الخميس، 7 يونيو 2018

المقعد والمكفوف

المُقعد والمكفوف ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
ربما اكثرنا قد بلغته تلك الاحجية القديمة ، أن مقعداً ومكفوفاً ارادا الذهاب الى مكان لوليمة .. فلا المكفوف يرى الطريق ليذهب ولا المقعد الذي يرى الطريق بذي سيقان يسعى عليهما ليقوم ويمشي .. ولم يكن ثمة حل سوى أن يكّمل الواحد منهم الاخر، فيركب المقعد على كتف المكفوف ويرشده ليسعى بساقه نحو مقصدهما المشترك .. ولعل الصورة هنا تبدو ذات مغذىً عظيم وقيمة انسانية عالية أن التكامل بين الضعفاء قوة والتعاون بين ذوي الحاجة الخاصة رحمة .. ولكن ما ذاك الا لأن المصاب بكف البصر أو القعود يمكن أن يتولد من وراء مصابه عزم حقيقي كبير .. ولكن نفس تلك الصورة تأتي مقلوبة رأساً على عقب عندما يصير المعاق هو المجتمع بسبب من فيه من اصحاء العين والقدم .. عندما نرى في كل مفرق به من يتبادلون أثواب بعضهم البعض لا من اجل محبة بينهم ووئام واحترام ولكن من اجل تلميع الذات وابراز الأنا والعرض امام الناس كي يشار اليهم بنظرات الاعجاب أنهم هم النجباء المتحابون بخير، ولكن الحقيقة في كواليس ذلك العرض تكشف عن ثياب بالية وخرق ثملة في غلاف قشيب براق، ولكنه محض غلاف .. لقد استشرى مرض (النفاق الاجتماعي) كالطاعون في جسد الامة ومفاصلها .. فصار الجاهل يمجد من لا علم له وصار الوضيع بخلقه يطري من لا اخلاق له .. حتى بات النفاق هو الوسم المرسوم في اغلب اوجه المعاملات والمصالح إن كان في حيز الحي الصغير بالقرية أو بداخل قصور الحكم في الدولة بين الساسة والامراء بل وحتى في اروقة الجامعات منارات المعارف .. وتورى عفواً اصحاب العزائم واشداء الزند دون دعوة أو رجاء، فلم يسائلوا عن الخطر في ذلك وقالوا دعوا المنتفقين عاشقي الظهور وتمجيد الذات يموج بعضهم في بعض ويخوضون ويلعبون فلن يضروا المجتمع شيئاً بنفاقهم وإن كان نفاقهم بينهم شديد فسيظل بينهم ولن تزول منه الفضيلة والقيم، وكان هذا ظن المتفائلين .. حتى صحونا بيوم اعلن فيه بتوسيد الامور لغير اهلها، وجال في الطرقات كل (رويبضة) تافه ولي على الناس  وتكلم في شؤونهم العامة بغير علم ولا دين ولا سياسة ولا اخلاق ويفصل الامر في ما يجب وما لا يكون، ثم سعى في الارض ليفسد فيها ويهدر دماء الخلص الصادقين العهد من الرجال والنساء، وإن سرق وزنى لم يكن عليه ثمة آخذ على يد أو ضارب على عنق .. ولم نرى انفسنا والحال هكذا الا وقد بتنا نشتكي لأنفسنا شدة الظلم وقهر الرجال وضيق الحياة بما رحبت .. إن المقعد في زماننا لم يعد هو معاق الساق من المشي ولم يعد المكفوف هو فاقد العينين، بل إن المقعد هو فاقد العلم والمكفوف من يرى بعينيه وانما هو اعمى البصيرة والقلب فلا يبلغون مبلغ الحكماء قط .. ونرى المنافقين في كل محفل يطرون بعضهم بعضاً ليس وداً ولكن المصلحة قضت منهم ذلك فلم يعد سبيل لإشفاء محبة التظاهر في انفسهم وليحمدوا لدى الناس بما لم يفعلوا وما ليس لهم بحق إلا بإطراء الواحد منهم اخيه بنفاق ورياء حتى وإن كان حين ينصرف عنه في وقت لا بشر فيه يراه عض عليه الانامل من الغيظ سراً .. وليركب مُقعد العلم على كتف مكفوف البصيرة والاخلاق من اجل ان يسحروا أعين الناس بفقاعات هوائية تبدو كالكواكب في بهائها وهي من وراء ظاهرها خاوية تذروها الرياح، فيصير مثلهم كمثل ذاك المنشد الفنان بالغناء مشهوراً بين الشبان والشياب في بلاد بات شاغلها الطرب واكبر هما تمايل الابدان في كل مضرب لصورة وصوت، فيكون بينهم هو سلطان الغرام والحب السامي والعاطفة الدافقة الدافئة يلهب القلوب في المحافل والساحات وتعلق دعايات حفلاته الطاغية حتى على جدران دور العبادة لله دون حياء ولا ماء وجوه ويظل يعلم السمار بأغانيه معاني العشق الفريد .. ولكنه إن دخل الخباء بعيدا عن اعين السمار انقلب على اهله وحشاً كاسراً ميت القلب يضرم نار حقده كل عشية في اجساد زوجه وبنيه وأمه وأبيه ولا يبالي .. هكذا ظلت مجتمعاتنا تئن السنوات الطوال ممن تولى على كل باب بنفاق وزلفى للحكام كاسب المجد الزائف لنفسه وهو عند الخطوب ومحكات الرجال كمن نشّئ في الحلية وبات في الخصام لا يقوى على رفع قلم أو اتخاذ قرار .. فطوبى لمن قعد معاقاً بقدمية وطوبى لكل مكفوف فقد حبيبتيه إذ هم في نعمة من الله تعالى يحبرون بأن برأت نفوسهم من قعود النفاق وكف العقول والاخلاق .. ولا نجد لنا فيما فعل الادعياء بمجتمعاتنا امام الله وبين ضمائرنا عذرا أن نعيب زماننا بظلم والعيب فينا، أو أن نظل في انتظار ان يأتي الغيب بقويٍ امين ليكنس عن وسادتنا كل منافق فاسد ودعي صخاب في النداء لذاته دون ان نحرك منا ساكنا وقد علمنا من قبل ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..  (فالمرائي ، ولو ظل ساجدا في صحن داره ليله ونهاره ، قارعاً صدره كالعجائز أُلوفاً ، معلقاً في عنقه سبحته الطويلة ، لابد من أن تُعرف طواياه ، وتظهر اعماله سجاياه لأن ثوب الرياء شفاف لا يخفي ما يستره .) .. هكذا المرائي وصفه (مارون عبود) ، وهكذا صدق فيما وصف ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق