الخميس، 7 يونيو 2018

آفاق زرقاء اليمامة

آفاق زرقاء اليمامة ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كانت تنظر إلى ذاك القادم البعيد .. مسرى أيام وليالي .. والحال في البلدة لا ينبئ عن وافد جديد ناهيك عن أن ينبئ عن خطب جلل .. قالت لهم أن القوم البغاة قادمون مسرى ليال ثلاث، فدعوا ضيق الافق واللامبالاة وحسن الظن بعفو النوائب والمصائب، فإن سقطت عليكم اسنة رماحهم في جوف الليل فلن تجدوا مرقداً ولن تجدوا عزماً في قلوب الرجال .. وهكذا فإن كان البغاة داخلون اروقة المدائن فلن تعود بعد فسادهم فيها الا ذكرى تحملها الرياح أن كان كانت هنا بالأمس مدينة تنام على الأمان وتحلم بمستقبل زاهر لصبيتها الصغار .. والامر نفسه ليس ببعيد عنا، فلدى كل عصر زرقاء يمامته تبصر مسرى ليالٍ قادمات إما بخطب حالك مهلك وإما بخير عميم ورغد كريم .. وليس في كل مرة يكون الوافد هو عدو ذو رماح ودروع، بل كثيراً ما يكون في هيئة نظم وقيم وثقافات وعمران جديد لم يألفه أهل القرى والمدائن .. حتى إذا بلغ العدو مرماه منهم لم يعد الأمس فيهم كما اليوم ولا اليوم كما الغد ويصير كل أمر اصيل إلى ماضٍ تليد .. والوصف الكافي لذلك ما بينه عالم الاجتماع الفرنسي (إميل دركهايم) E. Durkheim بأن هزال القواعد التي يفرضها المجتمع على الأفراد يزيد من حالات التضعضع وعدم الرضا والشعور بالفراغ عند هؤلاء مما يؤدي إلى تجريدهم من اخلاقيتهم .. وعلى هذا القول فإن أي تحول للمجتمع لا يسير به في خط رأسي على نفس منظومة قيمه واخلاقياته السليمة وينكسر بالمجتمع إلى السير في خط أفقي جديد ومختلف تماماً في منظومة قيمه واخلاقياته فإن هذا من دواعي تضييع هوية ذلك المجتمع حيث لا يكون تطور المجتمعات الا في خطها الرأسي بينما يعد تحولها إلى خط افقي تغييراً وتبديلاً    ..والشاهد على ذلك هو أن تضيق ببلاد اسباب العيش فيها وكسب الرزق الحلال ويتحول فيها كل يسير إلى عسير بالغ العسر، ويعم الفقر والعوز على كافة أهلها إلا قليل منهم كانوا هم الذين كلما صعد نجم الثراء فيهم فجأة إلى أعلى كلما هوت معه صخرة الفقر في سائر بيوت الشعب إلى سفح مظلم أو هكذا تصير المعادلة تناسباً عكسياً .. فأولئك  القليل من الناس الذين ظهروا كأصحاب ثراء طفيلي فاسد في لمحة من الزمان ما كان ثراؤهم إلا بفقر حاشية الشعب وعمومهم وتعطيل الموارد الأولية للبلاد وسيادة لغة السوق كلغة وحيدة، فلا عجب أن يتحول كل المجتمع عندئذ إلى خط افقي جديد نحو قيم الدناءة والرزيلة والفجور وتشتعل الأنفس البراء احقاداً سوداء ويأكل الضعفاء بعضهم لأجل البقاء، وتئد الأم ابنائها في حال انصرم اللبن عن ضرعها وحيث لم يعد بالبيوت قدور توقد من تحتها نار بعشاء الصغار .. ليس الفقر بذاته هو ما يقتل الناس احياء في مجتمعاتهم ويجردهم عن ثياب العفة والطهر والفطرة السليمة والخلق القويم، وانما يحدث ذاك عندما يضام الكرام بأسباب الغنى الفاحش لذوي طبقة من الاثرياء وما كان ثراؤهم إلا بفقر الشعوب .. فعندما تلف العتمة الحالكة كل البيوت يكون الوحيد الذي عنده كهرباء ومصابيح منزله كلها تضاء هو ذلك صاحب الثراء بالمال الحرام يشربه من دم الرعية .. والوحيد الذي يقاد في بيته كل يوم حفل بهيج وغناء وهناك في كل بيت من بيوت البسطاء مآتم وبكاء هو ذاك صاحب الثراء بالمال الحرام .. والوحيد الذي يضج إيوانه بالطناجر المكتظة باللحوم وتئن اوانيه من ثقل الثريد وفي الخارج كل البيوت عورة وتخلو على عروشها من كل شيء إلا من اسباب الجوع والمرض الشديد هو ذاك الأثيم صاحب الثراء بالمال الحرام .. فأنى لمن يرى الحال هكذا وهو عنه ساكت أن يظل قابضاً على جمر الفضيلة عاضاً على شجرة الأخلاق من غير أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر .. افلا ينطق قول الله فينا (كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم) فلعله إن صار دولة بين الاغنياء حق بذلك علينا نص الكتاب (وإذا اردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) .. فمن اين يأتي اذن هذا الثراء الطفيلي .. تشير نظريات اقتصادية الى أن التطور الاقتصادي يتميز بانتقال الفئة العاملة تدريجيا من القطاع الزراعي والقطاع التجاري إلى القطاع الصناعي حيث أن سبب تقدم البلدان المتطورة يرجع إلى وفرة المواد الأولية التي تكون قد باعتها دولة إلى الدول المصنعة ثم شرائها بعد تحويلها إلى بضائع استهلاكية، فإن لم يحدث نمواً صناعياً فذلك يعني أن السيادة في الاقتصاد آلت إلى القطاع التجاري مما أدي إلى بيع اصول الموارد بالبلاد والحد من امكانية تشغيل المشاريع الانتاجية الصناعية ومن ثم يحدث الاحتكار التجاري وظهور طبقة الاثرياء الطفيليين تأكل كل الخيرات وتذر الشعوب من بعد في الفقر جثيا .. ولن يصير المجتمع صناعياً منتجا بحق إلا بعدما يمنح العاملين في المصانع عائد مجهودهم بعدل وإنصاف فليس دائماً يحدث ما تفائل به (كارل ماركس) عندما تبلغ مشكلة (فائض القيمة) إلى أعلى درجة لها في توسيع الهوة بين فقر عموم الشعب من عمال المصانع الذين لا يملكون مجهودهم وتزايد ثراء القلة من اصحاب رؤوس الأموال أنه حينها سوف تقوم ثورة العمال حتما بالتحول التاريخي نحو عهد اشتراكي منصف في توزيع ثروات البلاد .. ربما ما سيحدث ليس ذاك وإنما تدمير وانهيار كامل وفشل وذهاب ريح لكل ما هنالك من ثروة وشعب على السواء، ثم لا تعود دولة المظالم هذه إلا أثراً بعد عين .. اذن ليس الفقر هو العيب بل العيب هو الثراء الفاسد .. لم تعد زرقاء اليمامة في دنيانا الراهنة عينا بوجه بل صارت مرصداً للاستشعار عن بعد ومحللون سياسيون واقتصاديون واجتماعيون واستراتيجيون وتربويون وفلاسفة اخلاق، ولم تعد الحياة بعدهم كما كانت .. ولكن برغم كل ذلك، لم يصدق القوم زرقاء اليمامة حين ابصرت في الأفق ملأ كثيرون وحين ابصروا هم فإذا الأفق خواء ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق