السبت، 22 أغسطس 2020

في الهامش

 في الهامش ..

           وائل الكردي

في قصة قديمة من قصص الخيال العلمي .. نزل من سفينة فضاء لكوكب متطور جداً حطت على الأرض، سيد مهيب الطلعة باهر الهيئة ذو وقار كبير يشبه حكماء العهود القديمة بدا كأنه إنسان كأجمل ما يكون البشر، وسار من خلفه تابع له رجل حديدي عملاق كأنه إنسان آلي .. ذعر حينها الحراس الأرضيون واشهروا اسلحتهم في مواجهة هذا السيد وتابعه. ولكن السيد نطق بكلمة واحدة فقط (سلام) .. وقبل أن يكمل كلامه يبدو أن أحداً قد اشتد به الخوف فانفرط منه عقد نفسه وافلت طلقة من بندقيته أصابت السيد في مقتل فسقط لها سقطة واحدة على الأرض وظل في موضع سقطته كأنه النائم المطمئن وعند رأسه وقف تابعه الحديدي العملاق صامتاً لا يتحرك كما لو كان في انتظار إشارة تأتيه من سيده المسجى أو من السماء، وظلت السفينة الفضائية مغلقة .. كان هكذا هو الحال لعشر سنوات بقي فيها كل شيء ساكناً على موضعه، وصار الأمر كأنما قد تحول المكان إلى متحف يرتاده الزوار ليروا اولئك القادمين من فضاء بعيد وكيف هو هذا السيد على هيئة إنسان كأجمل ما يكون البشر. ولم يعلم أحد طوال هذه المدة ماذا كان يود هذا السيد أن يقول .. وبعد تمام هذه السنوات العشر أتت الاشارة من الفضاء وفتحت السفينة أبوابها، وتحرك التابع وحمل جثمان السيد واستدار صاعداً نحو السفينة بصمت، فناداه الناس من خلفه أنهم كانوا في انتظار كل هذه السنوات لربما يعود سيده إلى الحياة مرة أخرى فيخبرهم بما أراد ويقدمون له الاعتذار اللائق .. التفت إليهم التابع الحديدي العملاق وقال (إنكم لم تفهموا .. أنا هو السيد)، وصعد إلى السفينة وغادرت سريعاً ..

ولو أنهم قد أدركوا منذ أول الأمر أن السيد كان هو من ظنوه تابعاً لاختلف الحال تماماً ولما ضاعت لديهم هذه السنوات العشر منتظرين ، إذ في عرف البشر ليس يكون فوزاً حياة تابع، ولكن كل الخسارة تكون في موت سيد ..

وشهادة هذه القصة، أننا كثيراً ما نغفل عن الحقيقة وعن جوهر ما هو قائم أمامنا، فنحسب ما هو الأدنى قيمة (مركزاً) وما هو الأعلى (هامشاً) .. وربما نخطئ إذ نحسب ان محور الدائرة أهم من محيطها واقطارها .. تلك هي النظرة المركزية للذات التي أضاعت السلام في هذه الدنيا وقسمت شعوب الأرض إلى سادة انقياء في عروقهم ودمائهم وعبيد منحطة اعوادهم ودمائهم ملوثة، وجعلت أقواماً ينصبون أنفسهم أئمة الحضارة الإنسانية ويجعلون سواد الناس توابعها .. 

فمن يدري، لعل المركز الذي ينال جل الخيرات والأمن والغنائم لم يكن ليحصل على ذلك لولا أن هناك هامش يصد عنه. ولعل ذلك الهامش الذي هو بحسبان اعرافنا قليل الأهمية ونصيبه دائماً الفقر والأوبئة والحروب والبؤس وشقاء الحال، أن يكون هو حائط الحماية الحقيقي لمن هم في المركز، فلولا خمار القدر لفسد الطعام، ولولا أغلفة الكتب لتمزقت الأوراق أو مُحيت الكلمات، ولولا سقف المنازل وعروشها ما آمن الناس فيها برداً ولا حراً ولا مطراً ولا قصف رعود ولا عدو قاصد بأذى ..

وأبرز ما تكون الغفلة على مستوى الإدارة وسياسة الجماعات والأفراد، فيظن الحكام بأن المركز وعاصمة البلاد هي محل النماء والأولى به وأنه إذا صلح المحور صلحت معه سائر الأطراف وان المهمشين على الهوامش اينما كان موقع هذه الهوامش سوف يأتي دورهم في الإعمار والتنمية والرفاهية والأمن عقب أن يستتب كل ذلك للمركز .. ولكن يظل الحال في تدهور مهما اجتهدنا وتنفتح ثغرات كثيرة وقبل أن نقدر عليها تنفتح أكثر منها وأكبر، وتستمر الأزمات دائرة .. ولو أننا كنا بدأنا بالهامش في العمران ثم انحسرنا نحو المحور لفر الناس بعزائمهم إلى الريف ولتدفقت الخيرات على عموم البلاد .. إن الهوامش تضرب بطبيعة الحال حصاراً على المراكز، فإن لم يتم لها الأمن الشامل أولاً  لم يتم للمراكز، فلتذهب إذاً معاول التنمية الى حيث المهمشين ابتداء ٍ بالضواحي والأطراف فهكذا تحوي السدود مياهها .. ولكن أن يبقى الهامش بدائياً والمركز حضارياً فهذا ما يخلق النزوح الكبير وتكدس البشر في رقعة محدودة لا تحتمل اثقالهم وتعظم البطالة وتكثر معها المهن التافهة وربما ينعدم لدى الكثيرين الشعور بقيمة الحياة والعمر فيكون مدعاة لظهور الجرائم والشرور التي لم تكن بعهد الأسلاف ويصير الأصل في المجتمع هو العقوبة وليس منع الجريمة .. والنتيجة الحتمية  بعد ذلك، أن الأرض في الهامش تظمأ ثم تموت حيث لا أحد هناك يفلحها ويسقيها وقد تصبح معبراً ميسراً لكل غازٍ أراد البلاد بسوء.

وليست مظلمة الهامش فقط في النطاق الجغرافي وإنما حتى في المفاهيم والأفكار وفي تقسيم فئات المجتمع الواحد وفي الوظائف والأدوار بين ما هو أساس وما هو ثانوي .. وبضرب المثل على ذلك، يخطئ كثيراً من ظن أن القائد في العسكرية هو الأساس وأن الجنود توابع، فعلى من إذاً يقع عبء العمل الكبير في الميدان اذ الجنود هم القوة الضاربة، والحقيقة أن القائد بلا جنود كائن مقطع الأوصال من خلاف فليس القائد بأعظم أهمية ممن يقودهم، فالمجد إذاً لابد أن يبدأ من عند الجندي ثم يصعد إلى القائد، وإن كنا نمنح للقائد على الجندي حق الطاعة حتى التضحية بحياته فينبغي في المقابل أن نمنح الجندي على القائد حق كفاف بيته وأمان معيشته وزوال هم الدنيا عن عاتقه .. ونخطئ مثل ذلك إذا جعلنا قيمة الطبيب أعلى من قيمة كوادره المعاونة وقيمة خريج الجامعة أعلى من قيمة المزارع والصانع وقيمة صاحب العمل أعلى من قيمة عماله وقيمة المغني أعلى من قيمة الشاعر وقيمة الحاكم أعلى من قيمة الشعب .. إنما هي أدوار في الحياة بحد سواء، وكل ميسر لما خلق له.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق