السبت، 11 يوليو 2020

حتى لا تختلط اوراق الاحجية

صحيفة مداميك

 8 يوليو 2020

حتى لا تختلط أوراق الأحجية ..

وائل الكردي

تعلَّمنا من مؤلفات الدكتور (رؤوف عبيد) أستاذ القانون الجنائي بالجامعات المصرية، أن النقد الموضوعي المُتحرِّر هو السبيل الوحيد للوصول إلى حقائق الأمور، وأن ضرر النقد الخاطئ مهما قيل فيه أهون شأناً من ضرر الرأي الخاطئ ذاته؛ كما أن النقد هو جهاد العقل للتحرُّر من الأغلال التي تُكبِّل العقل في محاولته البحثَ عن الحقيقة.

ومن باب النقد على صفته هذه، ماذا لو صدق القول بأن معظم الناس ينظرون بسوء فهم إلى نموذج الشيوعية في السودان؛ ألا يفعلون ذلك قياساً على نموذجها السوفياتي ونموذجها الصيني بدعوى أنها ضد العقيدة؟ ولم يلفت انتباههم أن العقيدة ليست عنصراً محورياً في كثيرٍ من التنظيمات الشيوعية في كُلِّ البلدان التي تَغلب عليها النزعة التدينية، ومنها السودان؛ ففي هذه البلدان المحور الأساسي هو فكرة مشاعية أدوات الإنتاج وسيادة القطاع العام، باعتبار أن هذه البلدان في أغلبها بلدان نامية اقتصادياً، فلا تحتمل مُطلَقاً أيَّ نوعٍ من الاحتكار للثروات الأساسية ورؤوس الأموال بالملكية الفردية لأدوات الإنتاج، وهذه الملكية الفردية لأدوات الإنتاج من شأنها تحرير السوق وإدارة الاقتصاد وفق النظام الرأسمالي، الأمر الذي ينتهي غالباً بإدخال البلاد في مأزق اقتصادي عسير كما حدث في السودان باتساع هوة الفقر لأغلب قطاعات الشعب.

ومحور النقد في هذا، أنه ربما كثيرٌ من المثقفين السودانيين نقلوا حالة الكراهية للمنظومة الشيوعية إلى عموم الناس في السودان، بأن ركّزوا الأنظار على المحاور غير السياسية وغير الاقتصادية في سلوك الشيوعيين، بحيث رسموا صورة ذهنية نمطية حرصوا فيها أن لا تكون موضع إلفة لدى المزاج العام.

ولمَّا كانت دائرة المثقف أوسع وأشمل من دائرة السياسي، بكون المثقف هو حلقة الوصل المُحقِّقة للتفاعل الاجتماعي بين جميع ضروب الفكر والعلم المُتخصِّصة وعموم الجمهور، ولمَّا كان الحزب الشيوعي من الأحزاب التي تحتفظ بأسرارها في أضابيرها الداخلية؛ فلا يطلع على عمق مجريات العمليات عندهم إلا من نال الثقة لديهم؛ فلكل ذلك عندما أتت تلك الصورة من المثقفين التقطها الساسة لتكون لهم أداة عملٍ ضدَّ الشيوعية كحزبٍ مُنافسٍ من جهة، ولتكوين دعاية إعلامية لأنفسهم في المقابل من جهة أخرى. تجلَّى ذلك بصورة ظاهرة عقب الاحتفال الرسمي بذكرى وفاة (لينين) في العام 1970م، بكلمة موثقة القاها الرئيس (نميري) أعلن فيها موالاته التامة “للاتحاد السوفياتي العظيم”، الأمر الذي جعل الناس يظنون، أن هناك مطابقة بين شيوعية موسكو وشيوعية الخرطوم. وقد صوَّرت الدعاية كيف أن شيوعية موسكو حجرت على كل الحريات العقدية والإنسانية في الدول التي سادت فيها، ولم يكن من المهم هناك كم هو عدد الضحايا الذي سقطوا وسيسقطون جراء تحويل المجتمعات الإنسانية إلى حقل تجارب كبير بنحو ما فعل (ماوتسي تونج) في الصين، حيث أدت ممارساته إلى كارثة بشرية كبرى هناك وهلك بالمجاعة على يديه ملايين الفلاحين في زمن وجيز، وهذا بدوره رسم صورة بشعة لدموية المنظومة الشيوعية وسهولة تصفية الأفراد من أجل ضبط الإطار العام للجماعة، والشيء السيئ هنا والذي استغل لزيادة كراهية عموم الناس في السودان للمنظومة الشيوعية باعتبارها منظومة دموية لا ترعى حرمة لحياة الإنسان الفرد هو وقوع مذبحة بيت الضيافة (يوليو 1973) للأسرى المُحتَجزين لدى ضباط حركة الرائد (هاشم العطا)، الذين هم ضباط التنظيم الشيوعي بالقوات المُسلّحة، مما عكس بدوره أن التنظيم الشيوعي بطبيعته يفرض ولاءً له على اتباعه أكبر من ولاء المواطنة والإخاء الوطني ورابطة الدم والوطن، ذلك على الرغم من أن الحادثة ما زال يلفّها الغموض، وحولها علامات استفهام كبيرة تنتظر الاجابة عنها. ثم ربما تأكد هذا الظن بالمطابقة أكثر بين النموذج الشيوعي السوفياتي والنموذج الشيوعي السوداني مع انهيار الشيوعية السوفياتية في العالم مطلع التسعينيات، وقيام الثورات الشعبية الانفجارية ضدها، وصار من المنطقي لدى الناس عدم جواز إحياء هذه الشيوعية التي ماتت في العالم في السودان، وإن كل من يدعو بعد ذلك إلى قيام منظومة شيوعية في السودان بعد انهيارها في العالم، إنما هو يحمل ولاءً عقدياً للشيوعية أعلى لديه من الدين والوطن والشعب، وفي كلا الحالتين هو محل إبعاد ظاهر من القبول لدى عموم الناس. وربما ما أساء السمعة للتجربة الشيوعية في العالم ثم في السودان، الطريقة التي تكونت بها المنظومة الشيوعية في السودان في بواكير الأربعينيات كانت مُضادّة للصبغة التي صبغت الروحانية الصوفية بصبغتها الدامغة في عموم السودان. وربما أكد هذا التضاد بين الطريقتين هو الموقف الأقرب إلى الإلحادي الذي اتخذه بعض كبار مؤسسي المنظومة الشيوعية في السودان أمثال (عبده دهب) وأعضاء حركة الديمقراطية من أجل التحرُّر الوطني (حدتو) وتلاميذ الشيوعي الفرنسي (هنري كورييل).

وربما أن هذا النفور الشعبي من الشيوعية في السودان هو ما جعل المنتمين للحزب الشيوعي الآن يتجهون إلى الانحياز نحو كيانات ومنظومات سياسية أخرى في مواقفهم السياسية، ومن أجل ترويج طرحهم الإصلاحي الجديد بأنه ليس الحرب الحاسمة على الرأسمالية وإنما العمل على الاتجاه الموازي نحو إعادة إحياء القطاع العام بالاستفادة حتى من أولئك الرأسماليين الوطنيين. ولكن تظلُّ هذه النظرة الجديدة غائبة عند أكثر السودانيين في موقفهم التقليدي من المنظومة الشيوعية في المشهد السياسي الراهن، إذ ما زالت الشيوعية لدى كثيرين منهم هي مشاعية إنسانية أخلاقية بديلة للدين وليس مجرد مشاعية وسائل وأدوات إنتاج.

وبغض النظر عما إذا كان كل ما ذكر صحيح، على الحقيقة أم لا، إلا أن الغرض منه جعله مقدمة لنتيجة أساسية؛ هي أولاً، أننا عندما نقيم النقد على أي أطروحة يجب التعرف عليها، على الحقيقة، وبيت القصيد فيها، وليس أن نحكم عليها بمحض انطباع مُستعار من مواقف آخرين. وثانياً، أنه لا مفرّ أمامنا لكي ننهض بالسودان المكسور من أن نراعي أطروحات كل كيان بشري سياسي في إطار الحد الجغرافي الشامل للسودان، والأخذ بأوجه الحق فيه، فعامل (المكان) يجب أن يكون هو الرابط الحاسم في تحقيق المواطنة السودانية، وليست هذه الرعاية بسبب نفاذ وجدوى أطروحة هذا الكيان او ذاك، وإنما لأن كل أطروحة هي في المقام الأول تُعتبر مفتاحاً لعقل الكيان القائل بها، وما يتميّز به هذا العقل عن غيره؛ ففي هذا التمايز بين العقول يكمن التكامل المعرفي الذي يؤلف العقل الجمعي للوطن، فيكون المكان هو الدالُّ على العقل الجمعي الذي يعيش فيه، تماماً كلعبة (الأحجية) puzzle ذات الصور المُتقطّعة التي تكتمل ويصير لها معنى بتركيب القطع مع بعضها بشكل سليم.


حقوق النشر محفوظة لصحيفة مداميك 2020
https://www.medameek.com/?p=8252

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق