اخلاق الأزمة، الإنسان كما ينبغي أن يكون ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
الكلمة الاولى هي كلمة (محمد إقبال) أن قال (وليس غاية مطلب الذات التحرر من الحدود الفردية بل هي على العكس من هذا وتحديدها تحديداً ادق وأوفى ، والعمل الأخير ليس عملاً عقلياً ، وإنما هو عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله ويشحذ إرادتها بتأكيد مبدع بأن العالم لبس شيئاً لمجرد الرؤية أو أنه شيء يعرف بالتصور ، وإنما هو شيء يبدأ ويعاد بالعمل المستمر . واللحظة التي تعرف فيها الذات ذلك هي اللحظة التي تستشعر فيها السعادة العظمى وتجتاز فيها أكبر امتحان لها) ..
ولقد اعتاد الناس أن الأزمات تتطلب المقاومة المضادة على السياق والاتجاه الخطي المعاكس لنوع الأزمة، وكان هذا يتطلب جهدا بالغاً وقوة ضاربة وعزم كبير .. ولكن، ماذا لو خارت قوى الشعب وتفرق الناس عن بعضهم .. افلا يمكن حينها مقاومة الازمة بتحويل السياق في التصدي لها بعدم السماح للذات بالانحطاط أمامها، فتظهر برغم الأزمة شيئاً من القدرات المعنوية المكنونة فيها لتتكيف مع نفس الاتجاه الخطي لنوع هذه الأزمة .. فإذا كانت المشكلة مشكلة عيش من غذاء وكساء ووقود جاءت مقاومتها على نفس سياقها بمزيد من التقشف الطوعي والتنازل عن حظ النفس في متاع الحياة والانسحاب من ضجيج التقنيات والآلات وثرثرة الحياة اليومية ثم الالتجاء إلى الحياة مع الطبيعة الحرة بقدر الحاجة والمستطاع وبقدر ما يجعل الانسان اكثر الشيء منتجاً وليس اكثره مستهلكاً .. أن يعلوا الإنسان ويسموا فوق رغباته المشدودة به إلى الأرض هو نوع من التكيف لا يحسنه ويقدر عليه سوى الإنسان حيث تنهزم فيه أنواع الكائنات الأخرى ألتي ما اعتادت أن تصبر على نقص الغذاء .. ولكن حتى من بني آدم من لا يقدر عليه الا بإرادة اخلاقية دافعة ومسنودة بالتعاليم الإلهية في مكارم الأخلاق .. فهناك عندما يجف الحلق عطشاً في الصحراء ينبت اليأس في القلوب ويقول الانسان حينها نفسي نفسي .. ولكن بأي منطق والحال هكذا أن يؤثر من هو من بني جلدتنا الذي يخلو جرابه من أي درهم أو دينار على نفسه وآل بيته كل سائل وطالب حاجة فيرى فيه دائماً حال أدنى من حاله ..
لقد شهد التاريخ لأمثال هؤلاء مرات قلائل في تاريخ الإنسانية .. ففي الوقت الذي فر فيه رجال عن بلادهم البوار هربا بجلودهم بعدما ادركتها الفاقة وشح الموارد، كانت هناك نساء المانيا عقب خراب دور الأمة الألمانية ومحالها بعد الحرب يحملون على ظهورهم قصعات الاسمنت وكتل الحجارة ليديروا هن تروس المصانع بعد أن اخذت الحرب خيرة رجالهم وشبابهم، ولم يهجروا أرضهم ويرتحلوا شرقاً أو غرباً كما فعل بنو اسرائيل في سالف الزمان، حتى كان ما كان من امتهم الألمانية اليوم .. والان ايضا يشهد التاريخ مرة أخرى لأهل السودان في أيامنا وقد بلغت بهم الأزمة حد الإفلاس الكامل والتجميد الكلي للموارد وانعدام مصارف الطاقة لأغراض الحياة وصارت ودائع البنوك على عروشها خواء حتى بحقوق ورواتب ابناء البلد الكادحين، وظن كل مراقب لهذا أنه لا مفر للناس بعد أن يدب فيهم اليأس أمام قسوة الظروف من بيع انفسهم واعراضهم وبيع حتى غبار الدور وبيوت العنكبوت مدمرين كل قيمة وفضيلة وخلق كانوا يتباهون به حين الرخاء وان يفعلوا كما فعل اصحاب الثورة الفرنسية قبل قيامها من أكل الجار لحم جاره بعدما يخرج من بيته ميتاً من شدة الجوع لكيهما .. ولكن كان المدهش العجيب أن أظهرت المعاناة اخلاقاً للأزمة لدى كثير من السودانيين ما هو خلافاً لذلك، فلم يستأثروا لأنفسهم بما يقع تحت أيديهم بحق أو بغير حق وفق منطق انتهاز الفرص الذي يجد تعليلا كافياً له في أوقات الانحطاط والأزمات الكبرى .. وإنما على العكس تماماً رأيناهم فوق كل توقع يجودون لبعضهم بفضل الظهر وشربة اللبن وسقيا الماء ويتحدون فراغ مراكز الطب والدواء من اسباب العلاج بعطايا من خاصة ما في بيوتهم من أدوية رغم عدم نفاذ حاجتهم إليها .. وهكذا تعلن (أخلاق الأزمة) حقيقة وأصالة أي ادعاء بوازع أخلاقي في نفس الإنسان حيث أنها لا تكون إلا وقت أن ينهار من حوله كل جدار وينكشف حاله للعراء، حينها (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) ..
ولعل أعظم شهادة للتاريخ في الإيثار ودرس متعلم ومثل مضروب هو إيثار صحابة رسول الله المسخنين بجراح الحرب بشربة الماء الواحدة كل لأخيه حتى إذا ما دارت الكأس كان قد مات أولهم وماتوا جميعاً وظلت شربة الماء باقية في كأسها ..
لقد كان حتماً علينا الكفاح ضد كل أزمة تلمس معايش جمهور الناس ومناهضة خالقيها بثورة الإصلاح والتصحيح أو بقولة العدل في دواوينهم ومناط عِقالهم .. فإن فاق الطغيان حد الاحتمال وصارت الفتنة في الأزمة أشد من القتل ولم يقدر على حسمها جندي ولا حكيم، فلا مفر آنذاك من العض على شجرة الأخلاق وإعلاء النفس تحت قصف الرعود وعصف الرياح إلى أن يجعل الله للناس مخرجاً بتقواهم، فذلك هو وعد الحق ..
إن أخلاق الأزمة هي الصخرة التي يتحطم عليها وجدان الإنسان الهش ضعيف النفس ولا تحمل فضائله بين الناس جذوراً بعيدة تحت الارض فتذهب كل القيم لديه جفاءً حين البأس وشدة الحال .. هناك يظهر كل دعي أفاق متظاهر .. وهناك يُعلم في الحزن من بكى حقاً ممن تباكى .. وكلمات (إقبال) الاخيرة تقرع الناقوس :
اشدد عقدة ذاتك
واستمسك بكيانك الصغير
ما أجمل أن يصقل الإنسان ذاته
وان يختبر رونقها في سطوع الشمس
فاستأنف تهذيب إطارك القديم
وأقم كياناً جديداً
مثل هذا الكيان هو الكيان الحق
وإلا فذاتك لا تزيد عن أن تكون حلقة من دخان
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
الكلمة الاولى هي كلمة (محمد إقبال) أن قال (وليس غاية مطلب الذات التحرر من الحدود الفردية بل هي على العكس من هذا وتحديدها تحديداً ادق وأوفى ، والعمل الأخير ليس عملاً عقلياً ، وإنما هو عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله ويشحذ إرادتها بتأكيد مبدع بأن العالم لبس شيئاً لمجرد الرؤية أو أنه شيء يعرف بالتصور ، وإنما هو شيء يبدأ ويعاد بالعمل المستمر . واللحظة التي تعرف فيها الذات ذلك هي اللحظة التي تستشعر فيها السعادة العظمى وتجتاز فيها أكبر امتحان لها) ..
ولقد اعتاد الناس أن الأزمات تتطلب المقاومة المضادة على السياق والاتجاه الخطي المعاكس لنوع الأزمة، وكان هذا يتطلب جهدا بالغاً وقوة ضاربة وعزم كبير .. ولكن، ماذا لو خارت قوى الشعب وتفرق الناس عن بعضهم .. افلا يمكن حينها مقاومة الازمة بتحويل السياق في التصدي لها بعدم السماح للذات بالانحطاط أمامها، فتظهر برغم الأزمة شيئاً من القدرات المعنوية المكنونة فيها لتتكيف مع نفس الاتجاه الخطي لنوع هذه الأزمة .. فإذا كانت المشكلة مشكلة عيش من غذاء وكساء ووقود جاءت مقاومتها على نفس سياقها بمزيد من التقشف الطوعي والتنازل عن حظ النفس في متاع الحياة والانسحاب من ضجيج التقنيات والآلات وثرثرة الحياة اليومية ثم الالتجاء إلى الحياة مع الطبيعة الحرة بقدر الحاجة والمستطاع وبقدر ما يجعل الانسان اكثر الشيء منتجاً وليس اكثره مستهلكاً .. أن يعلوا الإنسان ويسموا فوق رغباته المشدودة به إلى الأرض هو نوع من التكيف لا يحسنه ويقدر عليه سوى الإنسان حيث تنهزم فيه أنواع الكائنات الأخرى ألتي ما اعتادت أن تصبر على نقص الغذاء .. ولكن حتى من بني آدم من لا يقدر عليه الا بإرادة اخلاقية دافعة ومسنودة بالتعاليم الإلهية في مكارم الأخلاق .. فهناك عندما يجف الحلق عطشاً في الصحراء ينبت اليأس في القلوب ويقول الانسان حينها نفسي نفسي .. ولكن بأي منطق والحال هكذا أن يؤثر من هو من بني جلدتنا الذي يخلو جرابه من أي درهم أو دينار على نفسه وآل بيته كل سائل وطالب حاجة فيرى فيه دائماً حال أدنى من حاله ..
لقد شهد التاريخ لأمثال هؤلاء مرات قلائل في تاريخ الإنسانية .. ففي الوقت الذي فر فيه رجال عن بلادهم البوار هربا بجلودهم بعدما ادركتها الفاقة وشح الموارد، كانت هناك نساء المانيا عقب خراب دور الأمة الألمانية ومحالها بعد الحرب يحملون على ظهورهم قصعات الاسمنت وكتل الحجارة ليديروا هن تروس المصانع بعد أن اخذت الحرب خيرة رجالهم وشبابهم، ولم يهجروا أرضهم ويرتحلوا شرقاً أو غرباً كما فعل بنو اسرائيل في سالف الزمان، حتى كان ما كان من امتهم الألمانية اليوم .. والان ايضا يشهد التاريخ مرة أخرى لأهل السودان في أيامنا وقد بلغت بهم الأزمة حد الإفلاس الكامل والتجميد الكلي للموارد وانعدام مصارف الطاقة لأغراض الحياة وصارت ودائع البنوك على عروشها خواء حتى بحقوق ورواتب ابناء البلد الكادحين، وظن كل مراقب لهذا أنه لا مفر للناس بعد أن يدب فيهم اليأس أمام قسوة الظروف من بيع انفسهم واعراضهم وبيع حتى غبار الدور وبيوت العنكبوت مدمرين كل قيمة وفضيلة وخلق كانوا يتباهون به حين الرخاء وان يفعلوا كما فعل اصحاب الثورة الفرنسية قبل قيامها من أكل الجار لحم جاره بعدما يخرج من بيته ميتاً من شدة الجوع لكيهما .. ولكن كان المدهش العجيب أن أظهرت المعاناة اخلاقاً للأزمة لدى كثير من السودانيين ما هو خلافاً لذلك، فلم يستأثروا لأنفسهم بما يقع تحت أيديهم بحق أو بغير حق وفق منطق انتهاز الفرص الذي يجد تعليلا كافياً له في أوقات الانحطاط والأزمات الكبرى .. وإنما على العكس تماماً رأيناهم فوق كل توقع يجودون لبعضهم بفضل الظهر وشربة اللبن وسقيا الماء ويتحدون فراغ مراكز الطب والدواء من اسباب العلاج بعطايا من خاصة ما في بيوتهم من أدوية رغم عدم نفاذ حاجتهم إليها .. وهكذا تعلن (أخلاق الأزمة) حقيقة وأصالة أي ادعاء بوازع أخلاقي في نفس الإنسان حيث أنها لا تكون إلا وقت أن ينهار من حوله كل جدار وينكشف حاله للعراء، حينها (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) ..
ولعل أعظم شهادة للتاريخ في الإيثار ودرس متعلم ومثل مضروب هو إيثار صحابة رسول الله المسخنين بجراح الحرب بشربة الماء الواحدة كل لأخيه حتى إذا ما دارت الكأس كان قد مات أولهم وماتوا جميعاً وظلت شربة الماء باقية في كأسها ..
لقد كان حتماً علينا الكفاح ضد كل أزمة تلمس معايش جمهور الناس ومناهضة خالقيها بثورة الإصلاح والتصحيح أو بقولة العدل في دواوينهم ومناط عِقالهم .. فإن فاق الطغيان حد الاحتمال وصارت الفتنة في الأزمة أشد من القتل ولم يقدر على حسمها جندي ولا حكيم، فلا مفر آنذاك من العض على شجرة الأخلاق وإعلاء النفس تحت قصف الرعود وعصف الرياح إلى أن يجعل الله للناس مخرجاً بتقواهم، فذلك هو وعد الحق ..
إن أخلاق الأزمة هي الصخرة التي يتحطم عليها وجدان الإنسان الهش ضعيف النفس ولا تحمل فضائله بين الناس جذوراً بعيدة تحت الارض فتذهب كل القيم لديه جفاءً حين البأس وشدة الحال .. هناك يظهر كل دعي أفاق متظاهر .. وهناك يُعلم في الحزن من بكى حقاً ممن تباكى .. وكلمات (إقبال) الاخيرة تقرع الناقوس :
اشدد عقدة ذاتك
واستمسك بكيانك الصغير
ما أجمل أن يصقل الإنسان ذاته
وان يختبر رونقها في سطوع الشمس
فاستأنف تهذيب إطارك القديم
وأقم كياناً جديداً
مثل هذا الكيان هو الكيان الحق
وإلا فذاتك لا تزيد عن أن تكون حلقة من دخان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق