تحقيق منطقي للفصل الدلالي بين مفهومي
(بشر) و(إنسان)
(دراسة في حذف القول بالترادف في فهم القرآن)
د. وائل أحمد خليل الكردي
مقدمة :
مما هو مشار إليه تاريخياً أن الديانات ، أي ديانات ، منذ فجرها البعيد كانت أشمل وأعم وأكبر من المعرفة العلمية وحقائق العلم المكتشفة . وكذلك أيضاً كانت الفلسفة ، وكان هذا قائماً بطبيعة حال مدى كلية النظرة في الديانات والفلسفات والعلوم وفق معانيها الإصطلاحية . فالعلم هو ما استند على الحقائق اليقينية للموجودات في صورتها التجريبية ، أما الديانات والفلسفات فقد تحوي شيئاً كثيراً من حقائق العلوم لكنها بالتأكيد تتجاوزها برسم التصورات النهائية والعلل الكلية البعيدة والتي تحكم على الكون والوجود منذ تصور بداياته الأولى وحتى تصور ما سينهي إليه في قول واحد.
وإذا انتقلنا من هذه الرؤية العامة إلى تحديد القول في النصوص الدينية القرآنية التي تحمل من الحقائق والقوانين العلمية ما صار لدينا قاطعاً وثابتاً ببرهان العلم ومنطق البحث والشهود العيان ، فبالضرورة حتى وإن كان نسبة هذه النصوص أقل كثيراً من جملة نصوص القرآن مما لم يعلم دلالاتها العلمية بعد ، فلن يكون لدينا حق منطقي في أن نحكم بأن النسبة الغالبة الباقية غير المعلومة الدلالة تلك لن تثبت على النحو العلمي أو أنها غير قابلة للتحقق بالمعنى الذي أرادته (الوضعية المنطقية) Logical positivism فالقاعدة المنطقية هنا (أن ما تم تحقق ثلثاً منه بشكل علمي يقيني ، لا يستلزم مطقياً توقع عدم تحقق الثلثين الباقيين إلا أن يقع ذلك بالفعل) . وهذا هو الحال في الفهم الإنساني العلمي للقرآن الكريم ، فما تحقق منه علمياً حتى الآن في كافة المجالات فإنه يكون قانوناً علمياً Scientific law وتلك النسبة المعلومة لدينا منه تشير منطقياً إلى ثبوت وتحقق المزيد مع نمو وعينا العلمي وتطور وسائل البحث العلمي . عند هذا الحد يصبح المنطق السليم أن القرآن الكريم بكونه يحتوي قوانين علمية وحقائق راهنة وماضية اضافة لاحتوائه المخطط الأخلاقي والتشريعي الكلي هو أشمل وأعم وأوسع من جملة هذه الحقائق ليصف بذلك الوجود على نحو كلي ما حضر منه أمام أعيننا وما لم يحضر بعد ، وما وصفناه منه بأنه الفيزياء وما نصفه بأنه ميتافيزياء . وبناء على هذا المنطق أن القران يقود العلم ، أي أن العلم في سيره وتقدمه لابد أن يتحاكم إلى القران وينضبط عليه وفق اتساعه وليس العكس .
وهذه الدراسة تتناول تطبيقاً لهذه الأطروحة على صعيد إثبات عدم الترادف لكلمات القرآن في دلالاتها بصدد وصف الأحوال ، والنموذج التطبيقي لذلك هو اختلاف دلالة كلمة (بشر) في استخدامها القرآني عن كلمة (إنسان) الأمر الذي من شأنه أن يرسم – عبر منهج تحليلي استنباطي – تصوراً معرفياً وصفياً لمجمل المتعلقات والمقاصد في خلق الإنسان وتكليفه . ويكون هذا على محورين :
المحور الأول هو المبادئ والشروط الملزمة للبحث العلمي في القرآن الكريم وحدود التأويل عليه . والمحور الثاني هو متن الحقيقة في فهم علامات التمييز بين دلالة (بشر) ودلالة (إنسان) على ضوء مجمل السرد العام لخلق الإنسان في القرآن الكريم .
أولاً – الشروط والمبادئ الأصولية الملزمة :
يمكن تعيين مبادئ أصولية ملزمة لابد من التقيد بها فبل الشروع في أي دراسة علمية كونية في سبيل الفحص والتنقيب عن إشاراتها في القرآن الكريم بغرض تكوين تصور كلي يتجاوز الفرض العلمي الجزئي نحو قضية علمية ما ويخدمه في نفس الآن ، وذلك بضبط حيز الاستنباط والاستدلال العام فيه وبضبط حيز الدائرة المغلقة للفروض بحيث لا يتيه الخيال ويسرف في تأسيسها – هذا من جهة ، ومن جهة أخرى حتى لا تكون نصوص القرآن العظيم رهناً للتفكيك كلُ يقول فيه بهواه .
وهذه المبادئ أو الشروط هي ما يلي :
1- الإيمان البرهاني الوثوقي بأنه ليس هناك ترادف في القرآن كلمة بكلمة ولا زيادة مضافة بغير دلالة في النص . فكل كلمة وردت في القرآن وفي داخل سياقات الآيات هي معنية بذاتها معنىً ودلالةً وحكماً وإن تشابهت الكلمات في ذلك . فلو كان في علامات signs القرآن ترادف لأمكن نزع كلمة ما ووضع بدلاً منها الكلمة مرادفتها دون أن يتغير المعنى ودون أن تتغير الدلالة ، وهذا هو ما يسمح باستعمال التفكيك على النص القرآني واعتباره نصاً أدبياً كباقي نصوص الأدب وليس نصاً مقدساً وهو ما يجوز ولا يمكن في حق القرآن وحاله ، لأن الترادف على هذا الوصف يكون به شيء من الاعتباطية في الاصطلاح على الدلالة بمعنى أن إدخال الكلمة أو مرادفتها في ذات السياق لا يكون فيه فرق بينهما فإدخال أيٍ منها هو سيان مع الأخرى . ولكن الشاهد الأصولي الثابت أن كل سياق في القران مقصود لذاته بعلاماته وكلماته فلا بديل لكلمة بأخرى في الموضع في السياق . وقد يتأكد ذلك المبدأ الأصولي عملياً في آية قرآنية واحدة اشتملت على ثلاث كلمات مما يقع عليها الظن بالترادف ويفيد حضورها في سياق واحد دلالة لمنع الترادف ، فقال تعالى (... وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) – الأعراف 198- فالكلمات الثلاث (تراهم) (ينظرون) (يبصرون) هي كلمات من عائلة لغوية واحدة فلو كان بينها ترادف لما كانت هنالك حاجة إذن لكتابتها برسوم مختلفة ولكان التكرار لواحدة فقط منها يفي بالمقصد .
2- عدم إخراج أي علامة لغوية من عائلتها اللغوية ، وهو ما عبر عنه (لدفيش فيتجنشتاين) L. Wittgenstein بمقولة (المشابهات العائلية) حيث يتحدد بها منتهى السقف الدلالي في استخدام الكلمة ، أي أن العائلة اللغوية التي تنتمي إليها أية كلمة أو علامة لغوية هي محصلة كيفيات الاستخدام الممكنة كلها لتلك الكلمة في السياقات المختلفة وما يحفظ لها خصوصيتها عن سائر الكلمات والعلامات اللغوية وبما يسمح لها بالتبادل الدلالي في الاستخدام المجازي بينها وبين العلامات والكلمات المشتركة معها في العائلة اللغوية مع حفظ عدم الترادف بينها . ومثال ذلك عند الاستعمال اللغوي لأغراض التشبيه والاستعارة البلاغية ، فيمكن استعارة اللون الأبيض للتعبير عن القلب الطيب وللتعبير عن نقاء السريرة وللتعبير عن صدق القول والشفافية . وما يحدد العائلة اللغوية في استخدام الكلمات هو الأجناس الوصفية العامة والكلية للوجود والتي يتم بموجبها تصنيف الكائنات بحسب مقابلاتها اللغوية ، فالعلامة التي تصف حالة مادية على صورة معينة عندما يتم استعارتها لوصف حالة معنوية فإنه يتم تداولياً اختيار الحالة المعنوية التي تلائم الوصف للحالة المادية فيحصل بذلك الاشتراك في العلامة . فاللون الأبيض في طلاء الأسطح المادية هو أبرز لون يتصف بالنصاعة والوضوح والحساسية ، فعندما يتم التشبيه عليه القلب الأبيض فإن القلب فعلياً من حيث مادته ليس أبيضاً ولكن فقط معنوياً تمت استعارة اللون الأبيض لوصف حاله المعنوية من خير وطيبة وصدق وصفاء نية فيكون ذلك دالاً على الملائمة المعنوية الاشتراك في العلامة وبالتالي يكون هذا الاستخدام في اطار جنس عائلي لغوي معين ، وذلك بالعكس تماماً من استخدم الأبيض لدلالة على الكراهية والحقد والحسد والغموض حيث لم يتعارف الناس في كافة شعوبهم وعلى مدى تاريخهم باعتماد هذا الاستخدام وإنما كانت دائماً هذه الأحوال المعنوية السالبة مستعار لها الأسود فيكون دالاً معنوياً على اسوداد القلب بمثل ما هو دال مادياً على ظلام الأسطح المادية وتعتيمها .
3- عدم اعتماد أي استدلال على التأويل لمعنىً باطن في النص والسياق القرآني بما يخلف ظاهر معناه . وهذا مستفاد من مبدأ المشابهات العائلية اللغوية في تحديد سقف المشتركات الدلالية للعلامات في النصوص والسياقات . وعنى ذلك – على النحو المنطقي – أن ظاهر النص هو درجة من درجات التفسير ثابتة وواضحة من محض القراءة . وكذلك المعاني الباطنة هي لا تلغي ولا تصرف المعنى الظاهر وإنما بمثابة درجات أعمق أو أعلى ولكن على نفس السلم أو الدرج دون الخروج عنه ، وإلا لو خرج التأويل عن خط الدرج أو السلم وناقض التفسير الظاهر صار الأمر تفكيكاً لا رابط معه للسياق النصي . فمثال في التأويل هو على نحو الدائرة الصغرى وهي حد التفسير الظاهري تحيط بها دائرة أكبر وأكثر اتساعاً ولكن كل من الدائرة الصغرى والكبرى ترتبطان أو تنطلقان من نفس المركز وهو هنا المشابهات العائلية اللغوية . إذن فالاستدلال على التأويل بالاستنباط للمعنى الباطن لا يعارض بل يتكامل مع تفسير المعنى الظاهري أو المباشر .
4- حتمية التزام الوحدة السياقية للبناء الكلي القرآني – وأيضاً الحديث النبوي- فإن من اكثر الأمور تضليلاً عن الحق في التعامل مع التفسير الظاهر للمعنى أو التأويل الباطن هو (جعل القرآن عضين) أي فصل النصوص بحسب الحاجة عن البناء الكلي للقرآن مما يؤدي إلى إسقاط كثير من الأحكام المتكاملة وفقدان العديد من الدلالات التي تكون الصورة الكلية للموضوع المراد الاستدلال عليه أو الاستنباط منه . وهذا ما يؤدي إلى القول بتفكيك النص النص وموت المؤلف وتحرير العلامات اللغوية بما يحتمل الأضداد والتناقضات في سياق الآية الواحدة . والوحدة السياقية للنص تكون على اتجاهين ، اتجاه في الربط الاحصائي لكافة الآيات المتعلقة بموضوع واحد بما يشكل اكتمال أبعاد الرؤية له وتمام زوايا المربع ، واتجاه آخر في ربط الرؤية العامة للموضوع بكافة الآيات المخصوصة له مع عموم سياق القرآن من أول سورة (الفاتحة) وحتى آخر سورة (الناس) . وفائدة ذلك أولاً أن أي البحث لا يغفل بعداً أو زاوية لموضوعه إلا أحصاها عبر الآيات المخصوصة لها قدر الامكان مما يقلل الفرص المتاحة للثغرات ، وثانياً أن ربط الآيات موضوع البحث بعموم آيات القرآن يوسع الدائرة حساب العلاقات للموضوع حتى مع ما هو خارج عنه أو غير داخل فيه بصورة مباشرة مما يفيد في تحقيق التركيز وتمام النضج في فهم الموضوع وتقوية الأحكام والحد من كثير من السقطات الاستدلالية والاستنباطية ورفع كفاءة الاجتهاد بالقرب أكثر الشيء من الالتزام بروح القران ، وأيضاً رفع ما يحتمل من الوقوع في التناقضات والتعارضات الظنية بين الآيات أمام الباحث فيها .
إذن ، وتلخيصاً لهذه الشروط اللازمة لبحث أي موضوع معرفي في القرآن الكريم ، ما يلي :
1- ليس هنالك ترادف في القرآن الكريم .
2- عدم جواز اخراج أي علامة من عائلتها اللغوية في التأويل والاستدلال .
3- التزام التأويل المتعلق بأي درجة من درجات المعنى الباطن لدلالات الآيات القرآنية وذلك بعدم مخالفة أو معارضة درجة التفسير الظاهر للمعنى .
3- التزام الوحدة السياقية لكافة آيات موضوع البحث المحدد مع مراعاة الوحدة السياقية للبناء الكلي العام للقرآن بما يضمن خلو الفكرة من أي تناقض .
ثانياً – متن الحقيقة في حذف الترادف بين البشر والإنسان :
إن كلمة (البشر) في القرآن الكريم تختلف دلالياً عن كلمة (إنسان) ، فبالقياس إلى مبدأ عدم الترادف في القرآن يكون الاختلاف في العلامة اللغوية Sign هو اختلاف في الدلالة reference . وإذا أمكننا القول أن العلامتين (بشر ) (إنسان) هما من عائلة لغوية واحدة فإن هذا يعني أنهما ليستا تبادلاً على دلالة واحدة ، أي أنه ليس بينهما ترادف بل إن ما بينهما هو (مشابهة عائلية) وفق قاعدة (فيتجنشتاين) في التحليل اللغوي - المشار إليها آنفاً - والتي تقضي بأن الأمر في اللغة هو بنحو التكوين العائلي تماماً من حيث انتماء أفراد مستقلين في شخوصهم وذواتهم إلى عائلة واحدة ترسم عليهم سمات مشتركة مهما اختلفوا عن بعضهم . فإذن ، يكون الاختلاف بين (بشر) و(إنسان) ليس في العائلة اللغوية ، حيث أن الاختلاف للعائلة اللغوية إنما يعني اختلاف جذري في الشكل والمضمون بين العلامات في مقابلاتها النوعية، ولكن التمييز باشتراك العائلة اللغوية إنما هو محض تفاوت كيفي أو كمي مع بقاء الرابط المشترك وهو ما عليه حال التمييز بين علامتي (بشر) (إنسان) .
عليه ، تقوم الفرضية Hypothesis المحورية لهذا الادعاء على ما يلي :
1- أن العلاقة بين البشر والإنسان علاقة تداخل وتصنيف وليست علاقة ترادف ، فالبشر هم الدئرة النوعية العامة والإنسان هو ضرب من ضروبها ، أو – بضبط المصطلح – أن البشر هو (جنس) والإنسان هو (نوع) من الأنواع في حدود هذا الجنس على اعتبار أن الجنس هو الفصيل الوجودي العام الذي يحتوي في طيه وجود الأنواع باختلافاتها النوعية . من هنا يتكون افتراض حذف الترادف في الاستخدام بين المفهومين ، وأن المرجعية الأساسية الواضحة لهذا الحذف أو التمييز هي الدلالة السياقية للقرآن الكريم في ورود كل من المفهومين . وإيضاح ذلك على ما يلي :
قول الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة 30 – يفيد أولاً ، من ناحية دلالة الكلمات ، إذا كان المسمى الوصفي للإنسان (خليفة) منذ أول خلقه (آدم) عليه السلام فإذن يكون (آدم) خليفة . وأن حكم الخلافة منطقياً أن يكون الخليفة شرطاً من جنس المستخلف بعده ، فلا امتداد إلا في ذات السياق سواءً كان في اللغة أم كان في الوجود فالشرط أن يكون في حدود الجنس حتى ولو كان نوعاً مختلف أو ضرباً آخر من الضروب وعلى نفس الحيز المكاني . فمن الذي خلَفه (آدم) إلا أن يكون نوعاً من الأنواع في الجنس المشترك معه وهو (البشر) ، وأما عن حقيقة هذه الأنواع فهو المختلف فيه ومازال يجري التقصي نحوه . وثانياً ، أن حكم الملائكة بالإفساد في الأرض وسفك الدماء بطريقة السؤال المفيد للتعجب بتعقيب مباشر بعد تلاوة قرار الله تعالى عليهم بخلق الإنسان إنما يدل على أن حكم الملائكة هذا جاء كردة فعل مسبقة البرمجة أي دون تفكير تأملي وحساب وتحقيق منطقي بل من واقع خبرة عملية سابقة . كما أن قول الله تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون) على الأرجح يشير إلى حصول ثمة علم لدى الملائكة - وهو ظاهر فيما قالوه عن الخليفة - وعلم الله إنما أكبر وزيادة عليه . وآية تأكيد وجود الشاهد التاريخي في علم الملائكة بفعل من ينتمون للجنس البشري قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدو ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) – البقرة 21- فالخطاب للناس غير محدود بمرحلة بعينها مما أنه ممتد منذ (آدم) عليه السلام ، وكما أنه خطاب مباشر إذن (الذين من قبلكم) هم من كانوا بخلاف الإنسان وعلى نفس جنسه من أنواع البشر ما يعلمهم الله تعالى ، وأيضاً الخطاب المباشر (هو ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن وارسلنا السماء عليكم ددراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشئنا قوماً آخرين) الأنعام 6- ، فالخطاب المباشر هو للناس كافة ، بينما الخطاب بضمير الغيب قد يمثل خطاباً لفئة معينة معلومة وثابتة تاريخياً ، والسياق النصي للآية يتحدث عن فئة ما بضمير الغيب (يروا) ثم يحول الحديث إلى التوجيه المباشر للفئة الحاضرة بقول (لكم) ، ولعل دلالة ذلك هي أن المشار إلهم بـ ( قرنٍ آخرين) هم بشر سابقين على نوع الإنسان منذ (آدم) المخاطبين – أي نوع الإنسان – بـ (لكم) ، ثم يدعم هذا عود الحديث مرة أخرى بضمير الغيب (فأهلكناهم بذنوبهم) حيث أن ذلك هو ما جرى لهؤلاء القرن الآخرين وهو ما يتفق وعلم الملائكة بفساد من كانوا قبل (آدم) عليه السلام . ومن جهة أخرى ، ورد هناك إثبات لاستمرارية خلق الأنواع بذات النهج واستخلافها بعد الإنسان في قوله تعالى (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) الأنعام 133 – والإشارة المفتاحية هنا إلى دلالة الكلمة (ما) وهي على غير الكلمة (من) المخصوصة بنوع الإنسان .
وأيضاً شاهدة آخرى من واقع النبوة في قول الله تعالى في خبر (مريم) (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا) مريم 17 - ولم يقل (إنساناً سويا) مما قد يدل أن هذا الروح الآتي للسيدة (مريم) كان لابد له ليهب لها الغلام أن يتمثل بهيئة بشرية ولكنه يمتنع في ذات الوقت أن يكون إنساناً لأنه لو كان إنسان لكان حتما من نسل (آدم) مما يتعين معه ثبوت أب للمسيح (عيسى بن مريم) وهذا ممتنع بالقطع . ويكتمل الإثبات في الفصل الدلالي بين المفهومين (بشر) و(إنسان) بورود العلامتين في سياق آية واحدة في خبر (مريم) في قوله تعالى (فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم إنسيا) مريم 19 - بما يستحيل معه التكرار أو التوحيد الدلالي للعلامتين المختلفتين مرة في صدر الآية ومرة في عجزها . وهنا ينتج استدلال في اتجاه آخر ولكنه مكمل للفكرة الأساسية ، وهو أن خلق المسيح (عيسى) عليه السلام من أم وبلا أب ينفي تماماً القول بخلق الإنسان تطوراً ويثبت الخلق المباشر للإنسان بقدرة العلي القدير . فإذا كان التطوريون الدارونيين يقبلون منطقياً تصور خلق (آدم) تطوراً عن أصل سالف له بفعل الانتخاب الطبيعي ، فكيف لهم أن يقبلوا بتخليق إنسان بكافة مراحله التكوينية داخل رحم الأم دون مس من رجل بذات النوع الإنساني وبلا تهجين . وحتى إذا افترضنا جدلاً أن الخلق التطوري يصح في عموم الكائنات باستثناء الإنسان ، فإن الخلق المباشر للإنسان باليد الإلهية وبكلمة (كن فيكون) على خلاف باقي الكائنات لهو مدعاة أكبر لإثبات القدرة اللإلهية في الخلق ، وفي نفس الوقت كسر وإسقاط للتصور الأرسطي لدى من تبنوه من بعض أهل الكتاب وغيرهم في القول بعدم التدخل المباشر لله تعالى في الكون المخلوق له بأمر مباشر .
وعلى ذات السياق الاستدلالي ، فإن التوجيه الإلهي لرد لرسول صل الله عليه وسلم (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا) الاسراء 93- يحمل الإشارة إلى أن بعث الرسول كان للإنسان وللبشر كافة ، أي للجنس وللنوع ، حتى إذا ما كان هناك ما لم نعلمه من أنواع البشر بجانب الإنسان ، فإن الرسالة تشمله .
2- أن (الإنسان) بكونه نوعاً للجنس (بشر) قد خلق خلقاً خاصاً مباشراً من طين ومن حمأ مسنون على نفس وصفه في آي القرآن الكريم بكل تفاصيل وعلامات ومعاني ودلالات هذا الخلق على ظاهر النص دون حاجة لتأويل بعيد أو قريب . فإذا توافقت فرضية حذف الترادف بين علامة (إنسان) وعلامة (بشر) فتكون تبعية النوع (إنسان) للجنس (بشر) هي تبعية انتماء – كما سلفت الإشارة – ولكن بخلق مباشر مستقل وليس في الأصل بتبعية نسل الذي هو التوالد التلقائي أو التهجين القصدي ، فتبعية الانتماء من غير نسل تنفي عن الإنسان مصدرية النشوء والارتقاء له عن أصل أو نوع بشري آخر على شرط التطور والتحول الانتقائي الدارويني . وشواهد القرآن على ذلك بنحو قوله تعالى (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) السجدة 7 - وقوله تعالى (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) – الأنعام 2 – فتلك الآيات على ظاهرها تفيد جلياً الحكم المباشر بمادة خلق الإنسان ، وأن الله تعالى بدأ خلق الإنسان بصنع مباشر من (طين) كما في قوله تعالى (قال يا ابليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) ص 75 - وليس من (خلية) حيوانية ، فيكون الإنسان بذلك خلقاً مباشراً دون سلسلة تطورية دارونية وأن المقصود بالخلق من طين ليس هم عموم أنواع الجنس بل الإنسان وحده فقط الأمر الذي يجعل نسبته للجنس العام (بشر) هي محض تبعية تصنيفية (من تصنيف) وليس توليدية . وهذا لا يتعارض مع القول بأصل عام – تكويني وليس تطوري – للخلق الحي وهو (الماء) تبعاً لقول الله تعالى (... وجعلنا من الماء كل شيء حي) الانبياء 30 – فالماء هو عنصر تكويني للمادة الحيوية للخلق ولا ينافي هذا تعدد التفاعلات الكيفية المتميزة له – أي الماء – باختلاف الكائنات لدى كل كائن على حده سواء كان من طين أم كان من غير ذلك ، فالماء لا يحدد شخصية الكائنات ولا يفرض فيها عنصراً تطورياً بذاته بما يؤدي إلى انبثاق هذه الكائنات بعضها عن بعض . فإذا كان قول الله تعالى (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا) الفرقان 54- تفيد دلالة الخلق العام للبشر كجنس من عنصر الماء فإن الطين كان هو مادة التمايز والفصل النوعي للإنسان الآدمي عن باقي الأنواع للبشر بما يمتنع معه أن يكون قد صدر عن نوع منها .
3- لابد من التمييز الضروري بين (البشر) و(أشباه البشر) ، فأشباه البشر هم من تحدثت عنهم مراجع الأنثروبولوجيا الطبيعية ومن بينهم حاولت المراجع الدارونية تعيين الحلقة الوسطى – بحسب وجه نظرها - في الانتقال التطوري عن جذر يكون بمحل الأصل العام للإنسان وأبناء عمومته من الشمبانزي والقردة العليا ، وقد تعارفت تلك المراجع على تسمية أولئك الأشباه باسم (الأناسي) أو (الأوادم) وهذا بفعل الخلط في فهم تلك المفاهيم والتي أوضحها وميز بينها دلالياً القرآن الكريم ، فيقولون مثلاً (آدم/ إنسان نياندرتال) (آدم/ إنسان كرومانيون) (آدم/ إنسان جاوه) ومما يبرز هذا الخلط في المفاهيم لدى تلك المراجع في الأنثروبولوجيا الطبيعية أنها تفرق بين (آدم) المعروف حالياً و(أشِباه البشر) وذلك من خلال الوضع المنتصب القامة ، التمييز الوظيفي بين الأيدي والأرجل ، نمو فراغ الدماغ ونمو المخ ، الصفات النفسية . وهذا يدعم القول بأن أشباه البشر ليسوا بشراً ، ناهيك عن نسبتهم إلى الضرب النوعي داخل جنس البشر وهو (الإنسان) . بل الأكثر من ذلك أنه إذا كان الوصف العام لأشباه البشر هؤلاء أنهم على حالة بدائية أقرب للطبيعة الحيوانية الفطرية ، فإن ما ذكر بصدد أنواع البشر في آيات القرآن التي تم الاستشهاد بها يدل ربما على تفوقهم حتى على نوع الإنسان في ذكائهم وقدراتهم وبنحو أكثر تطوراً . وإذا نما تساؤل عما إذا كانت الحفريات الأثرية قد أثبتت شيئاً من أنواع البشر البائدة تلك وآثارهم فليس أمامنا إلا أن نستلف نفس التعبير الذي ساقه (داروين) في كتابه (أصل الأنواع) The origin of species للإجابة عن ذات السؤال فيما يتعلق بآثار الضروب الانتقالية الوسطى التي تربط النوع بأصله في التحول التطوري ، حيث نص أننا (إذا تدبرنا أي نوع من الأنواع على اعتقاد أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة تطورات وقعت على صورة غير معروفة لدينا ، كان لا مندوحة لنا من التسليم بأن الأصل الأول الذي عنه نشأ النوع ، مصحوباً بالصور الوسطى التي اشتقت منه وكانت تربط الأصل بفرعه الأخير ، قد انقرض جماعها بتأثير سنة الانتخاب الطبيعية ذاتها ، تلك السنة التي تحدث بفضلها الصور وتبلغ درجة الكمال التكويني . تقضي هذه الحقيقة بأن صوراً انتقالية وسطى تربط بين كثير من العضويات التي نلحظها في الطبيعة لابد من أن تكون قد عمرت الأرض في خلال الأزمان الأولى . فإذا كان الانقراض قد مضى بتلك الصور ، فلم لا نجد هياكلها العديدة مطمورة في الطبقات التي تؤلف سطح الكرة الأرضية ؟ ... الاعتقاد بأن السجل الجيولوجي الذي يؤيد صحة مذهب النشوء على حال من الاضطراب والنقص قل أن تسبق إلى حدس الباحثين . فطبقات الأرض على أنها دار عاديات طبيعية بعيد عن الوهم أن يصور فرط عظمها ، فإن الصور المحفوظة فيها ناقصة مشوهة ولم تطمر فيها إلا من خلال فترات متباعدة من الزمان) . فإذا كان هذا هو الحال في أساس نظرية النشوء وأن ليس باللازم لتأييدها إيجاد الحفريات الدالة على صورها الجذرية الوسطى والتي قد تكون اندثرت عبر ملايين السنين في طبقات الأرض المتحولة ، فلما لا يكون منطقياً الادعاء بأن أنواع جنس البشر قبل آدم عليه السلام قد فنيت وزال أثرها تماماً ، خاصة إذا كان هذا الفناء ليس بفعل انتخاب طبيعي كما ذهب (داروين) وإنما بفعلٍ عقابي أو انتقامي على ما سلكوه سلفاً ، فإن الله تعالى قال في خبر مباشر جلي (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) مريم 98 - فكان تدميرهم ماحياً لكل أثر لهم ، وليس ثمة ما يدل عليهم سوى الخبر القرآني . ثم اضافة إلى هذا التأكيد تأكيد آخر في وصف الإنسان في القرآن بـ (الخليفة) بما يفيد زوال كل الأثر السابق وفناء كل أفراد النوع أو الأنواع البشرية التي استخلف بعدها (آدم) عليه السلام .
الخلاصة :
1- أن الانطلاق من البحث اللغوي الدلالي للسياقات القرآنية الدالة على حذف الترادف بين المفاهيم بصدد إنشاء تصور علمي معين ، ليثبت أن النص القرآني هو الحكم على البحث العلمي في أي موضوع وليس العكس . وذلك على اعتبار اأن القرآن الكريم هو الدائرة الخبرية الكلية بالكون والشاهد على الوجود ، فيمثل بذلك الإطار المعرفي المحيط بالعلم Science وليس أن العلم هو المحتوي للقرآن .
2- لفت الانتباه إلى أن تحقق (التكامل السياقي) المجرد للسرد النصي في بناء اطروحة أو تصور معرفي – علمي كلي أو جزئي بما يعطي نظرية ما ، إنما يجب اعتباره أحد عوامل الإثبات العلمي للنظرية المعنية حتى دون غلبة الرجوع والإحالة إلى الإجراءات والفحوص التجريبية ، وبحيث لا تكون هذه الإجراءات والفحوص العامل الحاسم في الأحقية المعرفية النظرية دون التكامل السياقي السردي الخالي من التناقض .
3- التركيز على حذف الترادف في القرآن الكريم بين المفاهيم المتداولة فيه يظهر ثراء الكنز الدلالي في التراكيب والأغراض السياقية الوظيفية لآيات القرآن ، كما يبرز المقاصد الحاضرة والمتوقعة على نفس قدر إبرازه للشواهد التاريخية المندثرة والتي تفيد كشف مغاليق التفسير للأحوال الراهنة والمستقبلة . فهذا التركيز إذن على حذف الترادف يشير إلى معاملة كل علامة Sign على قدر قيمتها الدلالية في السياقاتى القرآنية المتعددة . وأيضاً يعطي هذا اختباراً تدريبياً على ضبط لغة العلم وتحقيق قدرتها الوصفية بنحو أكبر .
مراجع الدراسة :
1- عبد الرحمن بن ناصر السعدي – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان – دار ابن حزم ، 2003 .
2- تشارلز داروين - أصل الأنواع - ترجمة/ اسماعيل مظهر ، مكتبة النهضة ، بيروت ، 1973 .
3- فاروق عبد الجواد شويقة - الأنثروبولوجيا الطبيعية والسلالات البشرية – البيطاش سنتر للنشر والتوزيع ، 2009 .
4- محمد إقبال – تجديد التفكير الديني في الإسلام – ترجمة / عباس محمود ، مراجعة / عبد العزيز المراغي (بك) ، مهدي علام ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة .
5- وائل أحمد خليل - قاعدة خرق الأنساق ، رؤية فلسفيه منطقيه في استنباط الفرض العلمي في القرآن الكريم - (مجلة تفكر – جامعة الجزيرة – السودان) ، 2005 .
6- وائل أحمد خليل - ضوابط وقواعد التأصيل الإسلامي للمعرفة في صياغة المناهج والبحوث تكاملا مع ضوابط الإعجاز العلمي في مصادر الوحي - (مؤتمر قسم الدراسات الإسلامية – جامعة الخرطوم – السودان) ، 2012 .
7- وائل أحمد خليل - منطق المشكلات الزائفة ، دراسة في المسالة المنهجية العلمية للتفسير والتأويل - (إصدارة مركز التنوير المعرفي – السودان) ، 2007 .
8- Ludwig Wittgenstein- Philosophical Investigations- Translated by: G. E. M. Anscombe , Basil Black Well, Oxford,1953 .
9- N. R. Hanson - Patterns of Discovery – Cambridge University press , 1955 .
(بشر) و(إنسان)
(دراسة في حذف القول بالترادف في فهم القرآن)
د. وائل أحمد خليل الكردي
مقدمة :
مما هو مشار إليه تاريخياً أن الديانات ، أي ديانات ، منذ فجرها البعيد كانت أشمل وأعم وأكبر من المعرفة العلمية وحقائق العلم المكتشفة . وكذلك أيضاً كانت الفلسفة ، وكان هذا قائماً بطبيعة حال مدى كلية النظرة في الديانات والفلسفات والعلوم وفق معانيها الإصطلاحية . فالعلم هو ما استند على الحقائق اليقينية للموجودات في صورتها التجريبية ، أما الديانات والفلسفات فقد تحوي شيئاً كثيراً من حقائق العلوم لكنها بالتأكيد تتجاوزها برسم التصورات النهائية والعلل الكلية البعيدة والتي تحكم على الكون والوجود منذ تصور بداياته الأولى وحتى تصور ما سينهي إليه في قول واحد.
وإذا انتقلنا من هذه الرؤية العامة إلى تحديد القول في النصوص الدينية القرآنية التي تحمل من الحقائق والقوانين العلمية ما صار لدينا قاطعاً وثابتاً ببرهان العلم ومنطق البحث والشهود العيان ، فبالضرورة حتى وإن كان نسبة هذه النصوص أقل كثيراً من جملة نصوص القرآن مما لم يعلم دلالاتها العلمية بعد ، فلن يكون لدينا حق منطقي في أن نحكم بأن النسبة الغالبة الباقية غير المعلومة الدلالة تلك لن تثبت على النحو العلمي أو أنها غير قابلة للتحقق بالمعنى الذي أرادته (الوضعية المنطقية) Logical positivism فالقاعدة المنطقية هنا (أن ما تم تحقق ثلثاً منه بشكل علمي يقيني ، لا يستلزم مطقياً توقع عدم تحقق الثلثين الباقيين إلا أن يقع ذلك بالفعل) . وهذا هو الحال في الفهم الإنساني العلمي للقرآن الكريم ، فما تحقق منه علمياً حتى الآن في كافة المجالات فإنه يكون قانوناً علمياً Scientific law وتلك النسبة المعلومة لدينا منه تشير منطقياً إلى ثبوت وتحقق المزيد مع نمو وعينا العلمي وتطور وسائل البحث العلمي . عند هذا الحد يصبح المنطق السليم أن القرآن الكريم بكونه يحتوي قوانين علمية وحقائق راهنة وماضية اضافة لاحتوائه المخطط الأخلاقي والتشريعي الكلي هو أشمل وأعم وأوسع من جملة هذه الحقائق ليصف بذلك الوجود على نحو كلي ما حضر منه أمام أعيننا وما لم يحضر بعد ، وما وصفناه منه بأنه الفيزياء وما نصفه بأنه ميتافيزياء . وبناء على هذا المنطق أن القران يقود العلم ، أي أن العلم في سيره وتقدمه لابد أن يتحاكم إلى القران وينضبط عليه وفق اتساعه وليس العكس .
وهذه الدراسة تتناول تطبيقاً لهذه الأطروحة على صعيد إثبات عدم الترادف لكلمات القرآن في دلالاتها بصدد وصف الأحوال ، والنموذج التطبيقي لذلك هو اختلاف دلالة كلمة (بشر) في استخدامها القرآني عن كلمة (إنسان) الأمر الذي من شأنه أن يرسم – عبر منهج تحليلي استنباطي – تصوراً معرفياً وصفياً لمجمل المتعلقات والمقاصد في خلق الإنسان وتكليفه . ويكون هذا على محورين :
المحور الأول هو المبادئ والشروط الملزمة للبحث العلمي في القرآن الكريم وحدود التأويل عليه . والمحور الثاني هو متن الحقيقة في فهم علامات التمييز بين دلالة (بشر) ودلالة (إنسان) على ضوء مجمل السرد العام لخلق الإنسان في القرآن الكريم .
أولاً – الشروط والمبادئ الأصولية الملزمة :
يمكن تعيين مبادئ أصولية ملزمة لابد من التقيد بها فبل الشروع في أي دراسة علمية كونية في سبيل الفحص والتنقيب عن إشاراتها في القرآن الكريم بغرض تكوين تصور كلي يتجاوز الفرض العلمي الجزئي نحو قضية علمية ما ويخدمه في نفس الآن ، وذلك بضبط حيز الاستنباط والاستدلال العام فيه وبضبط حيز الدائرة المغلقة للفروض بحيث لا يتيه الخيال ويسرف في تأسيسها – هذا من جهة ، ومن جهة أخرى حتى لا تكون نصوص القرآن العظيم رهناً للتفكيك كلُ يقول فيه بهواه .
وهذه المبادئ أو الشروط هي ما يلي :
1- الإيمان البرهاني الوثوقي بأنه ليس هناك ترادف في القرآن كلمة بكلمة ولا زيادة مضافة بغير دلالة في النص . فكل كلمة وردت في القرآن وفي داخل سياقات الآيات هي معنية بذاتها معنىً ودلالةً وحكماً وإن تشابهت الكلمات في ذلك . فلو كان في علامات signs القرآن ترادف لأمكن نزع كلمة ما ووضع بدلاً منها الكلمة مرادفتها دون أن يتغير المعنى ودون أن تتغير الدلالة ، وهذا هو ما يسمح باستعمال التفكيك على النص القرآني واعتباره نصاً أدبياً كباقي نصوص الأدب وليس نصاً مقدساً وهو ما يجوز ولا يمكن في حق القرآن وحاله ، لأن الترادف على هذا الوصف يكون به شيء من الاعتباطية في الاصطلاح على الدلالة بمعنى أن إدخال الكلمة أو مرادفتها في ذات السياق لا يكون فيه فرق بينهما فإدخال أيٍ منها هو سيان مع الأخرى . ولكن الشاهد الأصولي الثابت أن كل سياق في القران مقصود لذاته بعلاماته وكلماته فلا بديل لكلمة بأخرى في الموضع في السياق . وقد يتأكد ذلك المبدأ الأصولي عملياً في آية قرآنية واحدة اشتملت على ثلاث كلمات مما يقع عليها الظن بالترادف ويفيد حضورها في سياق واحد دلالة لمنع الترادف ، فقال تعالى (... وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) – الأعراف 198- فالكلمات الثلاث (تراهم) (ينظرون) (يبصرون) هي كلمات من عائلة لغوية واحدة فلو كان بينها ترادف لما كانت هنالك حاجة إذن لكتابتها برسوم مختلفة ولكان التكرار لواحدة فقط منها يفي بالمقصد .
2- عدم إخراج أي علامة لغوية من عائلتها اللغوية ، وهو ما عبر عنه (لدفيش فيتجنشتاين) L. Wittgenstein بمقولة (المشابهات العائلية) حيث يتحدد بها منتهى السقف الدلالي في استخدام الكلمة ، أي أن العائلة اللغوية التي تنتمي إليها أية كلمة أو علامة لغوية هي محصلة كيفيات الاستخدام الممكنة كلها لتلك الكلمة في السياقات المختلفة وما يحفظ لها خصوصيتها عن سائر الكلمات والعلامات اللغوية وبما يسمح لها بالتبادل الدلالي في الاستخدام المجازي بينها وبين العلامات والكلمات المشتركة معها في العائلة اللغوية مع حفظ عدم الترادف بينها . ومثال ذلك عند الاستعمال اللغوي لأغراض التشبيه والاستعارة البلاغية ، فيمكن استعارة اللون الأبيض للتعبير عن القلب الطيب وللتعبير عن نقاء السريرة وللتعبير عن صدق القول والشفافية . وما يحدد العائلة اللغوية في استخدام الكلمات هو الأجناس الوصفية العامة والكلية للوجود والتي يتم بموجبها تصنيف الكائنات بحسب مقابلاتها اللغوية ، فالعلامة التي تصف حالة مادية على صورة معينة عندما يتم استعارتها لوصف حالة معنوية فإنه يتم تداولياً اختيار الحالة المعنوية التي تلائم الوصف للحالة المادية فيحصل بذلك الاشتراك في العلامة . فاللون الأبيض في طلاء الأسطح المادية هو أبرز لون يتصف بالنصاعة والوضوح والحساسية ، فعندما يتم التشبيه عليه القلب الأبيض فإن القلب فعلياً من حيث مادته ليس أبيضاً ولكن فقط معنوياً تمت استعارة اللون الأبيض لوصف حاله المعنوية من خير وطيبة وصدق وصفاء نية فيكون ذلك دالاً على الملائمة المعنوية الاشتراك في العلامة وبالتالي يكون هذا الاستخدام في اطار جنس عائلي لغوي معين ، وذلك بالعكس تماماً من استخدم الأبيض لدلالة على الكراهية والحقد والحسد والغموض حيث لم يتعارف الناس في كافة شعوبهم وعلى مدى تاريخهم باعتماد هذا الاستخدام وإنما كانت دائماً هذه الأحوال المعنوية السالبة مستعار لها الأسود فيكون دالاً معنوياً على اسوداد القلب بمثل ما هو دال مادياً على ظلام الأسطح المادية وتعتيمها .
3- عدم اعتماد أي استدلال على التأويل لمعنىً باطن في النص والسياق القرآني بما يخلف ظاهر معناه . وهذا مستفاد من مبدأ المشابهات العائلية اللغوية في تحديد سقف المشتركات الدلالية للعلامات في النصوص والسياقات . وعنى ذلك – على النحو المنطقي – أن ظاهر النص هو درجة من درجات التفسير ثابتة وواضحة من محض القراءة . وكذلك المعاني الباطنة هي لا تلغي ولا تصرف المعنى الظاهر وإنما بمثابة درجات أعمق أو أعلى ولكن على نفس السلم أو الدرج دون الخروج عنه ، وإلا لو خرج التأويل عن خط الدرج أو السلم وناقض التفسير الظاهر صار الأمر تفكيكاً لا رابط معه للسياق النصي . فمثال في التأويل هو على نحو الدائرة الصغرى وهي حد التفسير الظاهري تحيط بها دائرة أكبر وأكثر اتساعاً ولكن كل من الدائرة الصغرى والكبرى ترتبطان أو تنطلقان من نفس المركز وهو هنا المشابهات العائلية اللغوية . إذن فالاستدلال على التأويل بالاستنباط للمعنى الباطن لا يعارض بل يتكامل مع تفسير المعنى الظاهري أو المباشر .
4- حتمية التزام الوحدة السياقية للبناء الكلي القرآني – وأيضاً الحديث النبوي- فإن من اكثر الأمور تضليلاً عن الحق في التعامل مع التفسير الظاهر للمعنى أو التأويل الباطن هو (جعل القرآن عضين) أي فصل النصوص بحسب الحاجة عن البناء الكلي للقرآن مما يؤدي إلى إسقاط كثير من الأحكام المتكاملة وفقدان العديد من الدلالات التي تكون الصورة الكلية للموضوع المراد الاستدلال عليه أو الاستنباط منه . وهذا ما يؤدي إلى القول بتفكيك النص النص وموت المؤلف وتحرير العلامات اللغوية بما يحتمل الأضداد والتناقضات في سياق الآية الواحدة . والوحدة السياقية للنص تكون على اتجاهين ، اتجاه في الربط الاحصائي لكافة الآيات المتعلقة بموضوع واحد بما يشكل اكتمال أبعاد الرؤية له وتمام زوايا المربع ، واتجاه آخر في ربط الرؤية العامة للموضوع بكافة الآيات المخصوصة له مع عموم سياق القرآن من أول سورة (الفاتحة) وحتى آخر سورة (الناس) . وفائدة ذلك أولاً أن أي البحث لا يغفل بعداً أو زاوية لموضوعه إلا أحصاها عبر الآيات المخصوصة لها قدر الامكان مما يقلل الفرص المتاحة للثغرات ، وثانياً أن ربط الآيات موضوع البحث بعموم آيات القرآن يوسع الدائرة حساب العلاقات للموضوع حتى مع ما هو خارج عنه أو غير داخل فيه بصورة مباشرة مما يفيد في تحقيق التركيز وتمام النضج في فهم الموضوع وتقوية الأحكام والحد من كثير من السقطات الاستدلالية والاستنباطية ورفع كفاءة الاجتهاد بالقرب أكثر الشيء من الالتزام بروح القران ، وأيضاً رفع ما يحتمل من الوقوع في التناقضات والتعارضات الظنية بين الآيات أمام الباحث فيها .
إذن ، وتلخيصاً لهذه الشروط اللازمة لبحث أي موضوع معرفي في القرآن الكريم ، ما يلي :
1- ليس هنالك ترادف في القرآن الكريم .
2- عدم جواز اخراج أي علامة من عائلتها اللغوية في التأويل والاستدلال .
3- التزام التأويل المتعلق بأي درجة من درجات المعنى الباطن لدلالات الآيات القرآنية وذلك بعدم مخالفة أو معارضة درجة التفسير الظاهر للمعنى .
3- التزام الوحدة السياقية لكافة آيات موضوع البحث المحدد مع مراعاة الوحدة السياقية للبناء الكلي العام للقرآن بما يضمن خلو الفكرة من أي تناقض .
ثانياً – متن الحقيقة في حذف الترادف بين البشر والإنسان :
إن كلمة (البشر) في القرآن الكريم تختلف دلالياً عن كلمة (إنسان) ، فبالقياس إلى مبدأ عدم الترادف في القرآن يكون الاختلاف في العلامة اللغوية Sign هو اختلاف في الدلالة reference . وإذا أمكننا القول أن العلامتين (بشر ) (إنسان) هما من عائلة لغوية واحدة فإن هذا يعني أنهما ليستا تبادلاً على دلالة واحدة ، أي أنه ليس بينهما ترادف بل إن ما بينهما هو (مشابهة عائلية) وفق قاعدة (فيتجنشتاين) في التحليل اللغوي - المشار إليها آنفاً - والتي تقضي بأن الأمر في اللغة هو بنحو التكوين العائلي تماماً من حيث انتماء أفراد مستقلين في شخوصهم وذواتهم إلى عائلة واحدة ترسم عليهم سمات مشتركة مهما اختلفوا عن بعضهم . فإذن ، يكون الاختلاف بين (بشر) و(إنسان) ليس في العائلة اللغوية ، حيث أن الاختلاف للعائلة اللغوية إنما يعني اختلاف جذري في الشكل والمضمون بين العلامات في مقابلاتها النوعية، ولكن التمييز باشتراك العائلة اللغوية إنما هو محض تفاوت كيفي أو كمي مع بقاء الرابط المشترك وهو ما عليه حال التمييز بين علامتي (بشر) (إنسان) .
عليه ، تقوم الفرضية Hypothesis المحورية لهذا الادعاء على ما يلي :
1- أن العلاقة بين البشر والإنسان علاقة تداخل وتصنيف وليست علاقة ترادف ، فالبشر هم الدئرة النوعية العامة والإنسان هو ضرب من ضروبها ، أو – بضبط المصطلح – أن البشر هو (جنس) والإنسان هو (نوع) من الأنواع في حدود هذا الجنس على اعتبار أن الجنس هو الفصيل الوجودي العام الذي يحتوي في طيه وجود الأنواع باختلافاتها النوعية . من هنا يتكون افتراض حذف الترادف في الاستخدام بين المفهومين ، وأن المرجعية الأساسية الواضحة لهذا الحذف أو التمييز هي الدلالة السياقية للقرآن الكريم في ورود كل من المفهومين . وإيضاح ذلك على ما يلي :
قول الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة 30 – يفيد أولاً ، من ناحية دلالة الكلمات ، إذا كان المسمى الوصفي للإنسان (خليفة) منذ أول خلقه (آدم) عليه السلام فإذن يكون (آدم) خليفة . وأن حكم الخلافة منطقياً أن يكون الخليفة شرطاً من جنس المستخلف بعده ، فلا امتداد إلا في ذات السياق سواءً كان في اللغة أم كان في الوجود فالشرط أن يكون في حدود الجنس حتى ولو كان نوعاً مختلف أو ضرباً آخر من الضروب وعلى نفس الحيز المكاني . فمن الذي خلَفه (آدم) إلا أن يكون نوعاً من الأنواع في الجنس المشترك معه وهو (البشر) ، وأما عن حقيقة هذه الأنواع فهو المختلف فيه ومازال يجري التقصي نحوه . وثانياً ، أن حكم الملائكة بالإفساد في الأرض وسفك الدماء بطريقة السؤال المفيد للتعجب بتعقيب مباشر بعد تلاوة قرار الله تعالى عليهم بخلق الإنسان إنما يدل على أن حكم الملائكة هذا جاء كردة فعل مسبقة البرمجة أي دون تفكير تأملي وحساب وتحقيق منطقي بل من واقع خبرة عملية سابقة . كما أن قول الله تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون) على الأرجح يشير إلى حصول ثمة علم لدى الملائكة - وهو ظاهر فيما قالوه عن الخليفة - وعلم الله إنما أكبر وزيادة عليه . وآية تأكيد وجود الشاهد التاريخي في علم الملائكة بفعل من ينتمون للجنس البشري قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدو ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) – البقرة 21- فالخطاب للناس غير محدود بمرحلة بعينها مما أنه ممتد منذ (آدم) عليه السلام ، وكما أنه خطاب مباشر إذن (الذين من قبلكم) هم من كانوا بخلاف الإنسان وعلى نفس جنسه من أنواع البشر ما يعلمهم الله تعالى ، وأيضاً الخطاب المباشر (هو ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن وارسلنا السماء عليكم ددراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشئنا قوماً آخرين) الأنعام 6- ، فالخطاب المباشر هو للناس كافة ، بينما الخطاب بضمير الغيب قد يمثل خطاباً لفئة معينة معلومة وثابتة تاريخياً ، والسياق النصي للآية يتحدث عن فئة ما بضمير الغيب (يروا) ثم يحول الحديث إلى التوجيه المباشر للفئة الحاضرة بقول (لكم) ، ولعل دلالة ذلك هي أن المشار إلهم بـ ( قرنٍ آخرين) هم بشر سابقين على نوع الإنسان منذ (آدم) المخاطبين – أي نوع الإنسان – بـ (لكم) ، ثم يدعم هذا عود الحديث مرة أخرى بضمير الغيب (فأهلكناهم بذنوبهم) حيث أن ذلك هو ما جرى لهؤلاء القرن الآخرين وهو ما يتفق وعلم الملائكة بفساد من كانوا قبل (آدم) عليه السلام . ومن جهة أخرى ، ورد هناك إثبات لاستمرارية خلق الأنواع بذات النهج واستخلافها بعد الإنسان في قوله تعالى (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) الأنعام 133 – والإشارة المفتاحية هنا إلى دلالة الكلمة (ما) وهي على غير الكلمة (من) المخصوصة بنوع الإنسان .
وأيضاً شاهدة آخرى من واقع النبوة في قول الله تعالى في خبر (مريم) (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا) مريم 17 - ولم يقل (إنساناً سويا) مما قد يدل أن هذا الروح الآتي للسيدة (مريم) كان لابد له ليهب لها الغلام أن يتمثل بهيئة بشرية ولكنه يمتنع في ذات الوقت أن يكون إنساناً لأنه لو كان إنسان لكان حتما من نسل (آدم) مما يتعين معه ثبوت أب للمسيح (عيسى بن مريم) وهذا ممتنع بالقطع . ويكتمل الإثبات في الفصل الدلالي بين المفهومين (بشر) و(إنسان) بورود العلامتين في سياق آية واحدة في خبر (مريم) في قوله تعالى (فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم إنسيا) مريم 19 - بما يستحيل معه التكرار أو التوحيد الدلالي للعلامتين المختلفتين مرة في صدر الآية ومرة في عجزها . وهنا ينتج استدلال في اتجاه آخر ولكنه مكمل للفكرة الأساسية ، وهو أن خلق المسيح (عيسى) عليه السلام من أم وبلا أب ينفي تماماً القول بخلق الإنسان تطوراً ويثبت الخلق المباشر للإنسان بقدرة العلي القدير . فإذا كان التطوريون الدارونيين يقبلون منطقياً تصور خلق (آدم) تطوراً عن أصل سالف له بفعل الانتخاب الطبيعي ، فكيف لهم أن يقبلوا بتخليق إنسان بكافة مراحله التكوينية داخل رحم الأم دون مس من رجل بذات النوع الإنساني وبلا تهجين . وحتى إذا افترضنا جدلاً أن الخلق التطوري يصح في عموم الكائنات باستثناء الإنسان ، فإن الخلق المباشر للإنسان باليد الإلهية وبكلمة (كن فيكون) على خلاف باقي الكائنات لهو مدعاة أكبر لإثبات القدرة اللإلهية في الخلق ، وفي نفس الوقت كسر وإسقاط للتصور الأرسطي لدى من تبنوه من بعض أهل الكتاب وغيرهم في القول بعدم التدخل المباشر لله تعالى في الكون المخلوق له بأمر مباشر .
وعلى ذات السياق الاستدلالي ، فإن التوجيه الإلهي لرد لرسول صل الله عليه وسلم (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا) الاسراء 93- يحمل الإشارة إلى أن بعث الرسول كان للإنسان وللبشر كافة ، أي للجنس وللنوع ، حتى إذا ما كان هناك ما لم نعلمه من أنواع البشر بجانب الإنسان ، فإن الرسالة تشمله .
2- أن (الإنسان) بكونه نوعاً للجنس (بشر) قد خلق خلقاً خاصاً مباشراً من طين ومن حمأ مسنون على نفس وصفه في آي القرآن الكريم بكل تفاصيل وعلامات ومعاني ودلالات هذا الخلق على ظاهر النص دون حاجة لتأويل بعيد أو قريب . فإذا توافقت فرضية حذف الترادف بين علامة (إنسان) وعلامة (بشر) فتكون تبعية النوع (إنسان) للجنس (بشر) هي تبعية انتماء – كما سلفت الإشارة – ولكن بخلق مباشر مستقل وليس في الأصل بتبعية نسل الذي هو التوالد التلقائي أو التهجين القصدي ، فتبعية الانتماء من غير نسل تنفي عن الإنسان مصدرية النشوء والارتقاء له عن أصل أو نوع بشري آخر على شرط التطور والتحول الانتقائي الدارويني . وشواهد القرآن على ذلك بنحو قوله تعالى (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) السجدة 7 - وقوله تعالى (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) – الأنعام 2 – فتلك الآيات على ظاهرها تفيد جلياً الحكم المباشر بمادة خلق الإنسان ، وأن الله تعالى بدأ خلق الإنسان بصنع مباشر من (طين) كما في قوله تعالى (قال يا ابليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) ص 75 - وليس من (خلية) حيوانية ، فيكون الإنسان بذلك خلقاً مباشراً دون سلسلة تطورية دارونية وأن المقصود بالخلق من طين ليس هم عموم أنواع الجنس بل الإنسان وحده فقط الأمر الذي يجعل نسبته للجنس العام (بشر) هي محض تبعية تصنيفية (من تصنيف) وليس توليدية . وهذا لا يتعارض مع القول بأصل عام – تكويني وليس تطوري – للخلق الحي وهو (الماء) تبعاً لقول الله تعالى (... وجعلنا من الماء كل شيء حي) الانبياء 30 – فالماء هو عنصر تكويني للمادة الحيوية للخلق ولا ينافي هذا تعدد التفاعلات الكيفية المتميزة له – أي الماء – باختلاف الكائنات لدى كل كائن على حده سواء كان من طين أم كان من غير ذلك ، فالماء لا يحدد شخصية الكائنات ولا يفرض فيها عنصراً تطورياً بذاته بما يؤدي إلى انبثاق هذه الكائنات بعضها عن بعض . فإذا كان قول الله تعالى (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا) الفرقان 54- تفيد دلالة الخلق العام للبشر كجنس من عنصر الماء فإن الطين كان هو مادة التمايز والفصل النوعي للإنسان الآدمي عن باقي الأنواع للبشر بما يمتنع معه أن يكون قد صدر عن نوع منها .
3- لابد من التمييز الضروري بين (البشر) و(أشباه البشر) ، فأشباه البشر هم من تحدثت عنهم مراجع الأنثروبولوجيا الطبيعية ومن بينهم حاولت المراجع الدارونية تعيين الحلقة الوسطى – بحسب وجه نظرها - في الانتقال التطوري عن جذر يكون بمحل الأصل العام للإنسان وأبناء عمومته من الشمبانزي والقردة العليا ، وقد تعارفت تلك المراجع على تسمية أولئك الأشباه باسم (الأناسي) أو (الأوادم) وهذا بفعل الخلط في فهم تلك المفاهيم والتي أوضحها وميز بينها دلالياً القرآن الكريم ، فيقولون مثلاً (آدم/ إنسان نياندرتال) (آدم/ إنسان كرومانيون) (آدم/ إنسان جاوه) ومما يبرز هذا الخلط في المفاهيم لدى تلك المراجع في الأنثروبولوجيا الطبيعية أنها تفرق بين (آدم) المعروف حالياً و(أشِباه البشر) وذلك من خلال الوضع المنتصب القامة ، التمييز الوظيفي بين الأيدي والأرجل ، نمو فراغ الدماغ ونمو المخ ، الصفات النفسية . وهذا يدعم القول بأن أشباه البشر ليسوا بشراً ، ناهيك عن نسبتهم إلى الضرب النوعي داخل جنس البشر وهو (الإنسان) . بل الأكثر من ذلك أنه إذا كان الوصف العام لأشباه البشر هؤلاء أنهم على حالة بدائية أقرب للطبيعة الحيوانية الفطرية ، فإن ما ذكر بصدد أنواع البشر في آيات القرآن التي تم الاستشهاد بها يدل ربما على تفوقهم حتى على نوع الإنسان في ذكائهم وقدراتهم وبنحو أكثر تطوراً . وإذا نما تساؤل عما إذا كانت الحفريات الأثرية قد أثبتت شيئاً من أنواع البشر البائدة تلك وآثارهم فليس أمامنا إلا أن نستلف نفس التعبير الذي ساقه (داروين) في كتابه (أصل الأنواع) The origin of species للإجابة عن ذات السؤال فيما يتعلق بآثار الضروب الانتقالية الوسطى التي تربط النوع بأصله في التحول التطوري ، حيث نص أننا (إذا تدبرنا أي نوع من الأنواع على اعتقاد أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة تطورات وقعت على صورة غير معروفة لدينا ، كان لا مندوحة لنا من التسليم بأن الأصل الأول الذي عنه نشأ النوع ، مصحوباً بالصور الوسطى التي اشتقت منه وكانت تربط الأصل بفرعه الأخير ، قد انقرض جماعها بتأثير سنة الانتخاب الطبيعية ذاتها ، تلك السنة التي تحدث بفضلها الصور وتبلغ درجة الكمال التكويني . تقضي هذه الحقيقة بأن صوراً انتقالية وسطى تربط بين كثير من العضويات التي نلحظها في الطبيعة لابد من أن تكون قد عمرت الأرض في خلال الأزمان الأولى . فإذا كان الانقراض قد مضى بتلك الصور ، فلم لا نجد هياكلها العديدة مطمورة في الطبقات التي تؤلف سطح الكرة الأرضية ؟ ... الاعتقاد بأن السجل الجيولوجي الذي يؤيد صحة مذهب النشوء على حال من الاضطراب والنقص قل أن تسبق إلى حدس الباحثين . فطبقات الأرض على أنها دار عاديات طبيعية بعيد عن الوهم أن يصور فرط عظمها ، فإن الصور المحفوظة فيها ناقصة مشوهة ولم تطمر فيها إلا من خلال فترات متباعدة من الزمان) . فإذا كان هذا هو الحال في أساس نظرية النشوء وأن ليس باللازم لتأييدها إيجاد الحفريات الدالة على صورها الجذرية الوسطى والتي قد تكون اندثرت عبر ملايين السنين في طبقات الأرض المتحولة ، فلما لا يكون منطقياً الادعاء بأن أنواع جنس البشر قبل آدم عليه السلام قد فنيت وزال أثرها تماماً ، خاصة إذا كان هذا الفناء ليس بفعل انتخاب طبيعي كما ذهب (داروين) وإنما بفعلٍ عقابي أو انتقامي على ما سلكوه سلفاً ، فإن الله تعالى قال في خبر مباشر جلي (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) مريم 98 - فكان تدميرهم ماحياً لكل أثر لهم ، وليس ثمة ما يدل عليهم سوى الخبر القرآني . ثم اضافة إلى هذا التأكيد تأكيد آخر في وصف الإنسان في القرآن بـ (الخليفة) بما يفيد زوال كل الأثر السابق وفناء كل أفراد النوع أو الأنواع البشرية التي استخلف بعدها (آدم) عليه السلام .
الخلاصة :
1- أن الانطلاق من البحث اللغوي الدلالي للسياقات القرآنية الدالة على حذف الترادف بين المفاهيم بصدد إنشاء تصور علمي معين ، ليثبت أن النص القرآني هو الحكم على البحث العلمي في أي موضوع وليس العكس . وذلك على اعتبار اأن القرآن الكريم هو الدائرة الخبرية الكلية بالكون والشاهد على الوجود ، فيمثل بذلك الإطار المعرفي المحيط بالعلم Science وليس أن العلم هو المحتوي للقرآن .
2- لفت الانتباه إلى أن تحقق (التكامل السياقي) المجرد للسرد النصي في بناء اطروحة أو تصور معرفي – علمي كلي أو جزئي بما يعطي نظرية ما ، إنما يجب اعتباره أحد عوامل الإثبات العلمي للنظرية المعنية حتى دون غلبة الرجوع والإحالة إلى الإجراءات والفحوص التجريبية ، وبحيث لا تكون هذه الإجراءات والفحوص العامل الحاسم في الأحقية المعرفية النظرية دون التكامل السياقي السردي الخالي من التناقض .
3- التركيز على حذف الترادف في القرآن الكريم بين المفاهيم المتداولة فيه يظهر ثراء الكنز الدلالي في التراكيب والأغراض السياقية الوظيفية لآيات القرآن ، كما يبرز المقاصد الحاضرة والمتوقعة على نفس قدر إبرازه للشواهد التاريخية المندثرة والتي تفيد كشف مغاليق التفسير للأحوال الراهنة والمستقبلة . فهذا التركيز إذن على حذف الترادف يشير إلى معاملة كل علامة Sign على قدر قيمتها الدلالية في السياقاتى القرآنية المتعددة . وأيضاً يعطي هذا اختباراً تدريبياً على ضبط لغة العلم وتحقيق قدرتها الوصفية بنحو أكبر .
مراجع الدراسة :
1- عبد الرحمن بن ناصر السعدي – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان – دار ابن حزم ، 2003 .
2- تشارلز داروين - أصل الأنواع - ترجمة/ اسماعيل مظهر ، مكتبة النهضة ، بيروت ، 1973 .
3- فاروق عبد الجواد شويقة - الأنثروبولوجيا الطبيعية والسلالات البشرية – البيطاش سنتر للنشر والتوزيع ، 2009 .
4- محمد إقبال – تجديد التفكير الديني في الإسلام – ترجمة / عباس محمود ، مراجعة / عبد العزيز المراغي (بك) ، مهدي علام ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة .
5- وائل أحمد خليل - قاعدة خرق الأنساق ، رؤية فلسفيه منطقيه في استنباط الفرض العلمي في القرآن الكريم - (مجلة تفكر – جامعة الجزيرة – السودان) ، 2005 .
6- وائل أحمد خليل - ضوابط وقواعد التأصيل الإسلامي للمعرفة في صياغة المناهج والبحوث تكاملا مع ضوابط الإعجاز العلمي في مصادر الوحي - (مؤتمر قسم الدراسات الإسلامية – جامعة الخرطوم – السودان) ، 2012 .
7- وائل أحمد خليل - منطق المشكلات الزائفة ، دراسة في المسالة المنهجية العلمية للتفسير والتأويل - (إصدارة مركز التنوير المعرفي – السودان) ، 2007 .
8- Ludwig Wittgenstein- Philosophical Investigations- Translated by: G. E. M. Anscombe , Basil Black Well, Oxford,1953 .
9- N. R. Hanson - Patterns of Discovery – Cambridge University press , 1955 .