الخميس، 7 يونيو 2018

الفصل الدلالي بين مفهومي (بشر) و(انسان)

 تحقيق منطقي للفصل الدلالي بين مفهومي
 (بشر) و(إنسان)
(دراسة في حذف القول بالترادف في فهم القرآن)
د. وائل أحمد خليل الكردي
مقدمة :
مما هو مشار إليه تاريخياً أن الديانات ، أي ديانات ، منذ فجرها البعيد كانت أشمل وأعم وأكبر من المعرفة العلمية وحقائق العلم المكتشفة . وكذلك أيضاً كانت الفلسفة ، وكان هذا قائماً بطبيعة حال مدى كلية النظرة في الديانات والفلسفات والعلوم وفق معانيها الإصطلاحية . فالعلم هو ما استند على الحقائق اليقينية للموجودات في صورتها التجريبية ، أما الديانات والفلسفات فقد تحوي شيئاً كثيراً من حقائق العلوم لكنها بالتأكيد تتجاوزها برسم التصورات النهائية والعلل الكلية البعيدة والتي تحكم على الكون والوجود منذ تصور بداياته الأولى وحتى تصور ما سينهي إليه في قول واحد.
وإذا انتقلنا من هذه الرؤية العامة إلى تحديد القول في النصوص الدينية القرآنية التي تحمل من الحقائق والقوانين العلمية ما صار لدينا قاطعاً وثابتاً ببرهان العلم ومنطق البحث والشهود العيان ، فبالضرورة حتى وإن كان نسبة هذه النصوص أقل كثيراً من جملة نصوص القرآن مما لم يعلم دلالاتها العلمية بعد ، فلن يكون لدينا حق منطقي في أن نحكم بأن النسبة الغالبة الباقية غير المعلومة الدلالة تلك لن تثبت على النحو العلمي أو أنها غير قابلة للتحقق بالمعنى الذي أرادته (الوضعية المنطقية) Logical positivism فالقاعدة المنطقية هنا (أن ما تم تحقق ثلثاً منه بشكل علمي يقيني ، لا يستلزم مطقياً توقع عدم تحقق الثلثين الباقيين إلا أن يقع ذلك بالفعل) . وهذا هو الحال في الفهم الإنساني العلمي للقرآن الكريم ، فما تحقق منه علمياً حتى الآن في كافة المجالات فإنه يكون قانوناً علمياً Scientific law وتلك النسبة المعلومة لدينا منه تشير منطقياً إلى ثبوت وتحقق المزيد مع نمو وعينا العلمي وتطور وسائل البحث العلمي  . عند هذا الحد يصبح المنطق السليم أن القرآن الكريم بكونه يحتوي قوانين علمية وحقائق راهنة وماضية  اضافة لاحتوائه المخطط الأخلاقي والتشريعي الكلي هو أشمل وأعم وأوسع من جملة هذه الحقائق ليصف بذلك الوجود على نحو كلي ما حضر منه أمام أعيننا وما لم يحضر بعد ، وما وصفناه منه بأنه الفيزياء وما نصفه بأنه ميتافيزياء . وبناء على هذا المنطق أن القران يقود العلم ، أي أن العلم في سيره وتقدمه لابد أن يتحاكم إلى القران وينضبط عليه وفق اتساعه وليس العكس .
وهذه الدراسة تتناول تطبيقاً لهذه الأطروحة على صعيد إثبات عدم الترادف لكلمات القرآن في دلالاتها بصدد وصف الأحوال ، والنموذج التطبيقي لذلك هو اختلاف دلالة كلمة (بشر) في استخدامها القرآني عن كلمة (إنسان) الأمر الذي من شأنه أن يرسم – عبر منهج تحليلي استنباطي – تصوراً معرفياً وصفياً لمجمل المتعلقات والمقاصد في خلق الإنسان وتكليفه . ويكون هذا على محورين :
المحور الأول هو المبادئ والشروط الملزمة للبحث العلمي في القرآن الكريم وحدود التأويل عليه . والمحور الثاني هو متن الحقيقة في فهم علامات التمييز بين دلالة (بشر) ودلالة (إنسان) على ضوء مجمل السرد العام لخلق الإنسان في القرآن الكريم .
أولاً – الشروط والمبادئ الأصولية الملزمة :
 يمكن تعيين مبادئ أصولية ملزمة لابد من التقيد بها فبل الشروع في أي دراسة علمية كونية في سبيل الفحص والتنقيب عن إشاراتها في القرآن الكريم بغرض تكوين تصور كلي يتجاوز الفرض العلمي الجزئي نحو قضية علمية ما ويخدمه في نفس الآن ، وذلك بضبط حيز الاستنباط والاستدلال العام فيه وبضبط حيز الدائرة المغلقة للفروض بحيث لا يتيه الخيال ويسرف في تأسيسها – هذا من جهة ، ومن جهة أخرى حتى لا تكون نصوص القرآن العظيم رهناً للتفكيك كلُ يقول فيه بهواه .
وهذه المبادئ أو الشروط هي ما يلي :
1- الإيمان البرهاني الوثوقي بأنه ليس هناك ترادف في القرآن كلمة بكلمة ولا زيادة مضافة بغير دلالة في النص . فكل كلمة وردت في القرآن وفي داخل سياقات الآيات هي معنية بذاتها معنىً ودلالةً وحكماً وإن تشابهت الكلمات في ذلك . فلو كان في علامات signs القرآن ترادف لأمكن نزع كلمة ما ووضع بدلاً منها الكلمة مرادفتها دون أن يتغير المعنى ودون أن تتغير الدلالة ، وهذا هو ما يسمح باستعمال التفكيك على النص القرآني واعتباره نصاً أدبياً كباقي نصوص الأدب وليس نصاً مقدساً وهو ما يجوز ولا يمكن في حق القرآن وحاله ، لأن الترادف على هذا الوصف يكون به شيء من الاعتباطية في الاصطلاح على الدلالة بمعنى أن إدخال الكلمة أو مرادفتها في ذات السياق لا يكون فيه فرق بينهما فإدخال أيٍ منها هو سيان مع الأخرى . ولكن الشاهد الأصولي الثابت أن كل سياق في القران مقصود لذاته بعلاماته وكلماته فلا بديل لكلمة بأخرى في الموضع في السياق . وقد يتأكد ذلك المبدأ الأصولي عملياً في آية قرآنية واحدة اشتملت على ثلاث كلمات مما يقع عليها الظن بالترادف ويفيد حضورها في سياق واحد دلالة لمنع الترادف ، فقال تعالى (... وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) – الأعراف 198-  فالكلمات الثلاث (تراهم) (ينظرون) (يبصرون) هي كلمات من عائلة لغوية واحدة فلو كان بينها ترادف لما كانت هنالك حاجة إذن لكتابتها برسوم مختلفة ولكان التكرار لواحدة فقط منها يفي بالمقصد . 
2- عدم إخراج أي علامة لغوية من عائلتها اللغوية ، وهو ما عبر عنه (لدفيش فيتجنشتاين) L. Wittgenstein بمقولة (المشابهات العائلية) حيث يتحدد بها منتهى السقف الدلالي في استخدام الكلمة ، أي أن العائلة اللغوية التي تنتمي إليها أية كلمة أو علامة لغوية هي محصلة كيفيات الاستخدام الممكنة كلها لتلك الكلمة في السياقات المختلفة وما يحفظ لها خصوصيتها عن سائر الكلمات والعلامات اللغوية  وبما يسمح لها بالتبادل الدلالي في الاستخدام المجازي بينها وبين العلامات والكلمات المشتركة معها  في العائلة اللغوية مع حفظ عدم الترادف بينها . ومثال ذلك عند الاستعمال اللغوي لأغراض التشبيه والاستعارة البلاغية ، فيمكن استعارة اللون الأبيض للتعبير عن القلب الطيب وللتعبير عن نقاء السريرة وللتعبير عن صدق القول والشفافية . وما يحدد العائلة اللغوية في استخدام الكلمات هو الأجناس الوصفية العامة والكلية للوجود والتي يتم بموجبها تصنيف الكائنات بحسب مقابلاتها اللغوية ، فالعلامة التي تصف حالة مادية على صورة معينة عندما يتم استعارتها لوصف حالة معنوية فإنه يتم تداولياً اختيار الحالة المعنوية التي تلائم الوصف للحالة المادية فيحصل بذلك الاشتراك في العلامة . فاللون الأبيض في طلاء الأسطح المادية هو أبرز لون يتصف بالنصاعة والوضوح والحساسية ، فعندما يتم التشبيه عليه القلب الأبيض فإن القلب فعلياً من حيث مادته ليس أبيضاً ولكن فقط معنوياً تمت استعارة اللون الأبيض لوصف حاله المعنوية من خير وطيبة وصدق وصفاء نية فيكون ذلك دالاً على الملائمة المعنوية الاشتراك في العلامة وبالتالي يكون هذا الاستخدام في اطار جنس عائلي لغوي معين ، وذلك بالعكس تماماً من استخدم الأبيض لدلالة على الكراهية والحقد والحسد والغموض حيث لم يتعارف الناس في كافة شعوبهم وعلى مدى تاريخهم باعتماد هذا الاستخدام وإنما كانت دائماً هذه الأحوال المعنوية السالبة مستعار لها الأسود فيكون دالاً معنوياً على اسوداد القلب بمثل ما هو دال مادياً على ظلام الأسطح المادية وتعتيمها .
3- عدم اعتماد أي استدلال على التأويل لمعنىً باطن في النص والسياق القرآني بما يخلف ظاهر معناه . وهذا مستفاد من مبدأ المشابهات العائلية اللغوية في تحديد سقف المشتركات الدلالية للعلامات في النصوص والسياقات . وعنى ذلك – على النحو المنطقي – أن ظاهر النص هو درجة من درجات التفسير ثابتة وواضحة من محض القراءة . وكذلك المعاني الباطنة هي لا تلغي ولا تصرف المعنى الظاهر وإنما بمثابة درجات أعمق أو أعلى ولكن على نفس السلم أو الدرج دون الخروج عنه ، وإلا لو خرج التأويل عن خط الدرج أو السلم وناقض التفسير الظاهر صار الأمر تفكيكاً لا رابط معه للسياق النصي . فمثال في التأويل هو على نحو الدائرة الصغرى وهي حد التفسير الظاهري تحيط بها دائرة أكبر وأكثر اتساعاً ولكن كل من الدائرة الصغرى والكبرى ترتبطان أو تنطلقان من نفس المركز وهو هنا المشابهات العائلية اللغوية . إذن فالاستدلال على التأويل بالاستنباط للمعنى الباطن لا يعارض بل يتكامل مع تفسير المعنى الظاهري أو المباشر .
4- حتمية التزام الوحدة السياقية للبناء الكلي القرآني – وأيضاً الحديث النبوي- فإن من اكثر الأمور تضليلاً عن الحق في التعامل مع التفسير الظاهر للمعنى أو التأويل الباطن هو (جعل القرآن عضين) أي فصل النصوص بحسب الحاجة عن البناء الكلي للقرآن مما يؤدي إلى إسقاط كثير من الأحكام المتكاملة وفقدان العديد من الدلالات التي تكون الصورة الكلية للموضوع المراد الاستدلال عليه أو الاستنباط منه . وهذا ما يؤدي إلى القول بتفكيك النص النص وموت المؤلف وتحرير العلامات اللغوية بما يحتمل الأضداد والتناقضات في سياق الآية الواحدة . والوحدة السياقية للنص تكون على اتجاهين ، اتجاه في الربط الاحصائي لكافة الآيات المتعلقة بموضوع واحد بما يشكل اكتمال أبعاد الرؤية له وتمام زوايا المربع ، واتجاه آخر في ربط الرؤية العامة للموضوع بكافة الآيات المخصوصة له مع عموم سياق القرآن من أول سورة (الفاتحة) وحتى آخر سورة (الناس) . وفائدة ذلك أولاً أن أي البحث لا يغفل بعداً أو زاوية لموضوعه إلا أحصاها عبر الآيات المخصوصة لها قدر الامكان مما يقلل الفرص المتاحة للثغرات ، وثانياً أن ربط الآيات موضوع البحث بعموم آيات القرآن يوسع الدائرة حساب العلاقات للموضوع حتى مع ما هو خارج عنه أو غير داخل فيه بصورة مباشرة مما يفيد في تحقيق التركيز وتمام النضج في فهم الموضوع وتقوية الأحكام والحد من كثير من السقطات الاستدلالية والاستنباطية ورفع كفاءة الاجتهاد بالقرب أكثر الشيء من الالتزام بروح القران ، وأيضاً رفع ما يحتمل من الوقوع في التناقضات والتعارضات الظنية بين الآيات أمام الباحث فيها .
إذن ، وتلخيصاً لهذه الشروط اللازمة لبحث أي موضوع معرفي في القرآن الكريم ، ما يلي :
1- ليس هنالك ترادف في القرآن الكريم .
2- عدم جواز اخراج أي علامة من عائلتها اللغوية في التأويل والاستدلال .
3- التزام التأويل المتعلق بأي درجة من درجات المعنى الباطن لدلالات الآيات القرآنية وذلك بعدم مخالفة أو معارضة درجة التفسير الظاهر للمعنى .
3- التزام الوحدة السياقية لكافة آيات موضوع البحث المحدد مع مراعاة الوحدة السياقية للبناء الكلي العام للقرآن بما يضمن خلو الفكرة من أي تناقض .

ثانياً – متن الحقيقة في حذف الترادف بين البشر والإنسان :
إن كلمة (البشر) في القرآن الكريم تختلف دلالياً عن كلمة (إنسان) ، فبالقياس إلى مبدأ عدم الترادف في القرآن يكون الاختلاف في العلامة اللغوية Sign هو اختلاف في الدلالة reference . وإذا أمكننا القول أن العلامتين (بشر ) (إنسان) هما من عائلة لغوية واحدة  فإن هذا يعني أنهما ليستا تبادلاً على دلالة واحدة ، أي أنه ليس بينهما ترادف بل إن ما بينهما هو (مشابهة عائلية) وفق قاعدة (فيتجنشتاين) في التحليل اللغوي - المشار إليها آنفاً - والتي تقضي بأن الأمر في اللغة هو بنحو التكوين العائلي تماماً من حيث انتماء أفراد مستقلين في شخوصهم وذواتهم إلى عائلة واحدة ترسم عليهم سمات مشتركة مهما اختلفوا عن بعضهم . فإذن ، يكون الاختلاف بين (بشر) و(إنسان) ليس في العائلة اللغوية ، حيث أن الاختلاف للعائلة اللغوية إنما يعني اختلاف جذري في الشكل والمضمون بين العلامات في مقابلاتها النوعية، ولكن التمييز باشتراك العائلة اللغوية إنما هو محض تفاوت كيفي أو كمي مع بقاء الرابط المشترك وهو ما عليه حال التمييز بين علامتي (بشر) (إنسان) .
عليه ، تقوم الفرضية Hypothesis المحورية لهذا الادعاء على ما يلي :
1-  أن العلاقة بين البشر والإنسان علاقة تداخل وتصنيف وليست علاقة ترادف ، فالبشر هم الدئرة النوعية العامة والإنسان هو ضرب من ضروبها ، أو – بضبط المصطلح – أن البشر هو (جنس) والإنسان هو (نوع) من الأنواع في حدود هذا الجنس على اعتبار أن الجنس هو الفصيل الوجودي العام الذي يحتوي في طيه وجود الأنواع باختلافاتها النوعية . من هنا يتكون افتراض حذف الترادف في الاستخدام بين المفهومين ، وأن المرجعية الأساسية الواضحة لهذا الحذف أو التمييز هي الدلالة السياقية للقرآن الكريم في ورود كل من المفهومين . وإيضاح ذلك على ما يلي :
قول الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة 30 – يفيد أولاً ، من ناحية دلالة الكلمات ، إذا كان المسمى الوصفي للإنسان (خليفة) منذ أول خلقه (آدم) عليه السلام فإذن يكون (آدم) خليفة . وأن حكم الخلافة منطقياً أن يكون الخليفة شرطاً من جنس المستخلف بعده ، فلا امتداد إلا في ذات السياق سواءً كان في اللغة أم كان في الوجود فالشرط أن يكون في حدود الجنس حتى ولو كان نوعاً مختلف أو ضرباً آخر من الضروب وعلى نفس الحيز المكاني . فمن الذي خلَفه (آدم) إلا أن يكون نوعاً من الأنواع في الجنس المشترك معه وهو (البشر) ، وأما عن حقيقة هذه الأنواع فهو المختلف فيه ومازال يجري التقصي نحوه . وثانياً ، أن حكم الملائكة بالإفساد في الأرض وسفك الدماء بطريقة السؤال المفيد للتعجب بتعقيب مباشر بعد تلاوة قرار الله تعالى عليهم بخلق الإنسان إنما يدل على أن حكم الملائكة هذا جاء كردة فعل مسبقة البرمجة أي دون تفكير تأملي وحساب وتحقيق منطقي بل من واقع خبرة عملية سابقة . كما أن قول الله تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون) على الأرجح يشير إلى حصول ثمة علم لدى الملائكة - وهو ظاهر فيما قالوه عن الخليفة - وعلم الله إنما أكبر وزيادة عليه . وآية تأكيد وجود الشاهد التاريخي في علم الملائكة بفعل من ينتمون للجنس البشري قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدو ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) – البقرة 21- فالخطاب للناس غير محدود بمرحلة بعينها مما أنه ممتد منذ (آدم) عليه السلام ، وكما أنه خطاب مباشر إذن (الذين من قبلكم) هم من كانوا بخلاف الإنسان وعلى نفس جنسه من أنواع البشر ما يعلمهم الله تعالى ، وأيضاً الخطاب المباشر (هو ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن وارسلنا السماء عليكم ددراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشئنا قوماً آخرين) الأنعام 6-  ، فالخطاب المباشر هو للناس كافة ، بينما الخطاب بضمير الغيب قد يمثل خطاباً لفئة معينة معلومة وثابتة تاريخياً ، والسياق النصي للآية يتحدث عن فئة ما بضمير الغيب (يروا) ثم يحول الحديث إلى التوجيه المباشر للفئة الحاضرة بقول (لكم) ، ولعل دلالة ذلك هي أن المشار إلهم بـ ( قرنٍ آخرين) هم بشر سابقين على نوع الإنسان منذ (آدم) المخاطبين – أي نوع الإنسان – بـ (لكم) ، ثم يدعم هذا عود الحديث مرة أخرى بضمير الغيب (فأهلكناهم بذنوبهم) حيث أن ذلك هو ما جرى لهؤلاء القرن الآخرين وهو ما يتفق وعلم الملائكة بفساد من كانوا قبل (آدم) عليه السلام . ومن جهة أخرى ، ورد هناك إثبات لاستمرارية خلق الأنواع بذات النهج واستخلافها بعد الإنسان في قوله تعالى (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) الأنعام 133 – والإشارة المفتاحية هنا إلى دلالة الكلمة (ما) وهي على غير الكلمة (من) المخصوصة بنوع الإنسان .
وأيضاً شاهدة آخرى من واقع النبوة في قول الله تعالى في خبر (مريم) (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا) مريم 17 -  ولم يقل (إنساناً سويا) مما قد يدل أن هذا الروح الآتي للسيدة (مريم) كان لابد له ليهب لها الغلام أن يتمثل بهيئة بشرية ولكنه يمتنع في ذات الوقت أن يكون إنساناً لأنه لو كان إنسان لكان حتما من نسل (آدم) مما يتعين معه ثبوت أب للمسيح (عيسى بن مريم) وهذا ممتنع بالقطع . ويكتمل الإثبات في الفصل الدلالي بين المفهومين (بشر) و(إنسان) بورود العلامتين في سياق آية واحدة في خبر (مريم) في قوله تعالى (فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم إنسيا) مريم 19 - بما يستحيل معه التكرار أو التوحيد الدلالي للعلامتين المختلفتين مرة في صدر الآية ومرة في عجزها . وهنا ينتج استدلال في اتجاه آخر ولكنه مكمل للفكرة الأساسية ، وهو أن خلق المسيح (عيسى) عليه السلام من أم وبلا أب ينفي تماماً القول بخلق الإنسان تطوراً ويثبت الخلق المباشر للإنسان بقدرة العلي القدير . فإذا كان التطوريون الدارونيين يقبلون منطقياً تصور خلق (آدم) تطوراً عن أصل سالف له بفعل الانتخاب الطبيعي ، فكيف لهم أن يقبلوا بتخليق إنسان بكافة مراحله التكوينية داخل رحم الأم دون مس من رجل بذات النوع الإنساني وبلا تهجين . وحتى إذا افترضنا جدلاً أن الخلق التطوري يصح في عموم الكائنات باستثناء الإنسان ، فإن الخلق المباشر للإنسان باليد الإلهية وبكلمة (كن فيكون) على خلاف باقي الكائنات لهو مدعاة أكبر لإثبات القدرة اللإلهية في الخلق ، وفي نفس الوقت كسر وإسقاط للتصور الأرسطي لدى من تبنوه من بعض أهل الكتاب وغيرهم  في القول بعدم التدخل المباشر لله تعالى في الكون المخلوق له بأمر مباشر .
وعلى ذات السياق الاستدلالي ، فإن التوجيه الإلهي لرد لرسول صل الله عليه وسلم (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا) الاسراء 93-  يحمل الإشارة إلى أن بعث الرسول كان للإنسان وللبشر كافة ، أي للجنس وللنوع ، حتى إذا ما كان هناك ما لم نعلمه من أنواع البشر بجانب الإنسان ، فإن الرسالة تشمله .
2- أن (الإنسان) بكونه نوعاً للجنس (بشر) قد خلق خلقاً خاصاً مباشراً من طين ومن حمأ مسنون على نفس وصفه في آي القرآن الكريم بكل تفاصيل وعلامات ومعاني ودلالات هذا الخلق على ظاهر النص دون حاجة لتأويل بعيد أو قريب . فإذا توافقت فرضية حذف الترادف بين علامة (إنسان) وعلامة (بشر) فتكون تبعية النوع (إنسان) للجنس (بشر) هي تبعية انتماء – كما سلفت الإشارة – ولكن بخلق مباشر مستقل وليس في الأصل بتبعية نسل الذي هو التوالد التلقائي أو التهجين القصدي ، فتبعية الانتماء من غير نسل تنفي عن الإنسان مصدرية النشوء والارتقاء له عن أصل أو نوع بشري آخر على شرط التطور والتحول الانتقائي الدارويني . وشواهد القرآن على ذلك بنحو قوله تعالى (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) السجدة 7 -  وقوله تعالى (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) – الأنعام 2 – فتلك الآيات على ظاهرها تفيد جلياً الحكم المباشر بمادة خلق الإنسان ، وأن الله تعالى بدأ خلق الإنسان بصنع مباشر من (طين) كما في قوله تعالى (قال يا ابليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) ص 75 -  وليس من (خلية) حيوانية ، فيكون الإنسان بذلك خلقاً مباشراً دون سلسلة تطورية دارونية وأن المقصود بالخلق من طين ليس هم عموم أنواع الجنس بل الإنسان وحده فقط الأمر الذي يجعل نسبته للجنس العام (بشر) هي محض تبعية تصنيفية (من تصنيف) وليس توليدية . وهذا لا يتعارض مع القول بأصل عام – تكويني وليس تطوري – للخلق الحي وهو (الماء) تبعاً لقول الله تعالى (... وجعلنا من الماء كل شيء حي) الانبياء 30 – فالماء هو عنصر تكويني للمادة الحيوية للخلق ولا ينافي هذا تعدد التفاعلات الكيفية المتميزة له – أي الماء – باختلاف الكائنات لدى كل كائن على حده سواء كان من طين أم كان من غير ذلك ، فالماء لا يحدد شخصية الكائنات ولا يفرض فيها عنصراً تطورياً بذاته بما يؤدي إلى انبثاق هذه الكائنات بعضها عن بعض . فإذا كان قول الله تعالى (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا) الفرقان 54-  تفيد دلالة الخلق العام للبشر كجنس من عنصر الماء فإن الطين كان هو مادة التمايز والفصل النوعي للإنسان الآدمي عن باقي الأنواع للبشر بما يمتنع معه أن يكون قد صدر عن نوع منها .         
3- لابد من التمييز الضروري بين (البشر) و(أشباه البشر) ، فأشباه البشر هم من تحدثت عنهم مراجع الأنثروبولوجيا الطبيعية ومن بينهم حاولت المراجع الدارونية تعيين الحلقة الوسطى – بحسب وجه نظرها - في الانتقال التطوري عن جذر يكون بمحل الأصل العام للإنسان وأبناء عمومته من الشمبانزي والقردة العليا ، وقد تعارفت تلك المراجع على تسمية أولئك الأشباه باسم (الأناسي) أو (الأوادم) وهذا بفعل الخلط في فهم تلك المفاهيم والتي أوضحها وميز بينها دلالياً القرآن الكريم ، فيقولون مثلاً (آدم/ إنسان نياندرتال) (آدم/ إنسان كرومانيون) (آدم/ إنسان جاوه) ومما يبرز هذا الخلط في المفاهيم لدى تلك المراجع في الأنثروبولوجيا الطبيعية أنها تفرق بين (آدم) المعروف حالياً و(أشِباه البشر) وذلك من خلال الوضع المنتصب القامة ، التمييز الوظيفي بين الأيدي والأرجل ، نمو فراغ الدماغ ونمو المخ ، الصفات النفسية . وهذا يدعم القول بأن أشباه البشر ليسوا بشراً ، ناهيك عن نسبتهم إلى الضرب النوعي داخل جنس البشر وهو (الإنسان) . بل الأكثر من ذلك أنه إذا كان الوصف العام لأشباه البشر هؤلاء أنهم على حالة بدائية أقرب للطبيعة الحيوانية الفطرية ، فإن ما ذكر بصدد أنواع البشر في آيات القرآن التي تم الاستشهاد بها يدل ربما على تفوقهم حتى على نوع الإنسان في ذكائهم وقدراتهم وبنحو أكثر تطوراً . وإذا نما تساؤل عما إذا كانت الحفريات الأثرية قد أثبتت شيئاً من أنواع البشر البائدة تلك وآثارهم فليس أمامنا إلا أن نستلف نفس التعبير الذي ساقه (داروين) في كتابه (أصل الأنواع) The origin of species  للإجابة عن ذات السؤال فيما يتعلق بآثار الضروب الانتقالية الوسطى التي تربط النوع بأصله في التحول التطوري ، حيث نص أننا (إذا تدبرنا أي نوع من الأنواع على اعتقاد أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة تطورات وقعت على صورة غير معروفة لدينا ، كان لا مندوحة لنا من التسليم بأن الأصل الأول الذي عنه نشأ النوع ، مصحوباً بالصور الوسطى التي اشتقت منه وكانت تربط الأصل بفرعه الأخير ، قد انقرض جماعها بتأثير سنة الانتخاب الطبيعية ذاتها ، تلك السنة التي تحدث بفضلها الصور وتبلغ درجة الكمال التكويني . تقضي هذه الحقيقة بأن صوراً انتقالية وسطى تربط بين كثير من العضويات التي نلحظها في الطبيعة لابد من أن تكون قد عمرت الأرض في خلال الأزمان الأولى . فإذا كان الانقراض قد مضى بتلك الصور ، فلم لا نجد هياكلها العديدة مطمورة في الطبقات التي تؤلف سطح الكرة الأرضية ؟ ... الاعتقاد بأن السجل الجيولوجي الذي يؤيد صحة مذهب النشوء على حال من الاضطراب والنقص قل أن تسبق إلى حدس الباحثين . فطبقات الأرض على أنها دار عاديات طبيعية  بعيد عن الوهم أن يصور فرط عظمها ، فإن الصور المحفوظة فيها ناقصة مشوهة ولم تطمر فيها إلا من خلال فترات متباعدة من الزمان) . فإذا كان هذا هو الحال في أساس نظرية النشوء وأن ليس باللازم لتأييدها إيجاد الحفريات الدالة على صورها الجذرية الوسطى والتي قد تكون اندثرت عبر ملايين السنين في طبقات الأرض المتحولة ، فلما لا يكون منطقياً الادعاء بأن أنواع جنس البشر قبل آدم عليه السلام قد فنيت وزال أثرها تماماً ، خاصة إذا كان هذا الفناء ليس بفعل انتخاب طبيعي كما ذهب (داروين) وإنما بفعلٍ عقابي أو انتقامي على ما سلكوه سلفاً ، فإن الله تعالى قال في خبر مباشر جلي (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) مريم 98 -  فكان تدميرهم ماحياً لكل أثر لهم ، وليس ثمة ما يدل عليهم سوى الخبر القرآني . ثم اضافة إلى هذا التأكيد تأكيد آخر في وصف الإنسان في القرآن بـ (الخليفة) بما يفيد زوال كل الأثر السابق وفناء كل أفراد النوع أو الأنواع البشرية التي استخلف بعدها (آدم) عليه السلام .
الخلاصة :
1-  أن الانطلاق من البحث اللغوي الدلالي للسياقات القرآنية الدالة على حذف الترادف بين المفاهيم بصدد إنشاء تصور علمي معين ، ليثبت أن النص القرآني هو الحكم على البحث العلمي في أي موضوع وليس العكس . وذلك على اعتبار اأن القرآن الكريم هو الدائرة الخبرية الكلية بالكون والشاهد على الوجود ، فيمثل بذلك الإطار المعرفي المحيط بالعلم Science وليس أن العلم هو المحتوي للقرآن .
2- لفت الانتباه إلى أن تحقق (التكامل السياقي) المجرد للسرد النصي في بناء اطروحة أو تصور معرفي – علمي كلي أو جزئي بما يعطي نظرية ما ، إنما يجب اعتباره أحد عوامل الإثبات العلمي للنظرية المعنية حتى دون غلبة الرجوع والإحالة إلى الإجراءات والفحوص التجريبية ، وبحيث لا تكون هذه الإجراءات والفحوص العامل الحاسم في الأحقية المعرفية النظرية دون التكامل السياقي السردي الخالي من التناقض .
3- التركيز على حذف الترادف في القرآن الكريم بين المفاهيم المتداولة فيه يظهر ثراء الكنز الدلالي في التراكيب والأغراض السياقية الوظيفية لآيات القرآن ، كما يبرز المقاصد الحاضرة والمتوقعة على نفس قدر إبرازه للشواهد التاريخية المندثرة والتي تفيد كشف مغاليق التفسير للأحوال الراهنة والمستقبلة . فهذا التركيز إذن على حذف الترادف يشير إلى معاملة كل علامة Sign على قدر قيمتها الدلالية في السياقاتى القرآنية المتعددة . وأيضاً يعطي هذا اختباراً تدريبياً على ضبط لغة العلم وتحقيق قدرتها الوصفية بنحو أكبر . 
مراجع الدراسة : 
1- عبد الرحمن بن ناصر السعدي – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان – دار ابن حزم ، 2003 . 
2- تشارلز داروين - أصل الأنواع - ترجمة/ اسماعيل مظهر ، مكتبة النهضة ، بيروت ، 1973 .
3- فاروق عبد الجواد شويقة - الأنثروبولوجيا الطبيعية والسلالات البشرية – البيطاش سنتر للنشر والتوزيع ، 2009 .
4- محمد إقبال – تجديد التفكير الديني في الإسلام – ترجمة / عباس محمود ، مراجعة / عبد العزيز المراغي (بك) ، مهدي علام ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة .
5- وائل أحمد خليل - قاعدة خرق الأنساق ، رؤية فلسفيه منطقيه في استنباط الفرض العلمي في القرآن الكريم - (مجلة تفكر – جامعة الجزيرة – السودان) ، 2005 .

6- وائل أحمد خليل - ضوابط وقواعد التأصيل الإسلامي للمعرفة في صياغة المناهج والبحوث تكاملا مع ضوابط الإعجاز العلمي في مصادر الوحي - (مؤتمر قسم الدراسات الإسلامية – جامعة الخرطوم – السودان) ، 2012 .

7- وائل أحمد خليل - منطق المشكلات الزائفة ، دراسة في المسالة  المنهجية العلمية للتفسير والتأويل - (إصدارة مركز التنوير المعرفي – السودان) ، 2007 .


8- Ludwig Wittgenstein- Philosophical Investigations- Translated by:  G. E. M. Anscombe , Basil Black Well, Oxford,1953 .

9- N. R. Hanson - Patterns of Discovery – Cambridge University press , 1955 .


اخلاق الازمة .. الانسان كما ينبعي ان يكون

اخلاق الأزمة، الإنسان كما ينبغي أن يكون ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
الكلمة الاولى هي كلمة (محمد إقبال) أن قال (وليس غاية مطلب الذات التحرر من الحدود الفردية بل هي على العكس من هذا وتحديدها تحديداً ادق وأوفى ، والعمل الأخير ليس عملاً عقلياً ، وإنما هو عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله ويشحذ إرادتها بتأكيد مبدع بأن العالم لبس شيئاً لمجرد الرؤية أو أنه شيء يعرف بالتصور ، وإنما هو شيء يبدأ ويعاد بالعمل المستمر . واللحظة التي تعرف فيها الذات ذلك هي اللحظة التي تستشعر فيها السعادة العظمى وتجتاز فيها أكبر امتحان لها) ..
ولقد اعتاد الناس أن الأزمات تتطلب المقاومة المضادة على السياق والاتجاه الخطي المعاكس لنوع الأزمة، وكان هذا يتطلب جهدا بالغاً وقوة ضاربة وعزم كبير .. ولكن، ماذا لو خارت قوى الشعب وتفرق الناس عن بعضهم .. افلا يمكن حينها مقاومة الازمة بتحويل السياق في التصدي لها بعدم السماح للذات بالانحطاط أمامها، فتظهر برغم الأزمة شيئاً من القدرات المعنوية المكنونة فيها لتتكيف مع نفس الاتجاه الخطي لنوع هذه الأزمة .. فإذا كانت المشكلة مشكلة عيش من غذاء وكساء ووقود جاءت مقاومتها على نفس سياقها بمزيد من التقشف الطوعي والتنازل عن حظ النفس في متاع الحياة والانسحاب من ضجيج التقنيات والآلات وثرثرة الحياة اليومية ثم الالتجاء إلى الحياة مع الطبيعة الحرة بقدر الحاجة والمستطاع وبقدر ما يجعل الانسان اكثر الشيء منتجاً وليس اكثره مستهلكاً .. أن يعلوا الإنسان ويسموا فوق رغباته المشدودة به إلى الأرض هو نوع من التكيف لا يحسنه ويقدر عليه سوى الإنسان حيث تنهزم فيه أنواع الكائنات الأخرى ألتي ما اعتادت أن تصبر على نقص الغذاء .. ولكن حتى من بني آدم من لا يقدر عليه الا بإرادة اخلاقية دافعة ومسنودة بالتعاليم الإلهية في مكارم الأخلاق .. فهناك عندما يجف الحلق عطشاً في الصحراء ينبت اليأس في القلوب ويقول الانسان حينها نفسي نفسي .. ولكن بأي منطق والحال هكذا أن يؤثر من هو من بني جلدتنا الذي يخلو جرابه من أي درهم أو دينار على نفسه وآل بيته كل سائل وطالب حاجة فيرى فيه دائماً حال أدنى من حاله ..
لقد شهد التاريخ لأمثال هؤلاء مرات قلائل في تاريخ الإنسانية .. ففي الوقت الذي فر فيه رجال عن بلادهم البوار هربا بجلودهم بعدما ادركتها الفاقة وشح الموارد، كانت هناك نساء المانيا عقب خراب دور الأمة الألمانية ومحالها بعد الحرب يحملون على ظهورهم قصعات الاسمنت وكتل الحجارة ليديروا هن تروس المصانع بعد أن اخذت الحرب خيرة رجالهم وشبابهم، ولم يهجروا أرضهم ويرتحلوا شرقاً أو غرباً كما فعل بنو اسرائيل في سالف الزمان، حتى كان ما كان من امتهم الألمانية اليوم .. والان ايضا يشهد التاريخ مرة أخرى لأهل السودان في أيامنا وقد بلغت بهم الأزمة حد الإفلاس الكامل والتجميد الكلي للموارد وانعدام مصارف الطاقة لأغراض الحياة وصارت ودائع البنوك على عروشها خواء حتى بحقوق ورواتب ابناء البلد الكادحين، وظن كل مراقب لهذا أنه لا مفر للناس بعد أن يدب فيهم اليأس أمام قسوة الظروف من بيع انفسهم واعراضهم وبيع حتى غبار الدور وبيوت العنكبوت  مدمرين كل قيمة وفضيلة وخلق كانوا يتباهون به حين الرخاء وان يفعلوا كما فعل اصحاب الثورة الفرنسية قبل قيامها من أكل الجار لحم جاره بعدما يخرج من بيته ميتاً من شدة الجوع لكيهما .. ولكن كان المدهش العجيب أن أظهرت المعاناة اخلاقاً للأزمة لدى كثير من السودانيين ما هو خلافاً لذلك، فلم يستأثروا لأنفسهم بما يقع تحت أيديهم بحق أو بغير حق وفق منطق انتهاز الفرص الذي يجد تعليلا كافياً له في أوقات الانحطاط والأزمات الكبرى .. وإنما على العكس تماماً رأيناهم فوق كل توقع يجودون لبعضهم بفضل الظهر وشربة اللبن وسقيا الماء ويتحدون فراغ مراكز الطب والدواء من اسباب العلاج بعطايا من خاصة ما في بيوتهم من أدوية رغم عدم نفاذ حاجتهم إليها .. وهكذا تعلن (أخلاق الأزمة) حقيقة وأصالة أي ادعاء بوازع أخلاقي في نفس الإنسان حيث أنها لا تكون إلا وقت أن ينهار من حوله كل جدار وينكشف حاله للعراء، حينها (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) ..
ولعل أعظم شهادة للتاريخ في الإيثار ودرس متعلم ومثل مضروب هو إيثار صحابة رسول الله المسخنين بجراح الحرب بشربة الماء الواحدة كل لأخيه حتى إذا ما دارت الكأس كان قد مات أولهم وماتوا جميعاً وظلت شربة الماء باقية في كأسها ..
لقد كان حتماً علينا الكفاح ضد كل أزمة تلمس معايش جمهور الناس ومناهضة خالقيها بثورة الإصلاح والتصحيح أو بقولة العدل في دواوينهم ومناط عِقالهم .. فإن فاق الطغيان حد الاحتمال وصارت الفتنة في الأزمة أشد من القتل ولم يقدر على حسمها جندي ولا حكيم، فلا مفر آنذاك من العض على شجرة الأخلاق وإعلاء النفس تحت قصف الرعود وعصف الرياح إلى أن يجعل الله للناس مخرجاً بتقواهم، فذلك هو وعد الحق ..
إن أخلاق الأزمة هي الصخرة التي يتحطم عليها وجدان الإنسان الهش ضعيف النفس ولا تحمل فضائله بين الناس جذوراً بعيدة تحت الارض فتذهب كل القيم لديه جفاءً حين البأس وشدة الحال .. هناك يظهر كل دعي أفاق متظاهر .. وهناك يُعلم في الحزن من بكى حقاً ممن تباكى  .. وكلمات (إقبال) الاخيرة تقرع الناقوس :
اشدد عقدة ذاتك
واستمسك بكيانك الصغير
ما أجمل أن يصقل الإنسان ذاته
وان يختبر رونقها في سطوع الشمس
فاستأنف تهذيب إطارك القديم
وأقم كياناً جديداً
مثل هذا الكيان هو الكيان الحق
وإلا فذاتك لا تزيد عن أن تكون حلقة من دخان

المقعد والمكفوف

المُقعد والمكفوف ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
ربما اكثرنا قد بلغته تلك الاحجية القديمة ، أن مقعداً ومكفوفاً ارادا الذهاب الى مكان لوليمة .. فلا المكفوف يرى الطريق ليذهب ولا المقعد الذي يرى الطريق بذي سيقان يسعى عليهما ليقوم ويمشي .. ولم يكن ثمة حل سوى أن يكّمل الواحد منهم الاخر، فيركب المقعد على كتف المكفوف ويرشده ليسعى بساقه نحو مقصدهما المشترك .. ولعل الصورة هنا تبدو ذات مغذىً عظيم وقيمة انسانية عالية أن التكامل بين الضعفاء قوة والتعاون بين ذوي الحاجة الخاصة رحمة .. ولكن ما ذاك الا لأن المصاب بكف البصر أو القعود يمكن أن يتولد من وراء مصابه عزم حقيقي كبير .. ولكن نفس تلك الصورة تأتي مقلوبة رأساً على عقب عندما يصير المعاق هو المجتمع بسبب من فيه من اصحاء العين والقدم .. عندما نرى في كل مفرق به من يتبادلون أثواب بعضهم البعض لا من اجل محبة بينهم ووئام واحترام ولكن من اجل تلميع الذات وابراز الأنا والعرض امام الناس كي يشار اليهم بنظرات الاعجاب أنهم هم النجباء المتحابون بخير، ولكن الحقيقة في كواليس ذلك العرض تكشف عن ثياب بالية وخرق ثملة في غلاف قشيب براق، ولكنه محض غلاف .. لقد استشرى مرض (النفاق الاجتماعي) كالطاعون في جسد الامة ومفاصلها .. فصار الجاهل يمجد من لا علم له وصار الوضيع بخلقه يطري من لا اخلاق له .. حتى بات النفاق هو الوسم المرسوم في اغلب اوجه المعاملات والمصالح إن كان في حيز الحي الصغير بالقرية أو بداخل قصور الحكم في الدولة بين الساسة والامراء بل وحتى في اروقة الجامعات منارات المعارف .. وتورى عفواً اصحاب العزائم واشداء الزند دون دعوة أو رجاء، فلم يسائلوا عن الخطر في ذلك وقالوا دعوا المنتفقين عاشقي الظهور وتمجيد الذات يموج بعضهم في بعض ويخوضون ويلعبون فلن يضروا المجتمع شيئاً بنفاقهم وإن كان نفاقهم بينهم شديد فسيظل بينهم ولن تزول منه الفضيلة والقيم، وكان هذا ظن المتفائلين .. حتى صحونا بيوم اعلن فيه بتوسيد الامور لغير اهلها، وجال في الطرقات كل (رويبضة) تافه ولي على الناس  وتكلم في شؤونهم العامة بغير علم ولا دين ولا سياسة ولا اخلاق ويفصل الامر في ما يجب وما لا يكون، ثم سعى في الارض ليفسد فيها ويهدر دماء الخلص الصادقين العهد من الرجال والنساء، وإن سرق وزنى لم يكن عليه ثمة آخذ على يد أو ضارب على عنق .. ولم نرى انفسنا والحال هكذا الا وقد بتنا نشتكي لأنفسنا شدة الظلم وقهر الرجال وضيق الحياة بما رحبت .. إن المقعد في زماننا لم يعد هو معاق الساق من المشي ولم يعد المكفوف هو فاقد العينين، بل إن المقعد هو فاقد العلم والمكفوف من يرى بعينيه وانما هو اعمى البصيرة والقلب فلا يبلغون مبلغ الحكماء قط .. ونرى المنافقين في كل محفل يطرون بعضهم بعضاً ليس وداً ولكن المصلحة قضت منهم ذلك فلم يعد سبيل لإشفاء محبة التظاهر في انفسهم وليحمدوا لدى الناس بما لم يفعلوا وما ليس لهم بحق إلا بإطراء الواحد منهم اخيه بنفاق ورياء حتى وإن كان حين ينصرف عنه في وقت لا بشر فيه يراه عض عليه الانامل من الغيظ سراً .. وليركب مُقعد العلم على كتف مكفوف البصيرة والاخلاق من اجل ان يسحروا أعين الناس بفقاعات هوائية تبدو كالكواكب في بهائها وهي من وراء ظاهرها خاوية تذروها الرياح، فيصير مثلهم كمثل ذاك المنشد الفنان بالغناء مشهوراً بين الشبان والشياب في بلاد بات شاغلها الطرب واكبر هما تمايل الابدان في كل مضرب لصورة وصوت، فيكون بينهم هو سلطان الغرام والحب السامي والعاطفة الدافقة الدافئة يلهب القلوب في المحافل والساحات وتعلق دعايات حفلاته الطاغية حتى على جدران دور العبادة لله دون حياء ولا ماء وجوه ويظل يعلم السمار بأغانيه معاني العشق الفريد .. ولكنه إن دخل الخباء بعيدا عن اعين السمار انقلب على اهله وحشاً كاسراً ميت القلب يضرم نار حقده كل عشية في اجساد زوجه وبنيه وأمه وأبيه ولا يبالي .. هكذا ظلت مجتمعاتنا تئن السنوات الطوال ممن تولى على كل باب بنفاق وزلفى للحكام كاسب المجد الزائف لنفسه وهو عند الخطوب ومحكات الرجال كمن نشّئ في الحلية وبات في الخصام لا يقوى على رفع قلم أو اتخاذ قرار .. فطوبى لمن قعد معاقاً بقدمية وطوبى لكل مكفوف فقد حبيبتيه إذ هم في نعمة من الله تعالى يحبرون بأن برأت نفوسهم من قعود النفاق وكف العقول والاخلاق .. ولا نجد لنا فيما فعل الادعياء بمجتمعاتنا امام الله وبين ضمائرنا عذرا أن نعيب زماننا بظلم والعيب فينا، أو أن نظل في انتظار ان يأتي الغيب بقويٍ امين ليكنس عن وسادتنا كل منافق فاسد ودعي صخاب في النداء لذاته دون ان نحرك منا ساكنا وقد علمنا من قبل ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..  (فالمرائي ، ولو ظل ساجدا في صحن داره ليله ونهاره ، قارعاً صدره كالعجائز أُلوفاً ، معلقاً في عنقه سبحته الطويلة ، لابد من أن تُعرف طواياه ، وتظهر اعماله سجاياه لأن ثوب الرياء شفاف لا يخفي ما يستره .) .. هكذا المرائي وصفه (مارون عبود) ، وهكذا صدق فيما وصف ..

آفاق زرقاء اليمامة

آفاق زرقاء اليمامة ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كانت تنظر إلى ذاك القادم البعيد .. مسرى أيام وليالي .. والحال في البلدة لا ينبئ عن وافد جديد ناهيك عن أن ينبئ عن خطب جلل .. قالت لهم أن القوم البغاة قادمون مسرى ليال ثلاث، فدعوا ضيق الافق واللامبالاة وحسن الظن بعفو النوائب والمصائب، فإن سقطت عليكم اسنة رماحهم في جوف الليل فلن تجدوا مرقداً ولن تجدوا عزماً في قلوب الرجال .. وهكذا فإن كان البغاة داخلون اروقة المدائن فلن تعود بعد فسادهم فيها الا ذكرى تحملها الرياح أن كان كانت هنا بالأمس مدينة تنام على الأمان وتحلم بمستقبل زاهر لصبيتها الصغار .. والامر نفسه ليس ببعيد عنا، فلدى كل عصر زرقاء يمامته تبصر مسرى ليالٍ قادمات إما بخطب حالك مهلك وإما بخير عميم ورغد كريم .. وليس في كل مرة يكون الوافد هو عدو ذو رماح ودروع، بل كثيراً ما يكون في هيئة نظم وقيم وثقافات وعمران جديد لم يألفه أهل القرى والمدائن .. حتى إذا بلغ العدو مرماه منهم لم يعد الأمس فيهم كما اليوم ولا اليوم كما الغد ويصير كل أمر اصيل إلى ماضٍ تليد .. والوصف الكافي لذلك ما بينه عالم الاجتماع الفرنسي (إميل دركهايم) E. Durkheim بأن هزال القواعد التي يفرضها المجتمع على الأفراد يزيد من حالات التضعضع وعدم الرضا والشعور بالفراغ عند هؤلاء مما يؤدي إلى تجريدهم من اخلاقيتهم .. وعلى هذا القول فإن أي تحول للمجتمع لا يسير به في خط رأسي على نفس منظومة قيمه واخلاقياته السليمة وينكسر بالمجتمع إلى السير في خط أفقي جديد ومختلف تماماً في منظومة قيمه واخلاقياته فإن هذا من دواعي تضييع هوية ذلك المجتمع حيث لا يكون تطور المجتمعات الا في خطها الرأسي بينما يعد تحولها إلى خط افقي تغييراً وتبديلاً    ..والشاهد على ذلك هو أن تضيق ببلاد اسباب العيش فيها وكسب الرزق الحلال ويتحول فيها كل يسير إلى عسير بالغ العسر، ويعم الفقر والعوز على كافة أهلها إلا قليل منهم كانوا هم الذين كلما صعد نجم الثراء فيهم فجأة إلى أعلى كلما هوت معه صخرة الفقر في سائر بيوت الشعب إلى سفح مظلم أو هكذا تصير المعادلة تناسباً عكسياً .. فأولئك  القليل من الناس الذين ظهروا كأصحاب ثراء طفيلي فاسد في لمحة من الزمان ما كان ثراؤهم إلا بفقر حاشية الشعب وعمومهم وتعطيل الموارد الأولية للبلاد وسيادة لغة السوق كلغة وحيدة، فلا عجب أن يتحول كل المجتمع عندئذ إلى خط افقي جديد نحو قيم الدناءة والرزيلة والفجور وتشتعل الأنفس البراء احقاداً سوداء ويأكل الضعفاء بعضهم لأجل البقاء، وتئد الأم ابنائها في حال انصرم اللبن عن ضرعها وحيث لم يعد بالبيوت قدور توقد من تحتها نار بعشاء الصغار .. ليس الفقر بذاته هو ما يقتل الناس احياء في مجتمعاتهم ويجردهم عن ثياب العفة والطهر والفطرة السليمة والخلق القويم، وانما يحدث ذاك عندما يضام الكرام بأسباب الغنى الفاحش لذوي طبقة من الاثرياء وما كان ثراؤهم إلا بفقر الشعوب .. فعندما تلف العتمة الحالكة كل البيوت يكون الوحيد الذي عنده كهرباء ومصابيح منزله كلها تضاء هو ذلك صاحب الثراء بالمال الحرام يشربه من دم الرعية .. والوحيد الذي يقاد في بيته كل يوم حفل بهيج وغناء وهناك في كل بيت من بيوت البسطاء مآتم وبكاء هو ذاك صاحب الثراء بالمال الحرام .. والوحيد الذي يضج إيوانه بالطناجر المكتظة باللحوم وتئن اوانيه من ثقل الثريد وفي الخارج كل البيوت عورة وتخلو على عروشها من كل شيء إلا من اسباب الجوع والمرض الشديد هو ذاك الأثيم صاحب الثراء بالمال الحرام .. فأنى لمن يرى الحال هكذا وهو عنه ساكت أن يظل قابضاً على جمر الفضيلة عاضاً على شجرة الأخلاق من غير أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر .. افلا ينطق قول الله فينا (كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم) فلعله إن صار دولة بين الاغنياء حق بذلك علينا نص الكتاب (وإذا اردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) .. فمن اين يأتي اذن هذا الثراء الطفيلي .. تشير نظريات اقتصادية الى أن التطور الاقتصادي يتميز بانتقال الفئة العاملة تدريجيا من القطاع الزراعي والقطاع التجاري إلى القطاع الصناعي حيث أن سبب تقدم البلدان المتطورة يرجع إلى وفرة المواد الأولية التي تكون قد باعتها دولة إلى الدول المصنعة ثم شرائها بعد تحويلها إلى بضائع استهلاكية، فإن لم يحدث نمواً صناعياً فذلك يعني أن السيادة في الاقتصاد آلت إلى القطاع التجاري مما أدي إلى بيع اصول الموارد بالبلاد والحد من امكانية تشغيل المشاريع الانتاجية الصناعية ومن ثم يحدث الاحتكار التجاري وظهور طبقة الاثرياء الطفيليين تأكل كل الخيرات وتذر الشعوب من بعد في الفقر جثيا .. ولن يصير المجتمع صناعياً منتجا بحق إلا بعدما يمنح العاملين في المصانع عائد مجهودهم بعدل وإنصاف فليس دائماً يحدث ما تفائل به (كارل ماركس) عندما تبلغ مشكلة (فائض القيمة) إلى أعلى درجة لها في توسيع الهوة بين فقر عموم الشعب من عمال المصانع الذين لا يملكون مجهودهم وتزايد ثراء القلة من اصحاب رؤوس الأموال أنه حينها سوف تقوم ثورة العمال حتما بالتحول التاريخي نحو عهد اشتراكي منصف في توزيع ثروات البلاد .. ربما ما سيحدث ليس ذاك وإنما تدمير وانهيار كامل وفشل وذهاب ريح لكل ما هنالك من ثروة وشعب على السواء، ثم لا تعود دولة المظالم هذه إلا أثراً بعد عين .. اذن ليس الفقر هو العيب بل العيب هو الثراء الفاسد .. لم تعد زرقاء اليمامة في دنيانا الراهنة عينا بوجه بل صارت مرصداً للاستشعار عن بعد ومحللون سياسيون واقتصاديون واجتماعيون واستراتيجيون وتربويون وفلاسفة اخلاق، ولم تعد الحياة بعدهم كما كانت .. ولكن برغم كل ذلك، لم يصدق القوم زرقاء اليمامة حين ابصرت في الأفق ملأ كثيرون وحين ابصروا هم فإذا الأفق خواء ..

أحمد الكردي .. عندما يكون الانسان مدرسة

أحمد الكردي .. عندما يكون الانسان مدرسة

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد كان ضرورياً لعلماء النفس والاجتماع وفلاسفة العلم أن يرسموا في مؤلفاتهم قاسماً مشتركاً اكبراً لعوامل التآزر والتغاير في مجموعة الوظائف الحيوية البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية من أجل الإبقاء على وحدة الكل ومن أجل أن يكون لدينا في النهاية كائن حي أو شخصية أو مجتمع .. وأياً كان الأمر فقد اقتضت كل جهود من ينادون بتصورات الهوية المستقلة لأي شعب وترتيب حقوق المواطنة على كل داخل تحت هذه الهوية أن يرسوا في البدء أساس التكامل الاجتماعي للوحدات البشرية لهذا الشعب أو ذاك ، وليخرج في الأخير ذلك القاسم المشترك الأكبر لهوية الشعب يحمل سمات الشخصية العامة له مزاجاً وانفعالاً واخلاقاً تلقائية ونزوعٍ فطريٍ وتقارب وجداني مع باقي شركاء تلك الهوية .. ومن هنا ننطلق .. فمن حيث أن اهلنا في بلاد النوبة يتشددون كثيراً في أن يحمل المنتمي إليهم سمات تلك الهوية النوبية التي بها يتكاملون اجتماعياً مع بعضهم البعض بعوامل التآزر والتآلف ، ويتكاملون بها مع غيرهم من الشعوب بعوامل التغاير والتمايز والاختلاف وما في هذا من تحقيق للتكامل الاجتماعي الشامل لبني آدم في كافة مطارح الأرض شرقاً وغرباً .. ثم حيث أنه ايضاً كان اغالب سكان الخرطوم الوسط في أيام منتصف القرن العشرين وحتى بدايات اواخره هم يحملون سمتاً مشتركاً بينهم في طريقة الحياة والذوق العام والتربية والثقافة حتى اسماهم بعض الوصافين بتيار مدرسة الخرطوم ، فكانوا هم آنذاك الذين أسسوا بيوتات الخرطوم العريقة سواء كانوا من أصحاب الميري الحكومي أو من الرأسماليين الوطنيين وموظفيهم أو كانوا تجاراً ، وجميعهم كانوا هم كادر الاستنارة والثقافة في مجتمع الخرطوم .. فكيف بالله جمع ذلك الرجل أطراف الخير من قلب وادي حلفا ومن قلب الخرطوم بل ومن قلب بلدة (حلوان) العامرة في بلاد شمال الوادي .. فإن كان قياسنا له على هوية وادي حلفا وبلدة (عبري) كان هو النوبي الصميم في تكوينه وعقله وخلقه وضميره الحي .. وإن كان قياسنا له على هوية بيوتات مجتمع الخرطوم الوسط الأصيلة كان هو ممثلاً اعظماً لآباء أُسر الخرطوم المحافظين ووجهاً نضراً من وجهائها .. وإن كان قياسنا له على هوية من نشّئوا في بلدة (حلوان) كان هو الأشد قرباً من نسيج أبناء السودان ومصر فيها .. هو الرجل الذي اجمع عليه كل من ادرك منه طرفا حباً واحتراماً وتقديراً عالياً .. رجل لم يكن ينطق بكلام كثير ، ولكنه إن تكلم كان نطقه قسطاساً وميزان وكانت كلمته حكمة وعدلاً .. وهو من تعلمنا منه في الحياة كيف أن القيم العليا والمثُل الرفيعة والعزائم الكبرى يمكن أن تُضرب لها الأمثال بشواهد صغيرة بسيطة فترسخ في الأذهان ولا تبارح .. فلا أنسى وقت ان كنت صغيراً في صفي الرابع الابتدائي وكان هو يقف ذات ليلة شاتية في آخر الصف الطويل عند المخبز وكان يقف زميل لي بالمدرسة في أول الصف عند الشباك ، فقال لي زميلي سراً وهو مملوء بالنية الحسنة لفعل الخير (احضر لي المال من والدك لأشتري له معي فيعفي نفسه من وقفة الصف الطويل) فعدت لوالدي بخبر زميلي فقال لي (من هم امامنا بالصف احق منا .. فتعلم أن لا تأخذ حق غيرك ولو سراً) ومن يومها لم أقدر أن اصطنع حيلة قط لأنال حظوة أمام الصفوف وأنا في آخرها .. ولا أنسى يوم أن نزل عن السيارة ليسأل عن أمر ما وظللت أنا الصغير أرقبه من داخلها ، فأراه يتواصل مع رجل بالمكان كمن كان له ولي حميم ، فعلقت له عندما قضى وعاد (واضح تماماً انه صديقك) قال (لا .. ولكن بادر الناس بمعاملة حسنة لن يملكوا إلا ان يعاملوك بالحسنى وإن لم يعرفوك) .. لا أحصي كم هي عدد تلك الامثال الكبيرة ألتي ضربت بشواهد صغيرة عابرة منه ولكنها كلها بقي أثرها معنا حتى اسرفنا في العمر بعدها سنين عددا .. وإنني جازم ، أنه حينما كان بطلاً للسودان في رياضة (الإسكواش) العنيفة كان مع كل طرقة من مضربه يلطم بها الكرة المطاطية الصغيرة على الجدار تحمل في غدوها قيمة وعبرة ثم عندما ترتد عن الجدار ترجع بحكمة منه وأثر بليغ ينطبع في نفوسنا ونفوس كل من حولنا .. وحتى في اعظم أحزانه وآلامه يظل مهيباً لا يئن أمام المشفقين عليه من وطأة الألم .. فعندما كفّن الموت والدتي ورحلت ، طعن الأوراق بقلمه فكتب عنها ما لم يكتبه باكٍ على مفقود له من قبل .. كتب عن رفيقة حياته بظنه أن كل النساء جمعن فيها ، فرأيناها بكلماته كما لم نعرفها يوماً في حياتها بيننا قط ، ويا ليتنا عرفناها هكذا قبل الرحيل .. واستمر يكتب عنها ولم يتوقف ولم يجف حبره يوماً أو ينكسر القلم .. والآن ، وهو يعيش ما بعد منتصف الثمانين من عمره مازال هو المعلم بضرب الامثال العليا في كل فضيلة وإيثار وخلق كريم .. ومازلنا نحن طلاباً في مدرسته نجلس في حضرته متأدبين على مقاعد الدرس ونستمع منه وهو ينطق فعلاً وليس قولاً فنتعلم ما لم نتعلم من غيره ..
هكذا يتوجب علينا إن اردنا بيان هويتنا وحقيقة وجودنا وانتمائنا ثم تكاملنا الاجتماعي أن تكون ضربة البداية هي (بورتريه) نرسمه لخاصة كل عظماء شعوبنا لا سيما من يقبعون في عقر ديارنا طول دهرٍ ولم يكتب عنهم أحد ..
عندما نعى (السادات) في أول بيان له وفاة الزعيم (جمال عبد الناصر) قال (فقدت الإنسانية كلها رجلاً من أغلى الرجال واشجع الرجال واخلص الرجال ..) ولكننا على ذات المنوال نعلن (أنه الآن يحيا بيننا رجل لا ككل الرجال .. رجل هو كل الرجال) ..  إن كلماتي تدين له كما تدين له قدماي التي اسعى فوقها بإذن ربي .. عجز اللسان والبنان عن وصفه ، كما عجز الشاعر عند من يحب أن يحدق بوجهٍ وأن يرقص بساق ..  وإنما كان من نعمة ربي أن كان هو والدي وليس سواه (أحمد الكردي) وكفى ..

عندما يكون البشر هم النفايات

عندما يكون البشر هم النفايات ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
«هناك حقائق تطوف الاسواق ليل نهار ، ولأنها تطوف الاسواق تمر بها عامة الناس دون أن تبصرها ، أو هي تبصرها ولا تعرفها . وعامة الناس تتعامى في الغالب عن رؤية الحقائق الصارخة ويتملكها العجب إذا اكتشف أحد الناس ما يفترض في الجميع معرفته ، إن الآف المسائل القائمة حولنا معظمها بسيط ميسور الحل كبيضة كولومبوس ، ولكن قلائل جداً هم الرجال الذين نجدهم حولنا من طراز كولومبوس» ..
ليس هذا القول لأحد الحكماء الاخلاقيين العظام ، وانما هي كلمة حق جاد بها (ادولف هتلرHitler (  في كتابه (كفاحي) Mein Kampf..
في كل بلاد العالم ، نرى في الحاويات من حولنا بها الكثير جداً من النفايات التي انفقها بني آدم ، ولكننا بعد لحظات نجد أن هذه النفايات قد زالت من الحاويات ولم يعد لها مستقر أوأثر كأنما قد تبخرت كما الماء في الهواء أو ذابت كالملح في قاع الفنجان .. والحق انه يتم دوماً إعادة تدويرها لكي تكون صالحة للاستعمال الآدمي مرة اخرى ، فيستعملونها .. ثم لتعود نفايات مرة اخرى .. ثم ليعاد تدويرها وانتاجها من جديد .. وهكذا بلا يأس أو فقدان أمل ، فكل ما خلق الله في الوجود نافع ، ناهيك عن الانسان نفسه  ..
في كثير من بلاد العالم لم يعد هناك نفايات من جمادات و آنية .. ولكن صار البشر هم النفايات ، كم هائل من القوى الخلاقة المهدرة مشردين ولقطاء ومجهولي الابوين ولاجئين ممن تقدر اعدادهم بعشرات الألوف في المجتمع الواحد .. بشر يجوبون الشوارع ليلا كخفافيش الظلام ، لا أمل لهم في الأفق ولا هدف ، ولا قيمة للحياة فيهم ولا عقل ولا بدن .. كتل بشرية هرمت في ايام الطفولة والصبا .. عليهم ثياب قد تقذرت وتقطعت خيطانها ولم تعد تستر عورة ولا تقي من لسعة برد .. كل ما يفعلونه هو البحث عن مخدر يدمرون به خلايا أدمغتهم ويستعجلون به الموت الزؤام ، فكل احلامهم تأجلت لما بعد الموت .. وهم يبحثون عن بقايا طعام من شبعت بطونهم فناموا ملئ جفونهم حتى اسنت الدماء في عروقهم دون ان يشعروا بأولئك الباحثون عن النتف العالقة بعظام الدجاج في حاويات النفايات قبل حملها للتدوير لسد صرخة الجوع في اعماقهم فتشعرهم غصباً بأنهم أحياء ينبضون في عالم لم يرحمهم يوماً بجرم من انجبوهم .. انها حقاً لمأساة ، فإن كان بني آدم قد افلحوا في إحياء الأمل في مخلفاتهم من معادن واوراق ، أوليسوا قادرين على إحياء الأمل في البشر .. بلى ، وإنها لرسالة إلى وزارة الرعاية الاجتماعية وتوابعها أن لو رصدت ربع ميزانيتها لإعادة تدوير البشر المشردين كالنفايات ليعودوا اناساً اسوياء من جديد وذوي قيمة ونفع ، لكفى .. فأولاً ، بناء مجمعات سكن وورش على أرض خلاء من حديد هش ولبنٍ رخيص ، وميدان رياضة من الرمال ومسجد وحفنة اشجار .. ثم ثانياً ، جمع كل البشر النفايات المشردين من ثنايا الزقائق والطرقات في تلك المجمعات وإلباسهم ثياب (طلبة) من (دمورية) بيضاء كملبس طلاب التدريب العسكري في مرحلة اعادة الصياغة ، وليبدأ المشروع في كل يوم .. في الفجر الباكر ، صلاة ونظافة شخصية وتربية بدنية ثم إفطار ، يليه درس في الدين واللغة العربية والحساب البسيط ، ثم حصة للحرف الفنية والمهن داخل الورش حتى الظهيرة ، ثم الغداء وبعقبه راحة المساء .. وبعد العصر يشربون العصير المحلى فينطلقون تحت الاشراف إلى برنامج (الخدمة العامة)  فإما نظافة طرق أو اصحاح بيئة أو صيانة مرافق أو اعمال سلامة مجتمعية أو تصنيع يدوي أو فلاحة وانتاج زراعي .. وبعد العشاء ، سمر ولهو وترفيه .. وعند العاشرة ليلاً تطفأ القناديل ويحين موعد الأحلام .. كل هذا فقط بتكلفة نومهم وأكلهم وكسائهم .. وفي ايام معلومات من كل اسبوع تحضر المنظمات الطوعية بأدوارها ، وكفيل عنها كلها (جمعية الكشافة) بشعارها النبيل (من أجل حياة افضل) ، فتصنف هؤلاء الاطفال والفتية في هيئة فرق وطلائع ، ثم تعمل على منحهم جرعات ثرة من التدريب المنتظم في القدرة على التصرف حال الطوارئ أو غيرها والاعتماد على الذات وتنمية المهارات وممارسة الهوايات وطرق حل المشكلات وازالة العوائق ، ويتعلمون رسم المستقبل السليم واغاثة الملهوف واسعاف المنكوب ، ويكون لهم في حياة الاخلاء والتعايش مع الطبيعة تربية للنفس وصقل للجوارح وتقوية للعزم وتعزيز للثقة بالنفس ، وتلك هي أهم منجزات الكشافة .. كما لا ننسى بحث ذلك العقل الذكي لديهم الذي انتج بينهم لغة مبدعة يتداولونها ويعذر تداولها لدى غيرهم .. وهكذا يعاد تدوير البشر النفايات فيصبحون انتاجا جديد بأقل التكاليف ، ليخرجوا بعد حين يقدر بقدره رجالاً ونساءً كباراً نفوسهم ، عاملين محترفين منتجين ومربين افاضل وربما قادة مجتمعات .. فالمهم ، أن لن تعود الحياة بعدهم في البلاد كما كانت ، وذلك هو الاستثمار في الكبد الرطبة ، ومن وراء القصد قول الله تعالى (ومن احياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)  .. اللهم قد بلغت .. اللهم فاشهد ..

شرف الحذاء

شرف الحذاء ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كتب المفكر السعودي (عبد الرحمن مرشود) خاطرة فريدة له عن (الرصيف) فأبدع في وصف ما لم يرعه انتباه اكثر المارة عليه .. فقال :
الوجوه على الرصيف تتدرب ..
بعضها يتدرب على الابتسام وبعضها على التجهم ..
وأيضاً وجوه تتدرب على الغموض ..
على الرصيف تدور حوارات اليأس والأمل ..
عليه دائماً يجد الصوت والصمت لغة مشتركة فيتفاهمان ..
ولكن القلوب على الرصيف قلبان فقط ..
قلب ينتظر وقلب يتظاهر بالانتظار ..
وبنفس ذلك الايقاع الفذ نرى قيمة (الحذاء)    .. فقد كان من أدبيات الرسم الاجتماعي القديم أنهم قالوا (الرجل جزمة)  وقصدوا بمقولتهم أن الرجل يُعرف من حذائه ، نظافته ولمعانه وجودته ودلالة رقي الرجل في المشي به على الأرض .. وقالوا أن أول ما يجذب النظر إلى هيئة الرجل هو حذاؤه ومن ثم يقفز التقييم فوراً إلى عموم شخصيته .. وربما ليس الحق عن هذا ببعيد ، فإن كان الحذاء في عرف المجتمعات عنوان لأناقة الرجل ، فهو أشرف من ذلك بكثير .. إذ ماذا نقول في كائن نحمل أنفسنا عليه أطول الأوقات في حياتنا وهو يأكل تحت أقدامنا عنا الثرى والأشواك والتهاب الشوارع والرمال في قيظ الصيف وابتلالها بالرطب الصقيع في زمهرير الشتاء .. ويحمل كل المتلوثات وأدران الطرق وأشياء عديدة لم ترها عين لابس الحذاء ، وليظل المحمول فوق حذائه عزيزاً كريماً نقياً في هيئته مطمئناً في مشيته .. بل إنه – أي الحذاء – ليجود بقيمة الإيثار كما لم يجود بها كائن آخر ، فما آلم شخص مسمار خدش باطن قدمه إلا بعدما أن اخترق هذا المسمار قلب نعله ونفذ منه ، ولو أنه لم يخترقه لصار الخدش في قدمه جرحاً غائراً ذا قيح وصديد .. وقد علمت لماذا يصر رجال العسكرية على ارتداء تلك (الأبوات) الثقيلة كثيفة الجلد طويلة الرقبة كي تمنحهم الثقة واستشعاراً بالقدرة والقوة والثقل على الأرض فيكون ذاك من دواعي الثبات على الجبال والوديان وأحراش الأدغال فلا ينشغل الجندي إلا بكفاحه أمام عينيه غير مبالياً عنه بهوام الأرض وحيّاتها وعناكبها .. كل هذا يكون للحذاء ، ثم نحن البشر نعود فنجازي منه كل هذا الشرف بأن يجعله بعضنا سمة سبة وشتم لمن نكره .. حقاً إن الانسان على قول ربه لظلوم جهول ، وحقاً إنه ليطغى ، وحقاً إنه إذا مسه الخير مَنوعا   .. ولكن أيضا كم من البشر كانوا بإيمانهم كما الأحذية في فعل الخيرات وهم في ظل عن أعين الناس .. وكم من كافل لأيتام صغار في الخفاء ونحن نراه يسري في الحياة لاهياً لاعباً .. وكم من متصدق لم يعلم أحد أأنفقت يمينه أم أن يسراه هي التي قد انفقت ونحن نراه فينا فقيراً مدقعاً في فقره ..  وكم من داعٍ لأخيه بظهر الغيب فيكشف الله بدعائه كرب المكروب ولكنه كأنما ظهر لأعيننا كما لو لم يعبئ بذكر الله يوماً قط .. فإن كنا لم نعلم خفايا أفعالهم فإن الله يعلمها ، وكل ما هنالك أن لا نيأس من خير في الناس مهما عمّت النكت السوداء قلب المجتمع وغطى الزبد وجه البحر ، فالخير ماكث فيما خفي عن أعين النظار .. وكم أنه ليس كل ما يلمع يكون ذهباً فكذلك ليست كل حديدة صدئة لا تخفي تحت صدئها بأساً شديداً .. إذن فلنقل للناس حسناً ما دمنا لا نعلم خبايا أنفسهم ولم نشقق عن صدورهم كما لم نعلم من الحذاء إلا ظاهراً ضاحكاً لامعاً وهو يخفي عنا ما يكابد في باطنه باحتكاكه على الأرض تحته وبوطأة أقدام بني آدم عليه من فوقه .. وإذا رأينا الحذاء يوماً متسخاً ، فلا نحكم بان الأرض هي مصدر اتساخنا بل  نحن البشر في الحقيقة مصدر اتساخ الأرض ..

خرافة قانون الجذب


خرافة قانون الجذب
(نموذج نقد فلسفة العلوم الزائفة)


د. وائل أحمد خليل الكردي
دكتوراه في المنطق وفلسفة العلوم
يمكن وصف هذه المقالة أنها دراسة في رؤية ما بعد الالحاد ، فاذا كانت حالة الالحاد تقصد الى حذف فكرة الاله تماماً والنفي المطلق لوجوده ، فإن الرؤى التي تلت تلك المرحلة هي مرحلة الاستغناء، أي الاعتراف بحقيقة الاله مع اثبات الاستغناء الممكن عنه بفعل التفاعل والاحتواء للطاقة الكونية ومن ثم تمكين السيطرة والتحكم للإنسان على الكون بل وحتى على المصائر والاقدار.
ولعل ما سيقدم في هذه المقالة هو من قبيل الافتراض لعلل بعيده بربط المشكلة بنصوص قديمة برغم ان الشاهد فيها أنها سياق ممتد متحرك من الماضي الى الحاضر ثم نحو المستقبل ، فكان لا مناص من هذه الافتراضات حيث ان الاقتصار على العلل القريبة لا يؤدى الى الاحاطة الكاملة بالمشكلات في اصولها مما يجعلنا كمن رأى حريقا في قناة فيكتفى فقط باخمادها في حيزها ليفاجئ باشتعالها بشكل جديد في قناة اخرى دون  ان يدرك ما السبب العام وراء كل هذه الاشتعالات وليس فقط السبب الخاص في كل اشتعال بمفرده .
(مدخل) كيف تتكون العلوم الزائفة ؟
تكونت العلوم الزائفة كتطور عن المشكلات الزائفة Pseudo - problems . ربما يكون مما يحسب إيجاباً للفلسفة التحليلية المعاصرة لدى أبرز أعلامها (مور) Moore و(رسل) Russell و(فيتجنشتاين) Wittgenstein وغيرهم ، أنها كشفت عن حقيقة نمط أساسي من المشكلات تداولها الفكر الإنساني عبر كافة مراحله بكونها مشكلات ذات اعتبار وذات أدوار حاسمة في تفسير وحل ما استغلق من الإنسان والحياة والكون . ولكن الحقيقة التي كشفت عنها الفلسفة التحليلية أن هذه المشكلات إن هي إلا مشكلات زائفة وتشكل زيادة غير مبررة على أعباء الفكر الإنساني بصدد مشكلاته الكونية والمجتمعية والوجودية . فلقد اعتبر فلاسفة التحليل أن التاريخ الفكري للإنسان قد تعبئ دون ضرورة بهذه المشكلات الزائفة أو التي هي ليست من قبيل المشكلات أصلاً ، فهي إما قد تم اصطناعها قصداً من أجل شغل الفكر الإنساني بها عن جادة المشكلات الحقيقية  ، وإما أنها قد تولدت عفواً جراء طريقة معينة في النظر إلى الحقائق جعلت هذه المشكلات الزائفة تبدو لدى الناظر نحوها على قدر كبير من الخطورة والإلحاح لحسمها كي ما يستقيم الوعي . إذن (المشكلات الزائفة) هو مصطلح فلسفي يدل على بناء واستخدام الاستدلالات المنطقية الاستنباطية على نحو لا يؤدي إلى وقف التساؤل في المشكلة بتقديم إجابات وحلول نهائية عليها وعلى وجه الخصوص التساؤلات التي تقع في دائرة قانون التناقض المنطقى حيث لابد من بقاء إحدى الاجابات وترتفع الأخرى حتماً ، ولكن إثبات الزيف هنا كان في بقاء النقيضين معاً دون ارتفاع احدهما بالضرورة . وما سبب ذلك إلا أن أوجه وطبيعة البحث في مثل هذه المشكلات تتساوى فيه حجة التأييد مع حجة الدحض من حيث القيمة المنطقية والمعرفية لكليهما وفي هذا كسر للمنطق .
لذا لجأ فلاسفة التحليل إلى استعارة (نصل أوكام) Ockham razor المصطلح المعروف في أخريات العصور الوسطى وينص على أنه (لا يجب مضاعفة الكائنات في العالم بغير ضرورة) . وكان من قبيل استخدام هذا المبدأ في سياق الكشف عن المشكلات الزائفة هو أن ما لا يعتمد في الخبرة الواقعية والمنطقية للإنسان لا يمكن أن يكون عضواً ذا اعتبار في الحقل الدلالي للذهن البشري والذي يعتمد في تكوينه على المعايير القياسية التحليلية والتركيبية في العلوم عموماً (وفق كانط I. Kant). من هنا كان منطلق فلسفة التحليل في تفسير ظاهرة المشكلات الزائفة ونشوءها إلا كنوع من الافتراضات الزائدة عن حيز الخبرة الفعلية والمنطقية والعملية الممكنة . 
والشاهد في عصرنا الراهن أن الاصرار على استمرار البحث في محاولة اصدار أحكام في مواجهة هذه المشكلات الزائفة قد انتج مادة جديدة فيما عرف مؤخراً بـ (العلوم الزائفة) ، حيث أدت المبالغة في الجدال على هذه المشكلات إلى الاجتهاد في محاولة وضعها في قالب (العلم) Science لتصبح علوماً ، ولكنها علوم ذات أسرار . ولعله من الراجح أن الأغراض والسياسات الفكرية الاستراتيجية للأنظمة الماسونية كان لها ضلع بارز في شغل العقل الشرق اوسطي بمثل هذه العلوم الزائفة على هيئة صيحات زمانية متعاقبة ، وكان ذلك على شرطين : 
الشرط الأول – أن هذه العلوم لا يتم فيها التعلم وإنما التدريب ، لأن التعلم يمكن أن يستمد من مصادر متعددة قد يكون للمتعلم فيها قدراً وافراً من حرية الاختيار أما التدريب فلا يمكن في الغالب بدون مدرب .
الشرط الثاني – ويلزم عنه الشرط الأول ، وهو أن تقوم مواد هذه العلوم على حقائب من الأسرار  والشفرات المغلقة التي يتم التدرب عليها وبواسطتها على هيئة تجارب غير قياسية يكون الاعتبار فيها للنتائج وليس للأصول (منظور برجماتي Pragmatism) حيث تبقى الأصول من الأسرار .
مراحل التكوين لعلم الطاقة الكونية و(قانون الجذب) :
باستخدام المنهج التحليلي النقدي ، يمكن إحصاء اربعة مراحل متدرجة ومرتبة بنحو منطقي صارم لدى المؤسسة العالمية التي تعمل على النشر الخفي والسلس لعلم الطاقة الكونية وقانون الجذب الباطني :
المرحلة الأولى – وهي تعرف بخلق الحالة الانتاجية التفاعلية المستمرة للنظم والبرامج الحاسبية ، وهنا ظهر ما يعرف في ثلاثينات وأربعينيات بعلم (السايبرنيتك) Cybernetics وهو علم السيطرة والتحكم ، ويقوم على ضبط كافة العمليات الانتاجية الآلية وفق عامل (التغذية المرتدة) Feed back  وهي العملية المنوط بها التطوير الابداعي للمنتجات . حتى هنا كانت تلك هي المرحلة التي قصد منها خلق تصور مخيف في ذهن الإنسان العادي بأن التقنية الآلية إذا تطورت على هذا النحو صارت لها السيطرة على الإنسان ومجتمعه ، لذا كان من المنطقي توجيه البحث في مقابل ذلك نحو عوامل ضمان سيطرة الإنسان على الآلات والنظم البرمجية للإنتاج .
المرحلة الثانية – هي تكوين ما يعرف بعلم السايبرنيتك من النظام الثاني Second order Cybernetics حيث أن السايبرنيتك من النظام الأول First order Cyberneticd كانت وظيفته التوقف عند حد العامل التفاعلي للتغذية المرتدة للنظم والآلات ، أما النظام الثاني فوظيفته تقوم على الإدارة الفوقية التحكمية على النظام الأول ويكون النموذج فيها هو للإنسان .
المرحلة الثالثة – إذن كان لابد من تأهيل عوامل السايبرنيتك ووظائفه من النظام الثاني المناطة بالبشر حتى يكونوا قادرين على التحكم والسيطرة الفوقية في إدارة وظائف النظام الأول – بمعنى أن الإنسان يخضع لنظام تحكمي عليه حتى يتم ترقيته للقدرة على خلق المنظومة التحكمية لكل ما هو دونه من الآت وعناصر طبيعية – الأمر الذي يتطلب الاستدامة في بلوغ درجات التفوق الوجودي للإنسان بأعلى من كل مرحلة تبلغها التقنية الآلية والنظم البرمجية ، من هنا بالضبط ظهر علم (البرمجة اللغوية العصبية) NLP وهو علم تم اختلاقه قصداً من أجل السيطرة على الجهاز التحكمي للإنسان وهو (الجهاز العصبي) والجهاز التعبيري للشخصية وهو (الجهاز اللغوي) وإعادة البرمجة لهما في منظومة واحدة بما يعيد خلق شخصية الإنسان إيحائياً بنحو يجعل منه كائناً متفوقاً ، وهنا تكمن الخرافة والزيف لهذا العلم ، حيث يتحول الإنسان إلى قرص كمبيوتر مدمج يسهل تفكيك معتقداته وإعادة تشكيلها بنحو مختلف تماماً ، وبالتالي يعمل هذا العلم ابتداءً وبصورة تلقائية على ترسيخ فكرة أن أي إنسان هو مادة قابلة للبرمجة وإعادة البرمجة من ناحية ، ومن ناحية أخرى أن البرمجة لأي إنسان بالضرورة لا تتم إلا على يد (مبرمج) هو شخص آخر . ويتم الاستغلال في هذا كله للثقافات (السمع – مرئية) والتي تجتذب الملكات الحسية وتربطها بالانفعال اللا- إرادي من خلال الصورة المتحركة والمؤثرات الصوتية وهو ما يحدث التهيئة اللازمة في عقول الناس لأن يتقبلوا بسهولة فكرة البرمجة . 
المرحلة الرابعة – وهي رأس الأمر في العصر الراهن ، وهو تنزيل قانون الجذب الباطني للطاقة الكونية إلى حيز التدريب والاكتساب البشري ، ويمثل المرحلة المتقدمة العليا في علم البرمجة اللغوية العصبية والذي يتحول هنا إلى التفاعل لقانون الجذب بين الروح الإنساني والروح الكوني العام والواحد في كل الوجود ، فالإنسان يعلو بقدرته  الجديدة إلى مركز الكون والكون يدنوا منه وينجذب إليه بكل اسراره . لذا كانت الغاية النهائية لعلم الطاقة الكونية هو السيطرة المطلقة والتحكم التام في هذا الكل الكوني والواحد من خلال الذات ، بما في ذلك ما يعد من الغيب وأهم موضوعاته القضاء والقدر . فالاحتواء التجاذبي للكون لدى الإنسان بفعل التماس بين حدود الطاقة الباطنية للإنسان ونطاق محيط الطاقة للكون كله هو ما يؤهل هذا الإنسان في المراحل العليا من تسيير وتعديل تصريفات القدر بغير ما هي عليه وهو ما يمكن تسميته (إدارة الأقدار) .
ولكن ، ماذا وراء هذه الغاية النهائية لهذا العلم ؟
علاقة علم الطاقة الكونية وقانون الجذب الباطني بسفر التكوين في التوراة :
(فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه) – التكوين ، إصحاح2 .
(وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا ، فقالت الحية للمرأة لن تموتا ، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر) – التكوين ، إصحاح3 .
(وقال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر ، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد ، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن) – التكوين ، إصحاح3 .
(وكانت الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدةً ، وحدث في ارتحالهم شرقاً أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك ... وقالو هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء . ونصنع لأنفسنا اسماً لئلا نتبدد على وجه كل الأرض ، فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كانوا بنوا آدم يبنونها ، وقال الرب هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض ، فبددهم الرب هناك على وجه كل الأرض فكفوا عن بنيان المدينة لذلك دعي اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض ومن هناك بددهم  وجه كل الأرض) – التكوين ، إصحاح11 .
لعله يظهر في التحليل التأويلي لتلك النصوص من (العهد القديم) أن أبناء آدم يسعون إلى بلوغ مقام الندية الوجودية مع الذات الإلهية ، ذلك المقام الذي فقده في المرة الأولى بعدم السماح له بإكمال الأكل من الشجرة المحرمة ، وفقدها في المرة الثانية بهدم برج بابل الذي كان سيمنحهم القدرة الإلهية عبر التكوين الجمعي الموحد في الاتصال وطريقة الحياة ، ثم تشتيت بني آدم على وجه الأرض كلها .
والآن هي المرة الثالثة والأشد قوة في التخطيط والتنفيذ من خلال خلق تلك العلوم الزائفة وإعادة انتاجها وتدويرها في كل حقبة من أجل تصفية الجنس البشري كله لإبقاء عرق بني اسرائيل الموحد والمتوارث ليكون هو الصاعد الأوحد نحو الملكوت الإلهي .
 وربما الراجح من ذلك أن يستدل على وجود مؤسسات ذات طبيعة سرية تعمل على تنظيم وإدارة هذا المخطط على ما يلي من وسائل ومقاصد :
أولاً – تفصيل كيفيات وطرق تحقيق الغاية الموحدة المنشودة لديهم مع كل مرحلة بحسب عقل كل شعب وطريقته في الحياة . كأن يتم الباس تدريبات الطاقة الكونية والجذب الباطني عباءة الشرعية الإسلامية في حال كان الجمهور من المسلمين .
ثانياً – استدعاء أصول العقائد الوثنية القديمة بصور وأشكال متجددة في الزمن الراهن ، والتي لم تكتشف الإلوهية الحق كما لدى الكتب السماوية في أحوالها وشعائرها الدينية فصاغت بالتالي تعاليمها على أساس افتراض القوى الكونية الكلية مثل عقيدة (كارما) أو تجاذب المتماثلات بين الشهادة والغيب ، وعقيدة (ين ويانج) أو جمع وتوفيق المتناقضات الكونية ، وأيضاً عقائد وحدة الوجود والتناسخ ، ثم جعل من هذه العقائد مراجع تكوينية وتاريخية في خلق العلوم الزائفة .
ثالثاً – بناء الاستدلال في تلك العلوم على محض فروض فلسفية تجريدية بعد إكسابها صفة وصبغة التفسير العلمي رغم أنها لا تقبل التحقق العلمي التجريبي والعملي أصلاً . وإنما يتم هذا من أجل أن يتوفر الاطمئنان في نفوس المنقادين والخاضعين للتدريب إلى جديتها وجدواها . ومثال ذلك الاستدلال على الطاقة الكونية عند نقطة التماس بينها وبين جسد الإنسان فيما يعرف بهالة (الأورا) Aura أو الهالة النورانية المحيطة بالإنسان والأشياء وهي الغلاف غير المرئي الذي يشع على هيئة موجات كهرومغناطيسية . 
فتكون الخطة بالتالي لدى تلك المؤسسات متضمنة لمرحلتين في التفيذ :
المرحلة الأولى – الصعود بالآدمية نحو المقام الإلهي على العموم .
المرحلة الثانية – الاصطفاء لبني اسرائيل خاصة (الشعب المختار) وحسب من بين جميع الآدميين للسيادة عليهم أو لحذف وجود الأممين جملة .
هل هنالك ثمة أهمية مرجوة من علم الطاقة الكونية والجذب الباطني ؟
يمكن بحث هذا السؤال من عدة أوجه .
أولاً – من الناحية الفيزيائية ، فليس المقصود بالطاقة الكونية في هذا المقام تلك الطاقة الكهربية والضوئية في العلوم الطبيعية . فالشاهد أن تفسير الطاقة المؤلفة لكافة الكائنات بعد فيزياء الكوانتم Quantum Physics  هو نحو ما ذهب إليه (هايزنبيرج) Heisenberg في قوله بمبدأ الارتياب أو اللا-يقين Uncertainty principle إذا لا يمكن بحال رصد جسيمات الطاقة في حالة سكون على نحو قاطع بسبب حركتها وشدة حركتها بتأثير مراجع الرصد عليها ، ولكن يمكن رصد تأثيرات هذه الطاقة ووظائفها العملية من خلال الملاحظة العلمية ، وبالتالي يمكن للعلماء صياغة قوانين علمية وصفية على هذه الوظائف والتأثيرات للطاقة إلى حد بلوغ درجة التعميم ألعلمي ومن ثم يمكن لهم برمجتها وتقنينها على هيئة منافع منتجة ومتداولة بحسابات رياضية دقيقة . أما في حالة افتراض أن هناك اختلاط لهذه الطاقة الكونية بالإرادة الإنسانية فإن الأمر يصبح حتماً على مستوى بالغ من الفردية والذاتية في نتائجها وتأثيراتها بحيث لن يمكن التعميم لقانون واحد وصفي أو حتى قاعدة وصفية واحدة في ذلك بحسب الدالة المنطقية في اللزوم (إذا .. إذن) ، ويصير كل مظهر من مظاهر الطاقة في الحيز الإنساني حالة  فريدة خاصة بكل شخص بخلاف الآخرين فلا اشتراك في الأثر والمظهر . لأجل هذا باتت صياغة الطاقة في الحالة الإنسانية في هيئة (علم) Science أمراً غير قابل للتحقيق ، وبل ويكتنفه من المتناقضات ، عنها خاصية الوظائف التعميمية .
ثانياً -  أن التطبيقات التدريبية على علم الطاقة الكونية وقانون الجذب الباطني تأتي على نوعين : (تنموى) و (علاجي) .
فالتدريبات في هذا المجال تعمل على تشغيل وتفريغ الطاقة بغرض الاستغلال الأقصى لها ، في حين أن المقصود بالنسبة للإصحاح البشري العضوى والنفسي هو (حفظ الطاقة) وليس تصريفها (وهذا ثابت في الأمر بكظم الغيظ) وذلك لأجل أن تلائم وظيفياً القدر الأمثل لمطلوبات كل مرحلة من عمر الإنسان . فليس الهدف إذن هو خلق الإنسان المتفوق وتنمية قدراته لتحقيق الخوارق والمعجزات بل لتنمية المهارات الإنسانية من خلال بقاء القدرة الفاعلة لوقت طويل ، فمخذون هذه القدرة هو مخذون استراتيجي لا يجب أن يتم استنفاذه جملة إلا عبر الدى العمري للإنسان وإلا أخل ذلك بميزان اتزانه . وفي كل الأحوال تتفاعل هذه القدرة بمعطيات العالم البيئي للإنسان من مقومات حركة وتغذية وما إلى ذلك ، وليست تعتمد على التوحد مع طاقة كونية افتراضية . لقد أشار (الإنجيل) من قبل إلى نفي المطلوب من الخوارق الإنسانية ، حيث جاء فيه على لسان عيسى (أنه سينهض كثيرون يدعون أنهم المسيح وأنهم أنبياء يأتون بآيات وعجائب عظيمة ليضلوا الصفوة لو أمكنهم) وحتى حواري عيسى يمكن أن يضلهم مثل هذه المعجزات .
ثالثاً – إن افتراض نشوء تصور وحدة الوجود تبعاً لحلول طاقة كونية حاكمة له تسنده مسلمة ضرورية بأن قوانين هذا الوجود قائمة داخله بصورة مستقلة عن أي ارادة الهية ، وأنه لا شيء خارج عن هذا العالم وهذا يدعم الزعم التوراتي بحقيقة القدرة الإلهية للإنسان . وهذا ينافي التحقيق القرآني لمصادر القوة . وذلك أن القرآن  العظيم لم يتحدث عن قوى كونية بذاتها ولم يطالب الإنسان باستغلال طاقة عليا ، وإنما كان المرجع الوحيد في ترقية الكائن الإنساني هو الله تعالى نفسه فهو المانح الوحيد للكرامات والبركات وتدابير النصر والحماية والقبول في الأرض وتحقيق الاستواء الكوني بمطلب الممارسات التعبدية الوقفية الواجبة والنافلة من جانب الإنسان . كانت (لا حول ولا قوة إلا بالله) إقرار بذلك شاملاً النصوص التالية :
(إن الإنسان خلق هلوعاً . إذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا . إلا المصلين . الذين هم على صلاتهم دائمون) – المعارج -  بملاحظة أن الضعف الإنساني الفطري لا يتجاوز إلا بالصلاة والمداومة عليها مع باقي العبادات الأخرى ، (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) – النساء .
(واتقوا الله ويعلمكم الله) – البقرة .
(الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) – الأنفال .
وكثير من الآيات القرآنية بنحو ذلك ، تحدد للإنسان المسار الصحيح والسليم لتحقيق القدرة بصورتها القوية النافعة دون افتراض لحقل طاقة كونية وله أثر مستقل عن الحكم الإلهي وقوى باطنية نافذة لدى الإنسان لا يستقيها من التدبير التعبدية المقيدة بالنوايا الخالصة في طلب القبول الرباني .
 ولعل هذا لطريق هو ما جاء لتأكيده الحديث النبوي القدسي (لإن الله قال من عادى لي ولياً آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس مؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته) – البخاري عن أبي هريرة .
اذن ، ليس المطلوب من الانسان هو جذب الكون اليه بل المطلوب منه هو التعالي عليه والسمو فوقه، إذ ليست القوة هي في تحقيق قانون للجذب الكوني بل القوة الحقيقية هي في الاتصال بالحقل الحقيقي للقوة العليا والانجذاب من جانب الانسان إلى هذا الحقل للقوة المطلقة والذي هو فقط لدى خالقه الله تعالى، فكيف اذن يكون هذا الاتصال والانجذاب وليس الجذب ؟ وما هي دوال ذلك الاتصال بالقوة العليا ؟
دوال تجاوز القوة الكونية بالاتصال بحقل القوة العليا :
دوال الاتصال بالقوة الحقيقية العليا في العلو على الطاقة الكونية وتجاوزها تكمن في القران الكريم (سورة المعارج) وهي على ما يلي :
1/ (إن الانسان خلق هلوعا . اذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا)  دالة الضعف الانساني العام -  والذي هو الاصل في خلقه، فالهلع والجزع والمنع هي الاحوال السلوكية الملخصة لأزمة الانسان على مستواه الشخصي .
2/ (إلا المصلين) دالة الاستثناء من قاعدة الضعف الانساني العام، وذلك الاستثناء إنما يكون للمتصلين بالله القوي، وهذا هو فعل الصلاة، فلا يكون التخلص من سمة الضعف الانساني الا للمصلين.
3/ (الذين هم على صلاتهم دائمون) دالة استمرارية القوة وتناميها وعدم انقطاعها في الاتصال بالله القدير، فليست فائدة الصلاة في محض ادائها بل في المداومة على هذا الأداء والاتصال، كما ان مداومة الصلاة لا تعني قوامها فقط بل كل ما يتعلق بموجباتها واحكام مشروعيتها من التجرد عن كافة المعاصي القصدية وكبائر الذنوب.
4/ (والذين في اموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) دالة القوة البارزة بالاستغناء عن الدنيا وعدم الحرص على متغير فيها وما يلحق طلابها من اسباب الضعف، وفائدة ذلك في التخلص من مواطن الهلع والجزع والمنع.
5/ (والذين يصدقون بيوم الدين) دالة علة الاستغناء عن الدنيا وطلب الجذب الكوني فيها كهدف لأصحاب قانون الجذب، وفائدة هذا التصديق بوجود عالم اخروي عظيم أنه من دواعي أخذ الحق بقولة فلا يخُشى فيه إلا الله، فالأساس لدي المتصل بالقوة الالهية هو الدار الاخرة التي تتضاءل امامها الدار الدنيا كثيرا فلا تصبح لها اثراً في نفس وعقل الانسان.
6/ (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) دالة الاستهانة بكل عذاب في الدنيا بأنه دون عذاب الله تعالى، وهذا هو علة قوة النفس على الجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدح بكل حق، فإذا قوي الانسان على عذاب نفسه وجسده في الدنيا وهان عليه كل أمر أمام استشعاره في نفسه قوة غضب الله وهول عذابه، فكيف له أن يهلع أو يجزع أو يمنع لآمر يهمه في الدنيا بعد ذلك، بل يصير هو القوي ويصير هو الانسان السوبرمان الذى نادى به فلاسفة الحياة والوجود ونادى به اصحاب قانون الجذب وضلوا في سبيله الطريق.
خاتمة :
جدير بالذكر أن ما قام عليه النقد إلى الآن ليس هو افتراض وجود حقل للطاقة في الكون ولدى الإنسان في الأصل حتى لو كان المقصود هو حالة الطاقة التي ينتهي إليها تحليل كل عنصر في الكون بحسب فيزياء ميكانيكا الكم ، بل وربما كان لزاماً علينا الاعتراف بوجود الطاقة الكونية حقيقة لنوافق بذلك قول (محمد إقبال) المفكر الإسلامي الروحاني (إن الإنسانية تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور : تأويل الكون تأويلاً روحانياً ، وتحرير روح الفرد ، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي) ثم جاء (الدوس هكسلي) A. Huxley لرسم ما أسماه بالفلسفة الخالدة على ذات السياق بقوله (إن موضع الاهتمام الأساسي للفلسفة الخالدة هو الواحد ، أي ذلك الجوهر الإلهي الحقيقي وراء الكثرة في العالم على مستوى الأشياء والحياة والعقول . ولكن طبيعة هذه الحقيقة لا تعطي نفسها هكذا على نحو مباشر إلا لهؤلاء الذين اختاروا أن يحققوا في أنفسهم مبادئ تجعلهم محبين وأنقياء القلوب وفقراء إلى ملكوت الروح). ولكن وجه النقد كان على الاتجاه الخاطئ في كيفية تحصيل القوة بالاتجاه نحو جذب الكون وليس الانجذاب لخالق الكون،  كما يتقدم النق على طريقة التعامل مع هذه الطاقة في الكون باختلاطها بالإرادة الإنسانية ومحاولة صياغتها في هيئة (العلم) كما لو كانت بنحو الفيزياء مثلاً ، فإنها في هذه الحالة لن تقبل الرصد ثم القياس ثم التعميم مما سيوجه الاعتماد فيها على الافتراض الفلسفي التجريدي غير القابل للتحقق أصلاً . ثم ما سيتولد عن ذلك من أساليب تمويهية للتدريب على استغلالها واستعمالها بفتح خاص جداً  ومرحلي لما هو متاح من حقائب الأسرار فيها .
والله تعالى اعلم.
تم الرجوع إلى :
1/ فيصل بن علي الكاملي – قانون الجذب من السر إلى السحر – مجلة البيان (309) ،   2013م .
2/ وائل أحمد خليل الكردي – منطق المشكلات  ، دراسة في المسألة المنهجية العلمية للتفسير والتأويل – إصدارة مركز التنوير المعرفي ، السودان ،  2007م .
3/ وائل أحمد خليل الكردي – مشروع نسق السايبرنيتك الجديد بصدد المسألة مفاهيم المعرفية/ الحضارية ، إصدارة مركز التنوير المعرفي ، السودان ، 2004م .
4/ محمد إقبال – تجديد التفكير الديني في الإسلام – ترجمة/ عباس محمود ، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع ،  2000م .
5/ الكتاب المقدس (الترجمة العربية للعهد القديم والعهد الجديد عن اللغات الأصلية) – دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط .
6/ كتاب العشائر الأصلية لعشائر الماسونية – تعريب/ يحى عمران ، السودان ، 1962م .
7/ Aldus Huxley – The Perennial Philosophy – Chatto & Windus , LONDON , 1947 .
8/ Ray Monk – Wittgenstein and the Two cultures (digest) – Prospect , 1999 .




الانسان الحائر بين الحقيقة والخيال

الانسان الحائر بين الحقيقة والخيال
(بحث في جدلية العلم الكوني والمجلد السردي والنص المحكم)
د. وائل أحمد خليل الكردي
مدخل :
هذه المقالة تبحث في العلاقة الجدلية للتناسب العكسي بين اتساع الخيال وضيق القوانين العلمية ليكون الناتج هو مجلدات سردية سواء بالمرويات الأدبية أو بالنظريات العلمية، مما يستوجب الاسترشاد والتوجيه بمراجع كونية علوية هي النصوص المحكمة.
جدلية العلم والسرد والرسم الخيالي :
ذكر (جيلبرت رايل) Gilbert Ryle في محفل فلسفي حكاية الفلاحين الذين اذهلتهم صافرة القطار البخاري وهو يتحرك لأول مرة يشاهدوه فيها، وكيف أن مطران كنيستهم جمعهم في محاضرة شرح لهم فيها كيف تعمل الآلة البخاري. فقام أحد الفلاحين وقال "نعم سيدي المطران، نحن قد فهمنا تماماً كل ما قلته عن الآلة البخارية، ولكن بالفعل هنالك حصان ما داخل تلك الآلة، أليس كذلك؟". (1) 
إن هذا الفلاح البسيط لم تيسر له نشأته وبيئته من حوله أن يتصور قط أن تتحرك آلة من غير أن تجرها خيل، وبالتالي فكل ما قد عناه تطور الآلة البخارية لديه فقط أن الحصان لم يعد يقود القاطرة من الخارج وانما من الداخل، هذا منتهى ما وصل إليه عقله في الاستدلال. وبالرغم مما يبدو من سذاجة الفكرة لأول وهلة إلا أنه لو حدث الأمر كما تصوره الفلاح فعلياً، عندها كان سيكون هذا فتحاً في تاريخ الكشوفات العلمية أعظم ربما من اختراع الطائرة دون طيار. إذا أن ذلك سوف يعني أن العلم Science قد بلغ درجة إلى الحد الذي أمكن فيه تطوير عقل الحصان ليحل محل الإنسان في قيادة القطار فيكون هو وحده القائد والمتحكم فيه. هكذا تكمن خطورة الابداع الإنساني فيما يسمى (الخيال).
ولو أننا اعطينا كل فرد في العالم في وقت واحد ورقة بيضاء، وطلبنا منهم أن يرسموا كائناً خرافياً أو اسطورياً بمحض الخيال المجرد، ثم جمعنا كلها وأخضعناها للمقارنة الدقيقة لما وجدنا أي تطابق بين أي منها، ولكنها كلها برغم هذا التباين لم تخرج عن حدود مفردات الواقع المشتركة بينهم من طول وعرض وارتفاع وعمق ودائرة ومثلث ومربع ومتوازي والخط المستقيم والخط المتعرج والمنحني ومبدأ العين ومبدأ الأنف والفم واليد والأرجل، وهكذا. هي فقط إعادة تشكيل وتركيب وترتيب أوضاع بتصورات فردية لنفس المفردات الواقعية المشتركة بين الجميع والتي تشكل سقف أو حدود الخبرة لديهم ودون أن يأتي أحد بمفردة أو عنصر خارج عن هذا العالم الذي نعيش فيه مما يعني أن احتمالات تكوين وإعادة تكوين الاشكال من هذه العناصر أو المفردات وفق الخيال الإنساني المجرد هي احتمالات مفتوحة أو لا نهائية. وفي مجمل الأمر، يحاول الانسان دائماً الخروج من حدود أو إطار الواقع المفروض أمامه إلى آفاق الخيال المرسوم في ذهنه عن هذا الواقع. وعلى هذا يمكن القول أن كل الابداعات العلمية النظرية قد ظهرت على أساس من افتراضات أملتها هذه المخيلة الإنسانية كتفسير لحقيقة الوجود الذي نعيش فيه. وما يدعم هذا القول هو الكشف عن طبيعة مسألة الفرضية العلمية في ذاتها ومن أين يأتي وكيف يتكون في ذهن العالم، فإذا علمنا أن أكثر ما يتصل بنشأة الفرضيات العلمية هو العامل الباطني – هذا بخلاف العوامل الخارجية التي تنتج الفرضية بناء على مقدمات مسبقة تترتب عليها نشأة الفرضية منطقياً – لتأكد لدينا دور المخيلة التجريدية المهم في البناءات العلمية. فهذا (عبد الرحمن بدوي) يؤكد على لسان الطبيب وفيلسوف العلم الفرنسي (كلود برنارد) C. Bernard في كتابه الشهير (مدخل إلى دراسة الطب التجريبي) أن أكثر الظواهر التي شاهدها كبار العلماء وأقاموا عليها افتراضاتهم العلمية هي نفسها التي يشاهدها الناس كل يوم دون أن يثير ذلك أدنى انتباه لديهم، فظاهرة سقوط الاجسام مثلاً هي ظاهرة مشاهدة في كل وقت وعند كل انسان ومع ذلك لم يصل أحد قبل (نيوتن) I. Newton إلى وضع قانون الجاذبية، فالأمر يتوقف في هذه الحالة على العوامل الباطنة أي الأفكار التي تثيرها الظواهر الخارجية في نفس المشاهد، وهذه العوامل الباطنة هي ما تجعلنا نفترض بنوع من الوجدان أو العيان الحدسي ما عسى أن يكون القانون الذي عليه تجري الظاهرة وبحيث أننا لا نستطيع أن نضع قواعد للاختراع في العلم ولا أن نعلم القواعد التي يمكن أن تراعى في إنشاء الفرضيات الجيدة أو المنتجة لأن هذه مسألة فردية خالصة، إنما القواعد التي نستطيع أن نضعها هي تلك المتصلة بما يتلو وضع الفرضية، أما قبل وضع الفرضية فالأمر يتعلق بشيء ذاتي (2) وهو ليس شيئاً غير ما نسميه بالمخيلة والخيال. إن تكوين الافتراض العلمي في ذهن العالم يتبع تماماً رهان (بيضة كولمبوس)، فعندما عاد (كريستوفر كولمبوس) Ch. Columbus من رحلة استكشافه لأمريكا غانماً استخف بعض حساده بكشفه وقللوا من شأن إنجازه في حفل تكريم ملك اسبانيا له حتى أن أحدهم قال أنه لو أطلق سفينة شراعية بلا ربان فحتماً ستصل إلى ما وصل إليه، فاستمع إليهم (كولمبوس) ثم استأذن الملك في الرد عليهم، فأخذ بيضة من السلة وتحداهم أن يستطيع أحدهم أن يوقف البيضة على رأسها المدبب، فهذ حتماً أسهل من اكتشاف أمريكا، فعجز الجميع عن ذلك، أما (كولمبوس) فقد نقر قمة البيضة المدببة فأحدث في قشرتها تجويفاً صغيرا فكان أن أمكن للبيضة أن تستقر واقفة عليها. كلهم كان من الممكن أن يفعلوا ما فعله (كولومبوس) ولكنهم كانوا لا يمتلكون نفس مخيلته، فضاقت أبصارهم عن رؤية الفرضية الكامنة وراء حجته. وكذلك سقطت الملايين من ثمار الأشجار على رؤوس ملايين العلماء أو ما نحو ذلك دون أن يستنبط أحد منهم فكرة الجاذبية، وحده (نيوتن) Newton I. فعل.
ثم رأينا كيف أدى العامل الباطني في تكوين الفرضية العلمية إلى ادخال مفاهيم جديدة في العلم مثل : (دور الملاحظ) role of observer و(سقوط السببية ) collapse of causality و(حرية إرادة الالكترون) free well of Electron حيث لوحظ أن الالكترون في مداره حول نواة الذرة يخرج عنه دون سابق انذار ودون مسوغ معلوم ليبدأ مساراً جديداً مما يدل على عدم خضوع الجسيمات الدقيقة لقانون سببي (3). ولقد ترتب على هذه المفاهيم التصور بانفلات المادة بفعل الانعكاسات المتبادلة بين (الكون – الوعي) الأمر الذي أفرز ما سمى بظاهرة (الشذوذ السببي) causal anomalies والتي تتجاوز القياس الاستقرائي التقليدي ويفقد بسببها عنصر التنبؤ العلمي (4)، ومن ثم أصبحنا نستطيع أن نتصور - على غرار مبدأ اللا نهايتين لدي (بليز باسكال) – عوالم على مدى الكون الكبير (نسبية أينشتاين) والكون الصغير (الكوانتم) يكون من المستحيل فيها فيزيائيا تطبيق أياً من منهجي (التحقق) Verification و(التكذيب) Falsification على قضايا تجريبية معينة إلا على نحو احتمالي فقط (5)، وهو ما تمثل في ما عرف في الأدبيات فيزياء الكوانتم Quantum physics بمبدأ الارتياب أو اللايقين uncertainty principle لدى (هايزنبيرج) Heisenberg ويفيد عدم قدرتنا على الحكم بماهية الجسيم لكم الطاقة نسبة لعلاقته بالضوء المسلط عليه معملياً، فالجسيم أصلاً في حالة حركة فإذا اسقط عليه الضوء من مصدر بعيد تشتت تركيز الأشعة الضوئية المنتشرة ولم تكفي لإدراكه، وإذا اسقط من قريب زاد تركيز الأشعة الضوئية من سرعة حركة الجسيم فلم يمكننا تعيينه أيضاً (6). وانحسب هذا الأمر إلى ميدان الرياضيات كذلك حيث برز العالم الألماني (كورت جودل) K. Goedel بمبرهنة (عدم الاكتمال) incomplete فحتى الرياضيات في شكلها الصوري الصرف القائم على البديهيات تنفلت من تحت يدها قضايا سوف تبقى بالنسبة للإنسان إلى الأبد غير قابلة للفصل فيها لأنه لا يمكن اثباتها ولا دحضها، إذن فالرياضيات التي تفسر بها قوانين العالم ليست دائماً مكتملة (7). وهكذا تذوب الأحكام المنطقية الصارمة على كل القضايا بالصدق والكذب وحدهما، وصار الاتجاه نحو تكوين واحلال (منطق القيم – المتعددة) Many – valued logic حيث اثبات اشتمال الحساب المنطقي على قيم غير محددة أو غير متعينة بين طرفي الصدق والكذب، فالقضايا يمكن أن تقع في حالة ظرفية معينة من أحوال حدوثها ولا يكون في مقدورنا وقتها القطع بأحكام الصدق أو الكذب عليها (8). وكان هذا هو المنطق الذي أدى ببعض العلماء الفيزياء المعاصرين ممن اتسعت لديهم مساحة الخيال فتواضعوا على نظرية فيزيائية تضم كافة نتائج الفيزياء الحديثة (الكوانتم والنسبية) تعرف بنظرية (الأوتار الفائقة) Superstring theory والتي تم التعبير عنها بنحو اخر بنظرية M (M Theory) ليخلصوا فيها إلى أن هذا الكون هو أكوان متعددة متوازية قد تتحقق فيها كل الاحتمالات الساقطة أو التي تم استبعادها عن كوننا هذا الذي نعيش فيه من خلال تمدد جسيمات الطاقة ونفاذها إلى تلك المتوازيات الوترية الكونية فلا يصدر – كما نتوقع والحال هكذا – خيال بإعادة تشكيل مفردات على غير الواقع في الكون الراهن ألا ولزم له صدى وتجسد في كون آخر، فقد صممت هذه النظرية بطموح أن تحوي كل شيء. وعندما سئل الفيزيائي النظري في المركز الأوروبي للبحوث النووية في سويسرا (جون إليس) J. Ellis عن نظرية الأوتار الفائقة، قال بأنه يعتقد أن من الخير أن نفكر في صورة الأوتار التقليدية التي نعرفها ونألفها كأوتار آلة (الكمان) على سبيل المثال، فنحن إن قرنا وتر بالكمان أمكنه أن يهتز بتوترات عديدة وعلى مستويات مختلفة، والوتر الفائق على هذا المنوال فأنواع الجسيمات الأولية المختلفة تقابل فيما يبدو الاشكال المختلفة لاهتزازات تلك الحلقة المنتجة للأنغام المختلفة الصادرة عن وتر كماني واحد، فهناك في الحقيقة عدد غير محدود من الأساليب الاهتزازية التي يمكن أن يتخذها الوتر الفائق، والجسيمات الأساسية التي نعرفها حتى اليوم والأشياء التي يتكون منها كل ما حولنا تقابل بالضبط السلم المنخفض في البناء النغمي لما يمكن أن يصدر من وتر واحد معين (9). إذن ليس بغريب أن يسعى الخيال السردي لدى الروائي الإسباني (ثيرفانتس) أن يبدع ضمن أشهر روائع الأدب العالمي لشخصية خلاقة بنحو (دون كيشوت) Don Quishott فيجعله يغرق في أدب الفروسية وقصص الفرسان في زمان النبل والنبلاء الذي أفل منذ سنوات بعيدة حتى تمثلها كلية واختلطت بشخصيته وتصوراته وطغت على عينه فلا يعود يرى الحاضر الذي يعيش فيه، ولا يرى نفسه إلا فارساً يعيد اسطورة شرف الفرسان وعهد النبلاء بكل تقاليد النبل والفروسية حتى ولو كان ذلك محض خيال رمى به إلى مبارزة طواحين الهواء على أنها عمالقة أشرار فيسقط على الأرض مدرجاً بالدماء والجراح تنزف، ولكن ما يجعلنا نفسر الأمل الذي كان دافعة للقيام والمضي في طريقه الذي عزم  كان أن يكون هذا الخيال قد جري حقاً على وتر كوني آخر في لحظة ما ولو بشكل ضمني في عقل الكاتب. ولكن الشاهد في هذه السردية التراجيدية الساخرة لدون كيشوت أن يستحضر بخياله آفاقاً غير متحققة بالواقع الراهن أو أنها أنجزت في ماضٍ سحيق ولم تعد، أو أنها تكمن في مستقبل بعيد. 
كل هذا يمثل سرداً كونياً لمحاولات الإنسان أن يؤكد قدرته على وضع يده على العالم بأسره بأن يبني من حصيلة الشواهد حوله افتراضات لرؤى كونية شاملة world-view من أجل أن يعطي بها تفسيراً مستساغاً للعالم، وربما ظن أنه كلما تطورت خبرته وازدادت حصيلة هذه الشواهد المدركة لديه واتسعت بها عنده حجم الافتراضات التفسيرية كلما ضاقت الهوة بين نسبة الحقيقة ونسبة الخيال في الواقع وفي وعي الانسان، ولكنه في كل مرة يجدها تتسع أكثر. فإذا كان البطل الاغريقي الأسطوري (سيزيف) قد حكم عليه بأن يصعد بالصخرة إلى قمة الجبل العالي وعندما يبلغها تسقط الصخرة إلى سفح الجبل ليعود (سيزيف) ليحملها مرة أخرى إلى القمة وهكذا إلى الأبد، فإن العلم في بحوث العلماء يفعل نفس ما يفعله (سيزيف) بالصخرة حيث أن العلماء في كل مرة يحققون كشفاً يبلغون به قمة العلم سرعان ما يتبين لهم أن هنالك قمم أخرى أعلى ورائها عليهم بلوغها لدرجة أن يظهر أن جهل الانسان هو الذي يتسع وليس علمه فسبحان القائل ".. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (القرآن الكريم، الاسراء 85). ولكن الانسان في نهاية الأمر يجد لزاماً عليه أن يتحرك في الوجود حوله ولا مفر، وينشئ بهذه الحركة ضروباً في الاجتماع والسياسة والاقتصاد وهو ما يتطلب اتجاهاً للحركة وغاية لها وهذا بدوره يفرض أمام الانسان قيمة ما تدله على المعنى والمغذى الذي اختاره لوجوده في العالم والحياة، فإما أن يكون أثراً وإما أن لا يكون ، ولذلك فكما أن الغلاف الجوي يحيط بالكرة الأرضية في مدارها الكوني كذلك يحيط الخيال بالعلم ويلتف العقل الانساني حول الحقائق الثابتة والقوانين العلمية في معرض تأويلها وتوظيفها بحسب ما لديه من رؤية كونية شاملة. ولأجل هذا كثيراً ما ينشئ الانسان مجلداً سردي يضع فيه ظواهر وأحوال وقوانين ونظريات الوجود، وكل مجلد سردي هو ملف معني بقضية محددة تصنف فيه كل المحاولات التخيلية تجاه هذه القضية، وهذا التصنيف هو مما يفيد ويغذي النقد Criticism. وهكذا فإن السرد هو القالب التداولي في التعبير الضروري عن الفكرة العلمية في جملة المحيط العقلي الخيالي، كما أنه الناقل للخبرات المتراكمة بين أجيال الإنسان - في رسائل منطقية على مستوى الفهم - وفي رسائل أدبية على مستوى الشعور – لتؤدي دورها الأساسي وهو إعادة بناء وتصور الواقع والعالم على نحو اكثر تطوراً في كل مره بنفس القدر الذي يجسد فيه السرد أيضاً ما خفي على مدونات التاريخ قياساً على ما ثبت من هذا التاريخ. كما أن المجلد السردي الذي يدون فيه الانسان ما يقع لديه من الكون إنما يمثل على الأرجح المسافة أو فضاء الجدال بين الحقيقة الواقعة المعلوم ثبوتها والافق الخيالي على غرار اللوحة التشكيلية المتكاملة العناصر والابعاد. ولذلك كان النقد criticism يفرض على السرديات شرطي البناء النسقي systematics والتراتب والتكامل والاتساق السياقي coherence of context لعناصر المروية أو القصة، فالسرد إذن هو أداة الخيال ومطيته. أما على صعيد التأثير السردي في رسم مقولات العدم والمصير والمجهول القادم فيمكن أن نجد تعبيراً عنه في ذلك القلق الناشئ عن تلك الفكرة السردية التي ضمنها (دان براون) Dan Brawn بالنص اللافت للانتباه في روايته (الأصل) Origin التي صدرت مؤخراً :
"تذكر (لانغدون) أن اختبار تورينغ كان تحدياً اقترحه مفكك الرموز (آلان تورينغ) لتقييم قدرة الآلة على التصرف بطريقة لا يمكن تمييزها عن سلوك الانسان. في الأساس، يقوم حَكَم بشري بالإصغاء إلى حديث بين آلة وإنسان. وفي حال لم يتمكن من معرفة أي من المشاركين هو الانسان، تعتبر الآلة ناجحة في الاختبار. تم اجتياز تحدي تورينج في الاختبار الشهير الذي اجري عام 2014في الجمعية الملكية في لندن. ومنذ ذلك الحين تقدمت تكنولوجيا الذكاء الصناعي بوتيرة سريعة للغاية." (10)، هكذا يعكس هذا النص جدلية تطور الذكاء الاصطناعي في الانتقال من حالة العقل الحسابي Reason الذي لا يتجاوز عمليات تحصيل الحاصل المنطقية الرياضية tautology في معالجة المعلومات المعطاة على نظام التغذية الراجعة feed back وهو ما جعل الآلة حتى الان رهن تحكم الانسان وسيطرته، إلى حالة العقل الانفعالي Mind والذي يتجاوز حدود التفكير الرياضي استقراءً واستنباطاً ليبلغ العمليات الشعورية الآدمية ومهارة ارسالها بالطبقات الصوتية للغة مما لا يخضع لأي وظائف حسابية أو صياغات علمية ابتداءً، وهذا العقل الانفعالي يحتوي العقل الحسابي ويسيطر عليه في التوظيف والاستخدام التداولي في الحياة العامة، وهو ما يجعل البشر بشراً. والان وبعد اختبار تورينح ودخول الذكاء الاصطناعي بقدراته الفائقة فضاء العقل الانفعالي فما مظان أحوال الانسان في الوجود بعدها وكيف سيعيد رسم أدواره المستقبلية في خضم ما أوكت يداه وبما كسبت. إن دخول هذا الأمر إلى الأنماط السردية على هذا النحو الذي يثير المخاوف على مكانة الانسان في العالم من حيث بقاؤه وتميزه إنما يعيد السؤال حول الخصوصية العقلية للإنسان بكونه يملك المخيلة الفريدة التي مكنته دوماً من ممارسة حياته في هيئة شعوب وقبائل يختلفون في ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وطرق وأنماط حياتهم، ثم بالدرجة الأعلى أنهم عبروا عن هذا كله  بكيفيات متعددة حتى في استخدام اللغة الواحدة (11)، فكان التعبير عن طريقة ما في الحياة يتناسب وكيفية معينة في استخدام اللغة العادية الأمر الذي قد لا يتصور أن يسمح به تطور الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالمستوى الخاص لٍكل طريقة حياة على حده وإن كان من الممكن تصوره بالنسبة لصور الانفعال البشري على وجه العموم أي في كلياته المبدئية وليس في خصوصيته لدى كل طريقة في الحياة لشعب أو قبيلة وفي صياغات وأشكال التعبير عنها، وهذا إذا سلمنا ابتداء بأن تعدد واختلاف وتمايز بني الانسان الذي يجعل منهم شعوباً وقبائل إنما هو خلق رباني ماضٍ بلا تبديل ما دامت السماوات والأرض وهو في قوله تعالى "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" (القرآن الكريم، الحجرات 13). وليس هذا فحسب، فإن التعبير اللغوي التداولي الذي يعد مكوناً لازماً لكل طريقة في الحياة ليس فقط يمثل النسيج الرابط لعقول الأفراد المنتمين لشعب معين أو قبيلة وإنما أيضا هو الناقل لكافة محمولات ومضامين الخبرة لدى الشعوب الأخرى إلى داخل الشعب المعين ليتم إعادة التفاعل معه وهو ما يجعل مجمل الخبرات الحياتية لدى كافة الشعوب مما يمكن نقله إلى العالمية من خلال الوسيط والقوالب السردية. وهذا ما يمكن أن يكون قد دعا علماء وفقه اللغات وفلاسفة اللغة إلى افتراض تصوري للغة المتداولة عرفوه اصطلاحاً (اللغة الفوقية) Meta-language فتكون هذه اللغة الفوقية لغة شارحة على (لغة الموضوع) Object-language والتي هي نمط اللغة المحكية المستعملة تداولياً لدى شعب أو قبيلة تبعاً لطريقتهم في الحياة واختلافها عن غيرها من طرق الحياة الأخرى، وكان ذلك التقسيم حرصاً على الفهم والتفسير الكامل للوسيط اللغوي وما يحويه.
 ولأجل هذا من المناطقة من جعل (اللغة الفوقية) هذه على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى disjoint هي اللغة الفوقية المنفصلة عن لغة الموضوع وتدرس العناصر والمضامين والدلالات التي تحويها لغة الموضوع فهي بمثابة شرح لهذه المضامين والدلالات وليس شرحاً مباشرا لسياقات اللغة نفسها، والمرتبة الثانية overlaps هي اللغة الفوقية المتداخلة في لغة الموضوع لتعنى بشرح مكوناتها النحوية والتركيبية في سياقاتها، والمرتبة الثالثة  containsهي اللغة الفوقية التي تحتوي لغة الموضوع وتحيط بها من حيث أنها تشرح الأطر الصورية الرياضية والقواعد المنطقية العامة في بناء كل لغات الموضوع (12).
ولكن بالرغم من افتراض لغة شرح فوقية كانت من أجل الإحاطة الكاملة بفعالية اللغة والتحكم في أدائها التداولي والنقلي للخبرة، يظل السؤال قائماً (إذا كانت لغات الموضوع تتجلى ابداعياً في التكييف السردي التخيلي لسمات الملكة العقلية والتصورية والوجدانية لشعب ما، وأنها تظل تتسع على مر الزمان من حيث ارتباط فكرة العقل باللغة ليس بكونها فقط وسيلة للتعبير والاتصال وإنما بكونها عنصراً تكوينياً في طريقة حياة يتوافق مع كل العناصر الأخرى فيها لتشكل وعياً حضارياً معيناً، فكيف إذن للغة الفوقية أو لغة الشرح أن تلحق بهذا الاتساع المستمر للغة الموضوع وتقوم بالإحاطة والتداخل والتخارج بصددها)، إن الأمر في هذا لأشبه بمحاولة علماء فيزياء الكوانتم بالإحاطة والسيطرة على جسيم الطاقة وتفسير ماهيته برغم حالته في مبدأ الارتياب أو اللايقين لدى (هايزنبيرج). 
النظرية العامة للزومية النص المحكم :       
  عندما يواجه الانسان الكون بعقل مكشوف اعزل من المراجع والنصوص، فإنه يمكن وصف حاله قياساً على ما كتبه (كارل بوبر) K. Popper فيما ما يحدث الطفرات في داخل البنية الجينية الوراثية لدى الكائن " إن الطفرات على المستوى الجيني ليست فقط عشوائية، بل أيضاً عمياء تماماً، إنها عمياء بمغذيين فأولاً، ليس هناك أي تعقب لهدف محدد. وثانياً، بقاء طفرة لا يمكنه أن يحكم الطفرات الأبعد ولا ترددات واحتمالات حدوثها" (13). وكذلك "على المستوى العلمي، نجد أن اتخاذ حدس افتراضي أو نظرية جديدة قد يحل مشكلة أو مشكلتين لكنه دائماً يفسح المجال للعديد من المشكلات الجديدة ولنظرية ثورية جديدة تمارس فعلها تماماً كما لو كانت عضواً جديداً فعالاً من أعضاء الإحساس، وإذا كان التقدم لافتاً فسوف تختلف المشكلات الجديدة عن المشكلات القديمة، سوف تكون المشكلات الجديدة على درجة من العمق تختلف اختلافاً جذرياً، وعلى سبيل المثال حدث هذا مع نظرية النسبية وحدث مع ميكانيكا الكوانتم ويتحقق الأن بشكل مذهل مع البيولوجيا الجزيئية. في كل حالة من هذه الحالات تفتح النظرية الجديدة آفاقاً جديدة مترامية من المشكلات غير المتوقعة" (14).
إن ما تشمله دلالة الخيال والمتخيل ليس فقط كافة الممكنات غير المحدودة في تأليف وإعادة التأليف لمفردات الخبرة في مركبات ذهنية جديدة في كل مرة، وإنما أيضاً الحيز المتسع من المتغيرات غير المحدودة أمام كل ثابت علمي، على منوال استشهادات (كارل بوبر) تلك، وكلاً منهما يغذيان التصور السردي للعالم لدى الانسان. ولكن الفرق أن منها ما يتحقق في وجود عيني فعال، ومنها ما يظل مجرد حالة سردية لا تتحقق. وبقول آخر من السرد المتخيل ما يكون فرضية تتحقق كاكتشاف علمي أو اختراع صناعي، ومنها ما يظل دوماً في حيزه كفرضية لا تقبل التحقق.
والمشكلة ليست في المخيلة بذاتها وإنما المشكلة هي أن المجتمع الإنساني يحتاج إلى طريق يسير عليه بثبات مهما تغيرت الصور المتخيلة من حوله حتى لا يضيع. والمقصود هو حاجة الانسان لثوابت قيمية برغم كل المتغيرات، وهذه الثوابت هي ما يضمن لديه الحق الواحد والعدل الواحد والاستفادة الإيجابية من كل متغير علمي والاستخدام السليم لكل ثابت علمي. فالأمر تماماً كالدستور بالنسبة للدولة، فالدولة بلا دستور حتماً زائلة وبسرعة. ولكن هذه الثوابت للقيمة الارشادية للإنسان في الكون حتماً لابد من اشتمالها على الوصف الكلي للكون ما علمنا منه وما لم نعلم، ولا يكون هذا ممكناً إلا إذا نظرنا إلى الأمر وفق (حجة الساعة) كما قدمها (وليم بيلي) W. Paley في كتابه المشهور (اللاهوت الطبيعي) Natural Theology رداً على الالحادية الداروينية، حيث أنه في أثناء سيره في الطريق الخلوي تعثرت قدمه بحجر ولم يكن من المستغرب وجود هذا الحجر في هذا المكان فهو ضمن السياق الفطري للطبيعة، ولكن عندما اصطدمت قدمه في ذات الطريق بساعة كانت ملقاة، هنا يثور العجب والدهشة والسؤال فالساعة بما فيها من عقارب وتروس ليست من قبيل الحجر ولا شيء من أشياء الفطرة في الطبيعة الحرة فهي صنعة لها صانع هو من له الفصل في أمرها وسميت تلك بحجة الساعة. فللوجود صانع عنده الحل والعقد في أمره، أم نعود فنقول أن الحل هو أن يضرب كل انسان في مرماه بهواه ولكل أن يعتقد فيما يشاء ويمضيه على الحياة بأسرها في كل ما يلحق بها من قيم وأخلاق وسلوك. ولذلك جعل الله تعالى من القرآن الآيات المحكمات على ظاهر نصوصها بما لا يمثل شبهة ولا يحتاج لتأويل وهو أغلب آي القرآن "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" (القرآن الكريم، آل عمران 7). والتي هي ترسي الثوابت التي لا يؤدي الخيال الانساني دوراً فيها بذاتها ولا يملك الانسان إلا اتباعها دون فحص العلة الربانية منها على نحو سؤال العلماء للسببية في الطبيعة، وربما صح في ذلك مذهب (ابن حزم) الظاهري عندما قال "لسنا نقول إن الشرائع كلها لأسباب، بل نقول ليس منها لسبب إلا ما نص عليه منها أنه لسبب، وما عدا ذلك فإنما هو شيء أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء" (15)، والحديث النبوي الصحيح أيضاً على منوال ذلك. وإنما للخيال السردي أن يدور كما يشاء وكيفما شاء حول هذه الثوابت المطلقة المعطاة بالنص المحكم ولكن ليس في تأويلها بذاتها، ثم لعل أن النص المحكم يكون هو العامل الوحيد الذي يسمح لأصحاب النظريات العلمية – نظرية (داروين) Ch. Darwin في تطور الجنس البشري مثلاً – أن يكون لها من الفائدة في فهم الحقائق الراهنة بين أيدينا، أي في مجالاتها وتطبيقاتها الفعلية القريبة في الوجود الفعلي للإنسان أمام الطبيعة في العالم ممن خضع بصورة حية إلى إجراءات الملاحظة العلمية والتجربة. أما أن تجعل مثل هذه النظرية من نفسها شرطاً لتفسير الأصول البعيدة وأحوال النشأة الأولى وتفرعاتها فهذا مما لا يمكن قبوله نظرياً أو عملياً بحال بكون ذاك أمر لم يزل في حيز الافتراضات التي لا تتحقق برغم كل التقدم العلمي الراهن، فإن الله تعالى قد حسم فيه القول "ما اشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا" (القرآن الكريم،الكهف 51). فالإشهاد هنا لا يعني فقط الرؤية البصرية، حيث لا دليل في النص على قصره عليها، لذلك يمكن أخذ الاشهاد على معناه المطلق بما يفيد كل ما يدل على التثبت اليقيني. والمطالبة بتوقف العملية التخيلية الافتراضية في هذا الأمر يكون بسبب أن التخييل لا يكون إلا على مفردات وردت إلى حيز الخبرة عبر المنافذ الادراكية الحسية أولاً ثم يتم تركيبها في أشكال وهيئات متخيلة، ولكن عملية الخلق الأول لم ترد إلى المنافذ الإدراكية الحسية أصلاً لتكون عنصراً من عناصر الخبرة لدى الانسان.
إذن فالنص المحكم في القرآن الكريم هو محدد الثوابت في توجيه حركة الانسان في الوجود والقيم التي عليه أن يحملها في إدارة الحياة. وعموم آيات القرآن الكريم هي اللغة الفوقية الشارحة والضابطة الوحيدة الممكنة ليس على لغات الموضوع التداولية بين الشعوب والقبائل وإنما على مفردات وتأليفات المخيلة الإنسانية ومجلداتها السردية حول الأسئلة الكلية على ماهية الوجود والعدم والغاية والمبتدأ والمنتهى مما لم نشهد خلقه في هذا الكون.
خلاصة :
إن الانسان يحمل العالم في رأسه ويعيد بنائه فيه مرات ومرات ربما بلا منتهى ثم يضع ما تصوره برسم خياله في حكايات وصور وفرضيات تفسيرية، فالخيال المجرد كالدائرة التي لا تبدأ لتنتهي بل تستمر، فإن لم يكن هناك عقال رابط للخيال الدائر بحد من الثوابت الأخلاقية والمعرفية يركن إليها الإنسان كمنطلق ومرشد وغاية في ممارسته الذهنية تلك لظل يدور بلا غاية وربما ينتج علماً وعمراناً ولكنه لن ينتج حضارة مجتمعية وقيم إنسانية وكونية عليا، ولربما أضاع الانسان نفسه. 
الاحالات المرجعية:
(1) Gilbert Ryle - Philosophical symposium (The physical basis of Mind) – Basil Blackwell, Oxford , 1957, p. 75.
(2) عبد الرحمن بدوي – مناهج البحث العلمي – وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثالثة، 1977م. ص 147، 148.
(3) Dictionary of philosophy – edited by; I. Frolor , Progress publication , 1984 , p. 348.
(4) Robert Ackermann – An introduction to many-valued logic – Rutledge & Kagan Paul , London , 1967.p. 24.
(5) Hans Reichenbach – philosophic foundation of Quantum mechanics – University of California, 1944 , p. 29 , 30.
(6) ستيفن هوكينج – موجز في تاريخ الزمان – ترجمة/ عبد الله حيدر، أكاديميا، بيروت، الطبعة الأولى، 1990م، ص 74، 75.
(7) رولان أومنيس – فلسفة الكوانتم، فهم العلم المعاصر وتأويله – ترجمة/ أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 350، 2008م، ص 151.
(8) Robert Ackermann – An introduction to many-valued logic – p. 23.
(9) بول ديفيس، جوليان براون – الأوتار الفائقة، نظرية كل شيء – ترجمة/ أدهم السمان، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الثانية، 1997م، ص 142.
(10) دان براون - الأصل – ترجمة/ زينة إدريس، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2018، ص 50.
(11) Ray monk – Wittgenstein and the two cultures – BBC radio, 66 prospect, July 1999 , pp. 1-2.
(12) Michael Fisher – Language, Meta-language – J. of the IGPL, vol. 4, no 2, p. 260.
(13) كارل بوبر – اسطورة الإطار، في دفاع عن العلم والعقلانية – ترجمة/ يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، العدد 292، 2003م، ص 38.
(14) كارل بوبر – اسطورة الإطار – ص 37.
(15) محمد أبو زهرة – ابن حزم، حياته وعصره آراؤه وفقهه – دار الفكر العربي، ص 436.
 

العقوبة المتعدية .. ومظالم ما وراء الحجب

العقوبة المتعدية .. ومظالم ما وراء الحجب

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
هنالك نظرية انجليزية قديمة في الفقه القانوني البريطاني تدعى بنظرية (اندماج سبب الدعوى في الحكم) The doctrine of merger of cause of action in judgment   وبمقتضى هذه النظرية يفقد سبب الدعوى ذاتيته بمجرد صدور الحكم وينقضي سبب الدعوى بأن يحل الحكم محله كمصدر للحق أو الالتزام .. وقد اوضح القانوني البارز (هنري رياض) ذلك شارحاً بأنه لا يجوز للخصم أن يرفع دعوى اخرى بناء على نفس سبب الدعوى حتى لو كان طلبه في الدعوى الثانية مختلفاً تماما عن طلبه في الدعوى الاولى وحتى لو تولدت الحاجة الى الطلب الثاني عقب صدور الحكم على الاول، اي ان القانون لا يعترف سوى بمطلب واحد على سبب الدعوى وبالتالي يسقط اي مطلب اخر ينشا عن نفس سبب الدعوى في حال الحكم القضائي على موجب المطلب الاول .. وهكذا تؤدي نظرية الاندماج هذه الى حرمان الشخص من التقدم بطلب مبني على نفس سبب الدعوى السابق وذلك بدافع تقصير آماد النزاع ومن ثم حث الخصوم على التقدم بكل طلباتهم دفعة واحدة حتى يتم الفصل فيها بحكم واحد .. ولكن اليس يحمل هذا اشارة لتعدي الحكم الصادر في مطالبة على سبب دعوى ما الى ان يلغي كل المطالبات التي قد تنشأ على نفس سبب الدعوى مستقبلا والتي قد يكون فيها حق لصاحب الدعوى وإن لم تظهر حيثيات ذلك الا بعد صدور الحكم على المطالبة الاولى فتقع بذلك مظلمة بينة على صاحب الحق لتكون بمثابة عقوبة ضمنية له بإسقاط الحق له في رفع دعوى قضائية لمطلب جديد على نفس سبب الدعوى المحكوم فيها .. اوليس هذا هو الوجه الاخر للعقوبة التي تتعدى موضع القدم مني لتبلغ نحو موضع الرأس لدى غيري  .. اوليس بداية اية قصة ظلم قانوني تنشأ في الاصل عن جملة من الافهام الخاطئة .. وأن ليس حقيقة ما نرى من سراب على الشوارع هو بماء ..
وما نخص الذكر به هنا هو توضيح أن من الحقوق ما هو موصول بمفهوم العمل الذي هو قيمة لا تعلوها قيمة لما فيه من سبب لعمران الارض وبقاء للشعوب ..  وهذا ما تعطيه يد العامل أيا ما كان عمله سواءً اقام بين الاضابير بالدواوين أو طعن بطن الارض والصخر بالمنجل والمعول .. فكيف تعيش الشعوب والامم إن نحن قطعنا عن عاملها مداد الماء والغذاء والكساء .. فإن يكن العامل هو المحرك لعجلة الوجود بدفعه المستمر في العمل، فإن ما يتقاضاه من أجر راتب على ذلك هو ما يكون زوادة عيش أسرته واهله وخاصة بيته .. تلك الأسر التي هي الوحدات اللازمة ليتألف منها عموم المجتمع وبضياعها يضيع، فلو أن عاملا قد اخطأ وجنت يداه بجرم ذات مرة وتم ايقافه عن العمل اشهر او سنوات الى حين اصدار الحكم النهائي عليه وتم تجميد الراتب طوال تلك المدة، فهكذا لم يعاقب هو كفرد قائم بنفسه بل تعدى العقاب بذلك لكل من تبع لقوامته ممن يعول من ابرياء النساء والولدان ومن بلغوا ورائه من الكبر عتيا، فإن ثبتت عليه الادانة وتحققت التهمة في حقه ثم أودع السجن عاش هو أيامه تحت ظل نفقة هذا السجن ما شاء الله له فيه وهناك المال عن اهله مقطوع .. فتلك هي العقوبة المتعدية بظلم حيث تطال عائلة الفرد الخاطئ اكثر مما تطاله بنفسه، واذ نكون قد كففنا عن المجتمع ظلم الجاني من بوابته فإننا قد اعدنا ظلم المجتمع من بوابة اسرته .. وبهذا تنهار العدالة في الدنيا .
لذلك أتى أمر الله تعالى أن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) و(أن ليس للإنسان الا ما سعى)  ليكون قانوناً على الأرض تدور حولة اقصى درجات العدالة في كل شرائع بني آدم .. فلا عقوبة تتعدى مرتكب الخطيئة ، ولعل لذلك أن اتى العقاب جله في شريعة الله تعالى بالتوقيع على جسد الاثيم الجاني إما جلداً أو قطعاً أو نفياً أو اعداماً، ولكن ليس يتعداه الى ما يقيم أود رعيته وأبنائه من اسباب لقمة العيش وسترة الحال، إذ هم في الشرع قد صاروا اوصياء من حكم وليسوا اوصياء من ظلم أو اخذ نفسه بجرم فتعطلت بذلك مسؤوليته عليهم وصار لزاماً على الحاكم للمجتمع حق عقاب الجاني ولزاماً عليه لعائلة المحكوم بعقوبة حق خلفته فيهم لحين ان يرجع ..
ووفقاً لهذا المنطق ومن وجه اجتماعي غير ذاك الجنائي، أنه من الممكن اعتبار فائدة ما بعد الخدمة أو راتب المعاش لمن تقاعد عن العمل ببلوغه السن المقررة رسميا أو دونها أنها ليست لأجله هو وانما لأجل أن لا ينقطع مداد الحياة وأسبابها عمن تعلقت رقابهم بعنقه فلا يضيع منهم أحد .. هكذا يكون دوماً عدل الله في شريعته .. ورغم ذلك فلربما كان احياناً في (المعاش) كراتب دون عمل شيء من ظلم مؤثر على المجتمع .. إذ يحرم المجتمع نفسه من عطاء انسان قد تقاعد وهو ما يزال يقدر بقوة على العمل والكد وغرس الفسائل تحت التراب وصارت له من الخبرات ما يطاول به اعالي الجبال .. فإن كان لا محالة من منحه صفة المعاش وراتبه ليعيش من يعول دونه، فإذن من الممكن أن لا نجعلها (ما بعد الخدمة) بأن يكون قيد الخدمة مستمراً ولكن بمستوى مختلف عن ذي قبل إلى أن يبلغ مبلغ العجز الشديد عن الاداء .. وليس حجةً أن ندعي اخلاء المقاعد من الامام حتى يتاح للدماء الجديدة ولوج الوظائف بمداخل الخدمة من الخلف .. فإن كان لا محالة مدفوع راتب المعاش لهذا ومدفوع راتب الخدمة لذاك، فلابد اذن من عدم جعل هذا الرجل المعاشي عالة براتب معاشه على الدولة بنيل المال بغير عمل فهذه عقوبة تتعدى نفس العامل المنتج القادر الى المجتمع العريض دون جرم من احد، فلندع إذن كلاهما عاملاً ففي ذاك كسب للبلاد وبركة للعامل ورزق كريم للعائلة .. والأمر في هذا قد لا يحتاج الا لنوع من التقنين وتوفيق حال التوظيف والاستعمال وصياغة ابعاد مستحدثة للأوصاف الوظيفية وتعيين أوجه ومستويات الفائدة من العامل عقب تجاوزه للسن القانونية المسماة للتقاعد وبحيث لا يكون هناك تقاعد إلا لمن صار مقعداً أو معاقاً أو ذو حاجة خاصة .. وهناك الكثير على مثل ذاك من المتعديات بظلم خلف الجدر أو من وراء الحجب ..

احفاد (النورسي) نحو خط الاستواء

احفاد (النورسي)  ، نحو خط الاستواء ..
د. وائل احمد خليل الكردي   
Wailahkhkordi@gmail.com                                             

ورد في اسطورة  قديمة (أن أما اضاعت ولدها , فالتقت الذئبة  فسألتها عنه ، فأجابت انها شاهدته ، ففرحت الام وقالت : اين هو ؟ فضحكت الذئبة وقالت : اكلته ) .. وهكذا تم أكل افريقيا فضاعت فرحة الأم بالعثور على وليدها ، ويا ليتها ما فرحت .. ولنبدأ الامر من اوله ..
لم يكن يوما قيام دولة اسرائيل هدفا بذاته وغاية ، إلا لدى بني اسرائيل وحدهم .. فدول اوروبا التي سعت واصدرت القرارات في انشاء دولة اسرائيل ، قد خالفت بذلك مبادئها الموروثة منذ عصر النهضة والتنوير ، حيث أن هذه الدول منذ الثورة الفرنسية صارت عقيدتها الرسمية هي الوضعية التجريبية التي جعلتهم يرفضون تماما اي تدخل لحق سامي أو تعاليم لاهوتية في ادارة الدول وبناء نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل وحتى الاخلاقية .. لقد صار كل هذا عندهم شانا انسانيا صرفا ، ومحكوم بمجريات العلم التجريبي والحق الطبيعي والتحقق المادي ولا شيء وراء ذلك .. وحتى الولايات المتحدة الامريكية ساد فيها الفكر الأداتي  البرجماتي  الذي لا يؤمن بمعيار سوى النجاح في تحقيق المصلحة الشخصية بغض النظر عن القيم والاخلاق والدين .. فكيف بالله يدعون ويدعمون ويحاربون من أجل قيام دولة على كيان لاهوتي بالكامل .. اذن ، فالغرض من بناء دولة اسرائيل لدى الأوروبيين والامريكان هو بخلاف الحق اللاهوتي الممنوح لهم في الاسفار المقدسة .. وانما اقتضت المصلحة العملية لديهم أن يزرعوا كيانا في قلب الشرق الاوسط يكون مركزا للهيمنة الاقتصادية والسيادة السياسية والقيادة الادارية على منطقة تتوسط العالم وتمسك بعظم خيراته .. لذا كان لابد ان يكون الوعد بالقيام لدولة إسرائيل مزودا بضمانات الاستثمار المالي الثر .. على أن لا يكون هذا الاستثمار على ارض الاحتلال نفسها وانما على ارض لا تتطأها كثيرا ارجل الرأسمالية في العالم بصورة منفرده .. ومن هنا استغلت اسرائيل ومن ورائها أوروبا وامريكا غياب رؤوس الأموال العربية في افريقيا لتدخل هي إليها عبر شركات استثمارية متعددة الجنسيات حتى تتفرق الدماء بين الدول ، ولكنه في الاصل بمال مساهمة إسرائيلي بنسبة غالبه .. والان يأتي في خواتيم العام ٢٠١٧ (رجب اردوجان)   وزمرة من أحفاد (بديع الزمان سعيد النورسي) بقرابهم لصب جملة من اعمالهم في عمق افريقيا عبر مشاريع ومؤسسات تركيا الواعدة .. وكم يعلم الناس أن (النورسي) الذي تربى هؤلاء الاتراك الجدد على تعاليمه لم يكن لديه طريقة مخصوصة سوى أن يضرب سياجا من الايمان حول قلوب الناس لصونها من قصف العواصف .. و(اردوجان) من حفدة (النورسي) في العقل والفكرة ، فحمل لواء رسالته وانطلق بها من منصة السيادة والحكم في تركيا نحو خط الاستواء في قلب افريقيا .. اذن ، فتركيا الجديدة التي تجتاح افريقيا الان علما ومالا وعمرانا هي دولة اسلامية تؤمن بدينها وتنطلق منه .. هنا تصبح الدول اسرائيل وتركيا اندادا في ارض التنافس وعلى نفس العهد والمنطلق الديني لكليهما .. فإن صدق رجال تركيا أحفاد (النورسي) ما عاهدوا الله عليه كانت لهم الغلبة حتما واليد العليا ولكن ليست بثوب عثماني هذه المرة بل بعباءة (النورسي) الايمانية التي قاتل ابناؤه متلفحين بها في اعماق صدورهم طغيان (اتاتورك) في طمس كل ما يمت بسبب للاسلام من قريب أو بعيد في كافة مظاهر الحياة التركية وظن أنه نجح ، ولكنه لو يعلم هذا (الاتاتورك) الان في قبره انه هزم من أول لحظة  اعطى فيها الماسوني (قره صوه)  قرار العزل للسلطان (عبد الحميد) آخر معاقل الخلافة الاسلامية .. وأنه فشل ايضا حتى نهاية حياته في غلق محابس المد الإيماني المتدفق بالإسلام التي اطلقها (النورسي)  وابناؤه من بعده ليثمر الان في الاحفاد صدقا وعزما وتوكلا على الله .. لقد قال الله تعالى   (من كان يظن ان لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) .. من هنا ، يجب النظر إلى تركيا (اردوجان) اليوم وفق طريقة (النورسي)  ، فلقد سلك (اردوجان) نفس مسلك (النورسي) في الاصلاح بإنبات الايمان وتعهده في الأنفس حتى تزكى دون العجلة في ضرب الظاهر من المجتمع فيحرق القديد قبل شوائه ..