون، ذهباً أصفراً (ذهب) وذهباً أسوداً (نفط) وذهباً اخضراً (زرع وضرع) وذهباً ازرقاً (ماء عذب)، ولكن يحيا أهلها شظف العيش وضنكاً مريراً بلا انتهاء.. لعلمنا أن العامل الفاعل والحاسم في نهضة وتطوير الشعوب هو هذا الإنسان وأنه هو الاستثمار الحق، ولعلمنا أيضاً أن الصحيح هو ما يلي:
أولاً، تحويل الشعوب إلى شعوب عمّالية في المقام الأول.. وصفة العمالية هذه تشمل كل زارع وصانع وتقني.
ثانياً، تقليص حجم كتلة التكنوقراط من حملة الشهادات الأكاديمية والخبرات النظرية إلى حد الضرورة القصوى التي تجعل منهم كوادر انتاج وتطوير وتسد بهم الحاجة إلى الخبرات الإدارية العليا.. وحد الضرورة هذا يجعل من فئة حاملي الشهادات الجامعية (ناهيك عن فوق الجامعية) النسبة الأقل جداً من جملة عموم المجتمع في مقابل أصحاب الحرف.
ثالثاً، تغيير الثقافة المجتمعية غير الحقيقية في أن المتعلمين مدرسياً وجامعياً هم صفوة المجتمع وشرفه وواجهته المشرقة.. في حين أن الشرف والفخار الحقيقي هو في تلك اليد العاملة الصانعة الزارعة الحاسبة، والكل في الشرف سواء.
رابعاً، تحويل المزارع والحقول وبوابات المصانع نفسها إلى نقاط تجارة للمنتجات لكي يصبح القطاع العام هو المُضارب الرأسمالي الفاعل في أسواق البلاد مما يحقق الوفرة السلعية بأذهد أسعار.
خامساً، عدم إلغاء الملكية الإنتاجية الخاصة وإنما تقليصها رأسياً وليس أفقياً، أي ليس تقليص أعداد الملكية والمالكين وإنما تحديد نوع الملكية وشروطها وسقف فائدة المالك فيها ابتداءً باعتبار أن الموارد ومواد الانتاج الخام خلقها الله عامة فهي ملك الجميع وليست حكراً مخصوصاً.. وهذا يعني أن المالك يملك المشروع الإنتاجي بنسبة ما فيه من آليات ومنشآت واجراءات تخطيطية وليس ملكية مطلقة من حيث المواد والمواد الخام.
سادساً، استبدال التعليم الأكاديمي في أغلب الجامعات بطرق (تدريب) لكوادر أعمال.
سابعاً، جعل النهضة الحقيقية للمجتمع قائمة على الموارد المستديمة (الزراعة والماشية وثروات المياه)، ولتعبر من دونها تلك الموارد الساكنة المحدودة بوقت انتهاء تنضب فيه (نفط ومعادن) كزيادة في الخير.. ألم نرى كيف أن الله تعالى يوجهنا دوماً في القرآن العظيم نحو خيرات الأرض المتجددة وكيف أن الأرض تظل هامدة حبلى بما فيها حتى ينزل عليها الماء فتهتز وتربوا وتنبت من كل زوج بهيج، وأن البحار والأنهار كم فيها من اللحم الطري والحلى التي تنتجها كائنات الماء بلا انقطاع..
إن من أهم التجارب الحاضرة للتنمية المستقبلية في اتجاها السليم ما تم في إحدى دول الخليج العربي ويتم راهناً، فقد توسعت توسعاً كبيراً في إنشاء الكليات التقنية لتستوعب العدد الأكبر من الكوادر الوطنية الشابة بها ذكوراً وإناثاً فتقيم بهم مجتمعاً انتاجياً.. والملفت للانتباه والاستحسان في هذه الكليات التقنية هو النظم الدقيقة الصارمة التي تدار بها بدءاً من الزي الرسمي بها طلاباً وأساتذة وإلى نظم التدريب والتقييم، الأمر الذي من شأنه أن يزرع في روع هؤلاء الكوادر تعظيم شعيرة العمل.. إن هذا التوجه نحو التعليم الفني والتدريب التقني الحرفي قمين بتحويل كبير يحدث في بنية المجتمع العملية والثقافية بل وحتى التربوية في تنشئة الأجيال الجديدة.