أين الثورة؟.. يا صاحب السعادة
وائل الكردي
اسمع يا سيدي إلى الحوار التالي مع البحر:
(وتدخل أنت من لا باب بين اللحم والعظم
تضيع الخبز والخباز تسخر من
صراخ الرعب واللطم
فأعلى عاصم للطفل كتف أبيه
أعلى عاصم لأبيه كتف أخيه في المنفى
فهل لبن على صوم يرطب حلمة الأم؟)
.. لله درك يا (عبد القادر الكتيابي) في حوارك المكلوم مع بحرنا الأم والوطن المجروح..
وأنت با صاحب السعادة يا من صرت في الأفق تحتل كرسي التكليف لا التشريف، السؤال لك أنت.. أين الثورة؟..
القانون بكل مواده وبنوده الذي قيد به البشر رقابهم وحركاتهم وسكناتهم في المجتمع وأرادوا أن تكون عليه دولتهم لهو خير عظيم وشأن يبلغ احترامه درجة تقرب من حد التقديس، وإننا جميعاً شعب وأفراد لدافعون به ومدافعون عنه.. ولكن القانون كما أنه يجلب العدالة والحقوق إلا أن ميزانه عصي ثقيل لا يمضي بسيفه سريعاً على رقاب من يجب أن تؤخذ منهم الحقوق ولربما ضاعت في طول اجراءاته اطراف من تلك العدالة المنشودة.. إذاً، يا صاحب السعادة، أما كان الأجدر أن تأخذ بأسباب (الشرعية الثورية) في بواكير الثورة وتضرب مواطن الفساد بيد من الجماهير العريضة الواقفة معك ووراءك، وتميط اللثام عن جحور أذيال الدولة العميقة لتخرجهم زمراً إلى أقفاص العدالة الحديدية.. أما كان الأجدر أن تستغل الشرعية الثورية لتمسك بمقاليد المؤسسات الكبيرة المسيطرة على أقوات الشعب وتضعها رهن الإرادة العامة للدولة فتمنع بذلك سياسات اللعب باقتصاد البلاد وطغيان مراكز القوى الاقتصادية الرأسمالية وتهدم دولة السماسرة وتجار الرقيق المالي والعقاري فلم تعد السمسرة استثناءً في مجتمعنا بل عود أعوج عميق الجذور يضرب بأشواكه وجوه شيب وشباب هذا الشعب.. أما أمرك الله أن لا تجعلها دولة بين الأغنياء فتذر عموم الناس ممن تحسبهم أغنياء ولكنهم لا يملكون إلا التعفف ولا يسألون بعضهم إلحافاً.. يقولون في الأمثال (اطرق الحديد وهو ساخن) وعلى قياسها نقول (إنجز العدل سريعأ قبل أن تضع القيود والقوانين) فإن الله قد أمر إن حكمنا بين الناس أن نحكم بالعدل، فالعدل يأتي أولاً ثم القانون، إن سألت (كيف تكون عدالة قبل القانون؟) لقلنا لك أن الأهم في العدالة هو سرعة استيفائها في أقصر وقت ممكن، فكما أن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها فكذلك لا تفيد الحقوق أصحابها بعد موتهم.. وهكذا كانت الشرعية الثورية تخولك تحقيق العدالة قبل وضع القوانين وستجد أثر ذلك فوراً في مرآة الجماهير إن خيراً فخير وإن شراً فسخط وبغض واستياء. إن القوانين إذا ما وضعت أمكن أن يستغل حبالها الطويلة أصحاب الدولة العميقة والفساد القديم تماماً كما تستغلها أنت فلا تفلح حينئذ ثورتك.. لذا كان عليك أن تعمل بالشرعية الثورية قبل الوثيقة الدستورية، وها أنت رضيت أن تدقك المطرقة التي فوق رأسك لتدق أنت بدورك أفراد شعبك تحت قدمك بغير إرادة منك ولا اختيار..
لم يخرج الثوار فقط لأجل الخبز والوقود.. لقد خرج الثوار من جميع أبناء البلاد لأجل العدالة وأن العدالة الأولى في القصاص من المجرمين مهما علت مكانتهم فلو كنت قد فعلت لصبروا معك على طوابير الخبز وأزمات الوقود.. ولكن هل فعلت؟.. ولذلك نسألك يا صاحب السعادة (أين الثورة؟).. وكيف لا نسألك يا صاحب السعادة وقد صار القاتل سافك دماء وطنه ومشعل الحروب وجرائم الإبادة وناهب الثروات القومية وصنيعة الطغيان الذي ثار عليه الشعب سيداً عليك وعلينا، ولم يكن له ذلك إلا بقوة ما في يديه من سلاح فتاك عسير الصد أمامه وليس وراء أكمته من شيء بعد لا علم ولا دين ولا قيم.. فما يجري إذا صار المجرم سيداً في قومه وأي ثورة تكون وأي غدٍ مشرق يرتجى..
وفي الأمس منذ أعوام خلت، أذكر كيف اشتعل كل الشعب حماساً بمؤيديه للحاكم المخلوع ومعارضيه وحتى من كانوا على الحياد يد بيد وقدم بقدم عندما اعلنت الجنائية الدولية عن اصدار أمر بالقبض عليه لمحاكمته دولياً على جرائم حرب، حينها ثار الشعب كله لكرامة البلاد وأن الرجل فينا إن كان قد أجرم فنحن من نأخذ الحق منه وأننا لا نسمح بمد يد أجنبية داخل البلاد لتأخذ فرداً منها.. لقد فار تنور البلاد ليس دفاعاً عن شخص الحاكم ولكن دفاعاً عن كرامة البلاد، وعلق الناس صور هذا الحاكم الذي صار رمزاً رغم طغيانه وظلمه على كل الدور والميادين والشوارع ونوافذ البيوت والسيارات.. ولكن ما فعله الحاكم وزمرته بعد ذلك كان صدمة للشعب أكبر كثيراً من ازماتهم حينها وأكبر حتى من كل مشاعر الوطنية والكرامة التي تدفقت وقت اصدار حكم الجنائية الدولية فتحول الأمر إلى النقيض تماماً وتعالت أصوات المطالبة للجنائية بأخذه وأخذ كل من له به صلة هو وحزبه الآثم، لقد ضاعت الفرصة ولم تأتي ثانية .. وكذلك كانت نفس الصدمة يعيشها الشعب اليوم حزناً وأسىً على ثورته المهدرة، فلقد فار تنور الشعب حماسة وتفاؤلاً كبيراً بمقدمك الكريم وعلق الناس عليك آمال الخلاص واستعدوا جميعاً للذود عنك وكفايتك المغرضين المتربصين، ولكن ذات خيبة الأمل والإحباط وانطفاء الحماسة المتقدة قد تكرر الآن بما لا يخفى على أحد.. فإن كنت قد عجزت واسقطت آمال شعبك في يديه فافعل كما فعل (جمال عبد الناصر) في مصر بعد نكسة 1967م بأن طلع على شاشات التلفزيون وأعلن اعتزاله وتنحيه تماماً.. وإن كنت ترى نفسك أنك مازلت قادراً فاخرج أيضاً إلى الجماهير عبر الشاشات وأعلن قدرتك تلك على هيئة خطط وبرامج واضحة، فلقد ضرب هذا الوطن بظهره في الجدار الأخير وما بقي له إلا أن يرتد قافلاً فيطيح بكل شيء أو يطاح به .. واعلم يا صاحب السعادة أن الأمر لن يستقيم مطلقاً إلا إذا أعتلى السدة رجال وطنيون مخلصون أنقياء خبراء علماء ولا شبهة عليهم بجرم أو سوء فعال، وأيضاً لم يبلغوا مكانتهم بقوة السلاح أو حتى بصمت الشرفاء اتقاءً لشرهم بل تأتي بهم فقط ارادة الجماهير وموازين العدالة والاستحقاق والشرف.
واعلم كذلك يا صاحب السعادة أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح ولو قصر الزمن.. أو طال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق