السبت، 10 أبريل 2021

ميت يحمل جثته ، ويهرول حيث يموت

 ميت يحمل جثته ، ويهرول حيث يموت ..

 

 وائل الكردي

لم تكن رواية (مكسيم جوركي) (جامعياتي أو مع الفلاحين) رواية من النمط المعتاد في كتابة الروايات .. هي نمط يعتمد فيه الكاتب على سيرته الذاتية ومحض الوقائع اليومية التي تدور حوله وتفاعله اللحظي معها ، فهي بذلك لا تملك الحبكة الدرامية التي تجتذب وجدان وعقل المتلقي وتحدث فيه أثراً ما ، وذلك لأنها تتألف فقط من (شخصية) دون أن يكون فيها (عقدة) مركزة و(حل) ممكن .. فقط حالة سردية للوقائع المتراصة أفقياً لكي تنتهي إلى لا شيء كما بدأت من لا شيء ، فليس هناك ثمة مقدمات منطقية تسوغ نهايتها كما لم يكن هناك ما يسوغ بدايتها . ولذلك لم تشتهر هذه الرواية بين القراء . وما ذاك إلا لأن الإنسان عادة لا يحب الطريق المرسل هكذا إلى ما لا نهاية ، فإن كان هنالك ثمة حقيقة يقترب يقينها من يقين الموت فهي أن قمة الطموح الإنساني أن يصل الإنسان إلى أهداف ونهايات فتلك هي دافعية حركته في هذا الوجود (السعي الأبدي نحو النهايات) ..

وعلى هذا السعي خلد أعمالاً ابداعية كبرى على نطاق القرون الطويلة بما توفر فيها من عناصر البداية والوسط والنهاية ، وأحكمت حبكتها بعقدة وشخصية وحل .. ولذلك لم تقارن عند النقاد روايته (جامعياتي أو مع الفلاحين) بروايته الأخرى (الأم) التي بلغت بشهرتها منصة الصف الأول لروائع الأدب العالمي ، فمن يقرأ رواية (الأم) يجد كل مقومات البناء الدرامي للأحداث والوقائع المسترسلة نحو العمق رأسياً بما يثير في النفس الشوق منذ مطلعها إلى ما ستكون عليه نهايتها .. 

كل هذا يعني أن الذي يمنح القيمة الحقيقية لحياة الإنسان هو أنها سوف تنتهي في يوم ما غير معلوم ، ولأنها سوف تنتهي يركض الإنسان لاهثاً وراء قمم الانجاز والنجاح وإثبات الذات حتى يذكره الناس زمناً طويلاً عقب فنائه .. إنه إذاً (الموت) الذي وصفه البعض بظلم أنه شر يستعاذ منه فإذا به هو الخير الذي يحفز الخيل على الاسراع في الركض كلما اقتربت من خط النهاية .. هو الموت الذي قال عنه فلاسفة النزعة الفردية أنه التجربة الوجودية الخالصة والفريدة من دون التجارب كلها ، فليس الاعتبار أن هناك موت ولكن الاعتبار (أنني أموت) وأن ليس لحي من الأحياء في الكون أن يشاركني في هذه التجربة الوجودية الفردية حيث لا أحد يموت موتي ولا أموت أنا موت أحد .. وكل قيم البطولة والنبل والفداء تصبح كلمات بلا معنى ولا دلالة لو لم يكن لها ارتباط وثيق بقيمة ومعنى الموت بل أن الموت هو صانع هذه الكلمات التي صارت أعلى قيم الانسانية .. ولذلك لم يكن بدعاً أن يؤلف (اللورد ديننج) كتابه العبقري (معالم في تاريخ القانون) ليحكي كله قصص الثبات على المواقف التي حكم على أصحابها بالموت حرقاً أو قطعاً للرأس أمام محاكم التفتيش منذ قرون خلت .

ولعلنا لا نعجب بعد الآن إذا رأينا مجالس اللهو والضحك قد اندلعت داخل مخيمات العزاء بعد دقائق من توسيد الموتى قبورهم المظلمة وأننا كنا نظن أنه لم يعد الموت واعظاً ، ولكن الحقيقة المثيرة للشفقة على حالنا أن هؤلاء الذين يضجون بلهوهم وضحكاتهم ومجادلاتهم تحت ظلال أرواح الموتى إنما هم يعبرون عن هروبهم من فكرة الموت أصلاً كلما سنحت لهم الفرصة بهذا الهروب ، وما ذاك على الأغلب إلا لشعورهم بأنهم لم يفعلوا بشكل كاف بعد الشيء المهم في حياتهم الذي هو رسالتهم الحقيقة ومغذى هذا العمر قصير كان أو طويل تذكرهم به لحظات حثوا التراب على الميت بين أقدامهم ، فعلى أي شيء ينتظرون إذاً النهاية ؟ ولذلك يهربون.، ولكن لا مفر فالرب قال (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) .. فالشاهد في الأمر أن شهادة الانجاز للعمر لا تمنح لدى الناس إلا بعد ختام حياتهم وفلا يصير العظيم عظيماً فيهم بحق إلا حين طي سجله ورفع القلم عنه وجفاف الصحيفة ، فهل ترى كانت حياة صاحبها جديرة بالتخليد ما دامت الدنيا أم أنها غير جديرة .. 

وحتى اولئك الذين أمضوا الحياة مجوناً ولعباً وانتهاكاً للحرمات كانت حجتهم في هذا أنهم أرادوا النهل من ملذات الدنيا قبل زوالها على يد الهادم المفرق ، ولكنهم أخطئوا الطريق وضلوا عن الصواب فالملذات لا تنتهي أبداً ولا تروي النفس الأمارة بالسوء من ظمأ.. لقد حاول (مايكل جاكسون)، وليس من أحد إلا ويعرفه.، أن يحفظ جسده وروحه داخل كبسولة الحياة فلا يموت ، ولكن الرب قال له ولغيره (اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) ولقد مات .. وهكذا النهايات والخواتيم لكل شيء تمنحه قيمته فالكل يريد أن يترك ذاته في الدنيا لعلمه أنه حتماً راحل عنها ، وكلنا كما قال شاعرنا (الفيتوري) ( .. ميت يحمل جثته ويهرول حيث يموت)  .. كذلك الرواية الجيدة تنتهي بحل ما لأجل أن تترك ذاتها تبقى طويلاً .    


الرقابة على المجتمعات الصغيرة

 الرقابة على المجتمعات الصغيرة..

 

 وائل الكردي


(قرى متجاورة متلاصقة، وسكة سلطانية تشق الوطا ولا تهدأ الرجل فيها لا ليلاً ونهاراً. والناس هنا وهناك في خيامهم وعرازيلهم ينطرون كرومهم، ويسهرون على زيتونهم وسفرجلهم وتينهم.. نواطير تروح وتجيئ، تسعل وتتنحنح ليعلم السارق أن الناطور سهران.. وهناك فريق من الشباب يعقدون حلقات السمر على التلال والرجامي..) لأجل هذا دعا هنالك (مارون عبود) ونحن ندعو بدعائه (أن أسرة قد تصير أمة، فلا عكس الله الآية لتصير الأمة أسرة).. فمن الخير أن تنمو المجتمعات الصغيرة فتصير أمماً ولكن ليس من الخير أن تضمحل الأمم الكبرى إلى  مجتمعات صغيرة. 

يظن الكثيرون أن الرقابة هي دور مغلق على الحكومات والدول والمؤسسات التنفيذية وحدها.. ولكنهم لا يعلمون الحق في أن الرقابة على الحقيقة هي دور منوط بأصحاب المصلحة المجتمعية على حكامهم ودولهم، فالرقيب من الناس هم الناس انفسهم على من يسوسون شئونهم ويتولون تكاليف ادارة حياتهم ومعاشهم.. أما القوانين والحكومات والمؤسسات التنفيذية فدورها تنفيذ احكام الرقابة التي أتى بها الرقباء وأخذ الاجراءات اللازمة لضمان الحقوق التي قد يضيعها المسؤولين لفشلهم أو جهلهم أو ضعفهم.

فالمسؤول (الفاشل) الذي ولي أمور الناس هو من لم يعلم كيف يدير مسؤوليته وتعلل بالظروف والأحوال الخارجة دائماً عن إرادته.. والمسؤول (الجاهل) هو من لم يدرك حدود سلطته ومدى صلاحياته ولم يعلم حتى الحد المعقول من القوانين فلا يميز بين ما هو لمنع أو لرفع الضرر وما هو لأجل المنفعة ولا يدرك أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.. والمسؤول (الضعيف) هو من علا صوته في الناس بشديد الكلام تهديداً ووعيداً وهو يخفي بذلك ما الله مبديه من ضعف وقلة حيلة وهوان على نفسه قبل أن يكون على غيره، فيظن واهماً أنه يرهب قلوب الجماهير بالصياح وهو المسكين لا يفطن أنه بذلك يلقى بأوراقه مكشوفة فتفضح ما فيه من نقص على الطاولة ليراها الجميع..

وللأسف ربما أغلب الناس يعتبرون أن الاصلاح الحقيقي يبدأ من الرقابة على الدولة الكبرى ومؤسساتها العامة والخاصة ذات السيطرة.. ولكن قد يبدو الأصوب هو أن الرقابة الفاعلة تبدأ من الكتل الاجتماعية المحدودة والمجتمعات الصغيرة بنحو الجمعيات التعاونية التي تهدف إلى قص أرجل المارد الرأسمالي في أنظمة السوق المحررة، ومثل اتحادات الملاك لشاغلي الأبراج والمجمعات السكنية، ومثل الأندية التي تتجمع فيها أسر وعائلات، ومثل المجمعات التجارية التي تتعدد فيها المحال بأصناف البيع.. فكل هذه وغيرها مما يضم أنماط من البشر متعددون ومختلفون في امزجتهم وعقولهم وأخلاقهم ومضارب نظراتهم للدنيا والحياة قد اجتمعوا طوعاً وبمحض ارادتهم فنشأت بينهم بعد ذلك مصلحة مشتركة بين جدران هذا المجتمع الصغير الذي ضمهم..

فإذا لم يتحقق لدى هؤلاء المعرفة والفهم الكافيين بحقوقهم الأساسية فلن يمكن لهم القيام بدور الرقابة والمحاسبة لأجل مصالحهم في مواجهة لجان مجتمعاتهم الصغيرة التنفيذية، إذ كيف يطالب بالحق من لا يعرفه أصلاً ولا يعرف السبل القانونية والاجرائية لتحصيل هذا الحق ونيله وحمايته.. فأن هذا ما يلزم لجمهور المجتمعات الصغيرة وإلا فسيرون حياتهم تنهار في كل يوم وهم يركنون إلى اداراتهم الفاشلة أو الضعيفة أو الجاهلة وحيث أن فشل المجتمعات الصغيرة هو أصل الفشل للمجتمع الكبير..

فليحذر إذاً اولئك الجمهور من مغبة فرعنة الفرعون بصمتهم على الباطل وتجاوزهم عن الحق بدعوى الصبر، وهو صبر في غير محله يورث الألم للجميع بفعل الفرد منهم ولا يأتي بخير بعده مهما طال.. وليسارعوا أول ما يسارعوا نحو تحصيل الحد الضروري من الثقافة القانونية والإدارية لأجل أن يقفوا صفاً واحدا في الرقابة على من اختاروهم لولاية أمور مجتمعاتهم الصغيرة، وأن لا يتركوا شيئاً من تقصير أو اخلال بالمسؤولية مهما كان ضئيلاً إلا ووقد وقفوا عنده وحاسبوا عليه بحسم، هكذا فقط تستقيم الأمور وينمو العمران ويحافظ المجتمع الكبير على تماسكه ونهضته بتماسك ونهضة المجتمعات الصغيرة فيه..

وحتى على مستوى الأحزاب السياسية للدولة ذات السلطة – إن جاز لنا أن نعتبرها وحدة مجتمعية صغيرة - فإن جمهور الحزب كثيراً – لاسيما في البدان النامية - لا يرون ابدأ أن سادة حزبهم يخطئون، ومهما كان الخطأ بيناً فادحاً ينبرون للدفاع عنهم والتبرير لهم، ذلك حتى يصير الخطأ إلى خطيئة ويزكم فسادهم الانوف ويضرب التعفن باطن كل أمر وظاهره فإنهم أيضاً لا يبتعدون ليصلحوا أنفسهم من الداخل وإنما يتمسكون بمقعد حزبهم في السلطة بدمائهم وارواحهم ويكتفون فقط بتغير الواجهة من سادات حزبهم بواجهة جديدة ولكن يظل الجمر نفسه مشتعلاً تحت الرماد.. ثم لا نعود نتحدث عن الفساد من جديد.. 

وهكذا فإن دور الرقابة والمحاسبة على ضوء الحقوق والواجبات برغم كونه فرض عين على كل من يشغل مكانه في المجتمع الصغير، إلا أنه لو اعذر البعض في عدم قدرتهم على الوفاء به  زاد هذا من التكليف به على فئة من هم قادرون، ولا مناص أمام هذه الفئة من قيادة عجز من عجزوا عن الرقابة والمحاسبة..

إن ما يحدث من توسيد الأمور لغير أهلها أو لأصحاب المصالح الشخصية لهو حتما الخراب المحقق، ولكم ضاعت أمم بكاملها لفشل وجهل وضعف القائمين عليها وصمت وقهر جماهيرها.. فمن يصمت عن الحق في المجتمع الصغير حتما لن يقوى على الجهر به في المجتمع الكبير.. وبأنفسنا فلنبدأ ، ونلتزم. 


 




 





ميت يحمل جثته ، ويهرول حيث يموت

 ميت يحمل جثته ، ويهرول حيث يموت ..

 

 وائل الكردي

لم تكن رواية (مكسيم جوركي) (جامعياتي أو مع الفلاحين) رواية من النمط المعتاد في كتابة الروايات .. هي نمط يعتمد فيه الكاتب على سيرته الذاتية ومحض الوقائع اليومية التي تدور حوله وتفاعله اللحظي معها ، فهي بذلك لا تملك الحبكة الدرامية التي تجتذب وجدان وعقل المتلقي وتحدث فيه أثراً ما ، وذلك لأنها تتألف فقط من (شخصية) دون أن يكون فيها (عقدة) مركزة و(حل) ممكن .. فقط حالة سردية للوقائع المتراصة أفقياً لكي تنتهي إلى لا شيء كما بدأت من لا شيء ، فليس هناك ثمة مقدمات منطقية تسوغ نهايتها كما لم يكن هناك ما يسوغ بدايتها . ولذلك لم تشتهر هذه الرواية بين القراء . وما ذاك إلا لأن الإنسان عادة لا يحب الطريق المرسل هكذا إلى ما لا نهاية ، فإن كان هنالك ثمة حقيقة يقترب يقينها من يقين الموت فهي أن قمة الطموح الإنساني أن يصل الإنسان إلى أهداف ونهايات فتلك هي دافعية حركته في هذا الوجود (السعي الأبدي نحو النهايات) ..

وعلى هذا السعي خلد أعمالاً ابداعية كبرى على نطاق القرون الطويلة بما توفر فيها من عناصر البداية والوسط والنهاية ، وأحكمت حبكتها بعقدة وشخصية وحل .. ولذلك لم تقارن عند النقاد روايته (جامعياتي أو مع الفلاحين) بروايته الأخرى (الأم) التي بلغت بشهرتها منصة الصف الأول لروائع الأدب العالمي ، فمن يقرأ رواية (الأم) يجد كل مقومات البناء الدرامي للأحداث والوقائع المسترسلة نحو العمق رأسياً بما يثير في النفس الشوق منذ مطلعها إلى ما ستكون عليه نهايتها .. 

كل هذا يعني أن الذي يمنح القيمة الحقيقية لحياة الإنسان هو أنها سوف تنتهي في يوم ما غير معلوم ، ولأنها سوف تنتهي يركض الإنسان لاهثاً وراء قمم الانجاز والنجاح وإثبات الذات حتى يذكره الناس زمناً طويلاً عقب فنائه .. إنه إذاً (الموت) الذي وصفه البعض بظلم أنه شر يستعاذ منه فإذا به هو الخير الذي يحفز الخيل على الاسراع في الركض كلما اقتربت من خط النهاية .. هو الموت الذي قال عنه فلاسفة النزعة الفردية أنه التجربة الوجودية الخالصة والفريدة من دون التجارب كلها ، فليس الاعتبار أن هناك موت ولكن الاعتبار (أنني أموت) وأن ليس لحي من الأحياء في الكون أن يشاركني في هذه التجربة الوجودية الفردية حيث لا أحد يموت موتي ولا أموت أنا موت أحد .. وكل قيم البطولة والنبل والفداء تصبح كلمات بلا معنى ولا دلالة لو لم يكن لها ارتباط وثيق بقيمة ومعنى الموت بل أن الموت هو صانع هذه الكلمات التي صارت أعلى قيم الانسانية .. ولذلك لم يكن بدعاً أن يؤلف (اللورد ديننج) كتابه العبقري (معالم في تاريخ القانون) ليحكي كله قصص الثبات على المواقف التي حكم على أصحابها بالموت حرقاً أو قطعاً للرأس أمام محاكم التفتيش منذ قرون خلت .

ولعلنا لا نعجب بعد الآن إذا رأينا مجالس اللهو والضحك قد اندلعت داخل مخيمات العزاء بعد دقائق من توسيد الموتى قبورهم المظلمة وأننا كنا نظن أنه لم يعد الموت واعظاً ، ولكن الحقيقة المثيرة للشفقة على حالنا أن هؤلاء الذين يضجون بلهوهم وضحكاتهم ومجادلاتهم تحت ظلال أرواح الموتى إنما هم يعبرون عن هروبهم من فكرة الموت أصلاً كلما سنحت لهم الفرصة بهذا الهروب ، وما ذاك على الأغلب إلا لشعورهم بأنهم لم يفعلوا بشكل كاف بعد الشيء المهم في حياتهم الذي هو رسالتهم الحقيقة ومغذى هذا العمر قصير كان أو طويل تذكرهم به لحظات حثوا التراب على الميت بين أقدامهم ، فعلى أي شيء ينتظرون إذاً النهاية ؟ ولذلك يهربون .. فالشاهد في الأمر أن شهادة الانجاز للعمر لا تمنح لدى الناس إلا بعد ختام حياتهم وفلا يصير العظيم عظيماً فيهم بحق إلا حين طي سجله ورفع القلم عنه وجفاف الصحيفة ، فهل ترى كانت حياة صاحبها جديرة بالتخليد ما دامت الدنيا أم أنها غير جديرة .. 

وحتى اولئك الذين أمضوا الحياة مجوناً ولعباً وانتهاكاً للحرمات كانت حجتهم في هذا أنهم أرادوا النهل من ملذات الدنيا قبل زوالها على يد الهادم المفرق ، ولكنهم أخطئوا الطريق وضلوا عن الصواب فالملذات لا تنتهي أبداً ولا تروي النفس الأمارة بالسوء من ظمأ .. وهكذا النهايات والخواتيم لكل شيء تمنحه قيمته فالكل يريد أن يترك ذاته في الدنيا لعلمه أنه حتماً راحل عنها ، وكلنا كما قال (مفتاح الفيتوري) ( .. ميت يحمل جثته ويهرول حيث يموت)  .. كذلك الرواية الجيدة تنتهي لأجل أن تترك ذاتها تبقى طويلاً .    


اسس كتابة البحث

 النقاط الأساسية لمحاضرات (اسس كتابة بحث) 

استاذ المادة/  د. وائل أحمد خليل الكردي

١/ منهج البحث هو الطريقة التي يصبح بها أي ظاهرة انسانية أو طبيعية أو ميدان معرفي مجالاً للبحث العلمي.


٢/ اختيار موضوع البحث العلمي يعتمد على تحديد الميل العلمي أو المعرفي لدى الباحث. 


٣/ لكي يكون هناك بحث علمي، لابد أن تكون هناك مشكلة، إما في اثبات علاقة ما أو نفي علاقة ما أو إنشاء علاقة أو توضيح وكشف لمخفي غامض.


٤/ عنوان البحث لابد أن يشتمل على المتغيرات الاساسية التي يدور حولها البحث والاشارة إلى نوع العلاقة بين هذه المتغيرات، وأن يتم صياغة العنوان على هيئة جملة مفيدة كاملة، كما يمكن صياغة عنوان رئيسي وعنوان مساعد شارح. 


٥/ لا يتم اختيار العنوان إلا بعد وضوح الفكرة في ذهن الباحث وتحديد المشكلة البحثية وتكوين الافتراضات عليها وما يميزها عن غيرها من مشكلات البحوث الداخلة في نفس المجال. 


٦/ (موضوع البحث):    موضوع البحث هو ما يحدد مجال التخصص الدقيق في إطار التخصص العام في فرع من فروع النشاط العلمي , ويتضمن عنوان الدارسة واهميتها والعلاقة العامة بين متغيراتهــــا والمقدمة المدخلية للبحث. 


٧/ (مشكلة البحث): تمثل مشكلة البحث الاطار الإجرائي الذى يحدد اتجاه عملية البحث في الموضــــــــوع  المعنى بالدراسة بحيث يكون حل مشكلة البحث هو الإضافة العلمية الجديدة التي تعطيها الدراسة في مجال التخصص العلمي الذى يمثله موضوع البحث وترتبط مشكلة البحث بالافتراضات التي يستند إليها ونوعيه المعلومات والبيانــــــــات والرسائل والعينات والأمثلة والتجارب والاساليب وانواع المناهج العلمية التي يستعان بها في إعداد البحث ويشترط في صياغة البحث ما يلي:-

         اولا:- ان تحدد المشكلة علاقه بين متغيرين او اكثر تمت الاشارة اليهما في عنوان البحث.

         ثانيا:- يجب ان تصاغ المشكلة بوضوح وتوضح في شكل تساؤل حتى يسهل تحديدها.

         ثالثا:- يجب التعبير بدقه عن المشكلة بحيث يتضمن ذلك التعبير إمكانية الاختبار.


٨/ - (فرضيات أو افتراضات البحث):  الفرضية هي تفسيرات مقترحه للعلاقة بين متغيرين او اكثر تطرحها مشكلة البحث , ويسمى احدهما المتغير المستقل وهو السبب ويسمى الاخر المتغير التابع وهو النتيجة. عليه تمـــــــثل الفرضية في ذهن الباحث احتمالا او إمكانيه لحل المشكلة موضوع البحث , لذا تعتبــــــــــــــر الفروض بمثابة إجابات أوليه على مشكلة البحث (الأسئلة) تعمل على توجيه جهود الباحث في جمع المعلومات والبيانات وتحدد الاجراءات والاساليب المناسبة لاختيار الحلول المقترحة وتكشف عن الحاجه الى ابحاث جديدة.

  هذا وتتخذ الفرضية العلمية شكلين اساسين هما:-

  اولا:- صيغة الايجاب بإثبات العلاقة بين المتغيرات سواء كانت هذه العلاقة سالبه أو موجبة

  (فرضيه مباشره)

  ثانيا:- صيغة النفي بعدم إثبات وجود علاقه اصلاً بين المتغيرات (فرضيه صفريه)

وشروط صياغة الفروض الصحيحة:-

أ/ الايجاز والوضوح                     ب/ الشمول والربط

ج/ قابلية الاختبار                        د/  الخلو من التناقض


٩/ (منهج البحث): هو مجموعة القواعد العامة التي تفيد إما اكتشاف الحقيقة في العلم وإما البرهنة عليها.

أ/ المنهج التاريخي (الاستردادي)          ب/ المنهج التجريبي

ج/ منهج دراسة الحالة.                    د/ المنهج الوصفي        هـ/ منهج تحليل المضمون


١٠/  (الدراسات السابقة):   وهو إعطاء احصاء بأهم الدراسات السابقة المباشرة في موضوع البحث ثم الإشارة الموجزة الى النقائص الموجودة في هذه الدراسات بما يفيد ما يلى:-

اولا:- الدقة وتجنب التكرار في معالجة الموضوع..

ثانيا: تمييز ما يمكن ان يعتبر اضافه جديده للبحث استنادا على ما تم بحثه في الدراسات السابقة.


١١/ (مصادر البحث): وهى مجموعه الكتابات او المؤلفات الأصلية والاساس المباشر للمعلومات في مجال البحث المعنى. ويتم كتابة تفاصيل كل مصدر على الترتيب التالي:-

1- اسم ولقب المؤلف                        2- العنوان الكامل للمصدر (الأساسي والفرعي)

3- المترجم (ان وجد)                       4- المحقق (ان وجد)

5- اسم الناشر(دار النشر)                   6- مكان او بلد النشر

7- رقم الطبعة (ان وجدت)                 8- تاريخ النشر

9/ رقم الجزء(ان وجد)



١٢/ (تقسيم البحث):   هو القوالب او الهياكل التي تصب فيها المادة البحثية , وهى إما ان تكون ابواباً عامه (لا تقل عن اثنين ) يتضمن كل منها فصولا تفصيله , او تكون فصولا موسعه (لا تقل عن اثنين) يشتمل كل منها على مباحث داخليه صغيره ومفصله او ان تكون فصولاً محدودة (لا تقل عن ثلاثة) يتألف كل منها من عناوين جانبيه.


١٣/ العناصر الاساسية لخطة البحث: (موضوع البحث، مشكلة البحث، فرضيات البحث، منهج البحث، الدراسات السابقة، مصادر البحث، تقسيم البحث) 


١٤/ (الاقتباس) هو اخذ معلومة معينة بغرض تكوين فكرة أو الاستشهاد والاستدلال أو اثبات فرضية، ويكون الاقتباس (حرفياً) اذا اخذ النص المقتبس بعباراته وكلماته كما هي في مصدرها دون أي تغيير، ويجب ان لا يتجاوز الاقتباس الحرفي للنص حدود الستة أو السبعة اسطر على وجه التقدير. ويكون الاقتباس (غير حرفي) إذا اخذت فقط فكرة النص دون كلماته وعبر عنها الباحث بأسلوبه وصياغته هو، ويكون الاقتباس غير الحرفي للنص عادة للنصوص الطويلة أو الزائدة عن السبعة اسطر. وسواء كان الاقتباس حرفياً للنص أو غير حرفي يجب التوثيق له في هامش او متن البحث. 


١٥/ (التوثيق): هو اسناد اي معلومة تم استخدامها في البحث إلى مصدرها المقتبسة منه – ولا يدخل في التوثيق تحليلا الباحث وآرائه واستدلالاته  الخاصة. ويكون التوثيق على وجه العموم على نفس طريقة تدوين المصادر التي تم ذكرها آنفاً مع ذكر رقم الصفحة أو الصفحات التي فيها النص المقتبس. وهناك مدارس متعددة في طريقة تدوين التوثيق خلال البحث. 


١٦/ (خاتمة البحث): تشتمل على الخلاصة المعرفية العامة للبحث ونتائج البحث الاساسية وكذلك أي توصيات يراها الباحث من وقائع نتائج البحث. 




مازلنا

 مازلنا..


 وائل الكردي


عادة ما كنت أبدأ محاضراتي في الفلسفة بسؤال عن الفارق بين (الوعي الغربي) و(الروح الشرقي).. وكيف أن الغربيون (وعي) وأن الشرقيون (روح).. فكنت أقول – ظناً مني أنها الحقيقة — بأن الغربيون في بلاد اثينا وروما القديمة كانوا ينطلقون في معارفهم من الطبيعة التي حولهم في الارض وفي السماء ولذلك صنعوا لأنفسهم آلهة على نفس هيئة البشر وطبائعهم، يحبون ويكرهون، يتألمون ويفرحون، يتقاتلون ويتسالمون، بل يموتون ويحيون.. تماماً كما هي أحوال البشر، يتصارعون في عليـائهم كما يتصارع البشر في دنياهم.. ولذلك فإن اصحاب هذا الوعي كانت اعينهم منتبه إلى الطبيعة واساطيرهم منسوجة حولها.. فكانوا كلما اكتشفوا حقيقة من حقائق الطبيعة اسقطوا بها واحدة من الأساطير والخرافات واستغنوا عنها بما وجدوه، وهكذا.. حتى بلغت لديهم المعرفة بالعالم مبلغاً من النضج جعلهم يتنازلون عن البحث في كثير من الأمور الروحانية والدينية، وكان شعارهم في ذلك (العلم من أجل العلم) َوليس لأجل الانتفاع والمنفعة حيث كان العالم فيهم يجتهد أن يدرك حقائق الصحراء رغم انها ليس في بلاده منها شيء تماماً كما يجتهد في ادراك حقائق البحار التي تحيط بلاده من كل جانب.. وهكذا جعل الاوربيون القدماء في الغرب (الروح في خدمة الطبيعة)..

أما الشرقيون القدماء، فقد جعلوا (الطبيعة في خدمة الروح) فكانت الروحانية لديهم هي المنطلق والاساس والمنتهى، لذلك لم يلجئوا إلى هذه الطبيعة في شيء من العلم والمعرفة إلا بالقدر الذي يحتاجون إليه في معاشهم وبحسب متطلبات حياتهم فقط، إذ لم يكن لديهم أن العلم من أجل العلم وإنما كان العلم على حسب ما هو متوفر في بيئتهم فأخذوا بعلوم الصحراء وكائناتها وعلوم الفلك بقدر ما يدركون به الطرق والاتجاهات في الخلاء الفسيح ومعرفة الطوالع، كذلك أخذوا بعلوم الهندسة لأجل معابدهم ومقابرهم واراضيهم الزراعية وكفى.. وهكذا لم تكن الطبيعة من هموم الشرقيون وإنما كان همهم في ما وراء الطبيعة، فظلت الأسطورة عندهم حية تنمو ولا تنحسر وظلت الحكايات الخرافية تلعب بعقولهم في كل شؤون حياتهم.

ولعل من قائل يقول مالنا نرى أن الغربيون برغم ماديتهم تطفح آدابهم وفنونهم بالأساطير والخرافات وقصص السحر والحظوظ الفلكية تشاؤماً وتفاؤلاً، فعندهم مثلاً (شكسبير) كبير أدباءهم كثيراً ما يعبر عن أغراضه المسرحية بألوان من الماورئيات  والأساطير، فلم يعد غربياً إذاً أن اصبحت أقاصيص (هاري بوتر) و(The lord of the rings) السحرية والاسطورية من ابرز عيون الأدب الانجليزي المعاصر فيما بعد.. ولكن هذا القائل قد لا يفطن إلى أنهم يبحثون عما هو خارج واقعهم الحي بحكم أن الانسان يرنو دائماً إلى ما ليس في حوزته ويتطلع إلى ما ليس في طبعه، كما انهم يحققون بأشكال متعددة مبدئهم القديم (العلم من أجل العلم).. أما الشرقيون فكانت الروحانية فيهم طبع وسجية وما وراء الطبيعة واقعهم وطريقة حياتهم، فلما ارادوا علماً بالكون والطبيعة طلبوه عند الغربيين فترجموا مؤلفاتهم في عصور متأخرة ثم اضافوا عليها حتى إذا عادت صحوة الغربيين بعد غفوتهم الحضارية استردوا عهدتهم القديمة مطعمة بإبداعات الشرقيين عليها، فأعادوا لأنفسهم سيرتهم الأولى في تطوير البحث العلمي في الطبيعة والكون وبلغوا فيه مبلغاً عظيماً هو ما نراه بين ايدي العالم الان، أما نحن فلم نملك إلا أن نجدد طلبنا القديم لنحصل على ما ينتجون ثم نظل نعيش تحت ظله.. 

مازلنا نحن في شرق العالم  وجنوبه نعتقد في أناس مثلنا اعتقاد المريدين في شيوخهم اعتقاداً جازما ليس فقط ببركتهم بل بقدرتهم على منح غيرهم هذه البركة فصنعنا منهم ابطالاً خارقين مقدسين وقبلنا اياديهم واقتسمنا فضلة وضوئهم ووطئنا بأرجلنا مواضع نعالهم على الرمال حسباناً منا أنهم يفيضون ببركاتهم علينا وإن كانوا في قبور مشيدة وسكنى اضرحة صماء قد جيفوا تحتها.. فعلى غرار حوار بعضاً من جمهور شرقي في رواية (الأمير الأحمر) لمارون عبود (قال واحد منهم : من أين يأكل هذا الحبيس؟ فلا دير يطعمه، ولا وقف ينفق عليه. يقولون أنن مكتفٍ، ما طلب رغيف خبز من أحد.. 

فقالت المرأة: من يدريكم ربما يأتيه غراب برغيف خبز، مثل القديس بولا اول الحبساء. 

فهمهم زوجها وقال إذ رأى غراباً فرداً: اسكتوا قد يكون هذا الغراب يخبي رغيفاً في عبه، فخاف أن نلتقطه أو استحى منا، فما رماه للحبيس، قوموا نذهب) 

والحال عندنا هكذا وربما اشد، فإذا ناقشنا احد في مسألة واختلف مع مشايخنا في الرأي قلنا (وهل انت اعرف واعلم من الشيخ) فيكون ذلك مبلغ حجتنا (أننا لا يمكن أن نعلم علم الشيخ) .. لذلك، عندما تطور الأمور، وجدنا أنفسنا مازلنا نلجأ إلى السحرة والدجالين طمعاً في اتصالهم بالعوالم السفلية مما لا نعلم من مخلوقات الله هناك فبهم تنال الرغائب، برغم كونه شرك فاضح، من نجاح في الدراسة والترقيات الوظيفية وحتى في كسب محبة العشير ولو بكسر قلبه.. مازلنا نعتقد أن كسر المرآة يورث النحس بنفس الدرجة التي نعتقد فيها أن أرواح الموتى تطلبنا في ايام الثالث والسابع والاربعين لكي نفتح لها مأتماً من جديد في كل مرة.. مازلنا نرتكب الخطايا والأثام ونمني النفس بأن هناك دائما (مسيح) جديد سيفدينا بنفسه فيتحمل عنا اوزارنا عند ربنا مهما ارتكبنا من جرائم.. مازلنا عندما ننصب حاكما علينا نصدق احلامنا أن لدى هذا الحاكم عصا موسى السحرية يضرب بها على ظهر البلد فتنشق عن خيرات وكنوز بلمح البصر وأنه إن لم يفعل نعتناه بالفشل وطلبنا بتغييره.. مازلنا لا ننظر إلا تحت ارجلنا فقط ولا نسأل عن أسباب وعلل قد تكون بعيدة عما نحن فيه.. مازلنا لا نحب الاعتراف بأخطائنا وإنما نكابر مهما أقيمت علينا الحجة فنستبدل المنطق والتعقل بعلوا الصوت.. مازلنا نقول (كان أبي) ولا نقل (ها نحن ذا)  ونتمسح في أنسابنا ونسب قبائلنا حتى ولو كنا في هذه الدنيا ضائعين ولم نمدد بسبب إلى أي شيء فوجودنا ورحيلنا عند العالمين سواء..

فبربنا ، كيف لا يستبيح عقولنا من يستغل هذه المعتقدات فينا.. وكيف لا يستبيح ارضنا من لا يرى فينا سوى أننا بكل شبابنا غثاء سيل وزبداً راحلاً بغير معنى.. وكيف لا يستبيح مواردنا من يكيل لنا من صنوف الكلام المعسول وهو يمد يده في جيبنا ليأخذ حقنا في الحياة.. كيف لا يستبيح اموالنا من يستغلون مرض الحسد المتفشي فينا، نحسد حتى الأصلع على نصوع رأسه تحت أشعة الشمس كما نحسد صاحب الشعر الكثيف سيان.. فإلى متى نحسب أننا نحن بكل هذا خير البشر ولا نملك سوى تاريخنا القديم وبعض علوم أمم تقدمتنا..

كلا لن نحقق شيئاً ما لم نتغير.. فالله قد قضى منذ الازل أن ما بقوم لا يتغير ما لم يغيروا هم ما بانفسهم. 


الثلاثاء، 8 ديسمبر 2020


 

اين الثورة؟.. يا صاحب السعادة

 أين الثورة؟.. يا صاحب السعادة


وائل الكردي


اسمع يا سيدي إلى الحوار التالي مع البحر:

(وتدخل أنت من لا باب بين اللحم والعظم

تضيع الخبز والخباز تسخر من

صراخ الرعب واللطم

فأعلى عاصم للطفل كتف أبيه

أعلى عاصم لأبيه كتف أخيه في المنفى

فهل لبن على صوم يرطب حلمة الأم؟)

.. لله درك يا (عبد القادر الكتيابي) في حوارك المكلوم مع بحرنا الأم والوطن المجروح..

وأنت با صاحب السعادة يا من صرت في الأفق تحتل كرسي التكليف لا التشريف، السؤال لك أنت.. أين الثورة؟..

القانون بكل مواده وبنوده الذي قيد به البشر رقابهم وحركاتهم وسكناتهم في المجتمع وأرادوا أن تكون عليه دولتهم لهو خير عظيم وشأن يبلغ احترامه درجة تقرب من حد التقديس، وإننا جميعاً شعب وأفراد لدافعون به ومدافعون عنه.. ولكن القانون كما أنه يجلب العدالة والحقوق إلا أن ميزانه عصي ثقيل لا يمضي بسيفه سريعاً على رقاب من يجب أن تؤخذ منهم الحقوق ولربما ضاعت في طول اجراءاته اطراف من تلك العدالة المنشودة.. إذاً، يا صاحب السعادة، أما كان الأجدر أن تأخذ بأسباب (الشرعية الثورية) في بواكير الثورة وتضرب مواطن الفساد بيد من الجماهير العريضة الواقفة معك ووراءك، وتميط اللثام عن جحور أذيال الدولة العميقة لتخرجهم زمراً إلى أقفاص العدالة الحديدية.. أما كان الأجدر أن تستغل الشرعية الثورية لتمسك بمقاليد المؤسسات الكبيرة المسيطرة على أقوات الشعب وتضعها رهن الإرادة العامة للدولة فتمنع بذلك سياسات اللعب باقتصاد البلاد وطغيان مراكز القوى الاقتصادية الرأسمالية وتهدم دولة السماسرة وتجار الرقيق المالي والعقاري فلم تعد السمسرة استثناءً في مجتمعنا بل عود أعوج عميق الجذور يضرب بأشواكه وجوه شيب وشباب هذا الشعب.. أما أمرك الله أن لا تجعلها دولة بين الأغنياء فتذر عموم الناس ممن تحسبهم أغنياء ولكنهم لا يملكون إلا التعفف ولا يسألون بعضهم إلحافاً.. يقولون في الأمثال (اطرق الحديد وهو ساخن) وعلى قياسها نقول (إنجز العدل سريعأ قبل أن تضع القيود والقوانين) فإن الله قد أمر إن حكمنا بين الناس أن نحكم بالعدل، فالعدل يأتي أولاً ثم القانون، إن سألت (كيف تكون عدالة قبل القانون؟) لقلنا لك أن الأهم في العدالة هو سرعة استيفائها في أقصر وقت ممكن، فكما أن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها فكذلك لا تفيد الحقوق أصحابها بعد موتهم.. وهكذا كانت الشرعية الثورية تخولك تحقيق العدالة قبل وضع القوانين وستجد أثر ذلك فوراً في مرآة الجماهير إن خيراً فخير وإن شراً فسخط وبغض واستياء. إن القوانين إذا ما وضعت أمكن أن يستغل حبالها الطويلة أصحاب الدولة العميقة والفساد القديم تماماً كما تستغلها أنت فلا تفلح حينئذ ثورتك.. لذا كان عليك أن تعمل بالشرعية الثورية قبل الوثيقة الدستورية، وها أنت رضيت أن تدقك المطرقة التي فوق رأسك لتدق أنت بدورك أفراد شعبك تحت قدمك بغير إرادة منك ولا اختيار.. 

لم يخرج الثوار فقط لأجل الخبز والوقود.. لقد خرج الثوار من جميع أبناء البلاد لأجل العدالة وأن العدالة الأولى في القصاص من المجرمين مهما علت مكانتهم فلو كنت قد فعلت لصبروا معك على طوابير الخبز وأزمات الوقود.. ولكن هل فعلت؟.. ولذلك نسألك يا صاحب السعادة (أين الثورة؟).. وكيف لا نسألك يا صاحب السعادة وقد صار القاتل سافك دماء وطنه ومشعل الحروب وجرائم الإبادة وناهب الثروات القومية وصنيعة الطغيان الذي ثار عليه الشعب سيداً عليك وعلينا، ولم يكن له ذلك إلا بقوة ما في يديه من سلاح فتاك عسير الصد أمامه وليس وراء أكمته من شيء بعد لا علم ولا دين ولا قيم.. فما يجري إذا صار المجرم سيداً في قومه وأي ثورة تكون وأي غدٍ مشرق يرتجى.. 

وفي الأمس منذ أعوام خلت، أذكر كيف اشتعل كل الشعب حماساً بمؤيديه للحاكم المخلوع ومعارضيه وحتى من كانوا على الحياد يد بيد وقدم بقدم عندما اعلنت الجنائية الدولية عن اصدار أمر بالقبض عليه لمحاكمته دولياً على جرائم حرب، حينها ثار الشعب كله لكرامة البلاد وأن الرجل فينا إن كان قد أجرم فنحن من نأخذ الحق منه وأننا لا نسمح بمد يد أجنبية داخل البلاد لتأخذ فرداً منها.. لقد فار تنور البلاد ليس دفاعاً عن شخص الحاكم ولكن دفاعاً عن كرامة البلاد، وعلق الناس صور هذا الحاكم الذي صار رمزاً رغم طغيانه وظلمه على كل الدور والميادين والشوارع ونوافذ البيوت والسيارات.. ولكن ما فعله الحاكم وزمرته بعد ذلك كان صدمة للشعب أكبر كثيراً من ازماتهم حينها وأكبر حتى من كل مشاعر الوطنية والكرامة التي تدفقت وقت اصدار حكم الجنائية الدولية فتحول الأمر إلى النقيض تماماً وتعالت أصوات المطالبة للجنائية بأخذه وأخذ كل من له به صلة هو وحزبه الآثم، لقد ضاعت الفرصة ولم تأتي ثانية .. وكذلك كانت نفس الصدمة يعيشها الشعب اليوم حزناً وأسىً على ثورته المهدرة، فلقد فار تنور الشعب حماسة وتفاؤلاً كبيراً بمقدمك الكريم وعلق الناس عليك آمال الخلاص واستعدوا جميعاً للذود عنك وكفايتك المغرضين المتربصين، ولكن ذات خيبة الأمل والإحباط وانطفاء الحماسة المتقدة قد تكرر الآن بما لا يخفى على أحد.. فإن كنت قد عجزت واسقطت آمال شعبك في يديه فافعل كما فعل (جمال عبد الناصر) في مصر بعد نكسة 1967م بأن طلع على شاشات التلفزيون وأعلن اعتزاله وتنحيه تماماً.. وإن كنت ترى نفسك أنك مازلت قادراً فاخرج أيضاً إلى الجماهير عبر الشاشات وأعلن قدرتك تلك على هيئة خطط وبرامج واضحة، فلقد ضرب هذا الوطن بظهره في الجدار الأخير وما بقي له إلا أن يرتد قافلاً فيطيح بكل شيء أو يطاح به .. واعلم يا صاحب السعادة أن الأمر لن يستقيم مطلقاً إلا إذا أعتلى السدة رجال وطنيون مخلصون أنقياء خبراء علماء ولا شبهة عليهم بجرم أو سوء فعال، وأيضاً لم يبلغوا مكانتهم بقوة السلاح أو حتى بصمت الشرفاء اتقاءً لشرهم بل تأتي بهم فقط ارادة الجماهير وموازين العدالة والاستحقاق والشرف.

واعلم كذلك يا صاحب السعادة أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح ولو قصر الزمن.. أو طال.         


كلمة هو قائلها

 



كلمة هو قائلها..


وائل الكردي


(وكمن خرج لاهث الأنفاس من البحر إلى الشاطئ، فيلتفت إلى المياه الرهيبة ، ويتأمل..

هكذا التفتت روحي إلى الوراء وكانت لا تزال لائذة بالفرار..

لكي تحملق في الطريق الذي لم يدع أبداً إنساناً حياً..)

 .. هذه من مقولات (دانتي اليجيري) في (الكوميديا).

لقد وضع الرجل اصبعه على موطن السر الذي أهلك أصحاب (الجحيم).. والسر يكمن في كلمة (الخروج)، فها قد بلغ الضيق  بشعوب هذا الزمان من خلف الضحك الزائف ولحظات الأنس العابرة حداً كادت تبلغ معه القلوب الحناجر.. فالأمراض والوبائيات حفت المجتمعات من كل جانب ووقف العلم الحديث مكتوف الأيدي أمام الملايين الذين تُهدر أرواحهم كل بضع يوم وليلة، بل ولعل اليأس ذهب ببعضهم أن قالوا أن هذا العلم الحديث هو نفسه القاتل وأننا لو كنا نحيا حياة الغاب بين الأشجار والضواري أو كنا نحيا على رمال الصحاري التي لا تصبح نجوم السماء في ليلها سراً يضني البحث عنها عيون الرجال وسط كثافة العمران وتطاول البنيان، لكان هذا خيراً لبني الإنسان..

وليست الأمراض وحدها ما دفع الإنسان المعاصر إلى الضيق بكل شيء حوله وسيادة لغة اليأس، بل لعلها أهون المصائب التي كسبها الانسان لنفسه بيده.. إذ هناك جريمة إبني آدم القديمة تعود من جديد بعد أن نالت حظها من التطور الكبير الذي طال كل شيء وصار البون شاسع بين ما كانت عليه أيام (قابيل) وما صارت إليه في حاضرنا حيث لم يعد فلاناً يقتل فلاناً لكي يسبي ماله وما عنده من شيء وفقط، إنما صارت شعوباً تقتل شعوباً وحكومات تذبح مواطنيها قهراً وظلماً وفرق مرتزقة امتهنت إبادة العشائر والقبائل ومحو آثارها لأجل الذهب وكنوز الأرض، ولم تعد حتى الشعرة تهتز لدى القاتل أو يرتجف منه جفن لحظة اشفاق أو ندم عابرة، ولم نعد نحن نعبأ بمن قتل ومن سيقتل من بعد بقدر ما نعتبرها محض قصص وحكايات.. 

وهناك الأدهى والأمر في مصائب هذا الزمان، (النقود) التي باتت هي السيد في كل شيء وعلى كل شيء وعامل الاعتبار الأوحد في تقدير الناس واحترامهم لبعضهم حتى كادت تكون هي القيمة العليا في الحياة وليس غيرها.. لقد صار الناس في زماننا يعبدون النقود وأوراق البنكنوت دون طقوس أو شعائر حتى اصبحت هي اليد العليا والإنسان هو السفلى لا يملك حيالها إلا السمع والطاعة والرجاء.. ولو أن الحال هكذا فعلاً، فإن الصوفي المقتول كان حكيماً حينما قال (معبودكم تحت قدمي هاتين) فقتلوه لأنهم لم يفهموه وقتها – أو أنهم أرادوا أن لا يفهموه -  أنه يقصد النقود، ولكن الآن ظهرت الحقيقة بجلاء.. كل هذا الضيق جعل أجيال يتدافعون اليوم بوعي أو بغير وعي نحو المخارج، وقد يقتل بعضهم بعضاً في سبيل الوصول إلى عنق الزجاجة وبلوغ الخلاص (فأنا ومن بعدي الطوفان).. وهناك في بلدان الاغتراب حيث السبب الأكبر للترابط والإخاء وتشديد اللحمة، ولكن تبدل المثل الشهير (أنا وابن عمي على الغريب) ليصبح (أنا والغريب على أخي من لحمي ودمي) فلا رحمة ولا شفقة ولا رعاية لحق أبناء الجلدة الواحدة.. ثم غيرهم هنا ممن اعتقدوا أن الخلاص والمخرج في السحر والشعوذة والرجم بالغيب وأن جلب المصالح حلالاً كانت أو حراماً في السعي وراء الوداعين وقراء الطوالع وخطباء العوالم السفلية ومناجاة الشياطين بالزار والكجور ودفن الأعمال الخبيثة في أرحام الموتى.. وآخرين ظنوا أن الخلاص كائن في عوالم الأحلام والأطياف وليسوا بالغيها إلا بالإغراق في المسكرات والمخدرات ومغيبات الحضور في الواقع المادي الأليم .. ومنهم من تشبث بعقائد (الكارما) وقانون الجذب الكوني وعلوم الطاقة الروحانية يحسب أنه بها يملك أقداره بيديه رغماً عن أي إرادة أخرى غير إرادته هو وحده فلا يفشل قط أمام شيء في الحياة أراده وإنما يفشل كل شيء أمامه ودون مشيئته.. ولكنه طول الأمل بلا فائدة ورمال متحركة خائنة لا يحس بها ابن آدم تحت قدمه إلا وهي تسحبه وتغرقه رويداً رويداً إلى حيث لا قرار ولا نهاية، ولكنها لم تملي عليه أن يختار الوقوف عليها بل هو من سعى إليها كسعي الفراشات نحو الضياء ولكنها تهلك تحت نيران الشموع.. كأن ابن آدم لم يدرك يوما أن باب الخلاص يسير وهو مفتوح بيد خالقه منذ بداية الحياة وإلى منتهاها، وأنه ليس في حاجة إلى كل هذا العناء والسقوط كي يجد برهان الخلاص بين يديه مادام البدء والمنتهى (بكلمة) يترك بها الإنسان التعلق بأسباب الكون إلى التعلق برب الكون.. أليس هو الله القائل (إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين ...) فكذلك كان الخلاص أيضاً كلمة هو قائلها (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ...) فهذا هو الناموس الكوني الوحيد للخلاص قبل الموت ولكي يظل الانسان هو الأعلى دوماً فوق مآسي الحياة.. هكذا بمنتهى البساطة.