شرف الحذاء ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كتب المفكر السعودي (عبد الرحمن مرشود) خاطرة فريدة له عن (الرصيف) فأبدع في وصف ما لم يرعه انتباه اكثر المارة عليه .. فقال :
الوجوه على الرصيف تتدرب ..
بعضها يتدرب على الابتسام وبعضها على التجهم ..
وأيضاً وجوه تتدرب على الغموض ..
على الرصيف تدور حوارات اليأس والأمل ..
عليه دائماً يجد الصوت والصمت لغة مشتركة فيتفاهمان ..
ولكن القلوب على الرصيف قلبان فقط ..
قلب ينتظر وقلب يتظاهر بالانتظار ..
وبنفس ذلك الايقاع الفذ نرى قيمة (الحذاء) .. فقد كان من أدبيات الرسم الاجتماعي القديم أنهم قالوا (الرجل جزمة) وقصدوا بمقولتهم أن الرجل يُعرف من حذائه ، نظافته ولمعانه وجودته ودلالة رقي الرجل في المشي به على الأرض .. وقالوا أن أول ما يجذب النظر إلى هيئة الرجل هو حذاؤه ومن ثم يقفز التقييم فوراً إلى عموم شخصيته .. وربما ليس الحق عن هذا ببعيد ، فإن كان الحذاء في عرف المجتمعات عنوان لأناقة الرجل ، فهو أشرف من ذلك بكثير .. إذ ماذا نقول في كائن نحمل أنفسنا عليه أطول الأوقات في حياتنا وهو يأكل تحت أقدامنا عنا الثرى والأشواك والتهاب الشوارع والرمال في قيظ الصيف وابتلالها بالرطب الصقيع في زمهرير الشتاء .. ويحمل كل المتلوثات وأدران الطرق وأشياء عديدة لم ترها عين لابس الحذاء ، وليظل المحمول فوق حذائه عزيزاً كريماً نقياً في هيئته مطمئناً في مشيته .. بل إنه – أي الحذاء – ليجود بقيمة الإيثار كما لم يجود بها كائن آخر ، فما آلم شخص مسمار خدش باطن قدمه إلا بعدما أن اخترق هذا المسمار قلب نعله ونفذ منه ، ولو أنه لم يخترقه لصار الخدش في قدمه جرحاً غائراً ذا قيح وصديد .. وقد علمت لماذا يصر رجال العسكرية على ارتداء تلك (الأبوات) الثقيلة كثيفة الجلد طويلة الرقبة كي تمنحهم الثقة واستشعاراً بالقدرة والقوة والثقل على الأرض فيكون ذاك من دواعي الثبات على الجبال والوديان وأحراش الأدغال فلا ينشغل الجندي إلا بكفاحه أمام عينيه غير مبالياً عنه بهوام الأرض وحيّاتها وعناكبها .. كل هذا يكون للحذاء ، ثم نحن البشر نعود فنجازي منه كل هذا الشرف بأن يجعله بعضنا سمة سبة وشتم لمن نكره .. حقاً إن الانسان على قول ربه لظلوم جهول ، وحقاً إنه ليطغى ، وحقاً إنه إذا مسه الخير مَنوعا .. ولكن أيضا كم من البشر كانوا بإيمانهم كما الأحذية في فعل الخيرات وهم في ظل عن أعين الناس .. وكم من كافل لأيتام صغار في الخفاء ونحن نراه يسري في الحياة لاهياً لاعباً .. وكم من متصدق لم يعلم أحد أأنفقت يمينه أم أن يسراه هي التي قد انفقت ونحن نراه فينا فقيراً مدقعاً في فقره .. وكم من داعٍ لأخيه بظهر الغيب فيكشف الله بدعائه كرب المكروب ولكنه كأنما ظهر لأعيننا كما لو لم يعبئ بذكر الله يوماً قط .. فإن كنا لم نعلم خفايا أفعالهم فإن الله يعلمها ، وكل ما هنالك أن لا نيأس من خير في الناس مهما عمّت النكت السوداء قلب المجتمع وغطى الزبد وجه البحر ، فالخير ماكث فيما خفي عن أعين النظار .. وكم أنه ليس كل ما يلمع يكون ذهباً فكذلك ليست كل حديدة صدئة لا تخفي تحت صدئها بأساً شديداً .. إذن فلنقل للناس حسناً ما دمنا لا نعلم خبايا أنفسهم ولم نشقق عن صدورهم كما لم نعلم من الحذاء إلا ظاهراً ضاحكاً لامعاً وهو يخفي عنا ما يكابد في باطنه باحتكاكه على الأرض تحته وبوطأة أقدام بني آدم عليه من فوقه .. وإذا رأينا الحذاء يوماً متسخاً ، فلا نحكم بان الأرض هي مصدر اتساخنا بل نحن البشر في الحقيقة مصدر اتساخ الأرض ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كتب المفكر السعودي (عبد الرحمن مرشود) خاطرة فريدة له عن (الرصيف) فأبدع في وصف ما لم يرعه انتباه اكثر المارة عليه .. فقال :
الوجوه على الرصيف تتدرب ..
بعضها يتدرب على الابتسام وبعضها على التجهم ..
وأيضاً وجوه تتدرب على الغموض ..
على الرصيف تدور حوارات اليأس والأمل ..
عليه دائماً يجد الصوت والصمت لغة مشتركة فيتفاهمان ..
ولكن القلوب على الرصيف قلبان فقط ..
قلب ينتظر وقلب يتظاهر بالانتظار ..
وبنفس ذلك الايقاع الفذ نرى قيمة (الحذاء) .. فقد كان من أدبيات الرسم الاجتماعي القديم أنهم قالوا (الرجل جزمة) وقصدوا بمقولتهم أن الرجل يُعرف من حذائه ، نظافته ولمعانه وجودته ودلالة رقي الرجل في المشي به على الأرض .. وقالوا أن أول ما يجذب النظر إلى هيئة الرجل هو حذاؤه ومن ثم يقفز التقييم فوراً إلى عموم شخصيته .. وربما ليس الحق عن هذا ببعيد ، فإن كان الحذاء في عرف المجتمعات عنوان لأناقة الرجل ، فهو أشرف من ذلك بكثير .. إذ ماذا نقول في كائن نحمل أنفسنا عليه أطول الأوقات في حياتنا وهو يأكل تحت أقدامنا عنا الثرى والأشواك والتهاب الشوارع والرمال في قيظ الصيف وابتلالها بالرطب الصقيع في زمهرير الشتاء .. ويحمل كل المتلوثات وأدران الطرق وأشياء عديدة لم ترها عين لابس الحذاء ، وليظل المحمول فوق حذائه عزيزاً كريماً نقياً في هيئته مطمئناً في مشيته .. بل إنه – أي الحذاء – ليجود بقيمة الإيثار كما لم يجود بها كائن آخر ، فما آلم شخص مسمار خدش باطن قدمه إلا بعدما أن اخترق هذا المسمار قلب نعله ونفذ منه ، ولو أنه لم يخترقه لصار الخدش في قدمه جرحاً غائراً ذا قيح وصديد .. وقد علمت لماذا يصر رجال العسكرية على ارتداء تلك (الأبوات) الثقيلة كثيفة الجلد طويلة الرقبة كي تمنحهم الثقة واستشعاراً بالقدرة والقوة والثقل على الأرض فيكون ذاك من دواعي الثبات على الجبال والوديان وأحراش الأدغال فلا ينشغل الجندي إلا بكفاحه أمام عينيه غير مبالياً عنه بهوام الأرض وحيّاتها وعناكبها .. كل هذا يكون للحذاء ، ثم نحن البشر نعود فنجازي منه كل هذا الشرف بأن يجعله بعضنا سمة سبة وشتم لمن نكره .. حقاً إن الانسان على قول ربه لظلوم جهول ، وحقاً إنه ليطغى ، وحقاً إنه إذا مسه الخير مَنوعا .. ولكن أيضا كم من البشر كانوا بإيمانهم كما الأحذية في فعل الخيرات وهم في ظل عن أعين الناس .. وكم من كافل لأيتام صغار في الخفاء ونحن نراه يسري في الحياة لاهياً لاعباً .. وكم من متصدق لم يعلم أحد أأنفقت يمينه أم أن يسراه هي التي قد انفقت ونحن نراه فينا فقيراً مدقعاً في فقره .. وكم من داعٍ لأخيه بظهر الغيب فيكشف الله بدعائه كرب المكروب ولكنه كأنما ظهر لأعيننا كما لو لم يعبئ بذكر الله يوماً قط .. فإن كنا لم نعلم خفايا أفعالهم فإن الله يعلمها ، وكل ما هنالك أن لا نيأس من خير في الناس مهما عمّت النكت السوداء قلب المجتمع وغطى الزبد وجه البحر ، فالخير ماكث فيما خفي عن أعين النظار .. وكم أنه ليس كل ما يلمع يكون ذهباً فكذلك ليست كل حديدة صدئة لا تخفي تحت صدئها بأساً شديداً .. إذن فلنقل للناس حسناً ما دمنا لا نعلم خبايا أنفسهم ولم نشقق عن صدورهم كما لم نعلم من الحذاء إلا ظاهراً ضاحكاً لامعاً وهو يخفي عنا ما يكابد في باطنه باحتكاكه على الأرض تحته وبوطأة أقدام بني آدم عليه من فوقه .. وإذا رأينا الحذاء يوماً متسخاً ، فلا نحكم بان الأرض هي مصدر اتساخنا بل نحن البشر في الحقيقة مصدر اتساخ الأرض ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق