الثلاثاء، 5 مايو 2020

(بينة الخبير) في عمران البلدان ..

(بينة الخبير) .. في عمران البلدان

           وائل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كانت طوابير العملاء في السوبرماركت دائماً ما يكدسون مئات المشتروات على الطاولة امامه وكل يريد حسم حسابه على عجل ليمضي، وكان هو يجري كل عمليات الضرب والجمع والطرح المطولة والصعبة بقلمه الرصاص المجرد دون خطأ واحد في الحساب لكل شخص ورغم كثرة الزبائن وكثرة طلباتهم، فلقد كان عاشقاً لحركة البيع والشراء الحية مع الجمهور بشتى امزجتهم وطبائعهم حتى حذقها تماماً، ولهذا فبمجرد أن تخرج في كلية التجارة قسم المحاسبة اغرق نفسه في مجتمع المهنة دون التفات إلى اناس اخرين من اقرانه استهوتهم الشهادات العليا فوق درجة البكالوريوس فاغرقوا انفسهم أيضا في حياة البحث الاكاديمي حتى شاب منهم الشعر فصاروا اساتذة كبارا في علم المحاسبة بالجامعات، ولكن احدهم  لو أنه جلس يوما خلف طاولة البيع والشراء في سوبرماركت لعجز عن حساب طوابير الزبائن سريعاً إلا أن يؤدي ذلك بالآلة الحاسبة لا محالة نفس ما كان يؤديه ذاك بقلمه الرصاص .. فكلاهما اذن عالم، ونفهم خطأ إذا ظننا أن العلماء هم فقط استاذة الجامعات، وإنما العالم هو كل من فهم بعمق حقيقة ما يعمل وأداره بمهارة وابدع فيه ..
وعطفاً على ذلك، فأن تأذن المحكمة في قضية ما بسماع تقرير خبير فني متخصص مكلف به منها على شروط قانون الاثبات، بحيث تكون خبرته هذه هي حجية السماع لشهادته، فتلك هي بينة الخبير .. فالخبير هو شخص ذو دراية عالية بموضوع فني أو علمي أو عملي، ويستعان به في القضاء لأمور تدخل في اختصاصه، ولا يجوز للخبير أن يتجاوز المهمة المعهود له بها، ويشترط فيه أن يكون إنسانياً واجتماعياً.
في بلادنا النامية، مازالت تبهر اﻷلقاب العلمية والرتب الأكاديمية أعين العامة كفلاشات الكاميرات البراقة وأفيشات اللافتات الباهرة في المسارح والسينمات .. ولكن الذهب رغم نفاسته يستحيل أكله ..
قضت القاعدة الذهبية للقبول في اﻷرض أن يكون اسم الرجل أعظم عند الناس من أي ألقاب أو شهادات، وأن يكون انتاجه فيهم وقوله وعمله بينهم هو الحكم الصحيح عليه .. إذ هناك من يستترون بضعفهم وراء سلطة اﻷلقاب يجعلونها بوابتهم الوحيدة لكسب الاحترام، فتكون الألقاب لهم كقشة النجاة هي تحملهم بدلاً من أن يحملوها هم، وسرعان ما تنكسر القشة فإذا هم بكسرها مغرقون، فالزيف الكاذب يفضحه قصر اﻷمد، وهؤلاء قد رغمت أنوفهم والتصقت أياديهم بالتراب وبصق التاريخ على جباههم ..
وبعيداً عن هؤلاء، كان هناك دائماً الصادقون المفكرون المثقفون الحاذقون لعلومهم وفنونهم وأخذوا علي هذا ألقابهم ومراتبهم بحق وشرف، فصارت هي تبعاً ﻷسمائهم وليس هم التابعين لها .. هؤلاء تحتاج إليهم منصات الشرح العلمي والمحاضرات اﻷكاديمية وساحات الجامعات وقاعاتها، وتحتاج إليهم مراكز التدريب ومعاهد البحث العلمي .. ولكن إذا كان الحديث عن حاجة المجتمع العام وأوساطه البسيطة والمركبة وأزماته الحيوية المعتادة فإن الله تعالى قد قال (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) فمن يعلمون هؤلاء ليس شرطاً لازماً فيهم حيازة الشهادات بل حيازة الخبرة باعتبار أن الحال هنا يستوجب سلطة أخرى غير سلطة الألقاب العلمية والرتب اﻷكاديمية ، يستوجب سلطة الثقافة المجتمعية والكفاءة المهنية .. إذن، فعمران البلدان النامية يتطلب أن يكون في قمة هرم الحكومة فقط منصة الوزراء وليس فوقها مجالس للسيادة، فرئاسة الدولة هي رئاسة مجلس الوزراء .. ثم أن لا تتألف حكومة الوزراء هذه من ذوي اﻷلقاب العلمية وحملة الرتب اﻷكاديمية سواء حملوها بحقها أو كذب، فهؤلاء العلماء دورهم أن يخرجوا المهنيين ثم على المهنيين أن يديروا المجتمع، وليمكث العلماء في جامعاتهم ومعاهدهم .. فالأفضل للحكومة أن تتألف من خبراء هم (مهنيين - مثقفين) .. وأطرق على ذلك مرة أخرى (مهنيين - مثقفين) .. فلو أننا أتينا ربما بأعظم حامل للقب علمي في مجال معين قد غرق جل عمره في خط تخصصه الدقيق وكان لزماً عليه توفير غالب وقته وجهده وخبرته في التزام هذا الخط من أجل بلوغ أعلى درجات العلم فيه، فلن تكون لديه فرصة واسعة لعجن خبرته بثقافة معيشية غزيرة لعمق المجتمعات المحلية وسريان الحال فيها شعوباً وقبائل، وبالتالي فإنه على اﻷرجح لن ينجح في إدارة اقتصاد هذا البلد النامي وإدارة اﻷزمة فيه بوعي كلي يستصحب في إدارتها كل العناصر الدقيقة في بناء المجتمعات المحلية التي لم يكن ليتاح له التعرف عليها واستخدامها لو لم يكن مهنياً ذو خبرة عملية معيشية قد يفتقدها كثير ممن أغلقوا على أنفسهم  جدران المؤسسات الأكاديمية الصرف، ولو لم يكن كذلك ذو ثقافة حرة تمكنه من رؤية المشكلات بكل جوانبها الخفية وكل ما يتعلق بها من مجالات أخرى أو من عناصر قد تبدو ﻷول وهلة غير وثيقة الصلة بها، ولكن هذا لا يمنع أن يكون الأكاديمي هو نفسه المهني المثقف في بعض الحالات إذا أراد هو لنفسه أن يكون كذلك. قس على ذلك كل الخطط الاستراتيجية والخطب التنويرية المجدية لمهام الوزارات المختلفة في مجالات العمل الاقتصادي الاجتماعي والسياسي والزراعي والعدلي والتجاري والاعلامي والرياضي، هنا يكون صاحب الخبرة المهنية الثقافية هو المطلوب الحقيقي للموقع التنفيذي المعين .. وحيث أن القاعدة الذهبية تقول (لا يكفي الفهم العلمي الدقيق للمشكلات من أجل حلها بلا معايشة لواقعها، ولا يجدي معرفة طبيعة اﻷشياء واﻷفعال واﻷقوال بغير فهم للمجتمعات التي تكون فيها) .. هكذا وعندما لا نرى فراغاً بين المعرفة والواقع يظهر أمامنا خير الكتاب، وخير الكتاب من كان حراً في بناء خبرته، تماماً كما (العقاد) و(محمد أبو القاسم حاج حمد) و(ونستون تشرشل) و(باولو كويلو) و(وعبد القادر دقاش) و(بيل جيتس) و(توماس أديسون) وكثيرون في هذه القائمة من الخبراء المثقفون الذين أثروا مجتمعاتهم وغيروها ومنهم من أصبح بكفاءته هو محل الدراسة ومادتها عند طالبي الشهادات العلمية العليا والترقي في الرتب اﻷكاديمية. وكل هذا لا يقدح في أصحاب الألقاب والمراتب وإنما يضع لكل مقام مقال ..   فإذا كان المقام اﻵن في بلادنا مقام الثورة والتغيير والانتشال من هوة الفقر والضياع، فإن قسماً كبيراً من نجاحها يعتمد على اختيار المهني المثقف المناسب في كل مجال بحيث يكون العقد الناظم من وزراء السلطة التنفيذية يتمايزون في تخصصاتهم ولكنهم يشتركون في ثقافتهم المجتمعية.       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق