كلمة هو قائلها..
وائل الكردي
(وكمن خرج لاهث الأنفاس من البحر إلى الشاطئ، فيلتفت إلى المياه الرهيبة ، ويتأمل..
هكذا التفتت روحي إلى الوراء وكانت لا تزال لائذة بالفرار..
لكي تحملق في الطريق الذي لم يدع أبداً إنساناً حياً..)
.. هذه من مقولات (دانتي اليجيري) في (الكوميديا).
لقد وضع الرجل اصبعه على موطن السر الذي أهلك أصحاب (الجحيم).. والسر يكمن في كلمة (الخروج)، فها قد بلغ الضيق بشعوب هذا الزمان من خلف الضحك الزائف ولحظات الأنس العابرة حداً كادت تبلغ معه القلوب الحناجر.. فالأمراض والوبائيات حفت المجتمعات من كل جانب ووقف العلم الحديث مكتوف الأيدي أمام الملايين الذين تُهدر أرواحهم كل بضع يوم وليلة، بل ولعل اليأس ذهب ببعضهم أن قالوا أن هذا العلم الحديث هو نفسه القاتل وأننا لو كنا نحيا حياة الغاب بين الأشجار والضواري أو كنا نحيا على رمال الصحاري التي لا تصبح نجوم السماء في ليلها سراً يضني البحث عنها عيون الرجال وسط كثافة العمران وتطاول البنيان، لكان هذا خيراً لبني الإنسان..
وليست الأمراض وحدها ما دفع الإنسان المعاصر إلى الضيق بكل شيء حوله وسيادة لغة اليأس، بل لعلها أهون المصائب التي كسبها الانسان لنفسه بيده.. إذ هناك جريمة إبني آدم القديمة تعود من جديد بعد أن نالت حظها من التطور الكبير الذي طال كل شيء وصار البون شاسع بين ما كانت عليه أيام (قابيل) وما صارت إليه في حاضرنا حيث لم يعد فلاناً يقتل فلاناً لكي يسبي ماله وما عنده من شيء وفقط، إنما صارت شعوباً تقتل شعوباً وحكومات تذبح مواطنيها قهراً وظلماً وفرق مرتزقة امتهنت إبادة العشائر والقبائل ومحو آثارها لأجل الذهب وكنوز الأرض، ولم تعد حتى الشعرة تهتز لدى القاتل أو يرتجف منه جفن لحظة اشفاق أو ندم عابرة، ولم نعد نحن نعبأ بمن قتل ومن سيقتل من بعد بقدر ما نعتبرها محض قصص وحكايات..
وهناك الأدهى والأمر في مصائب هذا الزمان، (النقود) التي باتت هي السيد في كل شيء وعلى كل شيء وعامل الاعتبار الأوحد في تقدير الناس واحترامهم لبعضهم حتى كادت تكون هي القيمة العليا في الحياة وليس غيرها.. لقد صار الناس في زماننا يعبدون النقود وأوراق البنكنوت دون طقوس أو شعائر حتى اصبحت هي اليد العليا والإنسان هو السفلى لا يملك حيالها إلا السمع والطاعة والرجاء.. ولو أن الحال هكذا فعلاً، فإن الصوفي المقتول كان حكيماً حينما قال (معبودكم تحت قدمي هاتين) فقتلوه لأنهم لم يفهموه وقتها – أو أنهم أرادوا أن لا يفهموه - أنه يقصد النقود، ولكن الآن ظهرت الحقيقة بجلاء.. كل هذا الضيق جعل أجيال يتدافعون اليوم بوعي أو بغير وعي نحو المخارج، وقد يقتل بعضهم بعضاً في سبيل الوصول إلى عنق الزجاجة وبلوغ الخلاص (فأنا ومن بعدي الطوفان).. وهناك في بلدان الاغتراب حيث السبب الأكبر للترابط والإخاء وتشديد اللحمة، ولكن تبدل المثل الشهير (أنا وابن عمي على الغريب) ليصبح (أنا والغريب على أخي من لحمي ودمي) فلا رحمة ولا شفقة ولا رعاية لحق أبناء الجلدة الواحدة.. ثم غيرهم هنا ممن اعتقدوا أن الخلاص والمخرج في السحر والشعوذة والرجم بالغيب وأن جلب المصالح حلالاً كانت أو حراماً في السعي وراء الوداعين وقراء الطوالع وخطباء العوالم السفلية ومناجاة الشياطين بالزار والكجور ودفن الأعمال الخبيثة في أرحام الموتى.. وآخرين ظنوا أن الخلاص كائن في عوالم الأحلام والأطياف وليسوا بالغيها إلا بالإغراق في المسكرات والمخدرات ومغيبات الحضور في الواقع المادي الأليم .. ومنهم من تشبث بعقائد (الكارما) وقانون الجذب الكوني وعلوم الطاقة الروحانية يحسب أنه بها يملك أقداره بيديه رغماً عن أي إرادة أخرى غير إرادته هو وحده فلا يفشل قط أمام شيء في الحياة أراده وإنما يفشل كل شيء أمامه ودون مشيئته.. ولكنه طول الأمل بلا فائدة ورمال متحركة خائنة لا يحس بها ابن آدم تحت قدمه إلا وهي تسحبه وتغرقه رويداً رويداً إلى حيث لا قرار ولا نهاية، ولكنها لم تملي عليه أن يختار الوقوف عليها بل هو من سعى إليها كسعي الفراشات نحو الضياء ولكنها تهلك تحت نيران الشموع.. كأن ابن آدم لم يدرك يوما أن باب الخلاص يسير وهو مفتوح بيد خالقه منذ بداية الحياة وإلى منتهاها، وأنه ليس في حاجة إلى كل هذا العناء والسقوط كي يجد برهان الخلاص بين يديه مادام البدء والمنتهى (بكلمة) يترك بها الإنسان التعلق بأسباب الكون إلى التعلق برب الكون.. أليس هو الله القائل (إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين ...) فكذلك كان الخلاص أيضاً كلمة هو قائلها (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ...) فهذا هو الناموس الكوني الوحيد للخلاص قبل الموت ولكي يظل الانسان هو الأعلى دوماً فوق مآسي الحياة.. هكذا بمنتهى البساطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق