الثلاثاء، 5 مايو 2020

صكوك التوبة ..


صكوك التوبة ..

 وائل أحمد خليل الكردي

هل كان (صك الغفران) ممنوحاً فقط في العالم المسيحي زمان العصور الوسطى بأوروبا؟ .. هل أعاد التاريخ نفسه في زماننا فمنحنا بدورنا صكوك غفران جديدة باسم دين الإسلام؟..
(لويس عوض) ناقد مبدع ومحلل للأدب اكثر ابداعاً .. في تدوينه لهوامش على (رسالة الغفران) لمؤلفها (أبي العلاء المعري) عثر في ثناياها على مقولة (صكوك التوبة) التي تم استحداثها في تاريخ الفكر الإسلامي في عهد الفاطميين .. ففي الوقت الذي كان فيه رجال الدين المسيحي الكاثوليك يمنحون التوبة لعوام الناس عن ذنوبهم بصكوك الغفران بعد أن يقدم الشخص المذنب اعترافاً بكل ذنوبه علناً أمام كاهن الاعتراف في الكنيسة، كانت هناك واحدة من البدع الكثيرة التي استحدثها الفاطميون في العالم الإسلامي تسمى (صكوك التوبة) .. وربما كان ذلك نتيجة لاحتكاكهم بالعالم المسيحي قبل مجيئهم إلى مصر، فبهذا قد عرف العالم الإسلامي في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي ما كان قد عرفه العالم المسيحي في تلك الفترة وما قبلها .. وهذا ما تحدث عنه (المعري) في (رسالة الغفران) بسرده لحكاية (إبن القارح) الذي حمل صك للتوبة منحه إياه قاضي القضاة، ثم يضيع منه في الدار الآخرة فيسبب له ذلك متاعب كثيرة، حيث أن الانسان يدخل الجنة لديهم بصك يصدره في الدنيا قاضي القضاة. وهكذا كان (بن القارح) عند (المعري) يريد أن يدخل الجنة على طريقة مسيحيي أوروبا في العصور الوسطى يعطيهم البابا صكوكاً يدخلون بها الجنة ..
وهكذا تثبت الآداب الخالدة نفسها كشاهد على التاريخ الإنساني كله، وتثبت أيضاً أن التاريخ يعيد نفسه من جديد في كل عصر .. فقد أعادت جماعات باسم دين لإسلام في زماننا هذا بفعل السياسة ما كان من بدعة (صكوك التوبة) في عهد الفاطميين القديم ولكن على ثوب جديد معاصر .. فلقد ظلوا يقذفون في روع اتباعهم أن هنالك درجة في التدين أعلى من الدرجة العادية يحصلها فقط من انتمي لحزبهم، فهم الأعلون  أصحاب اليد العليا وبقية الناس هم اليد السفلى .. ولذلك وزعوا المناصب والوظائف وثروات البلاد احتكاراً بين أنفسهم كأنما هي حق خالص لهم، فكانت النتيجة أنهم مهما أفسدوا في الأرض وأياً كان ما اجرموا في حق العباد كانوا يمنحون صكوكاً خفية من رأس تنظيمهم بغفران ذنوبهم وبميلاد جديد لهم في كل مرة وكأنهم صفحة بيضاء لم ينقش عليها إثم قط من قبل .. ولكن صكوك الغفران في هذا العهد جاءت على تطور جديد، فلم تكن فقط بمحو الذنوب والاَثام وإنما فوق ذلك بمنح مكافأة مجزية بأن يرفع من منصبه الذي كان فيه وحكم بظلم ويوضع في منصب جديد أكبر وأعظم شأناً فانطبق عليهم تماماً قول رسولنا العظيم (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)  ..  مثال ذلك الذي اختلس المال العام وهو من رجال القضاء فمنحوه صك توبة ومعه مكافأة بان توجوه عضواً كبيراً بهيئة التدريس بإحدى الجامعات العريقة ثم ولوه فيها مناصب حتى إذا ما بلغ ذروة عالية ولغ بجرم أيضأ في مالها العام ،فمنحوه صكاً آخر للتوبة وفتحوا له الباب ليجد فرصة مثالية خارج البلاد .. ومثال آخر لرجل فقط بحظوة قرابته للرئيس وبانتمائة لحزب المتاجرين باسم الاسلام وهو على غير شيء من كفاءة تذكر اعتلى منصب وزير الداخلية فانهار على يدية بنيان كبير مهم نتيجة الغش الكبير في المواصفات، فلم يراعي أولي الأمر أن ماذا لو كان قد ازهقت روح مئات الأبرياء تحت انقاضه ولكنهم بدلاً من ذلك منحوه صك توبة ومكافأة عظمى بأن نصبوه وزيراً للدفاع ليبني فيها عشرات المباني الفارهة بإنفاق مال لا حصر له مفروض فيه أنه مخصص في الأساس لدعم القوات المسلحة واكنه اهدره بظلم في حفنة طوب واسمنت، ويعلم الله متى ستنهار تلك المباني .. وأيضاً مثال ثالث لرجال ذهبوا خلف الرجال بجلباب أبيض إلى ساحات القتال وعادوا بذات الجلباب الأبيض دون أثر لغبار عليه فمنحوا الارضي والعطايا والثروات بصك توبة أسمه (شهادة عمليات) بينما كان نصيب من كان في مقدمة الرجال واستشهد صادقاً (عرس شهيد) يضحكون به على أنفسهم وعلى ذويه وأهله ظناً منهم أن ذلك يكمم الأفواه ويزيل غصة القلب المحروق .. ومثال رابع وخامس وسادس وسابع ، وقائمة طويلة بطول سنوات الظلم والالم الثلاثون ..
ان أعظم فساد للإنسان عندما يضع لنفسه مرتبة قدسية وينصب منها ظلاَ لله في الأرض، وتعالى الله أن يجعل من خلقة أحداً ظلاَ له في الأرض .. جماعات التكفير والهجرة فعلوا ذلك، وجماعة القاعدة الإسلامية فعلوا ذلك، وجماعة داعش فعلوا ذلك ، وفعله جماعة الإسلام السياسي عندما حكموا .. فأي عبث بالدين هذا ..
إن الشاهد في كل هذا، اننا نحن الشعوب من سمحنا للطاغية أن يكون طاغيًة، ونحن من سمحنا للفرعون أن يكون فرعوناً ، مادام فينا لم يزل يقدس بشراً مثله ويمنحه السيادة عليه لمجرد أنه سليل شيخ على طريقته أو عالم مسموم لحمه .. لقد ظل الكثيرون منا يمجدون أولئك الناطقين باسمه كذبا ولم يسمعوا إلى قول الله تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) ..فهل بعد ذلك سنعيد التاريخ المظلم فينا بتكرار أخطاء الماضي وجهالاته عندما تلوح أمامنا صناديق الاقتراع في يوم قريب ويكون الواجب أن نختار من نوليه علينا أميراً ..أما آن اليوم أن نسقط كل من رهن دين الله لمصلحته فجعل نفسه مفوضاً بالحق الالهي في الأرض وكذلك كل من أدعى أن له حق تاريخي مقدس في سيادة البلاد وحكمها من دون الناس والشعب..
لقد تهكم (المعري) في رسالته قديماً من توبة هؤلاء  الذين منحوا صكوك التوبة الزائفة،  فلا هي توبة من القلب تلازم صاحبها فتدخله الجنة بإذن الله، ولا هي ورقة تشفع لصاحبها في الدنيا عندما تقوم علبهم ثورة الشعب .

(بينة الخبير) في عمران البلدان ..

(بينة الخبير) .. في عمران البلدان

           وائل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كانت طوابير العملاء في السوبرماركت دائماً ما يكدسون مئات المشتروات على الطاولة امامه وكل يريد حسم حسابه على عجل ليمضي، وكان هو يجري كل عمليات الضرب والجمع والطرح المطولة والصعبة بقلمه الرصاص المجرد دون خطأ واحد في الحساب لكل شخص ورغم كثرة الزبائن وكثرة طلباتهم، فلقد كان عاشقاً لحركة البيع والشراء الحية مع الجمهور بشتى امزجتهم وطبائعهم حتى حذقها تماماً، ولهذا فبمجرد أن تخرج في كلية التجارة قسم المحاسبة اغرق نفسه في مجتمع المهنة دون التفات إلى اناس اخرين من اقرانه استهوتهم الشهادات العليا فوق درجة البكالوريوس فاغرقوا انفسهم أيضا في حياة البحث الاكاديمي حتى شاب منهم الشعر فصاروا اساتذة كبارا في علم المحاسبة بالجامعات، ولكن احدهم  لو أنه جلس يوما خلف طاولة البيع والشراء في سوبرماركت لعجز عن حساب طوابير الزبائن سريعاً إلا أن يؤدي ذلك بالآلة الحاسبة لا محالة نفس ما كان يؤديه ذاك بقلمه الرصاص .. فكلاهما اذن عالم، ونفهم خطأ إذا ظننا أن العلماء هم فقط استاذة الجامعات، وإنما العالم هو كل من فهم بعمق حقيقة ما يعمل وأداره بمهارة وابدع فيه ..
وعطفاً على ذلك، فأن تأذن المحكمة في قضية ما بسماع تقرير خبير فني متخصص مكلف به منها على شروط قانون الاثبات، بحيث تكون خبرته هذه هي حجية السماع لشهادته، فتلك هي بينة الخبير .. فالخبير هو شخص ذو دراية عالية بموضوع فني أو علمي أو عملي، ويستعان به في القضاء لأمور تدخل في اختصاصه، ولا يجوز للخبير أن يتجاوز المهمة المعهود له بها، ويشترط فيه أن يكون إنسانياً واجتماعياً.
في بلادنا النامية، مازالت تبهر اﻷلقاب العلمية والرتب الأكاديمية أعين العامة كفلاشات الكاميرات البراقة وأفيشات اللافتات الباهرة في المسارح والسينمات .. ولكن الذهب رغم نفاسته يستحيل أكله ..
قضت القاعدة الذهبية للقبول في اﻷرض أن يكون اسم الرجل أعظم عند الناس من أي ألقاب أو شهادات، وأن يكون انتاجه فيهم وقوله وعمله بينهم هو الحكم الصحيح عليه .. إذ هناك من يستترون بضعفهم وراء سلطة اﻷلقاب يجعلونها بوابتهم الوحيدة لكسب الاحترام، فتكون الألقاب لهم كقشة النجاة هي تحملهم بدلاً من أن يحملوها هم، وسرعان ما تنكسر القشة فإذا هم بكسرها مغرقون، فالزيف الكاذب يفضحه قصر اﻷمد، وهؤلاء قد رغمت أنوفهم والتصقت أياديهم بالتراب وبصق التاريخ على جباههم ..
وبعيداً عن هؤلاء، كان هناك دائماً الصادقون المفكرون المثقفون الحاذقون لعلومهم وفنونهم وأخذوا علي هذا ألقابهم ومراتبهم بحق وشرف، فصارت هي تبعاً ﻷسمائهم وليس هم التابعين لها .. هؤلاء تحتاج إليهم منصات الشرح العلمي والمحاضرات اﻷكاديمية وساحات الجامعات وقاعاتها، وتحتاج إليهم مراكز التدريب ومعاهد البحث العلمي .. ولكن إذا كان الحديث عن حاجة المجتمع العام وأوساطه البسيطة والمركبة وأزماته الحيوية المعتادة فإن الله تعالى قد قال (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) فمن يعلمون هؤلاء ليس شرطاً لازماً فيهم حيازة الشهادات بل حيازة الخبرة باعتبار أن الحال هنا يستوجب سلطة أخرى غير سلطة الألقاب العلمية والرتب اﻷكاديمية ، يستوجب سلطة الثقافة المجتمعية والكفاءة المهنية .. إذن، فعمران البلدان النامية يتطلب أن يكون في قمة هرم الحكومة فقط منصة الوزراء وليس فوقها مجالس للسيادة، فرئاسة الدولة هي رئاسة مجلس الوزراء .. ثم أن لا تتألف حكومة الوزراء هذه من ذوي اﻷلقاب العلمية وحملة الرتب اﻷكاديمية سواء حملوها بحقها أو كذب، فهؤلاء العلماء دورهم أن يخرجوا المهنيين ثم على المهنيين أن يديروا المجتمع، وليمكث العلماء في جامعاتهم ومعاهدهم .. فالأفضل للحكومة أن تتألف من خبراء هم (مهنيين - مثقفين) .. وأطرق على ذلك مرة أخرى (مهنيين - مثقفين) .. فلو أننا أتينا ربما بأعظم حامل للقب علمي في مجال معين قد غرق جل عمره في خط تخصصه الدقيق وكان لزماً عليه توفير غالب وقته وجهده وخبرته في التزام هذا الخط من أجل بلوغ أعلى درجات العلم فيه، فلن تكون لديه فرصة واسعة لعجن خبرته بثقافة معيشية غزيرة لعمق المجتمعات المحلية وسريان الحال فيها شعوباً وقبائل، وبالتالي فإنه على اﻷرجح لن ينجح في إدارة اقتصاد هذا البلد النامي وإدارة اﻷزمة فيه بوعي كلي يستصحب في إدارتها كل العناصر الدقيقة في بناء المجتمعات المحلية التي لم يكن ليتاح له التعرف عليها واستخدامها لو لم يكن مهنياً ذو خبرة عملية معيشية قد يفتقدها كثير ممن أغلقوا على أنفسهم  جدران المؤسسات الأكاديمية الصرف، ولو لم يكن كذلك ذو ثقافة حرة تمكنه من رؤية المشكلات بكل جوانبها الخفية وكل ما يتعلق بها من مجالات أخرى أو من عناصر قد تبدو ﻷول وهلة غير وثيقة الصلة بها، ولكن هذا لا يمنع أن يكون الأكاديمي هو نفسه المهني المثقف في بعض الحالات إذا أراد هو لنفسه أن يكون كذلك. قس على ذلك كل الخطط الاستراتيجية والخطب التنويرية المجدية لمهام الوزارات المختلفة في مجالات العمل الاقتصادي الاجتماعي والسياسي والزراعي والعدلي والتجاري والاعلامي والرياضي، هنا يكون صاحب الخبرة المهنية الثقافية هو المطلوب الحقيقي للموقع التنفيذي المعين .. وحيث أن القاعدة الذهبية تقول (لا يكفي الفهم العلمي الدقيق للمشكلات من أجل حلها بلا معايشة لواقعها، ولا يجدي معرفة طبيعة اﻷشياء واﻷفعال واﻷقوال بغير فهم للمجتمعات التي تكون فيها) .. هكذا وعندما لا نرى فراغاً بين المعرفة والواقع يظهر أمامنا خير الكتاب، وخير الكتاب من كان حراً في بناء خبرته، تماماً كما (العقاد) و(محمد أبو القاسم حاج حمد) و(ونستون تشرشل) و(باولو كويلو) و(وعبد القادر دقاش) و(بيل جيتس) و(توماس أديسون) وكثيرون في هذه القائمة من الخبراء المثقفون الذين أثروا مجتمعاتهم وغيروها ومنهم من أصبح بكفاءته هو محل الدراسة ومادتها عند طالبي الشهادات العلمية العليا والترقي في الرتب اﻷكاديمية. وكل هذا لا يقدح في أصحاب الألقاب والمراتب وإنما يضع لكل مقام مقال ..   فإذا كان المقام اﻵن في بلادنا مقام الثورة والتغيير والانتشال من هوة الفقر والضياع، فإن قسماً كبيراً من نجاحها يعتمد على اختيار المهني المثقف المناسب في كل مجال بحيث يكون العقد الناظم من وزراء السلطة التنفيذية يتمايزون في تخصصاتهم ولكنهم يشتركون في ثقافتهم المجتمعية.       

الثلاثاء، 17 مارس 2020











ديار (هاديس)

ديار (هاديس) ..
 وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

هل (كورونا) وباء طبيعي؟ .. لماذا كان الاهتمام الشائع لدى وسائط اﻷخبار أكثر الشيء عن نسبة انتشار هذا الوباء وكيفية الوقاية منه وتدابير الاحاطة به والتعامل مع المصابين، وضربوا صفحاً عن مصادر المرض نفسه إلا بأسباب ضيقة ومباشرة مثل التغذي على بعض الحيوانات التي لا يجب أن تغذي عليها الانسان؟ ولكن هذا لم يرد على السؤال، فالصينيون يأكلون هذه اﻷطعمة الغريبة وغيرها منذ أزمان بعيدة ولم تضرب فيهم اﻷوبئة مثلما ضربتهم (كورونا) في عامنا هذا ٢٠٢٠م ..
لقد ألف (آرثر لفجوي) كتاباً أسماه (سلسلة الوجود الكبرى) روج فيه لفكرة تزامن العوالم لدى بعض فلاسفة عصر النهضة في أوروبا حيث قالوا بأن العالم اﻷخروي (اﻵخرة) موجودة في نفس مكان وزمان هذا الكون الذي نعيش فيه حياتنا الدنيوية، وليس أن اﻵخرة تبدأ بعد أن تنتهي الدنيا بيوم القيامة، وأن الانتقال من الدنيا إلى اﻵخرة هو انتقال مرتبة وليس انتقال مكان وزمان، وأن ليس في اﻹمكان خلق كون جديد ابدع مما كان .. ومن هنا تبدأ الحكاية اﻷليمة.
لو رجعنا إلى الوراء لبضعة أعوام، وبالتحديد عند صدور رواية (الجحيم) لمؤلفها (دان براون) إذ لربما وجدنا فيها بعض مفاتيح السر .. تتحدث (الجحيم) عن فكرة أساسية هي محاولة إيجاد حل لمشكلة الانفجار السكاني العالمي بالتخلي عن ثلث سكان العالم الحاليين في سبيل الحفاظ على الجنس البشري من الانقراض بواسطة فيروس معدل جينياً. ومفتاح فهم المعتقد وراء استخدام هذا الفيروس المعدل يكمن في (الكوميديا اﻷلهية) اسطورة (دانتي اليجيري) التي تعد من أبرز اﻵثار الانسانية الخالدة في اﻷدآب العالمية، حيث أن عالم الجحيم اﻷخروي بكل طبقاته حاضر معنا فهو قطعة من اﻷرض نفسها، وعلينا أن نمر به حتى نعبر إلى الفردوس .. وقد اتفقت آثار النثر اﻹنساني التي تناولت اﻵخرة على أن الجحيم معبر ضروري لبلوغ الجنة، فإن لم يتخذ الانسان تدابير العبور السليم سقط في الجحيم وبقي فيه ..
نحن نؤمن بأن أحوال اﻵخرة تحدث عقب القيامة (وإن منكم إلا واردها) ولكن إيمان هؤلاء هو ما أتى بها إلى الدنيا، فلقد رسمت (أوديسا هوميروس) طريق (أوديسيوس) في رحلة عودته إلى وطنه ليمر حتماً بمملكة الموتى (هاديس) حيث لن يعرف وجهته إلا من العراف الميت هناك عندما يشرب من الدماء السوداء لكي يعود إلى حالة الوعي ثم يرشد (أوديسيوس) إلى مبتغاه، وفي الطريق تعترضه صعوبات وعوائق الجحيم .. وكوميديا (ارسطوفانيس) المسماة (الضفادع) أيضاً تحكي شيئاً بنحو ذلك الجحيم اﻷخروي الذي خاضه بطله (ديونيزيوس) في رحلة دنيوية .. وعلى الجانب الشرقي تتمثل فكرة الجحيم اﻷخروي الذي على اﻷرض في (جلجامش) الملحمة البابلية المشهورة، ثم في (رسالة الغفران) لمؤلفه العربي (المعري).. وهكذا نشأت فكرة (التطهير) في نقل حالة الجحيم اﻷخروي إلى العالم بوحي أساسي من هذه السرديات والملاحم بأن المرور بالجحيم أمر حتمي للوصول إلى الجنة، سواء في الآخرة أو على هذه اﻷرض التي نعيش عليها حياتنا الدنيا.. وأياً كانت نسبة الحقيقة إلى الخيال في هذه اﻷساطير إلا أنها ألهمت العديد من الحركات الداعية إلى (الخلاص) اﻹنساني بخروج الشرور عن العالم حتى ولو كان هذا الخروج بموت البشر أنفسهم .. إن فكرة (الخلاص) تمثل الهدف السامي لهذه اﻵداب وأن هذا الخلاص لن يكون إلا باجتياز معبر الجحيم واسقاط قسماً من البشر في الهلاك ليستمر القسم اﻵخر في الحياة وتجديد الدماء البشرية وتجديد المجتمعات، ولقد اختلفت الشعارات واﻷساليب في ذلك ولكن ظل الهدف للخلاص واحداً، لذلك ظهرت منظمات وكيانات دعت لقيادة الناس نحو الخير بتحقيق نوع من اﻹبادة الجماعية لفئات من الناس يقدمون كضحايا لهذا الخلاص ومن أجل سعادة الجنس البشري والحفاظ على استمرار الحياة ومن أجل أن يفسح أهل الجحيم السبيل لمن سيخلدون في الجنة .. ولم يتوقف اﻷمر عند حد السرديات الروائية لمبدعين فرادى بل امتد ليصبح مادة غنية في صناعة السينما لعبت فيه السياسة دوراً خفياً على أوتار التطرف الديني والعصبية العرقية وما نحو ذلك، فظهرت سلسلة أفلام أنصاف الموتى الذين يمثلون عالم الجحيم على اﻷرض يخرجون من المقابر ليلاً فحسب من أجل أن ينالوا من اﻷحياء ويرسلون منهم إلى الجحيم كل من لم يجعله سوء حظه أن يدرك طلوع النهار .. وأكثر من ذلك، سلسلة الأفلام الامريكية (ليلة التطهير) فعملية التطهير التي تدعو اليها هذه الأفلام شبيهة بعملية التطهير التي كانت تقام كل خريف فى سبارطة القديمة، وهى أيضا صورة محددة الوقت من عمليات التطهير العرقي لمجازر ارتكبت ضد الأقلية المستهدفة مثل تلك التي تمت في البوسنة والهرسك ومذابح رواندا وغيرها، ولكن هذه المرة تكون عملية التطهير تحت شعار (خلق امريكا جديدة) من خلال تنفيذ سيناريوهات الفوضى الناتجة عن غياب الدولة ومؤسساتها القادرة على بسط نفوذ القانون بل وتشجيع حكومة السيناتورات للعنف والاقتتال الداخلي بين الناس وفساد الجماعات المسلحة بحجة تنفيس الشعب المسالم في أصله عن مشاعر الشر السلبية الكامنة فيه فيتسبب ذلك أخيرا في قيام نظام جديد والتطهر من الماضي، وبرغم أن الحكومة في هذه الأفلام تسمح بالقتل غير المبرر والرعب وكل أشكال العنف والاعتداء يقوم بها حتى اشد الناس تدينا وداخل دور العبادة في 12 ساعة من منتصف الليل هي وقت التطهير من أجل ان تصبح الولايات المتحدة كما يقول الفيلم (أمة تولد من جديد) إلا أن الحقيقة  في الواقع أن هذا الوقت ممتد حتى تحقق أمريكا مآربها المنشودة، لذلك فإن سلسلة أفلام التطهير (PURGE) تصور واقع ما فعله في العالم من فوضى المحافظون الجدد أو (الآباء الجدد) كما يطلق عليهم في هذه الأفلام، فليلة التطهير اذن هي ليلة الجحيم ..
والان، والأرض تضج وتختنق بكثافة الساكنين عليها من البشر يهلكون الموارد واسباب البقاء في الحياة وتزيد معدلات الفقر والبؤس في أكثر المجتمعات ويصبح الانسان عبء على الطبيعة، هنا تنشأ الحروب التقنية باسم المصالح الاقتصادية وتزدهر منظمات صناعة الإبادة وتروج تجارة الهلاك حتى تخلو الأرض للأقوياء من غير انتخاب طبيعي كالذي قال به (داروين) .. وبعد كل هذا، لم لا يكون فيروس (كورونا) نتاج سياسي لإلهام النثر الأدبي الأخروي وافلام التطهير بنحو أو بآخر .. لم لا يكون (كورونا) صناعة من أرادوا تقليل الكثافة الزائدة عن الحد لنوع من البشر حتى تعود الموازنة بين جميع الأجناس على الأرض إلى معدلها الطبيعي .. (كورونا) هو جحيم (هاديس) ديار الموتى الذي بعبوره تكون الجنة على الناحية الأخرى لمن كان لهم حظ العبور .. ليست المشكلة في وباء (كورونا) أو أي وباء آخر، ولكن المشكلة في الاستغلال السياسي لتلك التنظيمات والجمعيات الإنسانية التي تنهض في كل مرة من جديد بدعاوى إبادة جماعية ربما ورائها إيمان ديني شديد ولكنه إيمان متعصب ومنحرف، فليس دائما ما يبدو إنسانياً في ظاهره يكون في مصلحة الجنس البشري.


















السبت، 7 مارس 2020

عندما يكون التابع هو السيد

(صحيفة اليوم التالي)

عندما يكون التابع هو السيد .. 

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي

حقاً، ان الصغار هم الذين يصنعون العمالقة .. فكذلك كل جبار وطاغية وحاكم بأمره ومتشيخ ظان بنفسه علوا بكراماته هم صنيعة كل امعة ساذج رهين سيده كَلٌّ على مولاه ينفخ النار في الحطب تحت القدر ليغلي ماؤها ويصعد بخاره عالياً فيحرق وجوه الواقفين فيحسبون البخار هو حارقهم ولا ينظرون الى من ينفخ النار.
لقد حمل فارس الظل الحزين (دون كيشوت) حربته ودرعه الصدئة وقاد حصانه العجوز ظناً منه أنه يعيد زمان الفرسان النبلاء المجندين دوماً لإنقاذ البشرية في كل موطن .. فحارب كائنات خياله الجامح وهي في الحقيقة لا شيء، فتهشمت عظامه ولكنه استمر حتى لقي حتفه وهو يحسب انه فارس حقيقي من العصور الغابرة .. فمن اين كان له كل هذا العزم والإصرار؟ بلا شك كان سبب هذا شعوره العظيم بالنشوة بانه يفعل فعل السادة وانه هو السيد النبيل .. ولكن من يقرأ ما وراء السطور في الرواية يرى أن منبع هذه النشوة الحقيقي لديه لم يكن كل تلك المؤلفات العديدة لقصص الفرسان القدامى التي اغرق نفسه فيها لسنوات حتى ابيضت لحيته، ولم يكن منبعها أيضا تلك الهتافات والتحيات الملقاة عليه في كل درب هو سالكه، وانما المنبع الحقيقي لنشوة الفروسية والسيادة لديه كان هو تابعه (سانشو بانثا) الذي بدا ساذجاً يصدق سيده في كل ما يقول وكل ما يقوده اليه .. فالقراءة الواعية لشخصية هذا الرجل (سانشو) انه ربما كان رجلا خارق الذكاء ليس بأنه قد صدق سيده وانما لأنه جعل سيده يصدق نفسه فكان بذلك هو المدد الحقيقي الذي مكن (دون كيشوت) من الاستمرار والنضال فيما كان يتصوره .. لقد كان التابع هو السيد في الحقيقة ومن بدا للجميع بأنه القائد كان هو المقود يمسك بخطامه ذلك التابع المسكين .. ومما يبدو أن هذا هو منطق إدارة الاحداث وراء كثير من وقائع عصرنا المصيرية، وهو ان ما يبدو لنا تابعاً متدني الأهمية يكون في الحقيقة المستترة هو السيد والربان خلف الدفة.
ما يقوله الساسة في اروقتهم السرية تقوله صناعة السينما في العلن .. ففي أحد الأفلام الواقعية عن ضلوع قادة اكبر البنوك العالمية في عمليات فساد دولية، تكلم الرجل بأن اكثر حروب العصابات والنزاعات الاقليمية المسلحة تعتمد في الأساس على السلاح الخفيف لاسيما الذي تصنعه الصين بكثافة وبأسعار زهيدة نوعاً ما، وان هذا البنك العالمي يقوم بدور السمسار في أزمات النزاع المسلح ليس من اجل الربح غير المجزي لعائدات بيع السلاح الخفيف وانما من اجل السيطرة .. السيطرة ليس على النزاعات ولكن السيطرة على الديون التي تخلفها النزاعات. فهذه الديون هي الطوق الذي يقيد عنق جميع الدول والمؤسسات وحتى الافراد لكي يكونوا عبيداً لديونهم، وهنا يصطاد البنك في الماء العكر ..
اذن، فهي السمسرة ما تكون وراء كل أزمة، ووراء اشتعال الأسعار واختلال الموازنة ما بين العملة المحلية وقيمتها الحقيقية من مخزون الذهب الاستراتيجي الكافي فعلا لتغطية العملة، وذلك بأن يتم رفع سعر العملة الأجنبية الصعبة ارتفاعاً وهمياً خارج هذه التغطية الحقيقية، ثم استغلال هذا الامر بما يحقق تضييق كل سبل العيش على الناس لأجل مصالح أصحاب رؤوس الأموال ولأجل الثراء بفاض القيمة الوهمية المتراكمة بفعل السمسرة ..
والان هي الثورة، ولو ان الدولة الثورية تخلت الى حد ما عن الاعتماد على إدارة الأوراق النقدية الملونة ولجأت الى إدارة الغلال المحلية في سوقها الداخلي دون الخارجي لربما كفت لكل مواطن قوت يومه وليلته بفائض ملحوظ .. ولو أن الأسواق امتلأت بما يمنحه البحر مدداً مستمراً من الأسماك دون مقابل وبلا زرع او قلع فقط جهد الاستخراج والتوزيع لربما صار الشعب غنياً دون مال .. ولو أن كل انسان غرس بزرة في ارض الوطن لربما طغى الثمر في يوم قريب .. ولو ان الدولة الثورية اعتمدت على السواعد البشرية المجردة في وطن اكثره الشباب دون انتظار لألات او لبترول لربما كان كسب الوقت بالجهد والعرق مباركاً واشد ظهيراً للمجتمع في الخروج من الأزمات .. ولو ان أصحاب الرعاية جمعوا كل الفاقد الإنساني من أبناء الشوارع والمشردين والهائمين بلا مأوى صفاً واحداً في ميادين الإنتاج والتنمية القومية وتحسين البيئة في مقابل ضمان غذائهم وكسائهم وسكنهم لربما لم تحتج البلاد يوما الى غير أبنائها بل لربما صدرنا الخيرات لغيرنا بعدما يفيض ما في بيوتنا عن حاجتنا .. ولو ان اكثر الجامعات تحولت الى معاهد فنية مهنية حرفية عليا لربما فاز المجتمع فوزاً اكبر ولربما اغتنم الشباب أعمارهم البكر قبل ضياعها تعطلاً بلا عمل على الأرصفة وأماكن قتل الأوقات يحملون في جيوبهم شهادات اكاديمية رفيعة ولكنها محض أوراق بلا قيمة اذا لم تملئ شاغرا في مقاعد العمل.
ان كل شيء له قسطاسه المستقيم وميزانه الحق .. فلقد كان صدقاً ما قاله صديقي الوراق الناسك (ود الجبل) ان (سانشو كان سبب استمرارية الدونكشوتية .. لولاه لسقط الفرس).

الكنديون يقرعون الطبل الافريقي

الكنديون يقرعون الطبل الأفريقي..

 وائل الكردي

لقد كان (محمد اقبال) حكيماً حقاً فيما قال عن حركة الزمان (لا يمكن تصورها على شكل خط قد رسم بالفعل بل هي خط مازال يرسم.. أو تحقيق لممكنات جائزة، وهي تتصف بالغائية فقط بمعنى أن من خصائصها الانتفاء وأنها تصل إلى نوع من تحقيق الحاضر عن طريق الحرص على الاحتفاظ بالماضي والاضافة إليه) وعندما ارتبط هذا بمعنى الحرية لديه قال بأن النظرة المادية تحمل العالم وإرادة الانسان على مبدأ الجبر الصارم (فالعالم الذي يعتبر هو حالة حركة من أجل تحقيق أهداف سبق بها القضاء ليس عالماً يتألف من قوى حرة تسأل عما تفعل، فما هو إلا مسرح عليه دمى تحركها يد من خلف الستار).. وهكذا يكون وصف السياسة وطريقتها، وهكذا يكون حال من تربوا على ألا ينظروا الى وقائع الحياة وتصرفات الناس إلا من المنظور السياسي، وهكذا تربى شعبنا في السودان.. فأحياناً قد تكون الإجابات مختبئة في ثنايا السؤال المطروح علينا نفسه ولكننا نبحث عنها بعيداً.. وكثيراً ما نغفل عن الحقائق المجردة عندما نأخذ ما يقع أمامنا إما بالانفعالات والعاطفة التي لا تفكر وإنما ترتد على الأحداث والوقائع كارتداد الكرة المطاطية عن الحائط، وإما لأننا نضع كل حدث في حيز خبرتنا الفردية على ما اعتدنا عليه في الحياة اليومية وحسب فنحكم عليه بما سبق أن حكمنا به على غيره حتى ولو لم يكن الحدث اللاحق يطابق الأحداث السابقة فيحصل الخلط الكبير.. ولذلك عندما حرك أحدهم حصانه كأول قطعة يحركها في بداية مباراة الشطرنج وقفز به مرتين ليضرب به البيدق إلى جوار ملك الخصم، أضمر هذا الخصم حكمه بحماقة ذاك اللاعب إذ كيف يضحي بقطعة مهمة هكذا مقابل لا شيء، ولكن عندما يأتي دوره في اللعب لا يجد من خيار امامه إلا أن يحرك الملك من مكانه ليقتل به الحصان، حينها لربما اكتشف أن تحريك الملك في أول اللعب اشد خطورة عليه من فقدان خصمه لحصانه وأنه يحتاج إلى مراجعة كل حساباته من جديد.. وأن صاحب الحصان لم يكن أحمقاً عندما ضحى به.. 
لقد ظللنا عمراً طويلاً ننظر إلى أحوالنا ونصنع خططنا ومشاريعنا بناء على فكرة السياسة فحق لنا أن نرتطم ببعضنا البعض كثيراً ونتعثر ونظل نبدأ في كل مرة من نقطة الصفر الأولى ويمشي أواخرنا على هام الأولي دون أن نتقدم شبراً.. ومن هذا المقام، لم نتوقف لنسأل لماذا نتهم ونهاجم رئيس الوزارة في حكومتنا الانتقالية على ما يفعل كما لماذا نتفق معه ونوافق.. فربما ذلك لأننا ننظر من منظار السياسة التي تتعدد فيها زوايا الحقيقة الواحدة وتكثر فيها ردود الفعل المتباينة تجاه الحدث الواحد بحسب مواقعنا وانتماءاتنا السياسية، حيث الحقيقة في أرض السياسة تكون عائمة ورمال متحركة.. فماذا لو فطنا أن الرجل ليس (سياسي) ولا يلعب في حلبة السياسة وإنما هو (إداري) موظف وعلى هذا الأساس يفكر ويقرر، فكان حرياً أن ننظر إليه وفق طريقة الإدارة فلا نضل السبيل لفهمه شجباً أو تأييداً..
فبينما يؤدي المنظور السياسي إلى اتخاذ المواقف المتحيزة وخلق الصراع بين الأطراف المتضادة وإزالة التناقض برفع طرف ليبقى الطرف الآخر واستغلال الحالة الاجتماعية للشعب من أجل تغليب بعض على بعض وسوق سواد الناس كمثل القطيع الطائع تحت إرادة فئة قليلة منهم إن بالحيلة أو بالكذب وعرض الحقائق على غير ما تبدو واللعب على أوتار الرأي العام الانفعالية والحماسية على طريقة السؤال الخبيث حول قضية متعلقة على سبيل المثال بالمال العام (متى كففت عن ضرب زوجتك؟) فيوحي هذا السؤال للحاضرين بأن المسؤول في أصله رجل سيء لأنه قد اعتاد ضرب زوجته فترتسم مشاعرهم نحوه ابتداءً بشيء من البغض، فلو أنه أجاب فقط (لم أفعل) مال الناس إلى تفسير رده (أنه لم يتوقف عن الضرب) وإذا قال (لم أضربها قط) وإن كان صادقاً، طالبه الناس بدليل على اجابته تلك لأن السائل لم يوجه إليه اتهاماً يستوجب تقديم البينة عليه وإنما فقط طرح سؤالاً فلزم على المسؤول تقديم دليل على اجابته، وإذا آثر الصمت فلم يجب على السؤال أصلاً اتجه الشعور العام للحاضرين أن صمته إقرار بضربه زوجته، وهكذا المأزق قائم في معظم الحالات، فنحو ذلك ما تصنعه السياسة.. أما عن المنظور الإداري، فقد استرعت انتباهي عبارة قالها المفكر السعودي البارز (يعرب خياط) ضمن منشور له على (فيسبوك) قال فيها (ما هي الإرادة الوطنية التي استدعت كلاً من البلدين للعمل الدؤوب المستمر لتحويل مجتمعيهما إلى مجتمعات مترابطة.. يعمل الكندي في قرع الطبل الأفريقي)..  فهكذا يعامل المنظور الإداري الشعب كله كمنظومة واحدة بكل متناقضاته ومتضاداته واختلاف اعراقه وتباين اتجاهات افراده الفكرية والعقدية بحيث يتم ترك كل شيء فيهم على حاله بكل ما لهم وما عليهم بدون مطالبة لهم بتغير جذري لصالح فكرة أو لصالح فئة، ثم يتم دفع المنظومة بكاملها في وقت واحد بإيجاد العامل المشترك بين جميع أطراف وعناصر هذه المنظومة مهما كانت مساحة هذا العامل المشترك صغيرة ولكنها مع نجاح الممارسة الإدارية والاستمرار والنمو تتسع هذه المساحة مع كل جيل جديد ويفرض الاشتراك في المنظومة قبول الآخر المختلف.. حينها تتحول الإدارة المجتمعية إلى إرادة جماهيرية، يكون الدور الأكبر في تحقيقها هو التنوير للمجتمع بهذا الفارق بين المنظور السياسي والمنظور الإداري. وليكن هذا التنوير على هيئة قطرات الماء الصغيرة المركزة والمتتابعة ببطء فكما أن قطرات الماء التي تطرق برفق على رأس إنسان كفيلة بمرور الزمن أن تثقبه ثم تقتله فإنها هنا تغرس الوعي السليم.. بهذا المنظور فقط يمكن احتواء الكل ليس في الداخل فقط بل احتواء الدول الأخرى للإسهام الفاعل في دفع منظومتنا بتنافس سلمي حر وشريف ومثمر بين جموع تلك الدول في ميادين الاقتصاد الوطني والنهضة العمرانية والتنمية البشرية.. فلقد كان هذا المنظور هو الكفيل بجعل الإدارة المجتمعية تصبح إرادة شعبية، كما كان هو الكفيل بجعل الكنديون يقرعون طبول أفريقيا.

خرافة الحق التاريخي

خرافة الحق التاريخي..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لماذا إذن نحارب إسرائيل؟ .. هل أتى اليهود من خارج فلسطين ابتداء، أم أنهم وجدوا فيها كغيرهم ثم هُجر إليهم المزيد من أنحاء
 العالم؟ وهل كان العرب حالة عرقية راسخة على طول تاريخ فلسطين؟ .. 
لم يكن ذلك الأثر القابع في منتصف شارع القصر (قديماً، شارع فيكتوريا) بالعاصمة الخرطوم يثير الفضول لدى الدارسين بكونه سينما (كوليزيوم) .. ولكن بعد أن أميط اللثام بأن هذه السينما أقيمت في الموقع الذي كان يحتله نادي (مكابي) الرياضي اليهودي، اتجهت انظار بعض من ينقبون خلف الكواليس إليها حيث لم تكن سينما (كوليزيوم) مجرد مكان للترفيه والمشاهدة قبيل ظهور البث التلفزيوني وانما كانت تعبيراً عن نوع ذلك النسيج الاجتماعي ذو الطابع الغريب ليهود السودان فيما بينهم ومع باقي السودانيين .. فذكر الكاتب مكي أبوقرجة - رحمه الله – في قرأته لكتاب الياهو سلمون ملكا (أبناء يعقوب في بقعة المهدي) أن اليهود أقاموا علاقات واسعة مع السودانيين وتشربوا الحياة الثقافية السودانية وتأثروا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية إلا أنهم ظلوا يهوداً ملتزمين بديانتهم فأقاموا معبداً ونادياً اجتماعياً وأخذوا يتصاهرون في اطار جاليتهم.. وحتى الأجيال الجديدة من اليهود السودانيين التي لم تر ذلك البلد البعيد وعاش معظمها في أوروبا تحمل ذكريات غامضة وحباً مبهماً للسودان ذلك الوطن الذي بات مستحيلاً .. هؤلاء اليهود لم يستطيعوا نسيان السودان ولم تعوضهم إسرائيل عن ذلك الحنين الجارف الذي يلف ارواحهم.
والسؤال الآن، هل من يطالبون – أو على الأقل يؤيدون – التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب هم من بقايا اليهود في السودان، أم أنهم السودانيين الذين عايشوا اليهود ودخلوا معهم في هذا النسيج الاجتماعي؟ أم أنهم من عموم الأجيال المتأخرة في السودان ولم تعد بينهم وبين عهد اليهود في السودان ثمة صلة؟ الشاهد الآن أن المطالبين هم من هذه الفئة الأخيرة، فهل يجوز التطبيع برغم الزعم بالحق التاريخي الذي باسمه أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، والذي باسمه أيضاً حارب العرب هذا الإعلان وقاتلوا اليهود على ذات الأرض؟ .. لنفرد الأمر برمته إذن على طاولة التحليل ..
إذا سألنا عن ثمة حق تاريخي في فلسطين، فلن نجد من لديه حق تاريخي كامل فيها، إن هي إلا أمم وحضارات قد تعاقبت عليها في سير حقب التاريخ إلى وقتنا المعاصر .. فليس للعرب ولا لإسرائيل سواء بسواء حق تاريخي جامع مانع في فلسطين، وإنما هي محض حالة السيادة على الأرض بحسب الدور التاريخي والظرف الحضاري للمنطقة على سنة قول الله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وهذا ليس تأييداً لقيام دولة إسرائيل وإنما إقرار بأمر قد تم وصار واقعاً راهناً وجب علينا التعامل معه .. وإذا سألنا عن المسلمين والإسلام في فلسطين فإنها قد دانت للفتح الإسلامي الذي أتى إليها متأخراً عن أمم الشرق القديم واليهودية والنصرانية، ولهذا فلن يكون السؤال عن الاسلام بالتأكيد من باب أن هناك حق تاريخي له كباقي الدعاوى العرقية أو العنصرية أو القومية وإنما يكون من باب أن الإسلام رسالة إلى البشرية جميعاً وليس تخصيصاً لشعب أو أرض بدعوى حق تاريخي .. لذلك لم تكن حرب سنة 1948م حين اعلان قيام دولة إسرائيل رسمياً حرباً إسلامية وإنما حرباً عروبية .. فلقد أخلى المسلمون مقعد الحق الإسلامي المكتسب بالفتح في فلسطين لصالح الحق العروبي العرقي أو العنصري فلم تعد بذلك حرباً جهادية مقدسة لنصرة دين الله في الأرض وإنما هي لمنح حق مزعوم لقوم عرب قد يتساوون فيه مع أقوام أخر، ناهيك عن أن الأصل العرقي والتاريخي لبقعة فلسطين ليس عربياً صرفاً ولكن تم تعريب لسانهم على نحو ما يمكن لأي انسان أن يتحول إلى عربي بتعريب لسانه .. وناهيك أيضاً عن أنه ربما كان غالب أهل إسرائيل اليهود هم من فئة يهود الشرق (سفارديم) والذين يتحدث اكثرهم العربية كلغة أم، فهم من العرب .. فإذا دعونا إلى حق تاريخي عروبي في فلسطين لاختلط الأمر بينهم وبين اليهود، وبالتالي يتقلص الحق الإسلامي الذي ربما استعمله العروبيين كعامل تبريري مساعد في حربهم ضد اسرائيل وفق هذا المنطق في بضع اثار ومقدسات لا تحتل المرتبة التعبدية العليا للمسلمين بمثل ما يحتله الحرمين الشريفين.
إن الحق العروبي التاريخي المزعوم في فلسطين التي عليها الآن دولة إسرائيل هو سبب ختم جواز السفر السوداني (كل الأقطار عدا اسرائيل) وليس الإسلام هو ما منع ذلك .. إذ أن حرب 48 جاءت متأخرة عقب انهيار الخلافة الإسلامية بخمس وعشرين سنة، وكان الاعداد وقتها لثورة القومية العربية التي تحققت في عام 1952م .. لقد فتح المسلمون بلاد الدنيا حتى دان لهم ثلث العالم تحت راية واحدة عندما اسقطوا دعاوى القومية والعرقية والعنصرية ولم يلتفتوا للحقوق التاريخية، تلك الراية التي فقدها المسلمون تباعاً حتى سلموا آخر مفتاح فيها بعزل السلطان عبد الحميد، ولسنا هنا بصدد شرح أسباب ذلك وانما حسبنا أن نأخذ النتيجة الواقعية. إذن فقد عادت كل ولايات الخلافة الإسلامية لعظمى الى سابق عهدها كأمم وشعوب منفصلة بعضها عن بعض كدول ذات سيادة مستقلة .. فنحن المسلمون إذن من أخلينا مقاعدنا وفرطنا في رايتنا والأمة الواحدة الممتدة بكاملها وليس فقط أرض فلسطين عندما طالبنا بالحق التاريخي، فما المسوغ إذن أن نطالب الآن بجزء معين دون الكل؟ .. وحتى إن صح ذلك فالأولى بحق المطالبة هو الأندلس والقسطنطينية واسطنبول القديمة، ناهيك عن أننا كنا طوال الفترة الماضية لا نحارب دولة إسرائيل من أجل حق الإسلام بل لحق العروبة، والفرق كبير .. فلربما لو أننا حكمنا الإسلام في الوضع الراهن والذي ليس فيه مقاتلة مباشرة لحكم علينا بحكم الله في القرآن الكريم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). فنحن الآن لسنا في مقام الفتح العسكري وإنما القدرة السياسية، وهذه الآية هي الدال على خارطة الفعل السياسي في ظرفنا الراهن في ظل الجنوح للسلم، وخاصة أن الفلسطينيين هم بدورهم قد رسموا حدود دولتهم باتفاق جزئي مع الكيان الصهيوني واعتراف غالبية دول الأمم المتحدة بها .. وأذكر في زيارة إلى سجن كوبر ضمن وفد اسرة القانون المدني بجامعة القاهرة فرع الخرطوم في العام 1988م وقفت وزميل لي مع الفلسطينيين المحكوم عليهم بالإعدام في قضية تفجير فندق الأكروبول في وسط الخرطوم، وقال لي احد المحكومين بأنهم نفذوا ذلك اعتراضاً على أي توفيق أوضاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين العرب وقال لي نصاً - وكنت أحمل كراساً في يدي - (لو أن هذا الكراس لي وقبلت بإرادتي بأن اتنازل في وقت ما عن نصفه فهل سيحق لي المطالبة به كله مرة أخرى، كذلك هو موقفنا في فلسطين ولم نندم على ما فعلنا) .. كل هذه المواقف وغيرها قد ترتبت على النزاع بين خرافة الحق العروبي التاريخي في الأرض وبأيديولوجيا القومية العربية التي غرستها في المنطقة ثورة يوليو 52 في مصر وأيضاً خرافة الحق اليهودي التاريخي لبني إسرائيل فيها .. في حين أن كل ما هنالك أنها دولة أقيمت على أنقاض دولة ولنا حق التعامل معها ما لم يقم شرط المقاتلة وأن كان قد جنحوا هم للسلم حتى ولو كانوا أشد الناس عداوة لنا.. وأما عن جرائم ومذابح بني صهيون في حق الفلسطينيين في صبرا وشتلا وغزة ودير ياسين وغيرها فلن ننساها كحق جنائي خاص لفلسطين وحق عام للمسلمين كما لن ننسى مذبحة فض اعتصام القيادة العامة على أيدي بني جلدتنا وهو أشد سوءً من ذاك، ومثلها كانت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان وفيتنام، والآن بين أيدينا حرب الإبادة والتهجير في سوريا ومذابح مسلمي الروهينجا في ميانمار، والقائمة طويلة جداً.. فكلها بانتظار أخذ الحق بالقانون والعدالة الدولية دون أن يلغي ذلك استمرارية الدبلوماسية السياسية القائمة على العلاقات بين النظم وإدارة المصالح العامة للشعوب .. فإلى حين أن يأخذ القانون مجراه، وإلى حين أن نطهر بيتنا من الداخل أولاً بالقصاص العادل تظل السياسة والدبلوماسية تأخذ مجراها بما ينفع الناس مع أي دولة في الأرض. والله تعالى غالب على أمره.
 

حرب التقديس

حرب التقديس ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
 (ما جعل المؤرخون لا يفتأون من ذكر (كوبرنيكوس) ؟ وهل كان لهم أن يفعلوا لولا تمرده على قدسية مركزية اﻷرض التي باتت عند الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من تعاليم الدين ... ؟ ما الذي جعل مؤرخي الفلسفة الحديثة يؤرخون بدايتها بكتاب (ديكارت) (المقال في المنهج) ؟ أكان لذلك العصر أن يبدأ ب (ديكارت) لولا أنه – إبان شكه – قد رفض كل المعتقدات التي غبر بنو زمانه على تقديسها ؟ أي تطور كان من شأن أعراب الجاهلية إحداثه لو لم يكن قد قدر للمصطفى صل الله عليه وسلم أن يخلصهم من اﻷوثان التي أخلصوا في عبادتها ؟) هذه أسئلة عن حالة تقديس المقدس طرحها (نجيب الحصادي) في كتابه (جدلية اﻷنا – اﻵخر) .. وعلينا نحن اﻷن أن نطرح أسئلة جديدة ..
فلقد كان الطامحون إلى القبضة القابضة على شعوبهم يلعبون على هذا الوتر (تقديس المقدس) ، فإذا نطقوا على المنابر سكت عامة الناس .. فهل كل ما نطق به الطامحون هو الحق . لقد أعدم (سقراط) الاغريقي بشرب السم ﻷنه هتك التقديس المسلم به بعماء لدى أبناء مجتمعه ورهابنة معابدهم بكثرة سؤاله عن الحق والحقيقة، وقد كانت غايته أنك إن أرت أن تقدس شيئاً فقدسه بوعي وعلى اتجاه الحقيقة وليس بمحض ما تهوى نفسك .. وفي العصور الوسطى في أوروبا نصبت المشانق والمقاصل والمحارق والمسالخ وصناديق المسامير ﻷجل كل من خالف ليس الدين بل ما أراده كهنة الدين على مقولة (فرعون) اللعين (إن أريكم إلا ما أرى) .. وكذا الشيء في العهد العثماني للخلافة اﻹسلامية حيث كانت الخوازيق الثاقبة والمناشير ربما هي أهون أنواع العذاب هناك .. فهل كل هذا الويل الذي أذاقه البشر للبشر على مر التاريخ غيرة على المقدسات ورعاية لحرمتها أم أن هناك ما هو مختبئ وراء اﻷكمة ، فأنفس اﻷمارون بالقتل والتعذيب في كل العصور عطشى إلى السلطة وحظ الجاه والنفوذ على أقوامهم ، فباسم المقدس لديهم يقتلون وما يقتلون إلا لهوى أنفسهم ، ومن ورائهم كهنة المقدس يزينون لأعينهم سوء الفعال بأنه من رضى الرب وهم يحلمون بمجد الدنيا وعزها وليس مجد السماء ، فصاروا تماماً كمن جمع أهل الدار في حديقتهم جبراً ليلقي عليهم موعظة أخلاقية باسم ما يقدسون بغير وعي وهو يرسل رجاله خفية يدخلون إلى الدار من الفناء الخلفي لسرقة أموالهم .. فكذلك يحكم قاضي السلطان على اﻷسير لديه في الظاهر بجرم انتهاك حرمة التقديس وهو في قرارة نفسه يريد منعه من البلوغ إلى نفوذه أو منازعته سلطانه .. إن المشكلة حقيقة ليست في المقدس كما أنها ليست في التقديس فبغير التقديس للمقدس لا يعيش اﻹنسان سوياً مطمئناً ، وإنما المشكلة في طريقة التقديس والاتجاه فيه على العماء بغير بصر ولا بصيرة ولا استدلال راجح على حقائق اﻷمور في ظواهرها وبواطنها ، فيأتي من لا يرعى في الناس حرمة لدماء واعراض إلا من والاه ليحكم فيهم بزعم أنه أمر المقدس ولكنه في الحقيقة أمره هو .. فينبغي إذن أن ننظر إلى من يتحدث قبل أن ننظر فيما يتحدث . 
والسؤال اﻵن .. هل أعدم (الحلاج) بسبب الردة فعلاً ، أم لأنه قد صار تأثيره السياسي مداً طاغياً وكان لابد لأصحاب السلطة آنذاك الحد منه لذا كانت التهمة الدينية في الظاهر مجرد حيلة لقتله وسبباً كافياً أمام الناس بأنه قد تطاول على المقدس .. وفي الباطن ، قصدوا إلى إيقاف مده السياسي ولذلك قطعوه ومثلوا بجثته، فهل هذه هي طريقة الإسلام في الإعدام  ؟ .. وفي السودان يتحدث التاريخ القريب عن (حلاج) جديد .. وبرغم أننا والكثيرون لم نرضى منه يوماً ما استحدثه برأيه في أصول عقيدتنا اﻹسلامية ، إلا أننا كنا نعتبر أن هذا خاصته واتباعه من غير سوء على عموم الناس وليس لنا عليه إلا الحجة والبرهان بجانب لين المعاملة، فالضرر غير المتعدي خاصة صاحبه .. تماماً كما يزعم فلاسفة الصوفية أن اﻹنسان غير مؤاخذ بما يقول في (حال المحو) وإنما يحاسب فقط بأقواله في (حال الصحو) وقول (الحلاج) في السياسة كان في حال الصحو ولكنه أخذ بجريرة قوله في حال المحو .. وهذا هو (محمود محمد طه) حلاج بلادنا الجديد ، قتلوه في عهد الرئيس (النميري) فهل كانت قتلته ﻷجل الانتصار للعقيدة ولأنه مرتد حقيقة ، أم أنها ﻷجل شيء كان في نفس من قتلوه ؟ فمن هم الذين قتلوه؟                       
.. (محمود محمد طه) لم يرتد عن الدين لأنه كان يشهد حتى آخر لحظة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله .. ولكن المطلع على فكره ربما يجده قد احدث ببعض مزاعمه خللا في بعض جوانب العقيدة لديه ولدى اتباعه ،  وهو في كل الاحوال قد يكون اهون كثيرا من حادثات الملحدين والدهريين والصوفية الشاطحين في العقيدة ورغم ذلك لم يتم اعلانهم مرتدين . هذا ناهيك عن التكفيريين والدواعش الذين يهدرون دماء المسلمين الأبرياء بعقيدة فاسدة .. فلماذا (محمود محمد طه) ؟ ولعل الاجابة بنحو ما يلي :
  1/ ان جعفر نميري لم يعلن تطبيق الشريعة في سبتمبر 1983م الا بعد اشراك عناصر الجبهة القومية الاسلامية في الأمر.
2/ المد السياسي الذي كان يقوده الحزب الجمهوري – وهو حزب سياسي في الأساس - بقيادة (محمود محمد طه) كان من أكبر المهددات بإزاحة الجبهة الاسلامية القومية عن المشهد السياسي آنذاك . ولذلك كان لابد من صياغة التهمة بحيث تكون مقنعة للرئيس (النميري) ومقنعة لعموم الشعب السوداني انها لسبب ديني صرف وليس سياسي ، ومن لم يقتنع كان عليه يلتزم الصمت كرهاً .
3/ شهد عصر إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية بقوانين سبتمبر تطبيقا منحرفا وخاطئا للشريعة الاسلامية بنحو تطبيق الكنيسة الكاثوليكية لشرائعها على المجتمع في عهود الظلام في أوروبا . مما يدل على أن الهدف لم يكن هو تحقيق الدين والحكم الراشد كما تم على عهد (عمر بن عبد العزيز) وانما الهدف هو التمكين السياسي بظاهر الدين وبجعل نصوص القانون متعسفة بغرض الردع العام والتخويف الشديد وفرق تسد وهو ما ينافي مقاصد التشريع الاسلامي العظيم في جوهرها ، فكانت الحدود بقطع الأيدي والأرجل من خلاف على أشدها في وقت بلغت فيه المجاعة في السودان واغلب أفريقيا حداً فتاكاً بمجتمعات بأكملها إلى الدرجة التي غنى معها العالم  (we are the world) حتى يجمعوا قدراً عظيماً من المال من اجل إغاثة من يموتون جوعاً في افريقيا ، وكان حرياً بقادة المسلمين أن يفعلوا .. ولكن على العكس ، لم يشفع الجوع لمن سرق في قطع يديه ، فلعل القضاة آنذاك ظنوا بأنفسهم العدل فوق عدل (عمر بن الخطاب) الذي عطل تطبيق الحدود في عام الرمادة . ولذلك لم يكن بمستغرب أن يتم القضاء على الخصومة السياسية مع (الجمهوريين) بإعدام زعيمهم بسبب ديني لا سواه .
وهكذا لم يقع الظلم والقهر باسم الشريعة الاسلامية على (محمود محمد طه) وعصبته فحسب حتى نقول بأنه الحق وأن الحق لا يتجزأ .. وانما وقع الظلم والقهر على بسطاء بلادي ، ولم يكن هذا إلا لأجل التمكين السياسي ، ودائماً يجيء التمكين السياسي مقروناً بالتعسف في تطبيق الأحكام والشرائع دون انزال كل حالة مقامها ، فما هو (ارتداد) ليس كما هو (الحاد) ليس كما هو (خرق في العقيدة مع الاحتفاظ بأصل الدين) . وليس ثمة حل لمقاومة حروب التقديس التي يشنها إما الساسة لمآربهم السلطوية وإما المتشددين المتعصبين لما يحسبونه قيمة شخصية لهم بغيرها لا معنى لحياتهم ، إلا بالوعي والتوعية بحقيقة الدين ومقاصده وانه لا مقدس إلا ما اراداه الله تعالى مقدساً .. فليس الحل في المروق من الدين جملة إذا ما عاث به وتحت اسمه الساسة فسادا وظلماً، وانما الحل بإقامة الحجة والبرهان عليهم بالعقيدة السليمة ورفض استغلال الناس بدافع تقديس المقدس .

اغريق السودان

اغريق السودان ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com

عندما تتفتح ازهار أشجار النيم في مطلع صيف كل عام في الخرطوم ، تبعث رائحتها رسائل الذكريات ، فتثير الشجون وتزيد الحنين إلى أيام قد خلت ..
وفي أيام قد خلت .. اثرى تاريخنا الانساني رجال ونساء من نبت هذا الوطن ،  فلم نسجل ولم ندون عنهم شيئا كما هم يستحقون وكما هي أهمية عطائهم وما يقدمون ولم تمتلئ صفحات الجرائد كل صباح وقنوات التلفاز كل مساء بأخبارهم ومآثرهم .. فان كان هذا هو حالنا مع أبناء الوطن ، فما بالنا بأبناء الجاليات الذين وفدوا إلى السودان واستوطنوا فيه ثم تفاعلوا مع حياتنا الثقافية ومظاهر شخصية مجتمعنا العقلية وعاشوا معنا في احيائنا وقرانا ومدننا كما نحن نعيش فكانوا هم الانجليز واﻷرمن والاغريق واليهود واخرين غيرهم ..
على هذا كان اللقاء مع الاستاذ (الحاج محمد اﻷمين) صاحب (مكتبة النيل) العريقة وهو رجل من رجال هذا الوطن المخلصين ، حمل في رأسه ووجدانه تاريخاً عظيماً ليوميات شخصيات وطنية بارزة واعلام من الجاليات التي كانت مؤثرة في حركة الواقع السوداني .. فلقد قامت مكتبته الانيقة في شارع شهير بحي من أحياء الخرطوم القديمة والمهمة والتي قطنها بأعداد كبيرة احفاد (طاليس) و(ارسطو) من اليونانيين واجناس اخرى من عموم الاوروبيين ممن جلبتهم اقدارهم للحياة في السودان ، فصاروا جزءا لا يتجزأ من تاريخنا الثقافي والاجتماعي .. ولان (الحاج) كان قد تنقل بين منارات الثقافة في الخرطوم منذ أيام شبابه إلى أن أسس (مكتبة النيل) ، ولان الكثيرين من أبناء الجاليات الاجنبية كانوا يرتادون مكتبته ، فقد علم عن اخبارهم غير يسير .. فتكلم في لقائنا بعفو الخاطر عنهم فأبان عن كثير وما خفي عنا لديه كان اعظم .. تحدث عن اليونانيين الذين كانت لهم بصمات غائرة في مجتمعنا السوداني امتزج فيها ما هو اقتصادي وما هو سياسي وما هو ثقافي .. تحدث عن اصول وايجارات الجالية اليونانية وكيف أن عائداتهم منها كانت تذهب لدعم ورعاية الجنوبيين الابناء ﻷم يونانية أو أب يوناني ، فحمل كلامه اشارات الى حالة اجتماعية فريدة ومهمة لم نسلط عليها الضوء بما يكفي وهي علاقة التداخل الاجتماعي بين اليونانيين واهلنا الجنوبيين فلابد انه كان لهذا التفاعل الحضاري اثر في عموم واقع الحياة الاجتماعية السودانية .. وصحيح أن اليونانيين كانوا هم امراء الاقتصاد السوداني في وقت ما وان من يدير عجلة الاقتصاد غالبا ما يدير معها حركة الثقافة ، الا اننا لم نهتم بالتوثيق للجانب الثقافي كما الجانب الاقتصادي لهؤلاء .. ولعل مما دل على ارتباط الاثر الثقافي بالمحرك الاقتصادي ما ورد في كلام (الحاج) عن رجل الاقتصاد اليوناني الاول في السودان ( كونتا ميخالوس) واسهامه في تأسيس ما عرفت اليوم بجامعة الاحفاد حيث مازالت ملامحه معلقة هناك على جدرانها الاثرية وكما نحت اسمه على واجهة مبنى الجالية اليونانية في وسط الخرطوم ..
وفي المقابل .. تحدث (الحاج) بمرارة عن اغلاق مكتبة (سنترال بوكشب) والتي كانت في نفس تلك البناية المملوكة للجالية اليونانية على شارع الجمهورية ، لذلك لاقت نفس المصير الذي لاقته مكتبة (مروي بوكشب) والتي كانت تقع على الواجهة الاخرى من المبنى على شارع البرلمان العريق .. واذكر كيف كانت (سنترال بوكشب) من ابرز المكتبات الثقافية في الخرطوم وكانت تديرها سيدة يونانية طاعنة في السن ومعها زوجها حتى بدايات التسعينات من القرن الماضي ، وبعد وفاتهما آل امرها الى (الحاج) الذي حفظ هذا التراث الثقافي بنفس طابعه مع التوسع والتطوير .. فماذا ومن كان السبب وراء هذا المصير المؤلم لهذه المؤسسات الثقافية وغيرها والتي كانت جزءا من تراثنا (مكتبات السودان والخرطوم ومروي وسنترال ، سينما كوليزيوم ، مركز اتينيه التراثي .. وكثير من المطاعم والمقاهي) .. ان هناك من تسلط على تلك الاصول والعقارات والمحال وانتزعها من يد مستأجريها برفع قيمة الايجار الى الدرجة التي تتجاوز بعيدا حدود ما يطيقون .. لقد تسلط هذا الشخص السوداني والذي يبدو انه متزوج من يونانية حتى على مباني الجالية والقنصلية اليونانية لينشئ فيها مدرسة دولية باهظة التكاليف وبأغراض ربحية صرف .. ولكي يتمكن من فعل ذلك اخاف ابناء الجالية بشيء ذي قوة وبأس شديد ، حيث ان الشبهة في ذلك ان له ثمة علاقة وثيقة بجهاز امن النظام البائد ومعلوم ما كان من فساد هذا الجهاز .. لقد ترك اليونانيين ديارهم ومبنى جاليتهم وقنصليتهم بنحو اقرب الى الفرار وتركوا كل شيء فيها على حاله ورحلوا مع كثير من علامات الاستفهام .. ومن قبل ذلك امسك اليونانيين عن بناء برج استثماري كان مخطط له على احدى املاكهم في وسط الخرطوم خوفا من ضياع حقوقهم في ظل نظام لم يرعى حرمة قانونية للناس وممتلكاتهم .. لقد سرد (الحاج) كيف عشق كثير من هؤلاء اليونانيين وغيرهم السودان وضرب الحنين قلوبهم الينا الى درجة انه كان منهم من يحضرون من اثينا الى الخرطوم لإحياء احتفالاتهم برأس السنة الميلادية بنواديهم فيها .. وليس في الامر سر اذ ان كل الناس ينشدون المكان الذي يجدون فيه طيب المعشر والاخاء الانساني المفقود في كثير من مجتمعات الارض وبلدانها .. وليس غريبا ان بكى على يدينا الكابتن (بانو تريزيس) في وداعه الاخير لنا عندما اضطر للرحيل الى مهجره في بريطانيا بعدما بلغ من العمر عتيا عاش جله في السودان ثم مات في مهجره الجديد غريبا .. وان كان (بانو تريزيس) له فضل تربية على كثير من فتيان الكشافة السودانيين حتى اخريات الثمانينات بكونه من اعظم القادة الذين اسسوا للكشافة السودانية تشهد عليه اراضي التخييم ونيران المعسكرات ، فان (وليم الكسندر ميلر) الايرلندي كان له فضل علم غزير على اجيال من الطلاب بجامعة الخرطوم منذ الستينات وحتى اوان رحيله مكرها عن السودان في النصف الاخير من العقد الاول للألفية الراهنة ، وهو ايضا ودع السودان ورحل باكيا ، وكثيرون امثالهم .. فترى كم بعدهم وقبلهم من رحلوا  بحزة النفس والاسى لتركهم ذكريات اعمارهم على تراب هذا الوطن .. وترى هل من راد في عهدنا الجديد هذا لحقوقهم الادبية والمادية .. وقبل ذلك هل من موثق لتاريخهم وتاريخ بلادنا معهم ويجمع من صدور الرجال علومهم واخبارهم .. ان استاذنا (الحاج محمد الامين) حفظه الله ، هو بذاته وثيقة تاريخية بما حمل في عقله وبما حملته جدران مكتباته من شهادة على حياتنا الثقافية وحياة أولئك الذين عاشوا بيننا .. وكم هم كثيرون مثله ولكن صحافتنا ومصادر معلوماتنا جهلت عنهم .

الاثنين، 20 يناير 2020

بذور الفناء

(صحيفة اليوم التالي ، السبت ، 28 ديسمبر 2019م)

بذرور الفناء ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي

(.. ولكن امثال هذه الماسي الانسانية لم تكن صالحة كل الصلاحية للبحث العلمي ، لان ضبطها ضبطا علميا دقيقا لم يكن من الميسور . فبعضها مثلا كان نتيجة لأخطاء المصابين انفسهم ، وبعضها كان يقبل اكثر من احتمال واحد . اما انهيار الجسر فانه تدبير الهي محض يقدم للباحث حقلا مثاليا للتجربة يمكنه من ان يكشف عن ارادة الله في صورتها الخالصة) (من رواية ، جسر سان لويس ري) .. هكذا كان الراهب (جونبر) بطل المأساة السردية مؤمنا في كل الاحوال ، فقد بحث ليكشف عن ارادة الله الخالصة في ان الموت والحياة تمضيان حسب ارادة الاهية  ولأننا لم نفسرها فنظن انها مصادفات ، او لكي يثبت ان الله قد اودع قوانين حياة وفناء جميع الكائنات في دواخلها على هيئة قانون طبيعي حتمي كل في زمانه ومكانه ، ولكنها على اية حال ارادة الله الخالصة ..
اما الانسان فقد شهد له التاريخ انه برع دوما في غرس بذرة الفناء في داخل اي منظومة ينشئها بيده وارادته ولكنه لم يفلح ان يغرس فيها حتمية الحياة (حتى اذا اخذت الارض زخرفها وازينت وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا او نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) . وهذه البذرة للفناء في افعال الانسان تلخصت في عبارة واحدة (انه مغرور بثقته الزائدة والاطمئنان) .. فاذا كان هذا هو حال الانسان مع دنياه افلا يكون هكذا حاله من بعض من كل فيها .. لقد مات الفرعون جراء (الثقة الزائدة في انه الرب) وان له ملك مصر وان الانهار تجري من تحته ، فظن انه خائض البحر برجالة فادركه الغرق .. ولقد وثق اغريق اثينا القديمة في عهد الفلاسفة بانهم بلغوا عنان الفكر الانساني والحضارة العليا بفصلهم بين طبقات مجتمعهم فظل الفكر لديهم معلقا في طبقة الصفوة من الناس لا يطالهم شأن العبيد ، وحسبوا بذلك انهم يحافظون على مجدهم خالدا على الدهر ، فاغتروا بما وثقوا وكانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في الفكر) فراح في لحظة كل مجد اثينا وعظمتها وقبعوا منذ عهد المسيح الى وقتنا هذا في درك منظومة بلاد اوروبا الحديثة ولم تشفع لهم ان كانت مخطوطات (الانجيل) الاولى مدونة بلغتهم ..
وفي اوروبا العصور الوسطى المظلمة ، حين ظن اباطرة فرنسا وانجلترا وعموم اوروبا ان العهد باق ليس في الدين نفسه بل في المؤسسة الدينية هناك وبما احكمت به القبضة على القارة الشقراء ، فلا صوت للناس يعلو ولا فكر ولا فن فوق ارادة سلطة الكهنوت ، فكانت بذرة الفناء لسلطان هذه الارادة في (الثقة الزائدة في المؤسسة الكهنوتية) وغرورهم بان هذه الارادة هي منحة السماء خاصة لأصحابها المفوضين بالحق الالهي المطلق على العباد حتى اتاهم حتفهم من مأمنهم باشتعال الثورة الفرنسية فاتحة لعصر جديد تغيرت فيه كل عناصر التاريخ القديم .. وفي موسكو العظمى وثق الماركسيون السوفييت الثقة القاطعة في الطبيعة وان ما يجري فيها من حركة حتمية هي نفسها الصورة المثلى لما يلزم ان تجري عليه حتما حركة المجتمع فيأمنوا من غدر التحولات الاجتماعية العشوائية وانهم لا ريب سيبلغون الحقبة الشيوعية الى عهد لا نهائي ما دام المجتمع في عصمة الطبيعة ، فخزلتهم تلك العصمة وكانت بذرة فناء منظومتهم في (الثقة الزائدة في الطبيعة) حيث التفت عليهم بأسرارها وبما عبثت ايدي البشر فيها وبثورة الروح العارمة ضد فروض الطبيعة على قلوب الجماهير هناك فكانت النهاية بإسقاط العلم الاحمر وتحطيم تماثيل (لينين) و(ستالين) وبفك سور برلين الشهير الذي عزل انسان الشرق عن اخيه انسان الغرب في كل شيء .. ومن قبل ذلك كانت بذرة فناء النازية التي حكمت بالحديد والنار والابادة العرقية ، ولربما كنا الان في عهد الالف عام من النازية لولا ان (هتلر) وثق ثقة عمياء في دعايته العنصرية وقدرتها على غسيل ادمغة الالمان بان الجنس الاري لا يهزم ، فكانت بذرة فناء النازية في (الثقة الزائدة في الدعاية) وانها كفيلة بخلق الانسان السوبرمان في نفس الجندي الالماني الذي يتحرك بإرادة (هتلر) فانهارت كل هذه الدعاية امام جليد روسيا العاصف وتعليمات (هتلر) المترددة ..
والان ايضا ، كان انفراط احدى اكبر التنظيمات السياسية في العالم ، تنظيمات ما يسمى بالحركة الاسلامية او الاسلاميين ومنهم الاخوان المسلمين والجبهة الاسلامية القومية والمؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي في السودان .. وهكذا ، وأيا كانت الاشكال والصور التي اتخذوها لأنفسهم ، فلقد كانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في المرشد) إذ كانت شخصية (المرشد) هي العامل الحاسم وعمود الاساس في بناء التنظيم وتماسكه ، وان تربية اجيالهم الناشئة على يديه هي خير ضمان لحكمهم الارض بمن عليها وبما يتصورون انه حكم الى ما لا نهاية من الزمان فتوسعوا كثيرا وتمددوا كثيرا تحت شعارات الدين والعقيدة والولاء والبراء المطلق لحكم الله المتجسد في ارادة مرشدهم ورؤيته ومن حوله من رجال دولتهم ، وفي خضم التمكين السياسي لهم – كما في السودان - لم يحسبوا حسابا لمكر الله تعالى وظنوا انهم بشعاراتهم هذه قد امنوا جانبه وانه حتما معهم وناصرهم بيد فوق ايديهم فما ضرهم ما يفعلون من بعد ذلك ، فكان هذا هو الشراك الذي اوقعوا فيه انفسهم بحظ هذه النفس الانسانية من الامر بالسوء وحب المال والجاه ومتاع الدنيا ، فلما تملكوا المقاليد وانفتحت عليهم ابواب الدنيا بزينتها صاروا يسوغون كل افعالهم للباطل بغطاء من الدين بسوق الآيات والنصوص وفق مطالب السياسة والادارة وصناعة الفتوى اصطناعا لصالحهم ولو بكسر عنق الحقائق وانهم ما دام المرشد المربي فيهم وهم تحت غطائه فهم اذن امنون من تقلبات الاحوال وثورة الشعوب وغلبتهم عليهم وانهم الفيلة التي تطحن بتدافعها ارادة الشعوب تحت اقدامها فلا تقوم لهم بغيرهم قائمة ، ولكنهم لم يفطنوا – او انهم قد فطنوا ولكنهم استغشوا ثيابهم - الى ما دق بينهم من مسامير المصالح الشخصية والتطلعات للثراء تحت اي تبرير حتى استشرى الباطل بينهم كما السرطان في الجسد فهانت لديهم حرمات الدماء والاموال حتى دارت عليهم الدوائر فانهارت المنظومة بسقوط مرشديهم بعد ثلاثين عاما من الحكم المطلق ، وتصدعت اركان (البناؤون الاسلاميين الاحرار) حين لم يحتمل الشعب فسادهم البين تحت (العين والفرجار والمثلث) فكانت الثورة امرا حتميا والا لمات الجميع ..
لقد ضاع (المرشد) وبضياعه انفرط عقد التنظيم وأجياله العديدة .. فليبقى اذن المرشد ضائعا وليبقى دين الله في قلوب الجماهير عزيزا مقدسا عن اباطيل نفر من الناس بتجارتهم وعبث اهوائهم .