(صحيفة مداميك 15 أغسطس 2020)
وائل الكردي
رواية (صورة دوريان جراي) من الروايات العالمية المثيرة للجدل والتأمل في آن معاً، فهي تجمع بين الواقعية الشديدة والرمزية والرومانسية.. ولا يمكن الوصول إلى مغذاها الكامل إلا بالتحليل المعمق.
في التالي يمكن حصر عدد من النقاط التحليلية حول هذه الرواية وفلسفتها، وقد لا يتفهمها إلا من قرأ الرواية كاملة.
أولاً، هذه الرواية تجسد العلاقة الجدلية الوجودية بين الأخلاق والجمال، ومدى ارتباط قيمة التذوق الجمالي بدرجة السمو الأخلاقي.
ثانياً، بالرغم من أن رواية (صورة دوريان جراي) يمكن تصنيفها في القرأة الأولية ضمن الآداب الواقعية، وأن هذا يتوافق تماماً مع طبيعة الوعي الإنجليزي الحديث والمعاصر الذي يميل بصورة أساسية نحو الوضعية المنطقية والتجريبية والنزعة العلمية الصرف بحيث صارت إنجلترا بفلاسفتها هي الرائدة في هذا التيار على مستوى الفكر الأوروبي كله، إلا أن الغريب في الأمر أن مشاهير الآداب الإنجليزية من روائيين وشعراء كثيراً ما يجنحون على المستوى الشعبي نحو الميتافيزياء وروح الخرافة والميثولوجيا بصورة واضحة ويردون أنفسهم دائماً إلى الأسطورة اليونانية القديمة يستلهمون منها أفكارهم الأدبية والفنية، حتى صار هؤلاء الكتاب الإنجليز هم رواد الأدب الروحاني المختلط بالميثولوجيا منذ (حلم منتصف ليلة صيف) لمؤلفها الأشهر في العالم (وليام شكسبير) ثم مروراً بالكاتب الثوري (شيلي) في مسرحيته الملحمية (بروميثيوس طليقاً) ثم كتابات (شارلز ديكنز) و(وردزويرث) و(كارلايل) وحتى (بيرنارد شو) و(ت. اس. اليوت) بدرجة ما، ثم وصولاً إلى (أوسكار وايلد) في (صورة دوريان جراي) ثم انتهاء بقصص (هاري بوتر) لمؤلفتها (ج. ك. رولينغ).. وهذه تعد مخالفة لتيار الوعي الانجليزي على المستوى الرسمي. لذلك هنالك من كبار النقاد من يصف هذا الاختلاط بالنزعة الكلاسيكية ويفسرها بأنها وجود الرومانسية والواقعية جنباً إلى جنب في كاتب واحد أو على الأقل اندماجهما تماماً، وأن وجود هذا الاندماج شرط في أدباء الدرجة الأولى، وهو سر عظمة (هوميروس) و(فرجيل) و(دانتي) و(شكسبير) و(ملتون) و(جوته)، أما أدباء الخيال وحده أو الواقع وحده فهم صغار العباقرة “على حد تعبير (لويس عوض)”. ولذلك نرى شيئاً من الأسطورة في رواية (صورة دوريان جراي) تجلت في لوحة البورتريه التي رسمها الفنان (بازيل) كأعظم عمل فني أصدره في حياته، بكونها العامل المعياري الذي تحركت أحداث ووقائع الرواية حوله من خلال التحولات التي تجري على هذه اللوحة منذ عقدة الرواية وحتى نهايتها. وهذا ما يجعل الرواية تخرج عن تصنيف الواقعية الصرف إلى الكلاسيكية.
ثالثاً، على الواقع، نشاهد كيف أن لوحات البورتريه تظل الشخصية المرسوم فيها على حالها ربما لمئات السنين لا تتغير ملامحها بينما يعتري التغيير وخطوط العمر على الملامح للشخصية بعبورها في مراحل الشباب إلى الهرم.. ولكن مع رواية (صورة دوريان جراي) نعاين العكس تماماً، حيث يبقى الشاب الجميل جميلاً في حين تهرم ملامحه في لوحة البورتريه ويزول جمالها تدريجياً وتذهب نحو القبح كلما ارتكب الشاب فعلاً آثماً. ولعل الكاتب أراد بهذا المعنى الرمزي التأكيد على أن إدراك الناس للجمال كقيمة يكون بحسب ادراكهم للقيمة أخلاقية السلوكية لدى حامل هذا الجمال. فإذا تلوثت أيدي هذا الجميل بالآثام والخطايا فبقدر هذا التلوث تتدنى وتقل قيمته الأخلاقية فلا يعود لشكله الجميل ذاك نفس الوقع والأثر الحميد له في وجدان من يتذوقون هذا الجمال، من باب أن من مقاصد الفن هو الحالة الساكنة في الواقع إلى حالة تفاعلية تمثل مكوناً من خبرة ووعي الناس، لذلك عبر (اوسكار وايلد) عن هذا المعنى بنوع من التورية الرمزية في الرواية حيث يممن أن تمثل اللوحة انعكاس لحقيقة هذا الإنسان الجميل وصورته أمام نفسه، أي أن (دوريان) البطل عندما يطالع اللوحة الباهرة فإنما يشاهد صورة نفسه الحقيقية أمام نفسه، فيكون لهذا الجمال الشكلي لديه كل البهاء في وقت كان فيه هو في رفعة من الأخلاق والقيم السلوكية والوجدانية والضمير الحي السليم، ولكنه ما إن بدأ يفقد هذه الأخلاق والقيم أخذت الصورة في اللوحة بعينه وذهنه تتحول إلى التدني الجمالي إلى أن بلغت القبح التام في نهاية الأمر. والمغذى في هذا أن نظرة الإنسان لنفسه ونظرة المجتمع له تعلو أو تنحط بقدر قربه أو بعده من القيم الأخلاقية السامية، فإذا فقد الإنسان هذه القيم فقد معها احساسه وتأثره بقيمة جماله الشكلي على الرغم من بقاء هذا الجمال الشكلي قائماً على حاله كصورة مجردة في الخارج.
والدليل على هذا المعنى عند المؤلف أن (دوريان جراي) في آخر الرواية عندما كثرت آثامه وجرائمه وانفلت زمام القيم من بين يديه بدت له صورته في لوحة البورتريه خاصته غاية في البشاعة جعلته لا يحتمل هذا، فسدد طعنة للوحة مزقتها، ولكنه في الحقيقة كان قد سدد الطعنة لنفسه، فقضت عليه هكذا بعد أن صار الشاب متنازعاً بين شكله الخارجي الجميل واقترافات نفسه الآثمة التي أفقدته الإحساس بهذا الجمال فسقط فريسة لمرض ازدواجية الشخصية ما أفضى به إلى هذه النهاية المأساوية.
فالقضية عند (أوسكار وايلد) إذن هي قضية وعي، إذ أن مأساة (دوريان جراي) وقعت لأنه قدم بظنه الاعتداد بالجمال الشكلي وجعله هو الأصل بدلاً عن أن يعتد في الأصل والمبتدأ بالقيم الأخلاقية السامية، ولربما كان مفتاح رسالة المؤلف الرمزية العميقة في مأساة (دوريان جراي) أن الأخلاق السامية هي وسيلة الانفعال الخلاق التام بالجمال الطبيعي الحي وأن الفن يعكس هذا الانفعال بالضرورة.
ومن قبل، فقد زعم (ارسطوطاليس) في كتابه (فن الشعر) أن كل فن يولد متعة خاصة به تمثل غايته أو وظيفته، أما ما يحدد طبيعة هذه المتعة فهو المعنى الانفعالي أو التأثير الذي يسببه العمل الفني، وهذا المعنى الانفعالي يتعين بالمعنى الأخلاقي لموضوع هذا العمل الفني.
وقد يبدو جلياً أن (أوسكار وايلد) في روايته هذه إنما يتبنى نوعاً ما الموقف الفلسفي الإفلاطوني في تفسيره إدراك حقيقة مثال الجمال في (عالم المثل) بما لا ينفصل عن إدراك حقيقة مثال الخير الأخلاقي هناك.
رابعاً، بالرغم من أن دور اللورد (هنري) الساخر والمستهزئ بالأخلاقيات والمشكك فيها في الرواية يجسد الرؤية النيتشوية – نسبة إلى الفيلسوف الألماني (فريدريش نيتشه)- التي هي على النقيض من رؤية (أفلاطون) للأخلاق، وكيف أن الناس في هذه النظرة يجنحون نحو قيم الضعفاء يحسبونها بظنهم أنها قيم الخير في حين أن الأصل في الوجود والحقيقة هو قيم القوة والقسوة والتي يحسبها الناس شراً، وأنه من الواجب على الناس أن ينتقدوا ما هم عليه من التزام بقيم زائفة مثل الفضيلة والإخاء والتسامح والإيثار يدفعهم في ذلك الالتزام اصطناع النفاق الاجتماعي في عموم حياتهم، وستظهر لهم بهذا النقد القيم الحقيقية الفطرية في الإنسان مثل الأنانية والقسوة والطغيان والغاية التي تبرر الوسيلة. إلا أنه قد جرى عليه ما جرى على (نيتشه) نفسه، فكما لم يستطع (نيتشه) طوال حياته أن يحقق فلسفته الأخلاقية على ذاته في قلب القيم رأساً على عقب فكذلك كان سقوط (هنري) في دائرة النفاق الاجتماعي والتجمل الزائف الذي كان ينتقده ويرفضه ويجعله السبب الحقيقي على ما يبدو لاغتراب الإنسان عن ذاته وحقيقة وجوده، ففي الوقت الذي يظهر فيه على تآلف تام مع زوجته سيدة المجتمع أمام الناس، وفي وسط المناسبات الاجتماعية كان الأمر يبدو بعيداً عن هذا في حال الانفراد ببعضهما البعض.
خامساً، العبارة الأخيرة في مقدمة (أوسكار وايلد) غلى الرواية “المبرر الأوحد لوجود الفن غير المفيد هو ان يأسرنا بجماله،. لا نفع في الفن إطلاقاً”، تدل على أن الفنان الذي رسم صورة (دوريان جراي) إنما جسد بالأحرى انفعاله وتفاعله هو كقنان بجمال (دوريان جراي) وليس حقيقة (دوريان جراي) نفسه، هذا الانفعال والتفاعل الذي نقل معنى القيم الأخلاقية السامية كأصل في تذوق الجميل بكونه جميلاً.
وهذا ربما يفسر اقتصار دور الفن عند (أوسكار وايلد) على أن يأسرنا بجماله بأنه يحقق الانفعال والتفاعل المطلوب تجاه الأشياء التي تكون ساكنة انفعاليا لدينا أو نتعامل معها وفق أي غرض وظيفي عملي آخر دون الإحساس بقيمتها الوجدانية الشعورية عندنا.
سادساً، لم يكن (أوسكار وايلد) في روايته (صورة دوريان جراي) هو من أثبت علاقة التوافق للذوق الجمالي مع السمو الأخلاقي بأن المنطلق الأصيل يكمن في السمو الأخلاقي الذي يكشف عن الوجدان الداخلي للإنسان، فقد سبقه بزمن طويل الكاتب الفرنسي (فيكتور هيجو) في روايته الأشهر (أحدب نوتردام) حيث جعل القبح للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية موضوعاً للخلق الفني بل ويلتمس منه المغذى العالي. فلقد كان أحدب نوتردام هو الاشد قبحاً في شكله الخارجي بظهره المقوس وعينه المطفأة وملامحه وعناصر جسده المخيفة غير المتناسقة، لقد كان مسخاً مشوهاً بشعاً بكل معنى الكلمة، ولكنه مع ذلك كان الأسمى أخلاقاً والاعظم رقة في القلب والأعلى جمالاً في الوجدان والأرقى سلوكاً في كل ساحات باريس آنذاك، كما ضرب أروع المثل في الحب العذري المتجرد فيما انتهت عليه الرواية. وهنا تعيد رواية (صورة دوريان جراي) هذا المعنى نفسه بعكس الحالة، فهناك قيمة الجمال في القبيح الأخلاقي، وهنا انهيار الجمال في الجميل اللا أخلاقي. ولذلك نقول بأن (اوسكار وايلد) في روايته ينشد السمو الأخلاقي وليس كما يمكن أن يبدو لأول وهلة أنه يدعو إلى شيء من العبثية الأخلاقية.
سابعاً، من الناحية المنهجية الفنية لرواية (صورة دوريان جراي )، فقد احتل الشكل النصي – أي الاعتماد على المستوى اللفظي ونوعية الكلمات وشكل الخطاب – في الرواية أهمية كبيرة بالنسبة لفهم القضاء الدرامي للوقائع والأحداث فيها بما يحقق قوة التفاعل مع الرسالة الفلسفية التي قصدها الكاتب من روايته.
اخيراً، لأجل هذا كله، لم يكن بدعاً أن يختار الفيلسوف العظيم (لويس عوض) هذه الرواية ليترجمها، فخرجت في لغتها العربية كأنما أن المترجم قد كتبها مع مؤلفها كلمة بكلمة وفكرة بفكرة تأليفاً وليس نقلاً فقط. وذلك هو إبداع الترجمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق