وائل الكردي
كأنما بنا ننثر على جثمانه شعر (ابن الخطيب) :
(رجع التراب إلى التراب بما اقتضت .. في كل خلق حكمة الخلاق
إلا الثناء العطر الشذى .. يهدي حديث مكارم الأخلاق
بعدنا وإن جاورتنا البيوت .. وجئنا بوعظ ونحن صموت
وأنفسنا سكنت بغتة .. كجهر الصلاة تلاه القنوت
وكنا عظاماً فصرنا عظاما .. وكنا نقوت فهنا نحن قوت
وكنا شموس سماء العلا .. غربن فناحت علينا السموت
فكم خذلت ذا الحسام الظبا ..وذو البخت كم خذلته البخوت
وكم سيق للقبر في خرقة .. فتى ملئت من كساه التخوت)
لن اتحدث عن سيرة ذاتية للرجل ولا عن مآثره وجمال أخلاقه وطيب معشره بين الناس ، فلقد قام بهذا الوصف الكثيرون وكلهم كان على قلب واحد في حضرة سيرة هذا الراحل النبيل .. كما لا شأن لي بيوم ميلاده واسمه بالكامل ومراحل دراسته ولا كيف بدأ ولا كيف انتهى .. ولكني اتحدث عن سيرة حالة لا تموت بموت صاحبها ، هي حالة وطن في جسد إنسان .. وحينما اتكلم عن هذه الحالة فإنما من باب معايشة لها زهاء الربع قرن او يزيد ..
لقد كان هناك على طريقة واحدة (عثمان جمال الدين) و(سعد يوسف) و(عادل حربي) و(عبد الحكيم الطاهر) .. واخرين غيرهم كلهم على تلك الحالة (وطن في جسد إنسان) .. ولذلك عندما اتكلم عن (عثمان) الإنسان فإني في الحقيقة اشملهم جميعاً بالحديث والوصف ، فإنه إذا فاض حب الوطن في قلب الرجل عبر عنه ليس بالكلمات وليس بملامح الوجه أو حركات الجسد وليس بدفق المشاعر ضحكات ودموع ، وانما يكون تعبيره بهذا كله في لحظة واحدة ومكان واحد .. ومن التلقائي جداً أن يلجأ صاحب هذا التعبير عن ذلك البحر الذي يجمع كل هذه الأوجه من وجوه الفيض المنهر ، فكان هو (المسرح) ذاك البحر .. غرق فيه الرجل واستهلك كل دقائقه وتفاصيله وعلومه وآدابه لإخراج مكنون ذاته حتى بلغ فيه مرتبة الاستاذية الممتازة (استاذ كرسي) وبعدها أغلق دفتره ورحل ، تاركاً وراؤه درسه لطلابه على مدار عمره اجيال تلو اجيال فكانوا هم الوارثون ، ورثوا حالة أن تحوي اجسادهم هذا الوطن .. لم يكن غريب إذاً معنى قوله لي ذات يوم (احنا البلد دي ما بنقدر نفارقها .. كل ما لفينا الدنيا رجعنا ليها اشد حباً وعشقاً .. لذك بمجرد أن أنزل في مطار من مطارات العالم أول شيء أفعله اؤكد الحجز لرحلة العودة) .. فكان لسان حالة على هذا يقول مع (الدسوقي) :
(ولذلك حين عبرت البحر إلى السودان
غنيت سعيداً كالأطفال
ونسيت حلاوة طعم المال
ورجعت أغرد بالأفياء بكل مكان
وركعت أقبل أمدرمان
هذي العاصمة الأنثى
أهواها مذ كنت غراماً في عيني أمي وأبي
وحملت الحب معي بدمي
في رحلة هذا العمر
واحمله حتى القى ربي)
هذا الوله الصوفي الفريد في حب الوطن لم يكن بالشيء الغريب على من تشرب بروحانية أهل البلد وتربى على لغة الوجدان والذوق والكشف والعيان المباشر ، فانقاد قلمه طوع نفسه ليكتب رسالته العلمية في تحليل وترسيم وتظهير تلك الروحانية عبر (طبقات ود ضيف الله) يقول فيها ما لم يقله الشراح والمؤرخون وحتى المريدون .. فالعلم في رسالته امتزج بالخيال الذي حقق به في كتاب (الطبقات) شرط الزمان وشرط المكان فأخرج منه بدايات واواسط ونهايات وشخوص وعقد وحلول واحداث درامية كثيفة تحكي قصة وعي شعبي تركت فيه بذورها تنمو من جديد مع كل جيل من أجيال السودان منذ القديم بطوعنا أو رغماً عنا ومهما بلغت الأجيال من ذروة التحضر والتمدن العصري .. ولهذا السبب ، فإن جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا تلك الجامعة التقنية الصارمة قد لانت للإنسانيات على يدا (عثمان) شيئاً كثيراً ، وأدركت ورش الهندسة ومعامل العلوم والصنائع ، بسعيه الانساني اللطيف ، أن لا غنى للقواطع والمساطر والأزاميل والبراغي عن كبد رطبة ورائها ومن فوقها .. فالإنسان حتماً هو مقصد العمران .
ويعود لنا (ابن الخطيب) آخر الرثاء بقوله :
(ولكنها الدنيا قليل متاعها .. ولذاتها دأباً تزور وتزور
هو الموت للإنسان فصل لحده .. وكيف ترجى أن تصاحب مائتاً؟
نصيبك في حياتك من حبيب .. نصيبك في منامك من خيال)
.. وداعاً (عثمان) ، وفي أمان الله عند الرفيق الأعلى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق