السبت، 10 أبريل 2021

الأشجار لا تهاجر

 الأشجار لا تهاجر.. 


وائل الكردي


(لا تحاول أن تحمل شجرتك معك إلى الغربة كي تحظى بظلها.. لان الأشجار لا تهاجر)

اقتبسها (دريد لحام) عن اﻷديبة (غادة السمان) ليقول لنا، أن الأم اذا مرضت، هل نبدلها بغيرها ام نظل معها وبين يديها حتى تشفى؟ فكما ان الام واحدة لا تتكرر ولا تستبدل فالوطن ايضا كذلك.. ومؤخرا كتب (احمد الكردي) رحمه الله، عن الشجرة الام وكيف انها وقفت هناك عشرات السنين ليمر بها ملايين البشر من كل لون وملة بكل تجاربهم وخبراتهم وما لهم وما عليهم، ثم يرحلون، ليمر عليها بعدهم غيرهم.. وتظل هي واقفة صامتة شاهدة على مآسي البشر واحزانهم وافراحهم وضحكاتهم الصادقة والكاذبة والزيف فيهم والحقيقة.. هكذا هي أشجار الوطن الام ترقب كل صغير وكل كبير وتشهد علينا بصمتها كما ستشهد علينا جلودنا بنطقها، ترى منا العذاب والالم الكثير ويمتلئ لحائها بضربات الفؤوس ولطمات العصي وطعن السكاكين وغرس المسامير ولكنها لا تظهر انينا ولا شكوى ولا تمنع ثمرها وظلها.. ورغم كل ذلك فإنها اذا مرضت يسارعون في الغالب إلى بترها أو اقتلاعها ليزرعوا مكانها جديدا، ولو انهم صبروا واهتموا لربما تعافت من قريب. 

هناك على شارع النيل أشجار تجاوزت اعمارها المئة ونيف ومازالت تقف قوية تحب هذه الأرض وتبذل فيها جهدها.. لذلك يتعلم أشبال الكشافة منذ نعومة اظفارهم ان يربوا انفسهم على الشعار (ابذل جهدك) حتى ينمو الواحد فيهم وهاتف في أذنيه يطرق (ابذل جهدك) كلما هم بيأس من ضيق حال، وما دام في الجهد بقية تبذل فالتبذل.. ولكن من حسبوا أن الوطن بأشجاره هو من يجب أن يعطي ثمرا، ظلا، حطبا.. وان الانسان هو فقط من يأخذ، فأولئك لم يكونوا يوما من أشبال الكشافة وهم اول من يقطعون جذورهم ويستبدلوه بغيره وهم يلقون وراء ظهورهم للناس هنا بكلمة جارحة (تلك الحفرة..  تركناها لكم) ،  ولكن ما أعظم هذه الحفرة حينما تخبئ الانسان في جوفها حال انهمار الرصاص وهطول القذائف، وما اعظم جرم هؤلاء فإنهم يقتلون الوطن بكلماتهم، أما كان لهم ان يرحلوا بصمت ولا ضرر ولا ضرار.. ثم يأتي بعد ذلك في المحافل من يصدر احكامه على الناس إخوته في الوطن بانهم كلهم أو جلهم كذابون غشاشون قساة منافقون طماعون.. الانه هو كذلك اراد الناس كلهم مثله.. هل كل الذين يمشون على التراب العيي هم كذلك، هل كل الكادحون الصابرون الحامدون لرزقهم الضئيل هم كذلك، هل كل العابدون الساجدون لربهم في الجوامع واخبية الدور هم كذلك، هل كل القابضون على الجمر بأيديهم يتوجعون بصمت وبغير شكوى هم كذلك، هل كل من هب ثائرا لأجل وطنه واحتضن الأشجار بدمائه ومات تحتها هو كذلك، ما لكم كيف تحكمون.. الم يقل الله تعالى (كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) وليس الزبد الكثيف على وجه البحر بشيء امام كنوز الأرض عددا وقيمة، والناس في بلادي فيهم من هو كزبد البحر وفيهم ايضا من هو كنز من كنوز الأرض ولكننا فقط نسارع إلى اليأس واسقاط الهمة بهول مرأى الزبد في كثرته فنحسب انه الاصل في الناس والمجتمع ولا ندرك ان هذا الزبد راحل وغير مستقر،  وانه علينا أن نكابد مشقة الغوص إلى ما ينفع الناس تحت هذا الزبد الراحل وذلك هو الكبد الرسالي المثمر، فإذا رحلنا معه إلى بلاد جديدة لنزرع فيها اشجارنا لربما وجدنا أنفسنا هناك أجسام شاذة دخيلة لا يحسب القوم فيها لنا حسابا ولا تصبح يوما هي وطن، وسنكابد ايضا ولكن فقط لأجل ان نطعم ونشرب كما البهائم والانعام.. ولعلي لا اكون مخطئا اذا قلت ان الله خلق لنا الاوطان لكي تكون محطا وحقلا لرسالتنا في الحياة وعطائنا وكبدنا وليس لكي ننتظر منها ان تعطينا هي، فبأي شيء إذاً سيكون الفوز في الدار الآخرة اذا ظللنا نُعطى ولا نعطي.. 

أما عن هذا الزبد من الناس الذي يذهب جفاء على وجه الاوطان فهم أولئك الضائعين بجرمهم كمثل شخصية (العم بيو) في رواية (جسر سان لويس ري) لمؤلفها (ثورنتون وايلدر) حيث جاء في سيرته السيئة (ويقف بأبواب الفنادق الراقية ليهمس إلى المسافرين ببعض الانباء ولم تكن خديعته لهؤلاء المسافرين تزيد في بعض الأحيان على أن يخبرهم ان بيتا نبيلا قد اضطر إلى بيع صحافه الفضية. وهكذا يقبض ثمن الخديعة من الصائغ صاحب تلك الصحاف، وكان كثير التردد على جميع المسارح ويستطيع ان يصفق كما يصفق عشرة مجتمعون. وكان ينشر الفضائح ويبيع ما يدور حول المحصولات الزراعية واثمان الأراضي من شائعات. وبين العشرين والثلاثين اصبحت خدماته معترفا بها في الدوائر العليا، فارسلته الحكومة إلى المناطق الجبلية ليثبط من عزيمة بعض الثوار المترددين، إلى أن تصل قوات الحكومة فتسحقهم بلا تردد).. فأمثال هذا اذاً ليسوا ابناء شرعيين لاوطانهم ويكون من الخير لهذه الاوطان رحيلهم كرحيل الزبد.. 

لقد اذن الله للقلة المستضعفين من الناس لا يملكون قوة ولا حيلة بالهجرة في الأرض، ولكن إذا صار اكثر الشعب تحت ضيق العيش والفقر وقهر السلطة وأصبح المال دولة بين القلة الغنية فهنا يتطلب الامر جهادا وثورة، ثورة على طغيان السلطة الغاشمة فالحاكم ان قتل وسفك الدماء وسرق المال العام وافسد في الأرض خرج من حاكميته ولم تبقى له في عنق احد منهم بيعة الا لدى من حذا حذوه وانتفع بفعله.. وثورة أخرى بضرب المعاول على الأرض لتنبت البترول الاخضر..  وثورة غيرها على اهلاك الحرث والنسل بالتلوث البيئي جراء استعمال طاقة المحروقات واستبدالها بطاقة الشمس والماء.. ولنضع اخيرا في احد الارفف أو الأركان البعيدة قول الشاعر (نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا) وان نستعمل قول الرسول العظيم (الخير في امتي). 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق