ميت يحمل جثته ، ويهرول حيث يموت ..
وائل الكردي
لم تكن رواية (مكسيم جوركي) (جامعياتي أو مع الفلاحين) رواية من النمط المعتاد في كتابة الروايات .. هي نمط يعتمد فيه الكاتب على سيرته الذاتية ومحض الوقائع اليومية التي تدور حوله وتفاعله اللحظي معها ، فهي بذلك لا تملك الحبكة الدرامية التي تجتذب وجدان وعقل المتلقي وتحدث فيه أثراً ما ، وذلك لأنها تتألف فقط من (شخصية) دون أن يكون فيها (عقدة) مركزة و(حل) ممكن .. فقط حالة سردية للوقائع المتراصة أفقياً لكي تنتهي إلى لا شيء كما بدأت من لا شيء ، فليس هناك ثمة مقدمات منطقية تسوغ نهايتها كما لم يكن هناك ما يسوغ بدايتها . ولذلك لم تشتهر هذه الرواية بين القراء . وما ذاك إلا لأن الإنسان عادة لا يحب الطريق المرسل هكذا إلى ما لا نهاية ، فإن كان هنالك ثمة حقيقة يقترب يقينها من يقين الموت فهي أن قمة الطموح الإنساني أن يصل الإنسان إلى أهداف ونهايات فتلك هي دافعية حركته في هذا الوجود (السعي الأبدي نحو النهايات) ..
وعلى هذا السعي خلد أعمالاً ابداعية كبرى على نطاق القرون الطويلة بما توفر فيها من عناصر البداية والوسط والنهاية ، وأحكمت حبكتها بعقدة وشخصية وحل .. ولذلك لم تقارن عند النقاد روايته (جامعياتي أو مع الفلاحين) بروايته الأخرى (الأم) التي بلغت بشهرتها منصة الصف الأول لروائع الأدب العالمي ، فمن يقرأ رواية (الأم) يجد كل مقومات البناء الدرامي للأحداث والوقائع المسترسلة نحو العمق رأسياً بما يثير في النفس الشوق منذ مطلعها إلى ما ستكون عليه نهايتها ..
كل هذا يعني أن الذي يمنح القيمة الحقيقية لحياة الإنسان هو أنها سوف تنتهي في يوم ما غير معلوم ، ولأنها سوف تنتهي يركض الإنسان لاهثاً وراء قمم الانجاز والنجاح وإثبات الذات حتى يذكره الناس زمناً طويلاً عقب فنائه .. إنه إذاً (الموت) الذي وصفه البعض بظلم أنه شر يستعاذ منه فإذا به هو الخير الذي يحفز الخيل على الاسراع في الركض كلما اقتربت من خط النهاية .. هو الموت الذي قال عنه فلاسفة النزعة الفردية أنه التجربة الوجودية الخالصة والفريدة من دون التجارب كلها ، فليس الاعتبار أن هناك موت ولكن الاعتبار (أنني أموت) وأن ليس لحي من الأحياء في الكون أن يشاركني في هذه التجربة الوجودية الفردية حيث لا أحد يموت موتي ولا أموت أنا موت أحد .. وكل قيم البطولة والنبل والفداء تصبح كلمات بلا معنى ولا دلالة لو لم يكن لها ارتباط وثيق بقيمة ومعنى الموت بل أن الموت هو صانع هذه الكلمات التي صارت أعلى قيم الانسانية .. ولذلك لم يكن بدعاً أن يؤلف (اللورد ديننج) كتابه العبقري (معالم في تاريخ القانون) ليحكي كله قصص الثبات على المواقف التي حكم على أصحابها بالموت حرقاً أو قطعاً للرأس أمام محاكم التفتيش منذ قرون خلت .
ولعلنا لا نعجب بعد الآن إذا رأينا مجالس اللهو والضحك قد اندلعت داخل مخيمات العزاء بعد دقائق من توسيد الموتى قبورهم المظلمة وأننا كنا نظن أنه لم يعد الموت واعظاً ، ولكن الحقيقة المثيرة للشفقة على حالنا أن هؤلاء الذين يضجون بلهوهم وضحكاتهم ومجادلاتهم تحت ظلال أرواح الموتى إنما هم يعبرون عن هروبهم من فكرة الموت أصلاً كلما سنحت لهم الفرصة بهذا الهروب ، وما ذاك على الأغلب إلا لشعورهم بأنهم لم يفعلوا بشكل كاف بعد الشيء المهم في حياتهم الذي هو رسالتهم الحقيقة ومغذى هذا العمر قصير كان أو طويل تذكرهم به لحظات حثوا التراب على الميت بين أقدامهم ، فعلى أي شيء ينتظرون إذاً النهاية ؟ ولذلك يهربون .. فالشاهد في الأمر أن شهادة الانجاز للعمر لا تمنح لدى الناس إلا بعد ختام حياتهم وفلا يصير العظيم عظيماً فيهم بحق إلا حين طي سجله ورفع القلم عنه وجفاف الصحيفة ، فهل ترى كانت حياة صاحبها جديرة بالتخليد ما دامت الدنيا أم أنها غير جديرة ..
وحتى اولئك الذين أمضوا الحياة مجوناً ولعباً وانتهاكاً للحرمات كانت حجتهم في هذا أنهم أرادوا النهل من ملذات الدنيا قبل زوالها على يد الهادم المفرق ، ولكنهم أخطئوا الطريق وضلوا عن الصواب فالملذات لا تنتهي أبداً ولا تروي النفس الأمارة بالسوء من ظمأ .. وهكذا النهايات والخواتيم لكل شيء تمنحه قيمته فالكل يريد أن يترك ذاته في الدنيا لعلمه أنه حتماً راحل عنها ، وكلنا كما قال (مفتاح الفيتوري) ( .. ميت يحمل جثته ويهرول حيث يموت) .. كذلك الرواية الجيدة تنتهي لأجل أن تترك ذاتها تبقى طويلاً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق