شرح مواقف مارون عبود في تحليل ونقد (العقول الأخرى)
Explain the positions of Maroun Abboud in the analysis and criticism (other minds)
د. وائل أحمد خليل الكردي
Wail Ahmed Khalil AlKordi
أستاذ جامعي وباحث في الفلسفة
جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا
والأكاديمية العربية في الدنمارك
السودان Sudan
wailahkhkordi@gmail.com
شرح مواقف مارون عبود في تحليل ونقد (العقول اﻷخرى)
Explain the positions of Maroun Abboud in the analysis and criticism other minds
ملخص/
هذا البحث يهدف إلى الكشف عن منهج لقراءة وفهم (العقول الأخرى) في الحيز النقدي التطبيقي، وعلى اعتبار أن أهمية فهم العقول الأخرى تكمن في فهم طرق حياة الشعوب ودافعية الناس فيها وبالتالي فهم سُنة التطور الحضاري لها. والمشكلة أن أكثر البحوث في هذا الصدد هي على إما على مستوى التفسيرات الفلسفية النظرية للمفهوم في ذاته، وإما على مستوى التفسير السيكولوجي، ولهذا كان هذا البحث إنزال منهج قراءة العقول الأخرى إلى الحيز التطبيقي النظري من خلال نموذج عملي في ميدان النقد الأدبي وهو مؤلفات (مارون عبود) وكيف أنه عمد إلى إيضاح الأحوال العقلية وطرق الحياة من خلال النقد الشعري والأدبي والذي يعد بدوره تطبيقاً لمناهج التحليل الفلسفي كما هي عند المعاصرين. والنتيجة المستفادة من هذا هي أن معالجات (مارون عبود) النقدية وأعماله الروائية ليست فقط تكشف عن كيفية لفهم العقول الأخرى على وجه العموم، وإنما أيضاً قدمت نوع العقل الذي ينتمي إليه هو - وهو العقل العربي اللبناني (بلدة عين كفاع) إلى عقول الأخرين لأجل فهمها لديهم .
وعلى ذلك يكون المنهج المستخدم في معالجة هذا الموضوع هو المنهج التحليلي.
كلمات مفتاحية/
العقول الأخرى – الفلسفة التحليلية – الرؤوس – البعث – النقد.
Astract/
This research aims at revealing a method for reading and understanding (other minds) in the applied critical space, and considering that the importance of understanding other minds lies in understanding the ways of life of peoples and the motivation of people and therefore understand the development of their civilization. The problem is that the most research in this regard is either at the level of theoretical philosophical interpretations of the concept itself, or at the level of psychological interpretation, and this research was to bring down the method of reading other minds to the theoretical applied space through a practical model in the field of literary criticism, the writings (Maron Abboud) and how he sought to clarify mental conditions and ways of life through poetic and literary criticism, which in turn is an application of the methods of philosophical analysis as it is when contemporaries. The final result of this is that Maroun Abboud's critical treatments and his Novels not only reveal how to understand other minds in general, but also presented the kind of mind that he belongs to (the Arab-Lebanese mind (Ain Kefaa)) to the minds of others for understanding they have.
Thus, the method of research used to address this issue is the method of content analysis.
Key terms: other minds – analytic philosophy – heads – resurrection - criticism.
مدخل/
(العقل الآخر، هو وجودية الشعب، ويكون به ما هو عليه دون غيره)..
(مارون عبود) ليس لديه مذهباً فلسفياً ونقدياً محدداً ملتزم به.. وإنما لديه مواقف نقدية تنبع من خلفيته الثقافية المتأثرة ببيئته وطريقة حياة أهله في قريته (عين كفاع) بالريف اللبناني، وربما يلمس بمواقفه النقدية هذه عدداً من المدارس النقدية، ولذلك يمكن للباحث في أثار (مارون عبود) أن يحلل مواقفه هذه بالنسبة إلى عدد من الزوايا النقدية. ولقد تجلت خصائص مواقف (مارون عبود) على نحو بارز فيما ضمنه من مواقف نقدية من واقع الشعر العربي قديمه وجديده مثلما جاء في كتب (الرؤوس) (جدد وقدماء) وغيرها، من مبادئ كثيرة وأحكام نقدية وفلسفية، كانت في مجملها كاشفة بصورة أساسية كقصد لديه عن حالة العقل الجمعي ونوعه من وراء هذه الأشعار وأيضاً السرديات القصصية التي شكلت مجمل الآداب العربية .. وهنا مكن اهتمامنا في بحث وشرح مواقف (مارون عبود) النقدية.
الموقف الفلسفي/
(وكذلك النابغة يزعج معاصريه لأنه لا يساير الجماعة..) (جدد وقدماء) .
هنالك ربما اشتراك جلي بنحو أقرب إلى توارد الخواطر بين نظرية الفيلسوف الانجليزي نمساوي الأصل (لدفيش فيتجنشتاين) Ludwig Wittgenstein التحليلية اللغوية في الشق المتأخر من فلسفته المدون في كتابه (بحوث فلسفية) philosophical investigations وبين مواقف (مارون عبود) في الناحية التطبيقية، سواء كان ذلك بقصد واطلاع واعتناق مباشر أو كان بصورة تلقائية بغير سابق علم بها. وعلى كل الأحوال، فإن الدلالة في هذا أن قرأة أقوال (مارون عبود) في ضوء منهج (فيتجنشتاين) قد يفيد فائدة كبيرة في إيضاح مقصد هذه الأقوال في فهم العقول الأخرى ونقدها.
قدم (فيتجنشتاين) عدداً من الأدوات أو القوالب المفاهيمية التي يصب فيها تحليل الخطاب الانساني وفهمه. فوفقا لمقولة (الالعاب - اللغوية) language - games، التي تحدد كيفيات الاستخدام اللغوي بحسب المقاصد الاجتماعية المتعددة وتعيين أن (المعنى) meaning ليس هو نفسه (الدلالة) reference وتعيين تعدد المعاني والدلالات بحسب أساليب وطرق الاستخدام للعلامة اللغوية . وقد وافق هذا ما ذهب إليه (مارون عبود) في دلالة التعبير اللغوي على الخلفية الفطرية المميزة أو المتفردة لدى مستخدمه وإقامة نقده عليه على هذا اﻷساس، فكانت اشارته في هذا إلى فن البلاغة حيث قال في كتابه (جدد وقدماء) وهو من أهم كتب النقد لديه "وعلى ذلك فحقيقة البلاغة ليست في قواميس اللغة وكتب الأدب ليذهب الطلاب ويفتشوا عنها ... فمن لا يملكها في نفسه فعبثاً يطلبها في الكتب، فإنها حسناء ذات دلال لا تسبي إلا مرة واحدة وذلك حين نزول الانسان من جوف امه. فالبلاغة حسن فطري باطني اي نفسي كما ان جمال الوجه حسن خارجي" ، فكان هذا انسب الى حالة الالعاب اللغوية في كيفيات المعنى كاستخدام. فمقولة (المعنى كاستخدام) meaning as use تدل على ما هو مستمد من طرق وأنماط الحياة لمختلف الشعوب والفئات الاجتماعية وتحليلها من أجل فهم (العقول اﻷخرى)، فعندما قدم (نظير مارون عبود) لرواية والده (الأمير الأحمر) كتب "ويردف (الشدراوي) قائلاً: "تمكن (مارون عبود) من أن يكون بمثابة المنجم من خلال غزارة المادة الدرامية في قصصه وقوة الشخصية لديه وكأني بها مرسومة بالحبر الصيني لشدة وضوحها وكذلك لغته العجيبة التي تمتاز أنها مكتوبة في الفصحى إلا أنها تقرأ في العامية الدارجة بكل سهولة ودونما تعقد أو تكلف" ، فكذلك كان توظيف (مارون عبود) للغة وفق كيفية معينة في الاستخدام بحسب العقل العربي اللبناني بحيث تأتي الفصحى معجونة بالدارجة على نحو مثمر دلالياً تماماً لما أراد التعبير به عن هذا العقل فصارت هذه الكيفية علامة ابداعية بارزة على المستوى الفني بجانب المقصد الأدبي الدرامي في تجسيد الواقع الحي والمباشر . ومن هنا تثبت موافاة (مارون عبود) لمبدأ أساسي آخر في منهج التحليل اللغوي/ النقدي وهو (المشابهات العائلية) family resemblances التي تحدد السقف الدلالي المرن لحدود استخدام العلامة اللغوية ومدى صلاحيتها السياقية، وفي هذا عاب (مارون عبود) في (جدد وقدماء) على (المنفلوطي) تجريده دلالات (المعري) في (رسالة الغفران) عن سياقاتها في تلخيصه إياها بأن فرض عليها سياقاته هو فقال فيه "لقد مسخ المنفلوطي رسالة الغفران مسخاً لا يغتفر لصبية الكتاب، فكان كالقصاص، بل من أين للمنفلوطي براعة ذاك. فالقصاص لا يهمل الخطوط التي تريك ملامح ابطاله، أما المنفلوطي ففاته هذا. اقرأ تر كيف غاب عته ما فيها من جمال فبدل التعابير الأثرية بكلام مزيف مصقول" .
لقد وسم (مارون عبود) مشاهير الشعر العربي بالرؤوس، ولعل المقصود لديه من هذه التسمية ليس أن الرأس أعلى الجسد وأنها أبرز ما فيه وليس حتى أن الرؤوس هي المدير المتحكم للجسد الانساني في تبعيته لها وحسب، وإنما دلالة التسمية تكمن في كونه قصد تعبيراً رمزياً، فالرأس -بحسب طريقة (مارون عبود) في مواقفه وطريقته النقدية -هو مناط الاختلاف بين عقول البشر بحسب انتماءاتهم لطرق الحياة المتعدد والمتباينة شعوباً وقبائل وطوائف اجتماعية وفئات مهنية . ولذلك فالإشارة لأعلام الشعر العرب منذ عصر ما قبل الاسلام وحتى الان بأنهم (الرؤوس) المقصد فيها أنهم من تجلى في تعبيرهم الشعري ما يجعلهم ممثلين لطرق الحياة التي ينتمون إليها وللمقاصد الاجتماعية التي تربط بين أفراد وعناصر كل طريقة في الحياة وبعضها بما يمنحها خصوصية مميزة عن غيرها من طرق الحياة الأخرى. وبالتالي، فمعرفة هؤلاء (الرؤوس) هو معرفة (للعقول اﻷخرى) والتي أفصحت عن نفسها في أغراض أشعارهم وفي النقد عليها. واختلاف المقاصد الاجتماعية للشعراء بحسب اختلاف طرق حياتهم هو ما اتاح لدى (مارون عبود) أن يعيد تصنيفهم وفق اﻷغراض والمضامين الشعرية التي تحقق رابطاً سياقياً مشتركاً في عموم قصائد كل شاعر منهم بتميز وانفصال عن الشعراء اﻵخرين، فكان ذلك هو الخط النقدي الذي اعتمده في جعل وتصوير الشعر ناطقاً بلسان عقل جمعي ومعبراً عنه وكاشفاً لما له من خصوصية عن غيره من العقول اﻵخرى.. لذلك كان هذا عملاً تطبيقياً بإبداع من لدن (مارون عبود) على ما سبق وقدمه (فيتجنشتاين) من منهج فلسفي مجرد.
وعلى هذا السياق ، كتب (ري مونك) Ray Monk مقالة مهمة بعنوان (فيتجنشتاين بين ثقافتين) تكلم فيها عن اﻷثر الإلهامي العريض الذي وقعه (فيتجنشتاين) بفلسفته على مختلف اوساط المجتمع ، فقال "لقد الهمت شخصيته الكارزمية الفنانين وكتاب المسرح والشعراء والادباء والموسيقيين وحتى منتجي السينما مما جعل شهرته تتجاوز إلى مدىً بعيد حدود الحياة الاكاديمية" ، وما ذلك إلا ﻷن (فيتجنشتاين) كان قد رفض أن تكون هناك (لغة خاصة) private language في عالمنا لا يفهمها ولا يمنحها معانيها إلا صاحبها ، أو أن هنالك من كوامن النفس الانسانية ما تستعصي على النفاذ عبر اللغات العادية المحكية إلا أن تطلب لغة مخصوصة بها خارج وسطها الاجتماعي. وقد ألمح (مارون عبود) إلى اتفاقه في رفض فكرة اللغة الخاصة هذه بقوله في (الرؤوس) "كان الشعر لسان حال الشعوب، وأصدق دليل على مقدار رقيهم" ، وأيضاً عندما قال "فالشعر العاطفي لا يخرجه إلا الكبت والضغط" فقصد بذلك أن أقصى ما يكنه الانسان من أحوال العاطفة يمكن لها أن تخرج شعراً يفهمه الناس ويتذوقونه ، فيكون الشعر بذلك هو الشاهد أو الدال الحقيقي على نفي إمكان اللغة الخاصة . فكان الشاعر على قوله "بألفاظ قصيرة يخرج صورة تامة" فغالباً ما تكون هذه الصورة صورة شعرية. والفائدة من هذا الاثبات هي أن اللغة كما الكائنات لا حقيقة لها ولا نمو إلا بالتداول الحي بها ، وهو ما يستلزم اطرافاً مشتركة تدور بينهم اللغة وإلا فما هو حي منها سيموت إن لم يتحرك ، وشاهد ذلك هو الموت التاريخي للغات بنحو السريانية واللاتينية واليونانية القديمة حيث قبرت في مؤلفات وكتب زمانها ولم تستمر لعصرنا جراء توقف التداول الحي بها وأتت عوضاً عنها لغات جديدة فعلى سبيل المثال بالنسبة للاتينية ظهرت عنها لغات جديدة ذات شخصيات مستقلة سميت بعائلة اللغات اللاتينية كالفرنسية والايطالية والاسبانية والبرتغالية ، في حين بقيت لغات كالعربية والعبرية على حالها ولم تتحول نسبة لاستمرار التداول بها اجتماعياً منذ القديم ، وأيضاً لاستنادها على مراجع دعمت ثباتها واستقرارها (القران الكريم والتوراة) .
وهكذا يبدو أن الفيلسوف (فيتجنشتاين) قد لمس أوتار الحق ولمستها من بعده أصابع (مارون عبود) في ميدان النقد الادبي، وربما دون فضل للفيلسوف في هذا على الناقد.
أنماط النقد الثلاث /
(أليس الكاتب الحقيقي من يخلق الأجساد ولا يستعيرها؟ فهو كالإسكاف وغيره ممن لا غنى لهم عن القالب..) (جدد وقدماء).
كشف (مارون عبود) في كتاب (الرؤوس) عن ثلاثة أنماط للنقد "إما بعث، وإما نشر وتحنيط، وإما قبر" . وهو يتبع في منهجه للكشف عن العقول اﻷخرى النمط اﻷول والذي أسماه (البعث)، حيث أن النمط الثاني وهو (النشر والتحنيط) يدل على سلوك الناقد في جعل مادته حبيسة ظرفها التاريخي وراهنها الحضاري بنوع من التاريخانية الظاهرة ، فالناقد وفق هذا النمط يحنط العمل الابداعي ليبقى في زمانه ومكانه ولا يحاسب إلا به فيجعل الظرف الحضاري التاريخي هو الشاهد على العمل الابداعي وليس أن العمل الابداعي هو الكاشف عن ذلك الظرف الحضاري التاريخي بموجب حالة العقل وطريقة حياة الناس فيه ، وعلى هذا النحو لن يمكن تكييف العمل الابداعي القديم في أزياء وأثواب جديدة بحسب عصرنا الراهن أو استدعائه بشكل حديث في واقعنا أو واقع مناطق أخرى كل بحسب طريقة حياته ونمط عقله باعتبار أن طريقة الحياة لشعب ما في ماضيها البعيد والقريب وحاضرها هي سياق واحد متماسك يعبر عن حالة عقل واحدة فقط خضع للتطور على مراحل التقادم التاريخي، وأيضاً من غير أن يفقد العمل الابداعي هذا هويته ومضمونه مع التجديد المستمر ، ولذلك فهذا المنهج مستبعد من مقصد فهم العقول الاخرى وفق (مارون عبود) . والنمط الثالث (القبر) فربما لم يلجأ إليه (مارون عبود) أصلاً لأنه يعني الاقتصار فقط على مناطق الضعف ﻷجل اسقاط العمل الابداعي وحذفه، فالناقد هنا يبحث عن مفاتيح موت العمل وأسباب قتله، ورغم أن هذا النوع من النقد معتمد عند كثير من النقاد بكونه يعمل على تمييز العمل الابداعي القوي الباقي والمستحق للحياة ﻷنه قد صمد في وجه تعيين العيوب والثغرات عن ذلك الذي اطاحت به عيوبه فعجلت بموته تحت مباضع النقد، إلا أن هذا أيضاً لا دور له في مقصد الكشف عن العقول اﻷخرى. وعلى هذا، يكون نوع (البعث) هو القائم بالمقصد المطلوب بما يحوي تحته من مستويات ومراتب متدرجة.
فالمستوى اﻷول هو توجيه العمل نحو تصحيح وتصويب النص وسد ما فيه من ثغرات ينفذ منها النقد بصدد تعيين جودة العمل. والمستوى الثاني اﻷعلى، هو فتح آفاق التطوير والاضافة والبناء على العمل من أفكار ودلالات متأولة عليه بشكل ايجابي منتج وتكشف عن امكانات فكرية داخل النص في مجمل سياقه التام. والمستوى الثالث الأكثر علواً، هو المستوى التداولي للعمل في اتجاهات مختلفة من الاستخدام للنص، وهو ما يسمح باستحضار النص خارج اطاره وظرفه التاريخي المحدود والاستدلال به على شواهد حضارية متنوعة ومتعددة، ولعل هذا على وجه التخصيص ما قصده (مارون عبود) بالبعث. ولهذا فقد عمل من خلاله على الكشف عن العقول القائمة وراء النصوص الشعرية التي علم شعرائها بالرؤوس، وكيف أن هذه العقول وأنماط الحياة ليست أمراً منتهيا بزمان حضاري معين، فأي شعب إنما تمتد طريقة حياته منذ بداية رصدها قبل قرون سحيقة وحتى راهننا المعاصر كوحدة سياقية واحدة، تتطور ولكنها تظل هي هي، وهذا السياق الواحد هو المقصود بأنه العقل وفهم العقول اﻷخرى.
لقد تكلم (مارون عبود) في كتابه (الرؤوس) عن اﻷصل اﻷول للعقل العربي على نحو ما تمثل في الحياة العربية البدوية منذ عصور ما قبل الاسلام من خلال تحليل أشعارهم وأغراضها ، فأظهر منها كيف أن العربي كان لابد أن يتصف بالشجاعة وحضور البديهة والجنان واليد بسكنته بيوت الوبر ، وأن اسلوب عيشه في الصحاري دعاه إلى اﻹباء، ثم أنه كريم بسوقه ثروته أمامه رغم تعرضها للهلاك ولهذا لا يدخرها، وبالتالي فهو لا يتوقف كثيراً عن أعماق التفكير الذي يقتضيه الاستقرار الدائم في مكان ، فهو لذلك وجيز في كل شيء يحط على المسائل كما تحط النحلة على الزهرة "تأخذ حاجتها وتظل الزهرة زهرة" . والعربي أيضاً – على قوله – "تياه فخور" ، شدد في المصاهرة بالمغلاة في فحص اﻷصل والفصل إلى أبعد مدى ﻷن اﻷصل والنسب هو رأس المال الإنساني الحقيقي لديه اﻷمر الذي أورثه شدة الحماسة حد التهور "فقلت اﻷحلام في شعره" ، وكان هذا بفعل جفاف ويبوسة البيئة "فإن قلة الماء تجفف حتى أخلاق الرجال" فلم يوجد ذلك لديه مرونة الجدال المصبوب على الحجة والبرهان فجاءت أحكامه انفعالية قاطعة بلا دليل. وهذا أيضاً سر أنه "لا يؤمن إلا بذاته وهذه الذات فنيت في القبيلة" فأورثته قوة في الدفاع عن عرضه وشهامة النجدة.
ثم مضى (مارون عبود) على ديدنه هذا في الكشف عن العقل العربي منذ مطالعه اﻷولى التي أثبتها التدوين للتأريخ، ثم بين مراحل نموه نحو الحضارة الراهنة والتي تمثلت كلها في سياق اﻷدب الذي هو الشاهد الأعظم على خصائص هذا العقل. فكان القول منه في (الرؤوس) "فاﻷدب خلاصة عقل اﻷمة يدل اﻷواخر على السبل التي اختطتها أوائلهم ... أن اﻷدب كائن حي فهو أبداً في تفاعل كعناصر الحياة اﻷخرى ... يتأثر اﻷدب بالحياة ﻷنه وليدها. ويصعب الاختراع فيه ﻷنه صورة عنها وهي لا تتغير إلا بمقدار ... ويظل قديمه متصلاً بحديثه، يتمشى تمشي السلالات والانواع، وينمو نمواً حسابياً لا هندسياً" ومن هذا الباب تفاعل أصحاب هذا العقل مع العقول اﻷخرى بما أبان عن ذاته ووسمه وحيث الضد يظهر حسنه الضد. ولذلك قال (مارون عبود) في نفس الكتاب "فحيث تلقي بذور آداب أمة ينبت النفوذ والسيطرة. فما تأثر بعض اﻷمم ببعضها عقلياً بأقل منه تجارياً وصناعياً" . كما أن "اﻷدب الرفيع ... هو آخر صفحة تمحوها العوادي من تواريخ اﻷمم والشعوب، وهي أشد اثآرها اﻷخرى صبراً عليها" . ولهذا ظل (مارون عبود) يعدد المزية الشعرية لدى كل رأس من الرؤؤس لقيم النقد في اﻷساس على ما سماه هو "الحس البديعي" كمفتاح لكشف نوع العقل من خلال الشعر، فبحصيلة هذه المزايا يتشكل سياق العقل الواحد عبر تاريخه في ماضي حياة اﻷمة الواحدة وحاضرها ونحو مستقبلها، ففي (جدد وقدماء) أن "اﻷدب خلاصة عقل اﻷمة يدل على السبيل التي اختطتها اوائلهم" ، وفي هذا الطريق يسوقنا كتاب (الرؤوس) و(جدد وقدماء) و(دمقس وارجوان) وغيرها. وعلى هذا اﻷساس يمكن أن نقول بأن تقنية (مارون عبود) النقدية لم تستهدف في المقام اﻷول بحسب اتجاه طبيعة هذه التقنية قياس ومحاكمة اﻷعمال اﻷدبية إلى معيار محدد للصواب والخطأ في الفن، بل بالأحرى استهدفت فهم العقول وانماط التفكير بحسب أنماط الحياة، وأن النقد المقدم على النصوص هو في اﻷساس نقد مسدد إلى العقول، فالأمر على ما قال في (جدد وقدماء) "وينقضي نواح ابي فراس فيتلوه غناء الاندلسيين فتشجينا انغام موشحاتهم، فنرى صور حياتهم تتحرك أمامنا" . وربما يغضب الناس على شاعر لأنه يكشف عنهم بصدق ما لا يريدون كشفه بنحو ما فعل (جبران خليل جبران) الذي وصفه (مارون عبود) في نفس الكتاب "فإذا فتشنا عن الألوان المحلية المستمدة من المحيط اللبناني وجدناها صارخة في ما كتب جبران بالعربية والإنكليزية" ، فيما ذكر عن (المنفلوطي) ايضا في نفس الكتاب "إن عمل المنفلوطي لم يفق عمل من يجلوا الصدأ عن حواج البيت المعدنية" لذلك رضي الناس عنه.
عرض الذات/
(تقع عين كفاع على رابية كأنها عقب البيضة..) (فارس آغا)
إن تقنية (مارون عبود) النقدية على هذا النحو قد تضمنت بجانب فهم العقول اﻷخرى أيضاً إفهام تلك العقول اﻷخرى عقل الذات أي عقل المتكلم أو الناقد بمضامين طريقة الحياة المنتمي إليها والمتمثلة في التعبيرات اللغوية والحركية والانفعالية. وقد فعل (مارون عبود) ذلك خصوصاً في رواياته (فارس أغا) و(الأمير اﻷحمر) اللتين عبر بهما عن بيئته كمواطن لبناني تقليدي ابن مقاطعة (جبيل) واسقاط الدبوس في موقعه الدقيق حيث ولد وتربى في قريته المحببة (عين كفاع) وعنها وإليها كتب. لقد اسهمت الروايتين في نقل عقل (لبنان) من خلال عقل بلدته الصغيرة التي لم يكن ليدري عنها أكثر الناس في العالم شيئاً بل وربما لم يدري اللبنانيون أنفسهم عنها الشيء الكثير ما لم يكن (مارون عبود) قد اظهرها إليهم باسلوبه الروائي الخاص الذي جمع فيه بين فصحى مجرة وعامية قح وعامية فصيحة. فرواية مثل (فارس أغا) قد تميزت بكون المؤلف حاضراً فيها بشخصه كأحد عناصرها فخرجت كنوع من الاستبطان الاجتماعي التحليلي الذي يكشف عن عمق أصالة وتراث وأخلاقيات شعب (عين كفاع) في قلب شعب (لبنان) الكبير. ولعل أيضاً من أبرز ما قدمهى في هذا الصدد هو مجموعة اﻷقاصيص القصيرة النقدية في كتابه (أحاديث القرية) حيث جاءت كإشارات نقدية على مواقف الحياة الاجتماعية في قريته وشارحة لها في آن معاً. ولقد ألف (مارون عبود) في ختام كتابه (جدد وقدماء) مقالة عنوانها (الخيال اللبناني) حاول فيها عرض فيها الخيال كحالة من أخص أحوال العقل الجمعي الخاص بشعب ما في التحامه مع خواص بيئته الطبيعية تطبيقاً على (لبنان).
نتيجة أخيرة/
(الشاعر (الياس طعمه).. قد نشأ مارونياً لبنانياً وتخرج في مدارس نصرانية كهنوتية فكان معلموه قسيسين ورهباناً.. فمن يصدق أن من هذه تربيته يشعر ويفكر بما لا يدور في خلد عربي مسلم في مكة..) (جدد وقدماء).
أليس من دلائل كشف (مارون عبود) عن أحوال العقول، أنه ضرب أمثلة كثيرة لكيف أن الثقافة العربية المتأخرة معجونة بالتأثير القرآني، فلا فكاك لمن أخذ بهذه الثقافة أن يأخذ حتماً بما عجن معها ولو كان نصرانياً أو يهودياً. ولربما أراد (مارون عبود) ان يؤكد لنا أنه لا عقل عربي هناك بلا أثر قراني صميم ولا فهم لهذا العقل العربي إلا بمراعاة ما حفظت به لغة العرب طوال القرون السالفة وحتى عصرنا وهو (القرآن الكريم). وبالرغم من أن (مارون عبود) نفسه مسيحي ماروني متدين إلا أنه كثيراً وبشكل تلقائي ملفت للنظر ما يكون جريان الكلام على قلمه معبراً في نقده على الشعر والنثر بلغة محملة بالتعبيرات القرآنية، ليمثل هو بذاته نموذجاً للمفكر والناقد والأديب العربي الذي يدل على أن المفردة القرآنية والعبارة القرآنية هي من صميم مكون حالة العقل التلقائي لدي أي ناطق بالعربية أياً كانت ديانته ولا فكاك له منها.. وما ذاك إلا – على الأرجح – لأن العبارة القرآنية هي عربية بالأصالة وليست ترجمة، فكان منطقياً قبول عقول الناطقين بالعربية لها باعتبار لغتهم الأم دون تكلف، وذلك بخلاف ما عليه الأصول اللغوية للديانات الأخرى حيث (التوراة) بالعبرية و(الإنجيل) باليونانية القديمة فيحتاج الأمر لدى العربي منهم إلى ترجمة متكلفة إلى اللغة العربية، فيأتي تقبل العقل العربي لها وتعبيره بها في الآداب تكلفاً ظاهراً وليس نسجاً تلقائياً.
المراجع/
[1] عبود، مارون – جدد وقدماء – بيروت، دار الثقافة العربية، 1963م.
[2] عبود، مارون – الرؤوس – بيروت، دار الثقافة العربية، 1973م.
[3] عبود، مارون – الأمير الأحمر – بيروت، دار مارون عبود، 1984م.
[4] Monk, Ray – Wittgenstein and the two cultures – Prospect , July 1999 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق