مازلنا..
وائل الكردي
عادة ما كنت أبدأ محاضراتي في الفلسفة بسؤال عن الفارق بين (الوعي الغربي) و(الروح الشرقي).. وكيف أن الغربيون (وعي) وأن الشرقيون (روح).. فكنت أقول – ظناً مني أنها الحقيقة — بأن الغربيون في بلاد اثينا وروما القديمة كانوا ينطلقون في معارفهم من الطبيعة التي حولهم في الارض وفي السماء ولذلك صنعوا لأنفسهم آلهة على نفس هيئة البشر وطبائعهم، يحبون ويكرهون، يتألمون ويفرحون، يتقاتلون ويتسالمون، بل يموتون ويحيون.. تماماً كما هي أحوال البشر، يتصارعون في عليـائهم كما يتصارع البشر في دنياهم.. ولذلك فإن اصحاب هذا الوعي كانت اعينهم منتبه إلى الطبيعة واساطيرهم منسوجة حولها.. فكانوا كلما اكتشفوا حقيقة من حقائق الطبيعة اسقطوا بها واحدة من الأساطير والخرافات واستغنوا عنها بما وجدوه، وهكذا.. حتى بلغت لديهم المعرفة بالعالم مبلغاً من النضج جعلهم يتنازلون عن البحث في كثير من الأمور الروحانية والدينية، وكان شعارهم في ذلك (العلم من أجل العلم) َوليس لأجل الانتفاع والمنفعة حيث كان العالم فيهم يجتهد أن يدرك حقائق الصحراء رغم انها ليس في بلاده منها شيء تماماً كما يجتهد في ادراك حقائق البحار التي تحيط بلاده من كل جانب.. وهكذا جعل الاوربيون القدماء في الغرب (الروح في خدمة الطبيعة)..
أما الشرقيون القدماء، فقد جعلوا (الطبيعة في خدمة الروح) فكانت الروحانية لديهم هي المنطلق والاساس والمنتهى، لذلك لم يلجئوا إلى هذه الطبيعة في شيء من العلم والمعرفة إلا بالقدر الذي يحتاجون إليه في معاشهم وبحسب متطلبات حياتهم فقط، إذ لم يكن لديهم أن العلم من أجل العلم وإنما كان العلم على حسب ما هو متوفر في بيئتهم فأخذوا بعلوم الصحراء وكائناتها وعلوم الفلك بقدر ما يدركون به الطرق والاتجاهات في الخلاء الفسيح ومعرفة الطوالع، كذلك أخذوا بعلوم الهندسة لأجل معابدهم ومقابرهم واراضيهم الزراعية وكفى.. وهكذا لم تكن الطبيعة من هموم الشرقيون وإنما كان همهم في ما وراء الطبيعة، فظلت الأسطورة عندهم حية تنمو ولا تنحسر وظلت الحكايات الخرافية تلعب بعقولهم في كل شؤون حياتهم.
ولعل من قائل يقول مالنا نرى أن الغربيون برغم ماديتهم تطفح آدابهم وفنونهم بالأساطير والخرافات وقصص السحر والحظوظ الفلكية تشاؤماً وتفاؤلاً، فعندهم مثلاً (شكسبير) كبير أدباءهم كثيراً ما يعبر عن أغراضه المسرحية بألوان من الماورئيات والأساطير، فلم يعد غربياً إذاً أن اصبحت أقاصيص (هاري بوتر) و(The lord of the rings) السحرية والاسطورية من ابرز عيون الأدب الانجليزي المعاصر فيما بعد.. ولكن هذا القائل قد لا يفطن إلى أنهم يبحثون عما هو خارج واقعهم الحي بحكم أن الانسان يرنو دائماً إلى ما ليس في حوزته ويتطلع إلى ما ليس في طبعه، كما انهم يحققون بأشكال متعددة مبدئهم القديم (العلم من أجل العلم).. أما الشرقيون فكانت الروحانية فيهم طبع وسجية وما وراء الطبيعة واقعهم وطريقة حياتهم، فلما ارادوا علماً بالكون والطبيعة طلبوه عند الغربيين فترجموا مؤلفاتهم في عصور متأخرة ثم اضافوا عليها حتى إذا عادت صحوة الغربيين بعد غفوتهم الحضارية استردوا عهدتهم القديمة مطعمة بإبداعات الشرقيين عليها، فأعادوا لأنفسهم سيرتهم الأولى في تطوير البحث العلمي في الطبيعة والكون وبلغوا فيه مبلغاً عظيماً هو ما نراه بين ايدي العالم الان، أما نحن فلم نملك إلا أن نجدد طلبنا القديم لنحصل على ما ينتجون ثم نظل نعيش تحت ظله..
مازلنا نحن في شرق العالم وجنوبه نعتقد في أناس مثلنا اعتقاد المريدين في شيوخهم اعتقاداً جازما ليس فقط ببركتهم بل بقدرتهم على منح غيرهم هذه البركة فصنعنا منهم ابطالاً خارقين مقدسين وقبلنا اياديهم واقتسمنا فضلة وضوئهم ووطئنا بأرجلنا مواضع نعالهم على الرمال حسباناً منا أنهم يفيضون ببركاتهم علينا وإن كانوا في قبور مشيدة وسكنى اضرحة صماء قد جيفوا تحتها.. فعلى غرار حوار بعضاً من جمهور شرقي في رواية (الأمير الأحمر) لمارون عبود (قال واحد منهم : من أين يأكل هذا الحبيس؟ فلا دير يطعمه، ولا وقف ينفق عليه. يقولون أنن مكتفٍ، ما طلب رغيف خبز من أحد..
فقالت المرأة: من يدريكم ربما يأتيه غراب برغيف خبز، مثل القديس بولا اول الحبساء.
فهمهم زوجها وقال إذ رأى غراباً فرداً: اسكتوا قد يكون هذا الغراب يخبي رغيفاً في عبه، فخاف أن نلتقطه أو استحى منا، فما رماه للحبيس، قوموا نذهب)
والحال عندنا هكذا وربما اشد، فإذا ناقشنا احد في مسألة واختلف مع مشايخنا في الرأي قلنا (وهل انت اعرف واعلم من الشيخ) فيكون ذلك مبلغ حجتنا (أننا لا يمكن أن نعلم علم الشيخ) .. لذلك، عندما تطور الأمور، وجدنا أنفسنا مازلنا نلجأ إلى السحرة والدجالين طمعاً في اتصالهم بالعوالم السفلية مما لا نعلم من مخلوقات الله هناك فبهم تنال الرغائب، برغم كونه شرك فاضح، من نجاح في الدراسة والترقيات الوظيفية وحتى في كسب محبة العشير ولو بكسر قلبه.. مازلنا نعتقد أن كسر المرآة يورث النحس بنفس الدرجة التي نعتقد فيها أن أرواح الموتى تطلبنا في ايام الثالث والسابع والاربعين لكي نفتح لها مأتماً من جديد في كل مرة.. مازلنا نرتكب الخطايا والأثام ونمني النفس بأن هناك دائما (مسيح) جديد سيفدينا بنفسه فيتحمل عنا اوزارنا عند ربنا مهما ارتكبنا من جرائم.. مازلنا عندما ننصب حاكما علينا نصدق احلامنا أن لدى هذا الحاكم عصا موسى السحرية يضرب بها على ظهر البلد فتنشق عن خيرات وكنوز بلمح البصر وأنه إن لم يفعل نعتناه بالفشل وطلبنا بتغييره.. مازلنا لا ننظر إلا تحت ارجلنا فقط ولا نسأل عن أسباب وعلل قد تكون بعيدة عما نحن فيه.. مازلنا لا نحب الاعتراف بأخطائنا وإنما نكابر مهما أقيمت علينا الحجة فنستبدل المنطق والتعقل بعلوا الصوت.. مازلنا نقول (كان أبي) ولا نقل (ها نحن ذا) ونتمسح في أنسابنا ونسب قبائلنا حتى ولو كنا في هذه الدنيا ضائعين ولم نمدد بسبب إلى أي شيء فوجودنا ورحيلنا عند العالمين سواء..
فبربنا ، كيف لا يستبيح عقولنا من يستغل هذه المعتقدات فينا.. وكيف لا يستبيح ارضنا من لا يرى فينا سوى أننا بكل شبابنا غثاء سيل وزبداً راحلاً بغير معنى.. وكيف لا يستبيح مواردنا من يكيل لنا من صنوف الكلام المعسول وهو يمد يده في جيبنا ليأخذ حقنا في الحياة.. كيف لا يستبيح اموالنا من يستغلون مرض الحسد المتفشي فينا، نحسد حتى الأصلع على نصوع رأسه تحت أشعة الشمس كما نحسد صاحب الشعر الكثيف سيان.. فإلى متى نحسب أننا نحن بكل هذا خير البشر ولا نملك سوى تاريخنا القديم وبعض علوم أمم تقدمتنا..
كلا لن نحقق شيئاً ما لم نتغير.. فالله قد قضى منذ الازل أن ما بقوم لا يتغير ما لم يغيروا هم ما بانفسهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق