الخميس، 29 ديسمبر 2016

ولله حسابات أخرى ..

د. وائل أحمد خليل الكردي    
wailahkhkordi@gmail.com
جاء في آثار الأسطورة الإغريقية القديمة أن البطل الأولمبي (سيزيف) قد حكمت عليه محكمة عادلة بعقوبة أبدية أن يظل مدى ما بقي من حياته يحمل صخرة عظيمة ويصعد بها نحو قمة الجبل العالي .. فإذا ما بلغها سقطت الصخرة إلى الأسفل فينزل ويصعد بها تارة أخرى .. وهكذا.

هذا هو ظاهر القصة ..ولكن علماء القرن العشرين حملوا على هذا الظاهر من الأسطورة تأويلاً آخر .. فقالوا أن (سيزيف) هو العالم الباحث في شؤون الكون الذي كلما صعد قمة في علمه وأنجز كشفاً لم تسقط الصخرة منه نحو الأسفل بل صارت تلك القمة وادياً لجبل آخر شاهق في الأفق .. فيبدأ الصعود مرة أخرى نحو القمة الجديدة حتى إذا بلغها رأى ورائها قمة ً أعلى منها ، فيصعد نحوها حتماً .. ثم يستمر الأمر .. وهكذا كان للعلماء حسابات أخرى ، هي أن جهلنا هو الذي يتسع وليس علمنا .. فكلما نما لدينا علمُ فتح أمامنا آفاق أخرى لم نكن نتوقعها ومساحات مد البصر بلا حد أو سياج ، وصدق ربنا العظيم بأننا لم نؤتى من العلم إلا القليل ..
وكذلك ، لله حسابات أخرى .. حسابات في أحوال خلقه لا نعلم بواطنها وما خفي منها .. فكم من إنسان يراه أهل الحق أنه على باطل .. حتى يمسح برأس اليتيم فيصير في رحمة الله ودونه أولئك من حكموا عليه بظاهر الحال .. وكم من إنسان بدا للناس جباراً ، صخاباً ، عنيفاً ، جذاباً للنقمة ، يخشى بأسه كل قاصٍ وداني .. حتى يبكي في جوف ليلٍ أبكمٍ بكية لا تراه فيها عين أو يحس به قلب ، فيقع في عفو الله عما قدم وأخر .. ولربما مرت على ناظرينا استهجاناً حياة إنسان قطعها في لهو ولعب وطرب وسهر بالليل وغياب بالنهار ، فحكمنا بضياعه .. ثم ثبت عقب موته كم أعفى وأغنى من أعاسر أطفال بني الستر ، حتى كان شأنه عند ربنا شأن آخر ، ونعيم ، ورياض قبر ، وأنس وحشة ونور ظلمة .. وكم من أشعث أغبر ، قليل عبادة ، كثير صمت .. محتقر بين الأنام .. يمر ولا يكاد يترك أثراً ، وأقصى ما قدر عليه إماطة أذىً صغير عن الطريق قد لا يرى تحت أقدام المارة عليه ، فيبلغ من عظم هذا المعروف في الميزان يوم ذاك ما لا يرجحه إحسان كل المارة على الطريق بطوله منذ أن كان وإلى أن يصير .. وكم من إنسان ملئ ماله الأرض إلى أطرافها ، حتى إذا ظن أصحاب الحاجات والعوز أنه قد استنفذ بعظم ماله حقه لدى الله في الدنيا والآخرة معاً ولم يبقى له من بعد ذلك من شيء .. جاء في الدار الآخرة إلى منقلب أسمى ثراءً وأغزر مالاً وأعز نفراً بما قدمت يداه وخفي عنا ولم ندري نحن عنه شيئاً إلا ظاهر من الحياة يلقي بظل رطب ولكنه لا يكشف عما عضه السوس من لحاء الشجر .. وكم ندعو فيستجاب لنا في غير ما دعونا لأن لله حسابات أخرى لما فيه الخير والرزق ..

وكذا كان لله دوماً حسابات أخرى لمن أتاه بقلب سليم .. فذلك هو العيار ولا يملك قياسه إلا الله .. فحسبنا ألا نتعجل الأحكام على الناس بالظن ظاهراً فهو لن يغني من الحق عند ربنا شيئاً .. فنحن إذ نعامل الناس بحساب ما حيناً ، يكون لله   فيهم حسابات أخرى أحياناً كثيرة ..      
القيم المعلقة في الهواء .. (جسر سان لويس ري) ..

د. وائل أحمد خليل الكردي    

"في ظهر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر يوليو سنة 1714 انهار أجمل جسور (بيرو) وأدقها صنعاً وقذف بخمسة كانوا يعبرونه إلى الهوة العميقة من تحته" .
هكذا افتتح (ثورنتون وايلدر) Thornton Wilder روايته الواقعية (جسر سان لويس ري) The Bridge of sans Luis ray  فكان الشاهد في الأمر هو موقف أهل البلدة من الحادثة :
"كان الناس يعتقدون أن الجسر باق للأبد، ولم يدر في خلد أحد أنه يمكن أن ينهار يوما ما . لذلك كان كل من سمع بالحادث من سكان بيرو يرسم علامة الصليب، ويروح يفكر متى عبر الجسر آخر مرة ، ومتى كان ينوي أن يعبره في المرة القادمة؟ واستولى عليهم العجب ، وأخذوا يغمغمون كالمأخوذين ، وقد خيل لهم الوهم أنهم يسقطون في الهوة العميقة. وأقيمت صلاة جامعة في الكاتدرائية ، بينما كانت أشلاء الضحايا قد جمعت وفرق بعضها عن بعض .. واستولى على سكان (ليما) الجميل شعور قوي بالتوبة والندم ، فردت الخادمات ما كن سرقنه من أساور سيداتهن ، واضطر المرابون أن يدافعوا بحرارة عن الربا أمام زوجاتهم .. وكان غريباً أن يتأثر أهل ليما بهذا الحادث كل هذا التأثر . فلم تكن تلك الكوارث التي لم يتورع بعض الناس أن ينعتوها بأنها من صنع الله شيئاً غير مألوف في تلك الأرض . فكثيراً ما محا طغيان المد مدناً بأكملها ، وكثيراً ما دفن أحسن الرجال وأجمل النساء تحت أنقاض البروج التي كانت تتهاوى كل يوم ، وكانت الأمراض تنتشر في هذه الولاية أو تنطلق من تلك ، وكانت الشيخوخة تقضي كل يوم على كثير من خيرة المواطنين . لهذا كان غريباً أن يحدث انهيار الجسر هذا الأثر في نفوسهم".
إنها القيم المعلقة في الهواء .. وصدق الله العظيم إذ قال "إن الإنسان خلق هلوعاً . إذا مسه الشر جزوعاً . وإذا مسه الخير منوعاً" .
أحسب أن الأمر قد بدأ عندنا مع أخريات عهد الخلافة العثمانية ، حيث تسربت إلى النفوس بنحو تلقائي خلط الدين في أوامره ونواهيه وإباحاته ومحرماته بما ألفوه من عادات وتقاليد وموروثات في رسم وبناء القيم ، فأصبح الدين بتعاليمه وعناصره جزءاً منصهراً في قلب التقاليد والعادات وثوباً ضمن عباءتها ، فنشأ من ذلك الدمج والانصهار عرف وليد في تاريخنا الاجتماعي سمي (بالاتجاه المحافظ) في التنشئة والتربية وهو الاتجاه الذي أسبغ الدين على الموروثات السلوكية في أول الأمر شيء من الضبط والالتزام واصطناع الوقار .. وسرعان ما بلغ الاندماج حداً لم يعد يعرف معه أين يبدأ الدين وأين ينتهي الموروث السلوكي أو العكس . فلقد قام الآباء والأجداد بطعن تلك الحقن التربوية في الأنجال منذ نعومة الأظافر لبث هذه التغذية إلى مجاري الدم للقلب والعقل فينشأ ناشئ الفتيان علم ما كان قد تعود ولكن دون أن يدري لم وكيف .. فقط ينبغي عليه أن يلتزم ويحافظ على تلك العادات والتقاليد . واستبدل الناس في زمان لاحق عبارات (هذا حلال بأمر الله) و(هذا حرام بأمر الله) بعبارات من نوع (هذا عيب بأمر المجتمع) و(هذا حميد وحسن بأمر المجتمع) .. ويبدو أن الأمر بهذا النحو قد استفحل تماماً وبوضوح بالغ مع صعود قدم (كمال أتاتورك) على حطام عرش الخلافة العثمانية بعد دبت الهشاشة في أوصالها وصارت رجلاً مريضاً.. ومن ثم إعلان العلمانية البحتة وجذب الأمة الإسلامية إلى وجهات المجتمعات الأوروبية في رسم القيم والمبادئ .. فكان من السهل أن ينحى الاتجاه المحافظ لدينا بدوره نحواً آخر إلى تلك الوجهات باعتبارها المثال العالي للذوق والفن والوسم الشخصي والاجتماعي .. فلبسنا في بلادنا قبعاتهم وأزيائهم وطعمنا بالشوك والسكين ومقهرنا أرواحنا لنطرب فصراً لسيمفونيات (بتهوفن) و(موتسارت) و(باخ) .. وصار التعليم الراقي للصغار هو ما تغذى بالفرنسية والانكليزية والأسبانية واللاتينية ومقاطع من رائعات (شكسبير) و(موليير) وآخرين من دونهم .. لقد صارت قيمنا وأخلاقنا بفعل التقليد الأعمى من ناحية وبتذويب الدين في ثنايا العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية بالصورة التي أضاعت ملامحه وحدوده ومقاصده من ناحية أخرى .. قيماً وأخلاقاً معلقة في الهواء .. وتحولنا نحن إلى محض رؤوس في قطعان نوق وإبل .. وظهر الدليل على ذلك جلياً عندما صدمت بلاد أوروبا بفظائع حربين عالميتين وسألت الشعوب بعد موت الملايين : بأي ذنب جنت يداها أدخلت هذه النيران في الدنيا .. ولما حارت الإجابة أتى التمرد رداً عملياً في ستينات وسبعينات القرن العشرين فتحولوا جذريا عما كانوا عليه من أخلاق وأعراف وتجلى ذلك حتى في المظهر العام حيث صار الزى الرسمي الكامل للرجل بربطة العنق إلى قميص ضيق جداً مفتوح ليكشف الصدر العاري حتى منتصف البطن وبنطال شديد الضيق من أعلى وبالغ الإفاضة من أسفل الركبة تعبيراً عن الدعوة إلى قلب القيم رأساً على عقب .. كما تحول زى النساء من الفستان الساتر لكافة الجسد زحفاً على الأرض وقبعة الرأس العريضة و(اليشمك) والانتقاب إلى موضات آلميني والميكرو جيب وإظهار كل ما قد خفي .. وانقلب زوق الغرب في فنونهم من موسيقى السيمفوني الأوركسترا لي  إلى صخب الروك أند رول  والجاز .. لقد انفلتت الحياة تماماً وطارت الفطن من العقول وانتزع الصبر من من صدور بني آدم .. ونحن في بلادنا حزونا حزوهم بوقع الحافر على الحافر ودخلنا ورائهم جحر الضب وأيضاً دون أن نعي كيف؟ ولم؟ .. إن من يلزم نفسه بقيم معلقة في الهواء هو كمن أمن جسر سان لويس أن ينهار يوما .. فإذا حدث وانهار صار "كأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق" .. ولذلك فقد انقلبت بلادنا بسبب تلك القيم المعلقة في الهواء عل أعقابها .. وما يخشى هو خسران الدنيا والآخرة .. لقد سبق الكتاب بأن كل خلق وكل سلوك لم يسند حكمه إلى ما قاله الله تعالى وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فلا أمل له أن يمكث في الأرض وسيضربه كل ضارب حتى لا تكون إلا كزبد البحر يذهب جفاءً.
لقد جسدت الدراما العربية فكرة القيم المعلقة في الهواء هذه تجسيداً عميقاً حتى رسختها في عقول أجيال تلو أجيال .. فكثيراً ما صورت أبطالاً  أخلاقيين قد ارتدوا عن أخلاقهم وكفروا بقيمهم لأنهم اصطدموا بواقع الحياة وتحولاتها وقوة الشر فيها .. وكم من أبطال أخلاقيين ظلوا يدعون إلى مكارم الأخلاق والفضائل على صورتها المعلقة في الهواء تلك فسدت أمامهم الطريق .. ومن قبل في زمن بعيد مجدت الحكاية الإغريقية أسطورة (هوميروس) في إعلاء القيم المطلقة والثابتة .. كما مجدت الحكاية الرومانية ذلك الجندي الحارس الذي قطع العهد على نفسه أن يظل واقفاً في مكان حراسته دون أن يتحرك وقد هرب الجميع لانفجار بركان (فيزوف) واشتعاله ناراً وحمماً لا تبقي ولا تذر .. وهاهي توراة اليهود تفسر الشجرة المحرمة التي أكل منها (آدم) و(حواء) بأنها شجرة معرفة الخير والشر، وما ذاك إلا لأن القيم هي أعظم شيء إطلاقا وثباتاً، فإن أكلا منها يصيرا إلهين. ولكن الناس تفرقوا شيعاَ ومذاهب في تعيين ماهية هذه القيم المطلقة والثابتة وأصلها فلم يتفقوا .. ولكن الله تعالى قال في القرآن العظيم كلمته وألف القلوب وجمع الحكمة والعلوم فكان الدستور العالمي للأخلاق بالحجة والبرهان وفوق عادات الشعوب وتقاليدها بلا مساس بطرق الحياة وضروبها بين الناس والتي ألفت منهم الشعوب والقبائل فصارت القيم بين كل الناس هي الكلمة السواء لأن الله تعالى قال ذلك .. وصارت العادات والتقاليد تحت رايتها سلعاً ينضح بها كل إناء بما فيه ويجود بها كل شعب وقبيلة لمن سواهم فيتعارفوا .. وبذلك أمروا.     

                               


جامعة الخرطوم .. شرف الحجر وروح الجدران

د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           

لما كان قد شهد في ضرب سالف من الزمان (بديع الزمان سعيد النورسي) بأن قال (إن طالب الحق يكسر خاطر نفسه من أجل خاطر الحق، وإذا رأى الحق بيد خصمه يقبل برضاً وينحاز إليه ويفرح ويسر) .. فلقد شهد الحجر من بعده بحق التاريخ منه وعليه .. ولكن دون أن ينكسر خاطر الحجر .. وإذا خلا الحجر حيناً من الأثر لم يفرح الحجر يوماً أو يسر.. ذلكم هو حال جامعة الخرطوم .. وحال كل ما لزم حالها .. فلم يبقى الصرح يوماً دون معنى .. ولم ينتظر دهراً أخرج فيه الأبناء الروح من جسد الأب قسراً .. ولن ينتظر ..
أما بعد ..
 فإن ارتباط الجامعة بمبانيها مسالة غير ثانوية..  فالمباني هي الشاهد التاريخي على الهوية الحضارية والوجودية لها وليس بكونها فقط مجرد مباني أثرية.. وقس على ذلك كل جامعات العالم العريقة مثل كمبردج وأكسفورد وهارفارد وحتى جامعة القاهرة في مصر.. ولم تكن الأهرامات يوماً إلا شاهداً على قبور فراعينها .. وهكذا ، فالمباني كشاهد تاريخي هو أمر عالي القيمة جدا لأنه يعني الإطار الكلي لمفهوم الجامعة من مكان وزمان لا انفصال بينهما ويظل هذا الشاهد التاريخي قائماً لتعضيد أي اجتهادات لإعادة النهضة لها في حال أصابتها الأمراض والوهن في فترات انحطاط يمكن تتعرض للمرور بها أي مؤسسة عريقة.. فهذه المباني إذن هي جزء أصيل من هوية هذه الجامعة فإذا ضيعت لأصبحت الجامعة مولودا جديدا يبدأ الآن منذ لحظة الصفر تعبث به الأهواء حيث لا أصل له ولا تاريخ..  ولضرب المثل فان المباني الشاهدة تاريخيا على جامعة القاهرة فرع الخرطوم لا يمكن لها أن تمنح أي عراقة أو هوية تاريخية لجامعة النيلين..  فجامعة النيلين ستظل دائما كيانا منبتا عن مبانيها التي ورثتها قصرا عن جامعة القاهرة فلا هذه أصل لتلك ولا تلك امتداد لازم لهذه..  لقد ماتت مباني جامعة القاهرة فرع الخرطوم لحظة موت ذلك الأثر الذي أنشأت لتشهد عليه ثم غاب عن الوجود..  ولم يبقى  منها إلا حجراً قائماً على حجر بلا روح ولا حياة .. يشهد على الماضي وليس على الحاضر ..  ومازالت تلك المباني تنتظر غائب قد يعود  وقد لا يعود ..
 وأيضاً .. إن مباني جامعة الخرطوم أنشأت خصيصا لتكون صرحا تعليميا لا لأي غرض آخر وحتى إذا تطورت فلابد أن تتطور في ذات هذا السياق لا أن تخرج عنه .. فمن كلية غوردون إلى جامعة الخرطوم هو سياق واحد ذو هوية واحدة تغير منها فقط مسماها لجعلها أكثر اتساعا وقومية لملائمة هذا التطور الطبيعي.. 

 وأيضاً .. إن إعلان مباني جامعة الخرطوم أثراً تاريخيا فهذا يدعم وحدتها ويقوي رسوخها وثباتها على نحو ما هي عليه وليس أي شيء آخر مما يجعله ادعى للحفاظ عليها كما هي.. فجامعة الخرطوم ليست اسما بل هي وجود متكامل اسم على مسماه القائم بالفعل ودلالة على أنها كائن موجود هنا ، بنحو ما يكون اسم أي إنسان منا دلالة على كونه ووجوده المشخص المعين وعليه تخرج أوراقه الاثباتية  فلا  ينتحله شخص آخر غيره وإلا عد ذلك من الجرائم ..  وعندما خرج الإعلان بان مباني جامعة الخرطوم هي اثر تاريخي من آثار الوطن السوداني كان حكما كليا على جسدها وعلى ما تحمله من روح وغاية لوجود هذا الجسد سواء بسواء وقياس بقياس..  فمباني جامعة الخرطوم غاية وجودها هو جامعة الخرطوم..  أي أن إعلان الأثرية هو إمعان في إثبات الهوية..  وان كل ما هنالك من غرض لهذا الإعلان أن لا تمس هذه المباني بضرر أو تغيير وان عبئ صيانتها سيقع من الآن فصاعداً على عاتق العمل الرسمي للدولة إلزاما وليس على الجهود الفردية أو الشعبية..  وليس أن يأتي هذا الإعلان خصما على هذه المباني بسلب هويتها الحضارية عنها.. 
إنها كلمة حق لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيمن لا يسمعها..  ولا ينبغي بحال إن تكون الجراح الغائرات في عمق النفوس لنزع الروح عن هذا البناء حكراً على خاصة أهله ومن تخرجوا فيه فصاروا حلقة منه أو أبناء له..  فالجرح جرح الكل في هذا الوطن من يغار بالحق على الحقيقة.. فأيا من نبت في  هذا الوطن كانت له جامعة الخرطوم حق وقيمة حتى ولو لم تطأ أرضها قدم منه في يوم قط.  ..  ولن نكون في يوم قططا تأكل أبنائها خشية عليهم ..  سواء في ذلك رأس السهم فينا أو موضع غرسه في وتر القوس.
تراجيديا (دون كيشوت) .. في تسعينات القرن العشرين

د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           

أغلب النقاد كانوا يعتبرون رواية (دون كيشوت) Don Quixote لمؤلفها الفذ (سيرفانتس) M. de Cervantes عملاً كوميدياً يثير الرغبة في الضحك والهزأ على ذلك الرجل الذي أغلق نفسه في قسم كبير من حياته على قرأه قصص وبطولات النبلاء والأبطال السالفين .. ثم خرج منها ليتم تعميده على التقليد القديم بوسم السيف وقدم نصف راكعة .. ثم ينطلق ليقاتل الأشجار العملاقة ويبارز طواحين الهواء على فرس هزيل وتابع ساذج يرى في سيده أسطورة حية .. وكيف أنه يحفز على السخرية عندما يعود في كل مرة من معاركه الوهمية مكسور الرمح ، مسخن بالجراح .. ورغم ذلك ينتشي نشوة البطل المنتصر ..
والحقيقة ، أن كل ما فعله (سيرفانتس) في روايته (دون كيشوت) أنه أخرج ما يحدث في داخل كل واحد منا إلى الخارج في تصوير أدبي بديع ومعبر .. فمن منا لم يحلم أو يغضب ، أو يحب أو يكره .. ومن منا لم يفرح أو يحزن .. أو يأمل أو يحبط .. أو يبكي أو يضحك .. من منا لم يتعلق بالدنيا وأستار الحياة الزائلة لتمثل كل تلك المتناقضات في داخله أشجار (دون كيشوت) وطواحينه .. إن في داخل الإنسان عالم أكبر من عالم الحقيقة والشهود .. عالم لا يرى فيه الإنسان الأشياء بعينيه فحسب ، بل يضيف على تلك الشهادة وجدان وانفعال وقبول ورفض .. من منا من لم يسعى حتى انقطاع الأنفاس بين قمة النفس اللوامة صعوداً ، ووادي النفس الأمارة بالسوء هبوطاً وانحداراً .. لقد حكم في بلاد الإغريق على (سيزيف) أن يحمل صخرة كبيرة على كاهله ويصعد بها إلى قمة الجبل الشاهق .. فإذا بلغها أسقطت الصخرة إلى الأسفل لينزل ويحملها مرة أخرى ويصعد بها من جديد طوال الحياة .. ألم يعلمنا رسول الله صل الله عليه وسلم أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس ..
لقد قال الله تعالى (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) ، وقال العلماء في دلالتها أن الذبابة إذا سلبت شيئاً من الإنسان فإنها تجري عليه فوراً تفاعلاً كيميائياً فتتغير ماهيته تماماً ولا يعود كما هو في الأصل ، فلا يمكن بذلك للإنسان أن يسترده منه مرة أخرى .. كذلك الإنسان نفسه عندما يدرك شيئاً من الواقع والحياة لا يأخذه كما هو بذاته ، ولا يتركه داخل عقله على حالته وهيئته .. وإنما يسكب عليه من تفاعلاته وانفعالاته وعواطفه ومواجيده .. فقد يراه حسنا أو يراه قبيحاً ، وقد يراه محبباً أو يراه بغيضاً .. وقديماً قيل (لولا اختلاف الناس في أذواقهم لبارت السلع) ..
لقد ظهر الفكر (الوجودي) لدى (كيركيجارد) S. Kerkegard النرويجي ، و(سارتر) J. P. Sartre  الفرنسي يدعو كل فرد إلى الانكفاء نحو الداخل فيرى عالمه الفريد اللامتناهي والذي لا يشاركه فيه أحد لا بالتشابه ولا بالتطابق .. فكل إنسان هو كحبة الزمن في نهر جاري تأتي مرة في عمر الكون ثم تمر .. ثم يأتي غيرها وغيرها .. ولكنها لا تعود أبداً إذا مضت ..
كما قال أيضاً الوجودي الألماني (هايدجر) M. Heidgger أن كل فرد من الإنسان هو مشروع لم يكتمل مادام حياً ، وأنه يظل يتمدد داخل نفسه إلى أن تأتي ساعة الموت .. عندها يكتمل هذا المشروع . وكما أن لكل إنسان ساعة موته الخاصة وقبر لا يشاركه فيه أحد .. فكذلك كل إنسان في مشروعه لا يماثل الآخرين .. وفي القرآن الكريم نقرأ (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) .. هكذا رسمت رواية  (دون كيشوت) الإنسان والحقيقة في مأساة بالغة لمن يفقه رمزها ويقرأ ما وراء السطور ، وليس لمن يقرأها ثم يضحك من قلبه .. ثم يغلق الكتاب ناسياً أو متناسياً أن تلك الطواحين التي بين دفتي الكتاب إنما هي في داخل نفسه .. فهل يكون على نفسه بعد ذلك بصيراً ، أم على نفسه يضحك ..
لقد عرف السودان في منتصف التسعينات من القرن العشرين رجال عشقوا الموت وحاربوا طواحين الهواء في نفوسهم ولسان حالهم ومقالهم أن (وعجلت إليك ربي لترضى) .. فلك من الله الرحمة الواسعة أيها العميد الشهيد المجاهد (عبد المنعم الطاهر) المكحل بالشطه .. رمز الغضب الطاهر .. فقد ضربت المثل النبيل في القيادة العسكرية الأخلاقية المعاصرة .. وجدت في الميدان .. وظلت في الميدان .. ولقيت ربك أيضاً في الميدان ، سيان كان لديك الحال منذ أن أديت القسم العسكري المجيد برتبة (الملازم) أو عندما صرت برتبة (العميد) .. لقد وثق التاريخ قولة (عبد المنعم الطاهر) لكل جنوده (إذا ما لقيتنا واقفين على حيلنا جنبك سوي الدايره .. سوي الدايره والله) وأيضا (أبائنا لما ولدونا علمونا إنو بطن كراعنا دي ما يشوفا راجل) .. تلك المقولات ألتي أشعلت نار الحماسة والجهاد في نفوس جنوده ، فدمروا طواحين هوائهم وأحرقوا بعدها  وراؤه كل المراكب أن لا تولية للأدبار قط .. فظل هو على العهد واقفاً أمامهم ومعهم في كل المعارك .. ومات بين أيديهم شهيداً وهم قيام ينظرون بعد أن بلغوا النصر ..  فهل يجود الزمان الآتي بمثل أولئك الرجال تارة أخرى ..
وهكذا لم تكن (دون كيشوت) أبداً رواية هزلية ساخرة لرجل سعى إلى أمجاد الأبطال في زمان غير زمانها ..

فلنتعلم من (دون كيشوت) إذن أن الأمجاد والبطولات إن لم تأتي .. سعينا نحن إليها . 
أوهام الكهف .. (خرافة البرمجة العصبية اللغوية)

د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           
لقد صدق (هيراقليطس) الإغريقي حين قال "إن الناس تلتمس المعرفة في عوالمهم الصغرى الخاصة وليس في العالم الأكبر" .. فهكذا فعل الكثير من الرجال والنساء والشباب في عهودنا القريبة .. فكل أرد أن يبني العالم في كهفه .. وأن ينظر إلى الدنيا من طاقة ذلك الكهف ثم يحكم به الوجود ويسود به وجه الأرض .. فما كان إلا أن وقعوا فريسة شراك سهل عليها اصطيادهم فرادى وجماعات وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .. بسبب هشاشة نفوسهم وضيق منطقهم وقلة ثقتهم بذواتهم وعقيدتهم .. فاختلطت المفاهيم واكتسى الباطل في أعينهم ثوب الحق فضل سعيهم وأضلوا.. ومن هذه الشراك العضال ما حجب صفحة السماء بغيم كثيف في عقول الناس وسُحرت به أفئدتهم ما عرف بـ (البرمجة العصبية اللغوية) Neuro – Linguistic Programming NLP والتي والتي هي في حقيقتها خرافة العصر الراهن ..
تعلمنا التجارب أن أي كيان يتم عزله عن الأصل الكوني الحقيقي العام له ليصبح كياناً مستقلاً تماماً ببنائه وأهدافه وقواعده ، فإنما يتحول بذلك إلى كيان (متسرطن) ضرره أكبر من نفعه .. ذلك أنه يسير باتجاه عكسي . في حين أن الأصل الكوني الوحيد للخليقة هو كلام الله تعالى (القرآن العظيم) فإن انفصل عنه أو خالفه بنظام أو معتقد أو علم فإن ذلك هو الضلال .. وهذا ما تم في تأسيس البرمجة اللغوية العصبية كعلم من علوم التأثير والسيطرة .. وليس المقام هنا  للإفاضة في شرح عناصرها وتكويناتها غير أنها تعني السيطرة على الجهاز ألتحكمي للإنسان أي (الجهاز العصبي) ، والجهاز التعبيري للشخصية وهو (الجهاز اللغوي) وإعادة البرمجة لهما في منظومة واحدة بما يعيد خلق شخصية الإنسان بنحو يجعل منه كائناً متفوقاً .. من هنا نشأت الخرافة وصار من اللازم تقديم نقاط التحذير عليها بما يكشف شيئاً من الأمر..
أولاً- أهم مفكري هذا المجال هم (نوم تشومسكي) N. Chomsky  و(ألفريد كورتزيبسكي) A. Korzybski وهم من اليهود ، وقد عملوا على كسر (الجدار الرابع) بين حدث ما وبين تأثيره التفاعلي على المشاهد أو المتلقي – على نحو ما يفعل أبطال مسرح (بريشت) - مما يعني القابلية السهلة لاختراق عقول الآخرين والسيطرة عليها حتى لو بدا  ظاهرياً أن ذلك بإرادتهم وليس رغماً عنهم .
ثانياً – كلمة (برمجة) تعني أن يتحول الإنسان إلى مجرد قرص كمبيوتر مدمج يمكن تفكيك معتقداته وإعادة تشكيلها بنحو مختلف تماماً .. وهذا أمر في غاية الخطورة لأن كلمة (برمجة) لا تصلح مطلقاً في حق الإنسان . وعليه فإن ما تحاول البرمجة اللغوية العصبية ترسيخه في أذهان الناس بصورة تلقائية أن أي إنسان هو مادة قابلة للبرمجة وإعادة البرمجة ، هذا من جهه .. ومن جهة أخرى – والأكثر خطورة – أن هذه البرمجة لأي إنسان تتم بالضرورة على يد شخص آخر (مبرمج) .. هذا ما أراد أصحاب البرمجة اللغوية العصبية  إقناع شعوبنا به واستغلوا في ضعف معلومات الناس وسهولة انقيادهم وراء الموضات المبهرة سواءً في الأفكار أو الأشياء .. وهذا كله مناف للفطرة التي فطر الله الناس عليها والتي تقضي بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم – أي بيدهم هم لا بيد غيرهم – (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص56.
ثالثاً – إن البرمجة اللغوية العصبية بكونها تعتمد على اللغة أو حيز ووسائط التواصل والاتصال  وتعتمد التأثير في المستقبلات العصبية الحسية في إعادة برمجة الإنسان ..فإنها بذلك تستغل وبصورة أساسية ما يعرف في عصرنا الراهن (بالثقافة السمع- مرئية) والتي تجتذب الملكات الحسية وتربطها بالانفعال اللاإرادي من خلال الصورة المتحركة والمؤثرات الصوتية ..وهذا ما قد أحدث التهيئة اللازمة في عقول الناس لأن تتقبل بسهولة فكرة البرمجة .. وذلك بعكس من هم يقطنون خارج المدن الكبرى والذين تضعف علاقتهم نوعاً ما بالميديات أو وسائط الاتصال عالية التقنية ..
إذن فالنحذر من السم المبثوث في الدسم ، والذي يراد لنا به أن ننحو نحواً آخر .. نحواً بعيداً .. وأقل ما يقال في مثل هذه البرمجة اللغوية العصبية هو ما كانت تستعمله المحافل (الماسونية) – التي انتشرت في بلادنا تحت مسميات مختلفة – بصورة خفية في تحقيق الأغراض الصهيونية بواسطة تجنيد من هم غير اليهود لتنفيذها .. 

اللهم هل بلغت .. اللهم فاشهد ..
الوراق ..

د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           

قديماً قيل "إنك لن تنزل النهر الواحد مرتين" .. لأن الماء يتغير دوماً ويتجدد .. فهناك من الناس من يضع قدمه فيمر الماء عليه .. ومنهم من تسير قدمه مع الماء .. ومنهم من تترك قدمه الماء يمضي للوراء وتمضي هي بعكس التيار ..
والحقيقة كنت لم أتوقع من قبل أن ذلك الشاب الذي لد في زمان قريب .. سينطلق مندفعاً – بمشيئة الله – من لحظة ما حولت مسار حياته منذ عشر سنوات خلت  إلى أن يبلغ (الوراق) .. ذلك العمل الأثيري الذي مازال يمجد ثقافة عصر وأمة وشعب بأروع ما تقدمه العقول وزخرت به شراك العلماء ودلاء المفكرين ، بحبكة في التنفيذ والمحاورة نافست خيرة عقول المخرجين وكتبة السيناريو .. وحتى ذلك الاسم (الوراق) لم يكن ليأتي كيفما اتفق ولكنه نبت جراء جرح لقريحة تجاوزت بحاملها الحد لتحصيل مناقب النقد والتحليل والبناء للأفكار بضرب المطارق وإجهاد المعاول سبراً للبواطن والأعماق .. فلا مناص أن جاء الاسم راسماً ناحتاً لموضوعه دون زيغ ، فرد الاعتبار والمجد لصفحات الكتاب ومداده بعدما شبه لنا كذباً أنه قد صار طياً أسفل شاشات الحواسب وألواح المفاتيح الضاغطة ..

ذلك الشاب وقت عرفته كنت حينها رئيساً للدائرة الفلسفية بمركز (التنوير المعرفي) الذي عملنا على تأسيسه ليكون صرحاً فكرياً وعلمياً قائداً .. وكان هو حينها مهندساً لامعاً للحاسوب بالمركز .. فقدر لي الله أن ألمس شيئاً مما لديه من أرض خصبة لنماء الدرس والنقد للفكر والفلسفة والتاريخ ، بعيداً جداً عن ذاك الجهاز الصامت الذي لازال يرهن إرادته إلى إرادة الإنسان .. وإن كان لي ثمة فضل وأثر بأن ألحقته عضواً فاعلاً بالدائرة الفلسفية صنواً لأساتذة عركتهم الجامعات وتقادمت أزمانهم بالخبرة الثرة وخط القلم .. فإن الفضل الأكبر يعود لما وهبه الله جل في علاه من انتباه فذ نحو ميادين الوعي والتفكر في حين غفل عنها قسماً غالباً من أترابه وقرائن عمره لاسيما من أخضع عقولهم طاغوت التقنيات العالية فصاروا تبعاً لها ..ثم سيان من بعدئذ إن اتفقنا في الأفكار والمواقف والآراء أو اختلفنا ..وسيان إن صعد أينا المنبر خلفاً لأي .. المهم أن يبقى الإنسان قارئاً ، وأن يبقى مفكراً ..  فذاك أمر الله فينا .. وإلا .. فإننا كالأنعام ترعى في سبلها بلا قصد ، أو أضل ..   
وأوشك الجمر أن يصير رماداً ..

د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           
لم أنسى عندما كلفني في وقت مضى ذلك الرجل البالغ الشأن الدكتور أحمد عبد العال (رحمه الله) التشكيلي البارز والمحاضر المفوه – أنا وزميلي المحترم بأن نعد إحصاءً تحليلياً وراصداً موجزاً لمضمون كل كتاب من تلك الكتب التي الموروثة عن مؤسسة الدولة للسينما بعد أن أغلقت أبوابها وطويت صفحتها .. تلك الكتب التي كانت في الأصل ملكاً لزوجين يونانيين من أولئك الذين أقاموا في السودان ردحاً فطاب لهم المقام كما طاب للكثيرين غيرهم .. حينها وجدت أن أبرز ما يميز قسماً كبيراً من تلك الكتب (وجميعها قد طبعت في انجلترا) أنها تاريخاً انفعالياً ووجدانياً لأحداث ووقائع وأزمان مختلفة .. وما قد ميزها عن كتب التاريخ المتخصصة أنها كتبت بصياغة أدب المذكرات التوثيقية لمن عايشوا عياناً تلك الوقائع والأحداث في أيامها .. فدونوها نثراً وشعراً وقصصاً بكلمات مخلوطة بآثار انفعالاتهم واستجاباتهم العقلية والعاطفية ، ومعبرة عن ردود أفعالهم الحية بصدد دقائق وتفاصيل ومواقف كثيراً ما لا يذكرها التاريخ العام للأحداث .. فكانت أروع ما يكون مضرباً للمثل في كساء الأحداث بكسوة إنسانية صادقة لا تتاح لمدونات التاريخ الجاف .. فالشهادة على الواقع في أدب المذكرات تجيء مكتملة الحبكة والأركان الوصفية والحسية للوقائع التاريخية ..
هنا يمكن القول بأن التاريخ إذا كان من شأنه أن يستدعي فقط وقائع الماضي .. فإن مدونات المذكرات التوثيقية الشخصية تعيد سرد تاريخ نفس الوقائع ولكن في اختلاطها بدماء ولحوم الإنسان الشاهد عليها والمعايش لها . وهذا المنهج في تدوين المعايشة التاريخية للأحداث المستقى من المذكرات الشخصية والشهادة الوجودية على العصر له أن يوفر التوثيق العميق والدقيق لأنماط وطرق حياة الشعوب والقبائل والأفراد والمهن وآمال الناس وأحلامهم وربما نواياهم .. وله أن يصير معياراً لقياس الراهن من الأمر ومستقبله في أحوال المجتمعات .. وله أن يكون راصداً لتطور العقل واللغة والنمط الحضاري لمن هم في محل زمان ومكان تلك المدونات بما يثبت علاقة الكل مع الكل بأرجاء العالم ..
كثيراً ما أضطر كتاب الدراما أن يكسبوا الوقائع التاريخية العامة أثناء تشخيصهم لها الشيء غير اليسير من الانفعالات والعواطف والوشائج المتخيلة تخيلاً واصطناعاً مما يستدعي اختلاف السيناريوهات في صفها .. فإذا أولي الاهتمام بمدونات المذكرات الشخصية لوقائع التاريخ فإن ذلك يوفر مصدراً كافياً لبناء المادة السينمائية الوثائقية على أسس شاهدة وليست متخيلة .. والمبدأ في هذا (أن واجهة الأحداث تظهر لعموم الناس .. ولكن الحقيقة الحق ليست إلا لمن عايش ما وراء الأسطر وطي الأوراق) ..

لقد اهتم الأوروبيون كثيراً منذ عهد (شكسبير) بمدونات دب المذكرات التوثيقية الشخصية المعاشة فعلاً من جانب الكاتب لها .. فكانوا بذلك أقدر على رسم فلسفات للتاريخ أكبر نفعا وأشد أثراً من مجرد الاعتماد على أسفار التاريخ الوصفية المجرد وبلا عنصر للحياة فيها .. ونحن في بلادنا لدينا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في تحريك أحداث الواقع على أيامهم ودولهم وبما يثبت نسب كل طارف إلى أصل تليد .. فإن كانوا دونوا ما عايشوه فقد صار إرثاً ووثيقة تاريخية بكامل جوانبها وأبعادها (الوقائعية والانفعالية) .. وإن لم يكونوا قد دونوا فقد ذهبت إذن أدراج القبور في صدورهم حين غيبهم الموت تاركة فجوة سوداء في سلسلة التاريخ وسياق الأحداث .. وما يعتصر القلب له أسفاً وتكدرا أن أكثر تلك الشهادات والمعايشات العيانية والانفعالية مدفونة تحت أضرحة الموتى حيث لا سبيل من بعد إلى تحريرها .. فليس أقل منذ الآن أن نسارع إلى من بقي ما زال بين ظهرانينا حياً وهو نجل زمان قديم شاهد عليه بما لم يره آخرون ، فندون عنه ما تجود به ذاكرته في ميدانه لننقذ به جزءاً نادراً من تاريخنا المتكامل قبل أن يصير الجمر رماداً ، على أن لا نحقر في ذلك من المعروف أدنى صغير ..وألا ليت من سامع .. وألا ليت من ملبي ..

 الإنسان .. مشروع دائم

د. وائل احمد خليل صالح الكردي

____________________

إن دراسة وتفسير ظاهرة الإنسان والإنسانية كانت دائما دائما المحور الأول في اهتمام المفكرين والفلاسفة وفق ما يذكره التاريخ المدون منذ بدايته وحتى يومنا  الراهن. وحول هذا أقيمت المنظمات والمؤسسات التي تحاول رسم الحقوق الإنسانية استنادا على أي من التفسيرات التي اعتمدتها كأساس ومنطلق لبرامجها . فهناك يرون أن الإنسان عبارة عن بنية نسقية
systematic structure
يخضع لقواعد صارمة وله خطوط رأسية وأفقية يلتزم بالسير عبرها، ويتألف من مجموعة من الأجهزة التي ترتبط فيما بينها بنظام محدد لنقل المعلومات وإدارتها ليقوم هو بوظيفة معلومة. إن أصحاب هذا الاتجاه كانوا أقرب إلى القول بالأنظمة الشمولية والبنى الاجتماعية الموحدة في التخطيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للإنسان وتعيين حقوقه وواجباته وتحديد العلاقة والمسؤولية التبادلية بين الفرد والمجتمع. وذلك يعني لديهم أن هناك عقلا ما يقف وراء الإنسان ويرسم له ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه وفعله وحركته وتفكيره. وعليه يكون القاسم المشترك بين كافة الأفراد هو القواعد المنطقية التي لا يجوز الخروج عنها ومخالفتها ، لذا كان اتجاه التعبير الإبداعي عن الذات دائما وفق هذا المنظور هو اللجوء إلى المحاكاة للواقع والموضوع والنماذج القائمة في الطبيعة.
هذا في مقابل اتجاه آخر يقول بلا عقلانية الوجود الإنساني وعبثية الحياة وانتفاء القواعد المشتركة والقوالب الجاهزة والأنساق والقيم الثابتة ، وأن هذا الإنسان إن هو إلا مجموعة أو حصيلة لا متناهية من الإمكانات التي لا يعلم هو نفسه عنها الشيء الكثير . وأنه حالة متجددة وهذه الحالة تتسم بفر دانية وبذاتية مطلقة لا يستوي فيها إنسان مع آخر فكل إنسان فرد إنما هو كون بذاته وقانون منفرد وقواعد خاصة فإذا بدأ إنسان وانتهى لا يعود فيتكرر بذاته تارة أخرى إلى الأبد. وعليه فإن كل حركة صادقة أو فعل صادق من جانب الإنسان لا يكون في حقيقته مسبوقا بتخطيط قبلي أو استنادا إلى قواعد منطقية ، وإنما يكون منطلقا من الأفق أللا معقول والذي تمثله محض الإرادة الخالصة، وهو ما دعا إلى قيام المذاهب الليبرالية ودعوات الحرية الفردية. وكانت اتجاهات التعبير الإبداعي عن الذات في هذا تمضي نحو الرومانسية الجانحة إلى عدمية وعبثية الحياة بكونها بلا غاية وإنما هي مجرد حالات انفعالية وعاطفية تقودها الإرادة العمياء للأفراد لا العقل.
وإن كان لنا موقف بصدد هذ1ين الاتجاهين فإنما هو موقف التوفيق للجوانب الايجابية لكليهما بحيث يمكن أن تتضح الرؤية ويزول الغموض ويتحدد المفهوم ، حيث انه لو ترك كل اتجاه على صورته المجردة لأدى كل منهما بنحو أو بآخر إما إلى دكتاتورية الفرد وإما إلى دكتاتورية الديمقراطية ، ودكتاتورية الفرد في الاتجاه البنائي ألنسقي هي سيادة الحزب الواحد أو الطبقة بنحو لا يدع مجالا للحرية الكاملة للأفراد والجماعات والطبقات الأخرى في التخطيط والتنفيذ وتحديد ادوار الحياة العامة وربما الخاصة أيضا. أما دكتاتورية الديمقراطية فيه هي محدودية الحرية في أن تختار أو لا تختار في لحظة ما أن تشارك في التغيير الثوري الشامل لما اقتضته الحتمية التاريخية سلفا ودون إرادة للشعب في ذلك..
أما دكتاتورية الفرد لدى الاتجاه الليبرالي الوجودي فتتمثل في إرادة القوة التي يمكن أن يبلغها إنسان ما والتي قد تجعل منه إنسانا سوبرمان أو إنسان متفوق يعلوا على الآخرين بنحو ما تصوره الفيلسوف الألماني (فريدريش نيتشه) والذي جسدته تاريخيا شخصية فرعون موسى الذي قال للناس أنا ربكم الأعلى ، وشخصية (أدولف هتلر) الذي قاد بمفرده شعبا من أذكى شعوب العالم لإشعال حرب راح ضحيتها زهاء الخمس وأربعين مليون إنسان غالبيتهم من الأبرياء الذين لم تكن لهم ناقة ولا جمل في هذه الحرب. فغلب أولئك بإرادتهم الفردية على إرادة كافة من يلونهم من الناس. وأما دكتاتورية الديمقراطية لهذا الاتجاه فتتمثل في تنازل الـ 49% عن إرادتهم وحريتهم للـ 51% التي وقع عليها التصويت والانتخاب، وإمكانية تجميد إرادة هذه الـ 49% يعني إمكانية ضياع 49% من القدرات والطاقات الخلاقة التي تدعمها حرية الإرادة لديهم.
على هذا كله نرى أن نتفق والقول بأن الإنسان من حيث المفهوم المستمد ما هو ثابت على مستوى المشاهدة العادية اليومية هو كائن يكتشف ذاته بصورة مستمرة ونامية مع كل حدث جديد يتعرض له ما لم يكن يعلم عنها. وهكذا تنمو خبرة الإنسان بذاته مع نمو خبرته بالعالم من حوله ، فالإنسان لا يدري ولا يمكنه التنبؤ بمدى ما يمكن أن تبلغه قدراته مع حالة الخوف الشديد أو الغضب الشديد على سبيل المثال ، وعليه فإن ذلك المجهول الذي ما زال مخزونا داخل الإنسان ولا يعلم هو عنه مداه هو ما حدا بأشهر فلاسفة الفكر الوجودي الأكاديميين (مارتن هايدجر) إلى التعبير عن حالة اكتشاف الإنسان المستمر لذاته مع تجدد المواقف والأحداث أمامه بان الإنسان هو مشروع دائم ومستمر لا يتوقف أو يكتمل إلا بموته وهو ما اسماه بالألمانية  (دا - زاين)
Da - Sein
أي (الوجود - هناك) فعندما ينتقل الإنسان خطوة نحو هذا الـ (هناك) يكتشف أن وراؤه (هناك) أخرى . وبذات المنطق لا يكون بمستغرب ولا بمشكل أن معرفة الإنسان وكشفه عن العالم الأخروي كحدث جديد بما فيه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر هو في نفس الآن كشف جديد ومعرفة جديدة لذاته
وقدراته وردود أفعاله وإمكاناته التي أودعها الله تعالى فيه والتي لم يكن يعلمها عن نفسه من قبل . وهذا يؤكد أن التجارب الإنسانية بأنواعها المختلفة هي ما يولد المعارف لدى الإنسان عن عالمه وعن نفسه في ذات الوقت، الإشارة في هذا إلى قوله تعالى:
(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) - النحل 78
(وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) - الكهف 68.
ولكن في ذات الوقت ما يقف خلف إدارة هذه المعرفة التي تسمح بالتطور دائما في اكتشاف ذات الإنسان الفرد هو العنصر ألنسقي والذي يشمل المبادئ والمعايير المنطقية المرنة والمتسعة والتي تمثل الأدوات
tools
التي يستخدمها العقل الإنساني للوصول إلى الحقائق والأهداف العامة. وهذا العنصر ألنسقي لا يمكن أن يكون إلا عنصرا جمعيا ومستمد من وعي جمعي فبقدر ما يستحيل وجود لغة خاصة
privet language
لا يفهمها إلا إنسان واحد وبالنسبة إلى نفسه فقط بقدر ما يكون هذا العنصر ألنسقي جمعيا ويقرر أن الجانب الاجتماعي هو جزء أساسي في تصور الإنسان ولا يمكن أن يكتمل تعريف مفهوم الإنسان بدونه . ولن يعود بذلك مفهوم الذاتية والإرادة الذاتية راجعا فحسب إلى الفردانية بقدر ما يرجع إلى الطرق والأنماط المختلفة للحياة والتي تنتمي إليها الفئات الاجتماعية المتغايرة والمتباينة. بهذا يمكن الخروج بتعريف للإنسان بأنه نسق
system
كلي يتفاعل فيه العنصر الاجتماعي والعنصر الفردي الذاتي لأداء وظيفة عامه هي مناط التكليف له بإعمار الأرض المستخلف فيها.              

بدائع الذوق عند اللبنة المفقودة ..
                 د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

 أذكر عندما كان الدكتور (سعيد توفيق) – من مصر – يقدم لنا محاضراته في فلسفة الفن وعلم الجمال بآداب القاهرة فرع الخرطوم أخريات الثمانينات .. كيف كان يحقق (المذهب الظاهراتي) Phenomenology لدى الفيلسوف الألماني البارز (ادموند هوسرل) E.Husserl وأتباعه في تكوين وتفسير التذوق الجمالي وبناء الحكم النقدي بصورة عملية .. وكيف أن الخيال الجمالي يخضع أيضاً لنوع من التحليل المنطقي بنحو متميز ولكن هذا ربما لا يبدو بوضوح إلا عندما يقف الإنسان مباشرة أمام عمل أدبي أو فني ما ثم يتفاعل معه دونما وسيط شارح .. وإن الكاتب ليكتب بالقلم ، وإن القارئ المتأمل ليكتب بالرؤية والخيال الحر .. وبحسب هذا المذهب الظاهراتي فإن العمل الروائي الناضج يعطيك نفسه محملاً بكل ما يمكن من حدود للخيال الذي يمكن أن ينصب حوله من جانب المتلقين الذواقة .. إن كل خيال مهما عظم وانطلق له حدود وسقف يلزمه به تراص الكلمات في السياقات حتى لا تكون القراءة تفكيك وفوضى .. وفي نفس الوقت يكون هذا السقف مرناً جداً إلى الحد الذي قد يتجاوز بعيداً لدى المتلقي مما قد بلغه إفق خيال كاتب الرواية الأدبية نفسه .. فالرواية هي تماماً كذلك الملعب الفسيح يتحرك فيه اللاعبون بإبداع متجدد ولكنهم لا يخرجون عن رقعته .
لقد قال الدكتور زكي نجيب محمود في مقالته النادرة (الفلسفة والنقد الأدبي) " إن الأديب يؤنسن الأشياء " .. ويمكننا القول على هذا أن القارئ المتذوق يضفي مزيداً من الأنسنة على ما قد أنسنه الكاتب من قبل من أشياء .. حيث يمكن استنباط هذا المعنى من وصف الدكتور زكي نجيب لمهمة الناقد بقوله "أما مهمة الناقد فهي أشبه بمهمة صياد السمك عندما يطرح الشباك في الأماكن التي يتوقع أن يجد فيها مطالبه، وينتظر إلى أن يقع السمك في الشباك فيجذبها ، وإذا به يخرج إلى السطح ما لم تراه العين . كذلك يصنع الناقد مع العمل الأدبي ، فهو يبحث في الرواية – مثلاً – عن فكرة يستنبطها ربما لم ترد على خاطر الأديب نفسه ... إن العملية النقدية والعملية الفلسفية يلتقيان في أنهما يتجاوزان السطح ويتجهان إلى العمق" ..

بهذا ، يمكن رسم ثلاث مستويات للنقد والتذوق الجمالى .. المستوى الأول هو (مستوى الوضوح) ، وهو محض الوصف التفصيلي للأحداث الواقعية في مشهد كامل ، وهو يتبع صفة (الفن محاكاة وتقليد) لدى (أرسطوطاليس) Aristotle حيث لا يدع المؤلف للقارئ ما يضيفه من خياله بل يصبح رهناً بالكلية لإرادة الكاتب وتصوراته ولا يملك من أمر نفسه شيئاً أمام العمل الأدبي إلا أن يتلقاه كما هو ثم يتطهر به ويسمو ، وهذا هو إبداع (شكسبير) Shakespeare.. والمستوى الثاني هو (مستوى الغموض) وهو المستوى الذي تكون فيه القصة مكتملة المشاهد والعناصر ولكنها مع ذلك تفتح لدى القارئ فرصة للتأويل ومخالفة الكاتب برسم صور خيالية مغايرة ، حيث يرسم المؤلف صور وسياقات غير واضحة وغير وصفية مباشرة ليتحرك فيها ذوق المتلقي بحرية إبداعية موازية للمؤلف . وهو إبداع (بريشت) B. Brecht.. أما المستوى الأخير والعالي فهو (مستوى الحذف) وبتعبير آخر (مستوى اللبنات المفقودة) .. وهي نموذج السرديات الروائية ذات الطابع الوجودي  Existential  فالأمر هنا ليس متعلق بعناصر واضحة أو غامضة ، وإنما هو متعلق بعناصر أو مشاهد محذوفة ومتروكة بالكلية لخيال المتلقي . ورغم ذلك فإن هذه العناصر المحذوفة لا تسمح بتفكيك النص الروائي ، وإنما هي فراغات تخيلية تكون بمثابة اللبنات المفقودة في البناء الجداري عن قصد .. فهي لا تسمح بانهيار الجدار ولكن تسمح بامتداد أفق الخيال في استدعاء المحذوف أو المفقود على صور وأشكال ومشاهد متعددة ولكنها كلها ملائمة لأن توضع موضع تلك اللبنات المفقودة فيشارك الناقد المتذوق المؤلف جمالية العمل في بناؤه الكلي أو يتفوق عليه .. وهذه العناصر المحذوفة تدل عليها عناصر أخرى قائمة في النص الروائي وهي عبارة عن مقولات أو فقرات يمكن اجتزائها منه وتقبل بمفردها تعدد تأويلات وتصورات القارئ حولها ، ويمكن لهذه المقولات أن تكمن في مكان (العقدة) من النص أو في مكان (الشخصية) أو في مكان (الحل) .. فعندما نجتزئ مثلاً فقرة نصية من عمل عربي سعودي بديع اسمه (عند حصاد البرسيم) تقول "وهل يغير لون الفنجان مذاق القهوة يا أماه .." نجد أن رابطة الفقرة بالحدث القائم حولها في القصة هي رابطة رمزية تسمح بحذف لبنات هذا الحدث ثم إعادة رسمها بمشاهد جديدة لدى المتلقين .. وهنا حيث تكون الثقة الإبداعية لدى  الكاتب في أن تلك اللبنات المفقودة هي المحفز الأكبر لجماليات الخيال لدى القارئ ، وبالتالي هي المانح للقيمة العليا لجمالية الرواية الأدبية في عمومها .. والجمالية هنا جمالية التأليف والنقد على السواء .. وعلى هذا يمكننا القول بأن القيمة الحقيقية للعمل الأدبي لا تتمثل في استقاء معلومات جديدة أو افهام جديدة لدى المتلقي وإنما يتمثل في بعث وتوليد ما هو مدرك ومفهوم بالفعل ولكن على هيئات وصور جديدة في كل مرة مما يستدعي في القلب انفعالات ممتعة ويستنفر في الجوارح حاسة الذوق الراقي .. ولنا في تباين جدلية الخير والشر في صورة (فاوست) Faust  لدى (مارلو) Marlowe وصورته لدى (جوته) Goethe مثلاً محققاً .. عند هذا الحد لا يموت المؤلف ، ولا يغترب القارئ .. ولكن يبقى الكل هناك ..
الأبطال ..
د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           

رسم (ثوماس كارليل) Th. Carlyle في محاضراته (الأبطال) تصوراً فلسفياً للتاريخ أثبت فيه أن التحولات الحضارية كبرت أم صغرت إنما تقوم على سير الأبطال ومواقفهم .. فهؤلاء الأشخاص المتميزون هم علامات التاريخ الفارقة ..فكانت بذلك و(فويرباخ) Feuerbach وغيرهم، بأن التاريخ يصنعه رجال متفردون ..
والبطل هو ذاك الإنسان الذي آمن بهدف كبير وشد عليه بأشد عزائمه ، وصار يدفع في نصب ركائزه وإقامة مواطنه ودق أوتاده وجلب الناس حوله.. إلى أن يبقى حقيقة وأثراً في حياة البشرية .
لقد قال (كارليل) أن الإنسان بلا هدف كسفينة بلا ربان كلاهما يرتطم بالصخور فيهوي إلى القاع .. فالإنسان ذو الهدف هو البطل الذي يبني نماذجه على الثوابت واللوازم ، وليس ذاك الذي يجادل ويماري في الحق لإزهاق الثوابت وتكسير الرواسخ حتى تضيع ويضيع معها زمن كثيف .
ولعل الشهادة قائمة بأن من يظل مجادلاً في ثوابت الأمور هو إنسان عاجز – أو أراد لنفسه أن يكون عاجزاً- عن بناء حجر على حجر .. فيؤلف فوق الثوابت جسداً شاهقاً من المتغيرات التي يشد بعضها بعضاً ، فتكون مهما تحولت قائمة على حكم الثوابت .. أن من يجادلون في الثوابت عوداً على بدأ دوماً هم من أرادوا الحياة كلها كماً من المتغيرات تجنح بالوجود في مهب الريح بغير هدىً ولا كتاب منير .. أفمن المعقول أن نظل  نجادل في قضايا بعينها طوال قرون وقرون دون أن نقر إلى ثابت فيها ، بل ونقسم ذلك الجدل فيها إلى تراث ومعاصرة .. وهكذا نمضي جدلاً بلا انتهاء ..
وبيننا من الناس من يروحون ويجيئون على المؤتمرات والندوات لا لشيء إلا للتفنيد وزعزعة الثوابت حيث لا ظهور لهم إلا بالمخالفة ..ولعلهم يغفلون دائماً أن (النقد) شيء .. و(النقض) شيء آخر .. فالأولى من أجل سد الثغرات وتزكية الايجابيات ورعاية بنات الأفكار وتعهدها بالضبط والتنقيح .. أما الثانية فهدم لأصل البناء وسوقه وفرعه .. فكيف نكون على تلك الصفة وهناك الله تعالى يقول لنا في الذكر أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض .. فيظل الجذر ولو احترقت الساق .. ليلد من بعدها سوقاً أخرى ولو بعد حين .. والثقة الآن هي أن أولئك الناقضون طبعاً وديدنا لن يكونوا أبطلاً يوما، ولن يفسح التاريخ لهم في كتابه سطراً بعد طيهم بالموت .
إن البناء على الأصول مهارة  تحفظ لبني الإنسان حرياتهم من الفوضى .. وتعصم الذهن عن إراقة الوقت والجهد على أرض بوار .. وليهدنا الله إلى ما فيه الفائدة .