صكوك التوبة ..
وائل أحمد خليل الكردي
هل كان (صك الغفران) ممنوحاً فقط في العالم المسيحي زمان العصور الوسطى بأوروبا؟ .. هل أعاد التاريخ نفسه في زماننا فمنحنا بدورنا صكوك غفران جديدة باسم دين الإسلام؟..
(لويس عوض) ناقد مبدع ومحلل للأدب اكثر ابداعاً .. في تدوينه لهوامش على (رسالة الغفران) لمؤلفها (أبي العلاء المعري) عثر في ثناياها على مقولة (صكوك التوبة) التي تم استحداثها في تاريخ الفكر الإسلامي في عهد الفاطميين .. ففي الوقت الذي كان فيه رجال الدين المسيحي الكاثوليك يمنحون التوبة لعوام الناس عن ذنوبهم بصكوك الغفران بعد أن يقدم الشخص المذنب اعترافاً بكل ذنوبه علناً أمام كاهن الاعتراف في الكنيسة، كانت هناك واحدة من البدع الكثيرة التي استحدثها الفاطميون في العالم الإسلامي تسمى (صكوك التوبة) .. وربما كان ذلك نتيجة لاحتكاكهم بالعالم المسيحي قبل مجيئهم إلى مصر، فبهذا قد عرف العالم الإسلامي في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي ما كان قد عرفه العالم المسيحي في تلك الفترة وما قبلها .. وهذا ما تحدث عنه (المعري) في (رسالة الغفران) بسرده لحكاية (إبن القارح) الذي حمل صك للتوبة منحه إياه قاضي القضاة، ثم يضيع منه في الدار الآخرة فيسبب له ذلك متاعب كثيرة، حيث أن الانسان يدخل الجنة لديهم بصك يصدره في الدنيا قاضي القضاة. وهكذا كان (بن القارح) عند (المعري) يريد أن يدخل الجنة على طريقة مسيحيي أوروبا في العصور الوسطى يعطيهم البابا صكوكاً يدخلون بها الجنة ..
وهكذا تثبت الآداب الخالدة نفسها كشاهد على التاريخ الإنساني كله، وتثبت أيضاً أن التاريخ يعيد نفسه من جديد في كل عصر .. فقد أعادت جماعات باسم دين لإسلام في زماننا هذا بفعل السياسة ما كان من بدعة (صكوك التوبة) في عهد الفاطميين القديم ولكن على ثوب جديد معاصر .. فلقد ظلوا يقذفون في روع اتباعهم أن هنالك درجة في التدين أعلى من الدرجة العادية يحصلها فقط من انتمي لحزبهم، فهم الأعلون أصحاب اليد العليا وبقية الناس هم اليد السفلى .. ولذلك وزعوا المناصب والوظائف وثروات البلاد احتكاراً بين أنفسهم كأنما هي حق خالص لهم، فكانت النتيجة أنهم مهما أفسدوا في الأرض وأياً كان ما اجرموا في حق العباد كانوا يمنحون صكوكاً خفية من رأس تنظيمهم بغفران ذنوبهم وبميلاد جديد لهم في كل مرة وكأنهم صفحة بيضاء لم ينقش عليها إثم قط من قبل .. ولكن صكوك الغفران في هذا العهد جاءت على تطور جديد، فلم تكن فقط بمحو الذنوب والاَثام وإنما فوق ذلك بمنح مكافأة مجزية بأن يرفع من منصبه الذي كان فيه وحكم بظلم ويوضع في منصب جديد أكبر وأعظم شأناً فانطبق عليهم تماماً قول رسولنا العظيم (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) .. مثال ذلك الذي اختلس المال العام وهو من رجال القضاء فمنحوه صك توبة ومعه مكافأة بان توجوه عضواً كبيراً بهيئة التدريس بإحدى الجامعات العريقة ثم ولوه فيها مناصب حتى إذا ما بلغ ذروة عالية ولغ بجرم أيضأ في مالها العام ،فمنحوه صكاً آخر للتوبة وفتحوا له الباب ليجد فرصة مثالية خارج البلاد .. ومثال آخر لرجل فقط بحظوة قرابته للرئيس وبانتمائة لحزب المتاجرين باسم الاسلام وهو على غير شيء من كفاءة تذكر اعتلى منصب وزير الداخلية فانهار على يدية بنيان كبير مهم نتيجة الغش الكبير في المواصفات، فلم يراعي أولي الأمر أن ماذا لو كان قد ازهقت روح مئات الأبرياء تحت انقاضه ولكنهم بدلاً من ذلك منحوه صك توبة ومكافأة عظمى بأن نصبوه وزيراً للدفاع ليبني فيها عشرات المباني الفارهة بإنفاق مال لا حصر له مفروض فيه أنه مخصص في الأساس لدعم القوات المسلحة واكنه اهدره بظلم في حفنة طوب واسمنت، ويعلم الله متى ستنهار تلك المباني .. وأيضاً مثال ثالث لرجال ذهبوا خلف الرجال بجلباب أبيض إلى ساحات القتال وعادوا بذات الجلباب الأبيض دون أثر لغبار عليه فمنحوا الارضي والعطايا والثروات بصك توبة أسمه (شهادة عمليات) بينما كان نصيب من كان في مقدمة الرجال واستشهد صادقاً (عرس شهيد) يضحكون به على أنفسهم وعلى ذويه وأهله ظناً منهم أن ذلك يكمم الأفواه ويزيل غصة القلب المحروق .. ومثال رابع وخامس وسادس وسابع ، وقائمة طويلة بطول سنوات الظلم والالم الثلاثون ..
ان أعظم فساد للإنسان عندما يضع لنفسه مرتبة قدسية وينصب منها ظلاَ لله في الأرض، وتعالى الله أن يجعل من خلقة أحداً ظلاَ له في الأرض .. جماعات التكفير والهجرة فعلوا ذلك، وجماعة القاعدة الإسلامية فعلوا ذلك، وجماعة داعش فعلوا ذلك ، وفعله جماعة الإسلام السياسي عندما حكموا .. فأي عبث بالدين هذا ..
إن الشاهد في كل هذا، اننا نحن الشعوب من سمحنا للطاغية أن يكون طاغيًة، ونحن من سمحنا للفرعون أن يكون فرعوناً ، مادام فينا لم يزل يقدس بشراً مثله ويمنحه السيادة عليه لمجرد أنه سليل شيخ على طريقته أو عالم مسموم لحمه .. لقد ظل الكثيرون منا يمجدون أولئك الناطقين باسمه كذبا ولم يسمعوا إلى قول الله تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) ..فهل بعد ذلك سنعيد التاريخ المظلم فينا بتكرار أخطاء الماضي وجهالاته عندما تلوح أمامنا صناديق الاقتراع في يوم قريب ويكون الواجب أن نختار من نوليه علينا أميراً ..أما آن اليوم أن نسقط كل من رهن دين الله لمصلحته فجعل نفسه مفوضاً بالحق الالهي في الأرض وكذلك كل من أدعى أن له حق تاريخي مقدس في سيادة البلاد وحكمها من دون الناس والشعب..
لقد تهكم (المعري) في رسالته قديماً من توبة هؤلاء الذين منحوا صكوك التوبة الزائفة، فلا هي توبة من القلب تلازم صاحبها فتدخله الجنة بإذن الله، ولا هي ورقة تشفع لصاحبها في الدنيا عندما تقوم علبهم ثورة الشعب .