السبت، 11 يوليو 2020

تحليل سرديات الاخرة

تحليل سرديات الآخرة

د. وائل أحمد خليل الكردي

 نوع من السرد الأليف المخيف موقظ للضمير.. نوع من أدب الرحلات غير العادية..
ما سبب ظهور فن تحليل سرديات الآخرة ؟
برزت كتابات اﻵخرة وأدب العالم اﻷخروي وما بعد الموت كأشهر السرديات التي خلدت نفسها في اﻵداب العالمية. كان ذلك الظهور منذ بواكير التدوين التاريخي لتراث الحضارات القديمة لدى اليونان وفي الشرق إلى أن بلغت أوج مجدها في مطلع عصر النهضة اﻷوروبية. وربما مازال التأليف في هذا النوع من اﻷدب مستمراً حتى أيامنا الراهنة بأثواب عديدة مختلفة. ويبدو أن ظهور هذا الفن وانتشاره ثم بقاء تأثيره عائد إلى سببين:
السبب اﻷول:
الخوف الفطري الدائم لدى الإنسان من المجهول والظلمة والمستقبل الغامض، والعامل المشترك الحتمي في هذه المخاوف كلها هو (الموت) حيث لا يدري كل إنسان كيف سيكون موته هو ومآل مصيره الخاص، فلقد اطمئن اﻹنسان دائماً إلى كل ما هو مشترك به مع الناس في المجتمع والعائلة ورفقاء الطريق. ولعله كان تعبيراً بليغاً عما يبعث الثقة واﻹلفة في نفسه الشعار الذي أطلقه الكسندر دومان في روايته الشهيرة (الفرسان الثلاثة) أن (الجميع للواحد والواحد للجميع) فكان هذا هو احتماء اﻹنسان بمجتمعه وعشيرته اﻷقربين على نحو ما تتدفأ أفراخ الطير ببعضها من برد البرية، وهكذا اﻹنسان نهاراً حيث ضياء سطوع الشمس والنشاط، وتفاعل الناس يكون مختلفاً عنه إذا جن عليه الليل والتفاف الظلام وسكون كل شيء والبقاء وحيداً، فينام حتى يستعجل انقضاء الليل وعودة النهار. وعلى ذاك المنوال يكون أخوف ما في الموت غير رؤية ظلمة القبور وأفول تاريخ اﻷحياء، هو التجربة الوجودية للموت نفسها فهي التجربة الوحيدة التي هي بكاملها وجودية حيث لا إنسان يموت موتة إنسان آخر، فليست القضية أن هناك موت ولكن القضية أنني أموت، ولو أن الموت كان حالة اجتماعية مشتركة لما ثارت هنا مشكلة. واﻷسوأ على الإطلاق أن أحداً حتى لم يأتي من الموت ليخبرنا ما جرى معه فيه، وحتى ينشئ بهذا شيء من مشاركة ومعقولية التجربة التي يطمئن بها اﻹنسان أو باﻷحرى يقنع نفسه بهذا الاطمئنان على اﻷقل. ولذلك اشتغل كتاب اﻷدب شعراً ورواية على أن ينقلوا إلينا صورة عن هذا العالم اﻷخروي تعضيداً لما جاءت به اﻷديان على نحو العموم. فالخيال يمكن له أن يأتي بهذه الصورة (فردوساً وجحيماً) على ذات المفردات والمعاني التي ألفناها في حياتنا الدنيا ومجتمعاتنا فنطمئن شيئاً ما ونحلم، ثم نمضي على الصراط المستقيم. وليس هذا الرسم للآخرة إلا تجاوزاً تفاؤلياً لحفرة القبر المظلمة التي لا يرى الأحياء من الميت فيها سوى التهام الدود للحم البشري المتعفن. لقد قصد مؤلفو كتابات الآخرة – أغلب الظن – أن الترغيب والترهيب الكامن في آدابهم الأخروية هو دافع الإنسان نحو الصلاح في الدنيا وتجنب الآثام والخطايا.
بعض الأعمال الفنية التي تناولت سرديات الآخرة
• ملحمة الأوديسا لهوميروس
هكذا كانت رحلة اوديسيوس ورفاقه في ملحمة (الاوديسا) التي الفها هوميروس كأقدم نص أدبي جاء فيه وصف للجنة والجحيم، فحينما رحل البطل قافلاً من حرب طروادة قاصداً دياره وجد الطريق إلى هناك مستحيلاً إلا أن يعبر إليه ماراً بعالم الموتى وصولاً إلى ديار هاديس حيث دركات الجحيم من أجل أن يبلغ وطنه الدنيوي بعدما يكون قد رأى هناك ما قد رأى وعانى ما قد عانى. قال لويس عوض في كتابه (على هامش الغفران) عن (اوديسا) هوميروس أنها (تمثل مشكلة أدبية وفلسفية حقيقية، فهي من الناحية الشكلية الحرفية لا تشتمل إلا على فصل واحد أو حلقة واحدة من أربع وعشرين حلقة تصور نزول البطل اوديسيوس إلى الجحيم ليلتقي هناك بأبطال اليونان وملوكهم وليعرف هناك طريقه الذي ينبغي أن يسلكه حتى يعود إلى وطنه إيثاكا بعد طول ضلال. ولكن إذا صح تفسير العصور الوسطى لهذه الملحمة الخالدة بأنها في حقيقتها ملحمة دينية تمثل ضلال الإنسان بعد خروجه من الجنة الأولى وبحثة الذي لا يني عن جنة الميعاد وما يلاقيه الإنسان بين الجنتين من أخطار واهوال ومغامرات وغوايات. فربما كانت الاوديسا كلها … رحلة الإنسان في الدار الأخرى حتى يصل في النهاية إلى الجنة التي كان قد خرج منها) فيكون البطل بعد هذه الرحلة قد عرف بحق ما هو الخير وما هو الشر.
• نص الضفادع لأرسطوفانيس
وعلى ذات الأثر والغاية سار نص (الضفادع) لمؤلفه ارسطوفانيس، فخصصه بكامله لتصوير زيارة الإنسان للعالم الآخر، وفيه قرر ديونيزيوس أن ينزل إلى ديار هاديس حتى يأتي بالشاعر يوريبيدس، فديونيزيوس يصدق بأن الشعراء هم من مصادر الحكمة والهداية وأن منهم من يثبت الإيمان في قلوب الناس ويدعم أركان الدين في عالم انتشر فيه الشك والتجديف والإلحاد. وفي الشرق، ملحمة (جلجامش) البابلية القديمة التي تصور زيارة البطل الأشوري إلى الجحيم أيضاً ولنفس الغاية ولنفس دافع الفضيلة والحكمة.
السبب الثاني:
فكرة الخلاص وتحليل سرديات الآخرة في السرد الأدبي
فكرة الخلاص، والتي هي مترتبة بالضرورة على الخوف من مجهول الآخرة. وكان السؤال عند بعض فلاسفة الوجود إذا كان الموت هو الخلاص من الحياة التي نحياها في الدنيا فلما لا نصنع هذا الخلاص هنا في هذه الحياة وهذه الدنيا قبل الموت، حتى إذا حانت لحظته كان الخلاص فيما بعده امتداد للخلاص الذي كان قبله. هنا وقف ابيقوروس الاغريقي في المناداة بحالة (الاتراكسيا) أو الطمأنينة السلبية المكتسبة بتعطيل الإرادة الإنسانية سبب كل الآلام والشرور. وبمثل ذلك نادى الرواقيون أيضأً. ثم ظهرت مواقف وآداب الصوفية الشرقيين الذين جعلوا للخلاص الدنيوي أساسا دينياً عبر مقاماتهم وأحوالهم ورياضاتهم.
ولكن بقدر ما كان لفكرة الخلاص من أثر إيجابي في نفوس القائلين بها، بقدر ما اجتهد آخرون ليجعلوا منها تجارة رابحة لحظهم الشخصي، فليس ثمة ما هو مربح مادياً أكثر من الاتجار في ذنوب العباد وخطاياهم. فكان هذا باستغلال قلة الوعي العام لدى الجماهير المؤمنة مع ارتفاع عاطفتهم الدينية وتعظيم الدين في قلوبهم، وعندما يجتمع قلة الوعي مع ارتفاع العاطفة يقع الاستغلال غالباً بشهادة التاريخ على ذلك. فكان أن ادعى البعض من هؤلاء المتاجرين التفويض لأنفسهم دون غيرهم بالحق الإلهي من لدن الله تعالى بمحو خطايا الناس، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فدقوا صكوك الغفران لكل عاصٍ تائب ليجد خلاصه في الدنيا، فصك الغفران بزعمهم يغفر كل الخطايا ويضمن للإنسان عدم السقوط في مراتب الجحيم التي صورها دانتي في (الكوميديا الإلهية) لتكون أعظم أثر سردي في أدب تصورات الإنسان عن العالم الأخروي. ولكن دارت الدائرة بعد هذا على مانحي الصكوك بأن أطاحت بهم ثورة التنوير.
كيف حلّل أبو العلاء المعري وابن شهيد الأندلسي سرديات الآخرة وفكرة الخلاص؟
ولم يكن الشرق بعيداً عما كان في الغرب سواء في تصوير الرحلة إلى العالم الأخروي أو في ختم الصكوك للخلاص، فكانت (رسالة التوابع والزوابع) لابن الشهيد الاندلسي لمحاكمة الشعراء في الآخرة، ثم استلهام أبي العلاء المعري له في نسج (رسالة الغفران) ذلك النص الرفيع الذي ربما اقتبس فكرته دانتي دون تخفي. وسيرة ابن القارح في أثر المعري هذا تضمنت ما أسماه (صكوك التوبة) التي تُختم بأيدي القضاة ليحملها من تُختم له كمفتاح لأبواب الجنة ونجاته من السقوط في الجحيم. وقد صور نص (الغفران) طبقات الآخرة ومواطنها كما تخيلها المعري في رحلة بن القارح.
لقد كانت فكرة الخلاص الفلسفية في تصورات الآخرة سبباً كافياً أمام كثير من أصحاب المآسي والآلام الإنسانية والاعتلالات النفسانية لأن يقعوا فريسة لتجار الإرهاب السياسيين باستخدامهم تأويلات منحرفة للدين الحق، حيث كانوا يبثون في هؤلاء الضعفاء الطالبين للخلاص وقيمة الحياة عقيدة أن هذا الخلاص هو في الوصول السريع والمباشر والمضمون إلى جنة الخلد وأن الطريق الحقيقي للوصول هناك هو بالموت، فعليهم إذاً أن يختاروا موتهم بأنفسهم وأن يأخذوا معهم آخرين يحسبونهم بظنهم أنهم أسباب البلاء في الدنيا فأوجبوا ازالتهم، وهنا سمى لديهم تدمير الذات (تضحية) وسمى تدمير الآخرين الأبرياء (جهاد). لهذا لم تخلو فكرة الخلاص في السرد الأدبي من خطورة بسبب التأويلات المنحرفة لحقيقة ذلك الغيب الأخروي واستغلاله بسوء. وهكذا، تستمر رحلة الإنسان الحائر بين الحقيقة والخيال، وبين الغفران والخلاص، وجدلية الدنيا والآخرة. ولكن الموت وما بعده هو التجربة الوحيدة الفردية بكاملها والحالة الوجودية الكبرى (كل نفسٍ ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة).

الأحد، 14 يونيو 2020

جمعية الشعراء الموتى

(جمعية الشعراء الموتى)

وائل أحمد خليل الكردي

(جمعية الشعراء الموتى)  Dead poets socity فيلم الدراما الانسانية من بطولة الممثل الفريد الذي اشتهر بالانسانيات (روبين ويليامز) فكان هو المعلم في اكاديمية (ويلتون) الثانوية المحافظة الذي صحح الفكرة عن حقيقة الشعر ، وفي تلك اللحظة التي أمر فيها تلاميذه تمزيق مقدمة كتاب النقد  التي كانت تعد اقدس ما كتب في منهج النقد الشعري لدى الناطقين بالانجليزية كان ذلك الأمر بمثابة اعلان لهم أن كل شيء يمكن تحليله ونقده على هيئة الرسوم البيانية وما فيها من إحداثيات المحاور الحسابية افقياً ورأسياً .. إلا الشعر فهو لا يقاس بوصف الأشياء والوقائع من أجل أن يدركها الانسان، وإنما هو يقاس بما يجعل به الانسان يشعر بالاشياء والوقائع ويتفاعل معها، وبما يجعل الانسان يلمس حقيقته الوجدانية فيشعر إلى أي مدى هو موجود في هذه الحياة وأي قيمة تعني هي له .
إن هناك ملكة يجهلها كثير من الناس عندما يقرضون شعرا او يقرأونه .. هم يظنون الملكة الوحيدة لتذوق الشعر هي ما اسموه (ملكة التذوق الوجداني) ، وأنه لا يصح في وصفها ونقلها الى الاخرين - أي هذه الملكة - إلا ما قد وصف به القديس (اوجاستين) صناعة الله للتاريخ (أن سبل الله لا يمكن سبر غورها) ومن ثم فليس من سبيل للناس الى فهم التاريخ على الحقيقة ، فكذلك لا سبيل للناس الى فهم وجدان الشاعر وراء شعره ، ولا ضامن لدي الشاعر انه قد ابلغ ما اراد بشعره الى وجدان الناس ..
ولكن تلك الملكة التي لا يعي اكثر الناس وجودها في ذواتهم عندما يقفون أمام الشعر إبداعا وتذوقا هي (ملكة التذوق المنطقي) هي نوع رفيع من المنطق ليس هو منطق قيم الصدق والكذب وانما المنطق القائم بالذوق. هذه الملكة تمكن الناس ليس فقط من لمس وجدانهم في الشعر وانما تمكن الناقد من النقد والفيلسوف من الفلسفة .. وكذلك كل نفساني واجتماعي وسياسي واقتصادي ، وكل ذلك بانها ترسم الصور الذهنية لمجريات الحياة ، فيفهم الانسان ان للقصيد بيت له باب وحجرات وسقف .. وله مبتدئ ومنتهى وغاية وهدف وسبل يمكن سبر اغوارها .

ما هي القراءة ؟

ما هي القراءة ؟ ..
وائل أحمد خليل الكردي
هناك من يطرق على رأسه وسواس كأنه الجرس يقول له (اقرأ .. اقرأ) ، فيهم بالقراءة ولكنه سرعان ما يفقد العزم في الاستمرار ..
علينا ان نعي امرين مهمين :
اولا .. القراءة هي حالة تفاعل بين القارئ وموضوع القراءة ، وحالة التفاعل هذه تأخذ صورا وجدانية وعقلية متعددة تماثل مواقف الحياة العادية التي يعانيها الانسان بفعل ورد فعل ، وكل واحدة من هذه الصور كفيلة باغراق القارئ فيما يقرأ ، فالمهم اذن ان يختار القارئ ما يتفاعل معه من موضوع قراءة ، فلا جدوى لقراءة من اجل القراءة فقط .
ثانيا .. ان الفائدة المتحصلة من القراءة لا تقاس بكم الصفحات وكم الاوقات وكم الكتب ، وانما تقاس بدرجة التفاعل مع المقروء ، فدقيقة قراءة واحدة تشعر القارئ بحزن او فرح او فكرة تلتصق بالعقل وتجدي أكثر بكثير من ساعات يلتهم فيها الانسان كتابا كاملا فقط من أجل إسكات ذلك الجرس الذي يدق في رأسه بطلب القراءة ، فالعبرة اذن بلحظة تفاعل وانفعال وليس بتمرير البصر على الاسطر والكلمات .

الثلاثاء، 5 مايو 2020

صكوك التوبة ..


صكوك التوبة ..

 وائل أحمد خليل الكردي

هل كان (صك الغفران) ممنوحاً فقط في العالم المسيحي زمان العصور الوسطى بأوروبا؟ .. هل أعاد التاريخ نفسه في زماننا فمنحنا بدورنا صكوك غفران جديدة باسم دين الإسلام؟..
(لويس عوض) ناقد مبدع ومحلل للأدب اكثر ابداعاً .. في تدوينه لهوامش على (رسالة الغفران) لمؤلفها (أبي العلاء المعري) عثر في ثناياها على مقولة (صكوك التوبة) التي تم استحداثها في تاريخ الفكر الإسلامي في عهد الفاطميين .. ففي الوقت الذي كان فيه رجال الدين المسيحي الكاثوليك يمنحون التوبة لعوام الناس عن ذنوبهم بصكوك الغفران بعد أن يقدم الشخص المذنب اعترافاً بكل ذنوبه علناً أمام كاهن الاعتراف في الكنيسة، كانت هناك واحدة من البدع الكثيرة التي استحدثها الفاطميون في العالم الإسلامي تسمى (صكوك التوبة) .. وربما كان ذلك نتيجة لاحتكاكهم بالعالم المسيحي قبل مجيئهم إلى مصر، فبهذا قد عرف العالم الإسلامي في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي ما كان قد عرفه العالم المسيحي في تلك الفترة وما قبلها .. وهذا ما تحدث عنه (المعري) في (رسالة الغفران) بسرده لحكاية (إبن القارح) الذي حمل صك للتوبة منحه إياه قاضي القضاة، ثم يضيع منه في الدار الآخرة فيسبب له ذلك متاعب كثيرة، حيث أن الانسان يدخل الجنة لديهم بصك يصدره في الدنيا قاضي القضاة. وهكذا كان (بن القارح) عند (المعري) يريد أن يدخل الجنة على طريقة مسيحيي أوروبا في العصور الوسطى يعطيهم البابا صكوكاً يدخلون بها الجنة ..
وهكذا تثبت الآداب الخالدة نفسها كشاهد على التاريخ الإنساني كله، وتثبت أيضاً أن التاريخ يعيد نفسه من جديد في كل عصر .. فقد أعادت جماعات باسم دين لإسلام في زماننا هذا بفعل السياسة ما كان من بدعة (صكوك التوبة) في عهد الفاطميين القديم ولكن على ثوب جديد معاصر .. فلقد ظلوا يقذفون في روع اتباعهم أن هنالك درجة في التدين أعلى من الدرجة العادية يحصلها فقط من انتمي لحزبهم، فهم الأعلون  أصحاب اليد العليا وبقية الناس هم اليد السفلى .. ولذلك وزعوا المناصب والوظائف وثروات البلاد احتكاراً بين أنفسهم كأنما هي حق خالص لهم، فكانت النتيجة أنهم مهما أفسدوا في الأرض وأياً كان ما اجرموا في حق العباد كانوا يمنحون صكوكاً خفية من رأس تنظيمهم بغفران ذنوبهم وبميلاد جديد لهم في كل مرة وكأنهم صفحة بيضاء لم ينقش عليها إثم قط من قبل .. ولكن صكوك الغفران في هذا العهد جاءت على تطور جديد، فلم تكن فقط بمحو الذنوب والاَثام وإنما فوق ذلك بمنح مكافأة مجزية بأن يرفع من منصبه الذي كان فيه وحكم بظلم ويوضع في منصب جديد أكبر وأعظم شأناً فانطبق عليهم تماماً قول رسولنا العظيم (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)  ..  مثال ذلك الذي اختلس المال العام وهو من رجال القضاء فمنحوه صك توبة ومعه مكافأة بان توجوه عضواً كبيراً بهيئة التدريس بإحدى الجامعات العريقة ثم ولوه فيها مناصب حتى إذا ما بلغ ذروة عالية ولغ بجرم أيضأ في مالها العام ،فمنحوه صكاً آخر للتوبة وفتحوا له الباب ليجد فرصة مثالية خارج البلاد .. ومثال آخر لرجل فقط بحظوة قرابته للرئيس وبانتمائة لحزب المتاجرين باسم الاسلام وهو على غير شيء من كفاءة تذكر اعتلى منصب وزير الداخلية فانهار على يدية بنيان كبير مهم نتيجة الغش الكبير في المواصفات، فلم يراعي أولي الأمر أن ماذا لو كان قد ازهقت روح مئات الأبرياء تحت انقاضه ولكنهم بدلاً من ذلك منحوه صك توبة ومكافأة عظمى بأن نصبوه وزيراً للدفاع ليبني فيها عشرات المباني الفارهة بإنفاق مال لا حصر له مفروض فيه أنه مخصص في الأساس لدعم القوات المسلحة واكنه اهدره بظلم في حفنة طوب واسمنت، ويعلم الله متى ستنهار تلك المباني .. وأيضاً مثال ثالث لرجال ذهبوا خلف الرجال بجلباب أبيض إلى ساحات القتال وعادوا بذات الجلباب الأبيض دون أثر لغبار عليه فمنحوا الارضي والعطايا والثروات بصك توبة أسمه (شهادة عمليات) بينما كان نصيب من كان في مقدمة الرجال واستشهد صادقاً (عرس شهيد) يضحكون به على أنفسهم وعلى ذويه وأهله ظناً منهم أن ذلك يكمم الأفواه ويزيل غصة القلب المحروق .. ومثال رابع وخامس وسادس وسابع ، وقائمة طويلة بطول سنوات الظلم والالم الثلاثون ..
ان أعظم فساد للإنسان عندما يضع لنفسه مرتبة قدسية وينصب منها ظلاَ لله في الأرض، وتعالى الله أن يجعل من خلقة أحداً ظلاَ له في الأرض .. جماعات التكفير والهجرة فعلوا ذلك، وجماعة القاعدة الإسلامية فعلوا ذلك، وجماعة داعش فعلوا ذلك ، وفعله جماعة الإسلام السياسي عندما حكموا .. فأي عبث بالدين هذا ..
إن الشاهد في كل هذا، اننا نحن الشعوب من سمحنا للطاغية أن يكون طاغيًة، ونحن من سمحنا للفرعون أن يكون فرعوناً ، مادام فينا لم يزل يقدس بشراً مثله ويمنحه السيادة عليه لمجرد أنه سليل شيخ على طريقته أو عالم مسموم لحمه .. لقد ظل الكثيرون منا يمجدون أولئك الناطقين باسمه كذبا ولم يسمعوا إلى قول الله تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) ..فهل بعد ذلك سنعيد التاريخ المظلم فينا بتكرار أخطاء الماضي وجهالاته عندما تلوح أمامنا صناديق الاقتراع في يوم قريب ويكون الواجب أن نختار من نوليه علينا أميراً ..أما آن اليوم أن نسقط كل من رهن دين الله لمصلحته فجعل نفسه مفوضاً بالحق الالهي في الأرض وكذلك كل من أدعى أن له حق تاريخي مقدس في سيادة البلاد وحكمها من دون الناس والشعب..
لقد تهكم (المعري) في رسالته قديماً من توبة هؤلاء  الذين منحوا صكوك التوبة الزائفة،  فلا هي توبة من القلب تلازم صاحبها فتدخله الجنة بإذن الله، ولا هي ورقة تشفع لصاحبها في الدنيا عندما تقوم علبهم ثورة الشعب .

(بينة الخبير) في عمران البلدان ..

(بينة الخبير) .. في عمران البلدان

           وائل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كانت طوابير العملاء في السوبرماركت دائماً ما يكدسون مئات المشتروات على الطاولة امامه وكل يريد حسم حسابه على عجل ليمضي، وكان هو يجري كل عمليات الضرب والجمع والطرح المطولة والصعبة بقلمه الرصاص المجرد دون خطأ واحد في الحساب لكل شخص ورغم كثرة الزبائن وكثرة طلباتهم، فلقد كان عاشقاً لحركة البيع والشراء الحية مع الجمهور بشتى امزجتهم وطبائعهم حتى حذقها تماماً، ولهذا فبمجرد أن تخرج في كلية التجارة قسم المحاسبة اغرق نفسه في مجتمع المهنة دون التفات إلى اناس اخرين من اقرانه استهوتهم الشهادات العليا فوق درجة البكالوريوس فاغرقوا انفسهم أيضا في حياة البحث الاكاديمي حتى شاب منهم الشعر فصاروا اساتذة كبارا في علم المحاسبة بالجامعات، ولكن احدهم  لو أنه جلس يوما خلف طاولة البيع والشراء في سوبرماركت لعجز عن حساب طوابير الزبائن سريعاً إلا أن يؤدي ذلك بالآلة الحاسبة لا محالة نفس ما كان يؤديه ذاك بقلمه الرصاص .. فكلاهما اذن عالم، ونفهم خطأ إذا ظننا أن العلماء هم فقط استاذة الجامعات، وإنما العالم هو كل من فهم بعمق حقيقة ما يعمل وأداره بمهارة وابدع فيه ..
وعطفاً على ذلك، فأن تأذن المحكمة في قضية ما بسماع تقرير خبير فني متخصص مكلف به منها على شروط قانون الاثبات، بحيث تكون خبرته هذه هي حجية السماع لشهادته، فتلك هي بينة الخبير .. فالخبير هو شخص ذو دراية عالية بموضوع فني أو علمي أو عملي، ويستعان به في القضاء لأمور تدخل في اختصاصه، ولا يجوز للخبير أن يتجاوز المهمة المعهود له بها، ويشترط فيه أن يكون إنسانياً واجتماعياً.
في بلادنا النامية، مازالت تبهر اﻷلقاب العلمية والرتب الأكاديمية أعين العامة كفلاشات الكاميرات البراقة وأفيشات اللافتات الباهرة في المسارح والسينمات .. ولكن الذهب رغم نفاسته يستحيل أكله ..
قضت القاعدة الذهبية للقبول في اﻷرض أن يكون اسم الرجل أعظم عند الناس من أي ألقاب أو شهادات، وأن يكون انتاجه فيهم وقوله وعمله بينهم هو الحكم الصحيح عليه .. إذ هناك من يستترون بضعفهم وراء سلطة اﻷلقاب يجعلونها بوابتهم الوحيدة لكسب الاحترام، فتكون الألقاب لهم كقشة النجاة هي تحملهم بدلاً من أن يحملوها هم، وسرعان ما تنكسر القشة فإذا هم بكسرها مغرقون، فالزيف الكاذب يفضحه قصر اﻷمد، وهؤلاء قد رغمت أنوفهم والتصقت أياديهم بالتراب وبصق التاريخ على جباههم ..
وبعيداً عن هؤلاء، كان هناك دائماً الصادقون المفكرون المثقفون الحاذقون لعلومهم وفنونهم وأخذوا علي هذا ألقابهم ومراتبهم بحق وشرف، فصارت هي تبعاً ﻷسمائهم وليس هم التابعين لها .. هؤلاء تحتاج إليهم منصات الشرح العلمي والمحاضرات اﻷكاديمية وساحات الجامعات وقاعاتها، وتحتاج إليهم مراكز التدريب ومعاهد البحث العلمي .. ولكن إذا كان الحديث عن حاجة المجتمع العام وأوساطه البسيطة والمركبة وأزماته الحيوية المعتادة فإن الله تعالى قد قال (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) فمن يعلمون هؤلاء ليس شرطاً لازماً فيهم حيازة الشهادات بل حيازة الخبرة باعتبار أن الحال هنا يستوجب سلطة أخرى غير سلطة الألقاب العلمية والرتب اﻷكاديمية ، يستوجب سلطة الثقافة المجتمعية والكفاءة المهنية .. إذن، فعمران البلدان النامية يتطلب أن يكون في قمة هرم الحكومة فقط منصة الوزراء وليس فوقها مجالس للسيادة، فرئاسة الدولة هي رئاسة مجلس الوزراء .. ثم أن لا تتألف حكومة الوزراء هذه من ذوي اﻷلقاب العلمية وحملة الرتب اﻷكاديمية سواء حملوها بحقها أو كذب، فهؤلاء العلماء دورهم أن يخرجوا المهنيين ثم على المهنيين أن يديروا المجتمع، وليمكث العلماء في جامعاتهم ومعاهدهم .. فالأفضل للحكومة أن تتألف من خبراء هم (مهنيين - مثقفين) .. وأطرق على ذلك مرة أخرى (مهنيين - مثقفين) .. فلو أننا أتينا ربما بأعظم حامل للقب علمي في مجال معين قد غرق جل عمره في خط تخصصه الدقيق وكان لزماً عليه توفير غالب وقته وجهده وخبرته في التزام هذا الخط من أجل بلوغ أعلى درجات العلم فيه، فلن تكون لديه فرصة واسعة لعجن خبرته بثقافة معيشية غزيرة لعمق المجتمعات المحلية وسريان الحال فيها شعوباً وقبائل، وبالتالي فإنه على اﻷرجح لن ينجح في إدارة اقتصاد هذا البلد النامي وإدارة اﻷزمة فيه بوعي كلي يستصحب في إدارتها كل العناصر الدقيقة في بناء المجتمعات المحلية التي لم يكن ليتاح له التعرف عليها واستخدامها لو لم يكن مهنياً ذو خبرة عملية معيشية قد يفتقدها كثير ممن أغلقوا على أنفسهم  جدران المؤسسات الأكاديمية الصرف، ولو لم يكن كذلك ذو ثقافة حرة تمكنه من رؤية المشكلات بكل جوانبها الخفية وكل ما يتعلق بها من مجالات أخرى أو من عناصر قد تبدو ﻷول وهلة غير وثيقة الصلة بها، ولكن هذا لا يمنع أن يكون الأكاديمي هو نفسه المهني المثقف في بعض الحالات إذا أراد هو لنفسه أن يكون كذلك. قس على ذلك كل الخطط الاستراتيجية والخطب التنويرية المجدية لمهام الوزارات المختلفة في مجالات العمل الاقتصادي الاجتماعي والسياسي والزراعي والعدلي والتجاري والاعلامي والرياضي، هنا يكون صاحب الخبرة المهنية الثقافية هو المطلوب الحقيقي للموقع التنفيذي المعين .. وحيث أن القاعدة الذهبية تقول (لا يكفي الفهم العلمي الدقيق للمشكلات من أجل حلها بلا معايشة لواقعها، ولا يجدي معرفة طبيعة اﻷشياء واﻷفعال واﻷقوال بغير فهم للمجتمعات التي تكون فيها) .. هكذا وعندما لا نرى فراغاً بين المعرفة والواقع يظهر أمامنا خير الكتاب، وخير الكتاب من كان حراً في بناء خبرته، تماماً كما (العقاد) و(محمد أبو القاسم حاج حمد) و(ونستون تشرشل) و(باولو كويلو) و(وعبد القادر دقاش) و(بيل جيتس) و(توماس أديسون) وكثيرون في هذه القائمة من الخبراء المثقفون الذين أثروا مجتمعاتهم وغيروها ومنهم من أصبح بكفاءته هو محل الدراسة ومادتها عند طالبي الشهادات العلمية العليا والترقي في الرتب اﻷكاديمية. وكل هذا لا يقدح في أصحاب الألقاب والمراتب وإنما يضع لكل مقام مقال ..   فإذا كان المقام اﻵن في بلادنا مقام الثورة والتغيير والانتشال من هوة الفقر والضياع، فإن قسماً كبيراً من نجاحها يعتمد على اختيار المهني المثقف المناسب في كل مجال بحيث يكون العقد الناظم من وزراء السلطة التنفيذية يتمايزون في تخصصاتهم ولكنهم يشتركون في ثقافتهم المجتمعية.       

الثلاثاء، 17 مارس 2020











ديار (هاديس)

ديار (هاديس) ..
 وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

هل (كورونا) وباء طبيعي؟ .. لماذا كان الاهتمام الشائع لدى وسائط اﻷخبار أكثر الشيء عن نسبة انتشار هذا الوباء وكيفية الوقاية منه وتدابير الاحاطة به والتعامل مع المصابين، وضربوا صفحاً عن مصادر المرض نفسه إلا بأسباب ضيقة ومباشرة مثل التغذي على بعض الحيوانات التي لا يجب أن تغذي عليها الانسان؟ ولكن هذا لم يرد على السؤال، فالصينيون يأكلون هذه اﻷطعمة الغريبة وغيرها منذ أزمان بعيدة ولم تضرب فيهم اﻷوبئة مثلما ضربتهم (كورونا) في عامنا هذا ٢٠٢٠م ..
لقد ألف (آرثر لفجوي) كتاباً أسماه (سلسلة الوجود الكبرى) روج فيه لفكرة تزامن العوالم لدى بعض فلاسفة عصر النهضة في أوروبا حيث قالوا بأن العالم اﻷخروي (اﻵخرة) موجودة في نفس مكان وزمان هذا الكون الذي نعيش فيه حياتنا الدنيوية، وليس أن اﻵخرة تبدأ بعد أن تنتهي الدنيا بيوم القيامة، وأن الانتقال من الدنيا إلى اﻵخرة هو انتقال مرتبة وليس انتقال مكان وزمان، وأن ليس في اﻹمكان خلق كون جديد ابدع مما كان .. ومن هنا تبدأ الحكاية اﻷليمة.
لو رجعنا إلى الوراء لبضعة أعوام، وبالتحديد عند صدور رواية (الجحيم) لمؤلفها (دان براون) إذ لربما وجدنا فيها بعض مفاتيح السر .. تتحدث (الجحيم) عن فكرة أساسية هي محاولة إيجاد حل لمشكلة الانفجار السكاني العالمي بالتخلي عن ثلث سكان العالم الحاليين في سبيل الحفاظ على الجنس البشري من الانقراض بواسطة فيروس معدل جينياً. ومفتاح فهم المعتقد وراء استخدام هذا الفيروس المعدل يكمن في (الكوميديا اﻷلهية) اسطورة (دانتي اليجيري) التي تعد من أبرز اﻵثار الانسانية الخالدة في اﻷدآب العالمية، حيث أن عالم الجحيم اﻷخروي بكل طبقاته حاضر معنا فهو قطعة من اﻷرض نفسها، وعلينا أن نمر به حتى نعبر إلى الفردوس .. وقد اتفقت آثار النثر اﻹنساني التي تناولت اﻵخرة على أن الجحيم معبر ضروري لبلوغ الجنة، فإن لم يتخذ الانسان تدابير العبور السليم سقط في الجحيم وبقي فيه ..
نحن نؤمن بأن أحوال اﻵخرة تحدث عقب القيامة (وإن منكم إلا واردها) ولكن إيمان هؤلاء هو ما أتى بها إلى الدنيا، فلقد رسمت (أوديسا هوميروس) طريق (أوديسيوس) في رحلة عودته إلى وطنه ليمر حتماً بمملكة الموتى (هاديس) حيث لن يعرف وجهته إلا من العراف الميت هناك عندما يشرب من الدماء السوداء لكي يعود إلى حالة الوعي ثم يرشد (أوديسيوس) إلى مبتغاه، وفي الطريق تعترضه صعوبات وعوائق الجحيم .. وكوميديا (ارسطوفانيس) المسماة (الضفادع) أيضاً تحكي شيئاً بنحو ذلك الجحيم اﻷخروي الذي خاضه بطله (ديونيزيوس) في رحلة دنيوية .. وعلى الجانب الشرقي تتمثل فكرة الجحيم اﻷخروي الذي على اﻷرض في (جلجامش) الملحمة البابلية المشهورة، ثم في (رسالة الغفران) لمؤلفه العربي (المعري).. وهكذا نشأت فكرة (التطهير) في نقل حالة الجحيم اﻷخروي إلى العالم بوحي أساسي من هذه السرديات والملاحم بأن المرور بالجحيم أمر حتمي للوصول إلى الجنة، سواء في الآخرة أو على هذه اﻷرض التي نعيش عليها حياتنا الدنيا.. وأياً كانت نسبة الحقيقة إلى الخيال في هذه اﻷساطير إلا أنها ألهمت العديد من الحركات الداعية إلى (الخلاص) اﻹنساني بخروج الشرور عن العالم حتى ولو كان هذا الخروج بموت البشر أنفسهم .. إن فكرة (الخلاص) تمثل الهدف السامي لهذه اﻵداب وأن هذا الخلاص لن يكون إلا باجتياز معبر الجحيم واسقاط قسماً من البشر في الهلاك ليستمر القسم اﻵخر في الحياة وتجديد الدماء البشرية وتجديد المجتمعات، ولقد اختلفت الشعارات واﻷساليب في ذلك ولكن ظل الهدف للخلاص واحداً، لذلك ظهرت منظمات وكيانات دعت لقيادة الناس نحو الخير بتحقيق نوع من اﻹبادة الجماعية لفئات من الناس يقدمون كضحايا لهذا الخلاص ومن أجل سعادة الجنس البشري والحفاظ على استمرار الحياة ومن أجل أن يفسح أهل الجحيم السبيل لمن سيخلدون في الجنة .. ولم يتوقف اﻷمر عند حد السرديات الروائية لمبدعين فرادى بل امتد ليصبح مادة غنية في صناعة السينما لعبت فيه السياسة دوراً خفياً على أوتار التطرف الديني والعصبية العرقية وما نحو ذلك، فظهرت سلسلة أفلام أنصاف الموتى الذين يمثلون عالم الجحيم على اﻷرض يخرجون من المقابر ليلاً فحسب من أجل أن ينالوا من اﻷحياء ويرسلون منهم إلى الجحيم كل من لم يجعله سوء حظه أن يدرك طلوع النهار .. وأكثر من ذلك، سلسلة الأفلام الامريكية (ليلة التطهير) فعملية التطهير التي تدعو اليها هذه الأفلام شبيهة بعملية التطهير التي كانت تقام كل خريف فى سبارطة القديمة، وهى أيضا صورة محددة الوقت من عمليات التطهير العرقي لمجازر ارتكبت ضد الأقلية المستهدفة مثل تلك التي تمت في البوسنة والهرسك ومذابح رواندا وغيرها، ولكن هذه المرة تكون عملية التطهير تحت شعار (خلق امريكا جديدة) من خلال تنفيذ سيناريوهات الفوضى الناتجة عن غياب الدولة ومؤسساتها القادرة على بسط نفوذ القانون بل وتشجيع حكومة السيناتورات للعنف والاقتتال الداخلي بين الناس وفساد الجماعات المسلحة بحجة تنفيس الشعب المسالم في أصله عن مشاعر الشر السلبية الكامنة فيه فيتسبب ذلك أخيرا في قيام نظام جديد والتطهر من الماضي، وبرغم أن الحكومة في هذه الأفلام تسمح بالقتل غير المبرر والرعب وكل أشكال العنف والاعتداء يقوم بها حتى اشد الناس تدينا وداخل دور العبادة في 12 ساعة من منتصف الليل هي وقت التطهير من أجل ان تصبح الولايات المتحدة كما يقول الفيلم (أمة تولد من جديد) إلا أن الحقيقة  في الواقع أن هذا الوقت ممتد حتى تحقق أمريكا مآربها المنشودة، لذلك فإن سلسلة أفلام التطهير (PURGE) تصور واقع ما فعله في العالم من فوضى المحافظون الجدد أو (الآباء الجدد) كما يطلق عليهم في هذه الأفلام، فليلة التطهير اذن هي ليلة الجحيم ..
والان، والأرض تضج وتختنق بكثافة الساكنين عليها من البشر يهلكون الموارد واسباب البقاء في الحياة وتزيد معدلات الفقر والبؤس في أكثر المجتمعات ويصبح الانسان عبء على الطبيعة، هنا تنشأ الحروب التقنية باسم المصالح الاقتصادية وتزدهر منظمات صناعة الإبادة وتروج تجارة الهلاك حتى تخلو الأرض للأقوياء من غير انتخاب طبيعي كالذي قال به (داروين) .. وبعد كل هذا، لم لا يكون فيروس (كورونا) نتاج سياسي لإلهام النثر الأدبي الأخروي وافلام التطهير بنحو أو بآخر .. لم لا يكون (كورونا) صناعة من أرادوا تقليل الكثافة الزائدة عن الحد لنوع من البشر حتى تعود الموازنة بين جميع الأجناس على الأرض إلى معدلها الطبيعي .. (كورونا) هو جحيم (هاديس) ديار الموتى الذي بعبوره تكون الجنة على الناحية الأخرى لمن كان لهم حظ العبور .. ليست المشكلة في وباء (كورونا) أو أي وباء آخر، ولكن المشكلة في الاستغلال السياسي لتلك التنظيمات والجمعيات الإنسانية التي تنهض في كل مرة من جديد بدعاوى إبادة جماعية ربما ورائها إيمان ديني شديد ولكنه إيمان متعصب ومنحرف، فليس دائما ما يبدو إنسانياً في ظاهره يكون في مصلحة الجنس البشري.


















السبت، 7 مارس 2020

عندما يكون التابع هو السيد

(صحيفة اليوم التالي)

عندما يكون التابع هو السيد .. 

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي

حقاً، ان الصغار هم الذين يصنعون العمالقة .. فكذلك كل جبار وطاغية وحاكم بأمره ومتشيخ ظان بنفسه علوا بكراماته هم صنيعة كل امعة ساذج رهين سيده كَلٌّ على مولاه ينفخ النار في الحطب تحت القدر ليغلي ماؤها ويصعد بخاره عالياً فيحرق وجوه الواقفين فيحسبون البخار هو حارقهم ولا ينظرون الى من ينفخ النار.
لقد حمل فارس الظل الحزين (دون كيشوت) حربته ودرعه الصدئة وقاد حصانه العجوز ظناً منه أنه يعيد زمان الفرسان النبلاء المجندين دوماً لإنقاذ البشرية في كل موطن .. فحارب كائنات خياله الجامح وهي في الحقيقة لا شيء، فتهشمت عظامه ولكنه استمر حتى لقي حتفه وهو يحسب انه فارس حقيقي من العصور الغابرة .. فمن اين كان له كل هذا العزم والإصرار؟ بلا شك كان سبب هذا شعوره العظيم بالنشوة بانه يفعل فعل السادة وانه هو السيد النبيل .. ولكن من يقرأ ما وراء السطور في الرواية يرى أن منبع هذه النشوة الحقيقي لديه لم يكن كل تلك المؤلفات العديدة لقصص الفرسان القدامى التي اغرق نفسه فيها لسنوات حتى ابيضت لحيته، ولم يكن منبعها أيضا تلك الهتافات والتحيات الملقاة عليه في كل درب هو سالكه، وانما المنبع الحقيقي لنشوة الفروسية والسيادة لديه كان هو تابعه (سانشو بانثا) الذي بدا ساذجاً يصدق سيده في كل ما يقول وكل ما يقوده اليه .. فالقراءة الواعية لشخصية هذا الرجل (سانشو) انه ربما كان رجلا خارق الذكاء ليس بأنه قد صدق سيده وانما لأنه جعل سيده يصدق نفسه فكان بذلك هو المدد الحقيقي الذي مكن (دون كيشوت) من الاستمرار والنضال فيما كان يتصوره .. لقد كان التابع هو السيد في الحقيقة ومن بدا للجميع بأنه القائد كان هو المقود يمسك بخطامه ذلك التابع المسكين .. ومما يبدو أن هذا هو منطق إدارة الاحداث وراء كثير من وقائع عصرنا المصيرية، وهو ان ما يبدو لنا تابعاً متدني الأهمية يكون في الحقيقة المستترة هو السيد والربان خلف الدفة.
ما يقوله الساسة في اروقتهم السرية تقوله صناعة السينما في العلن .. ففي أحد الأفلام الواقعية عن ضلوع قادة اكبر البنوك العالمية في عمليات فساد دولية، تكلم الرجل بأن اكثر حروب العصابات والنزاعات الاقليمية المسلحة تعتمد في الأساس على السلاح الخفيف لاسيما الذي تصنعه الصين بكثافة وبأسعار زهيدة نوعاً ما، وان هذا البنك العالمي يقوم بدور السمسار في أزمات النزاع المسلح ليس من اجل الربح غير المجزي لعائدات بيع السلاح الخفيف وانما من اجل السيطرة .. السيطرة ليس على النزاعات ولكن السيطرة على الديون التي تخلفها النزاعات. فهذه الديون هي الطوق الذي يقيد عنق جميع الدول والمؤسسات وحتى الافراد لكي يكونوا عبيداً لديونهم، وهنا يصطاد البنك في الماء العكر ..
اذن، فهي السمسرة ما تكون وراء كل أزمة، ووراء اشتعال الأسعار واختلال الموازنة ما بين العملة المحلية وقيمتها الحقيقية من مخزون الذهب الاستراتيجي الكافي فعلا لتغطية العملة، وذلك بأن يتم رفع سعر العملة الأجنبية الصعبة ارتفاعاً وهمياً خارج هذه التغطية الحقيقية، ثم استغلال هذا الامر بما يحقق تضييق كل سبل العيش على الناس لأجل مصالح أصحاب رؤوس الأموال ولأجل الثراء بفاض القيمة الوهمية المتراكمة بفعل السمسرة ..
والان هي الثورة، ولو ان الدولة الثورية تخلت الى حد ما عن الاعتماد على إدارة الأوراق النقدية الملونة ولجأت الى إدارة الغلال المحلية في سوقها الداخلي دون الخارجي لربما كفت لكل مواطن قوت يومه وليلته بفائض ملحوظ .. ولو أن الأسواق امتلأت بما يمنحه البحر مدداً مستمراً من الأسماك دون مقابل وبلا زرع او قلع فقط جهد الاستخراج والتوزيع لربما صار الشعب غنياً دون مال .. ولو أن كل انسان غرس بزرة في ارض الوطن لربما طغى الثمر في يوم قريب .. ولو ان الدولة الثورية اعتمدت على السواعد البشرية المجردة في وطن اكثره الشباب دون انتظار لألات او لبترول لربما كان كسب الوقت بالجهد والعرق مباركاً واشد ظهيراً للمجتمع في الخروج من الأزمات .. ولو ان أصحاب الرعاية جمعوا كل الفاقد الإنساني من أبناء الشوارع والمشردين والهائمين بلا مأوى صفاً واحداً في ميادين الإنتاج والتنمية القومية وتحسين البيئة في مقابل ضمان غذائهم وكسائهم وسكنهم لربما لم تحتج البلاد يوما الى غير أبنائها بل لربما صدرنا الخيرات لغيرنا بعدما يفيض ما في بيوتنا عن حاجتنا .. ولو ان اكثر الجامعات تحولت الى معاهد فنية مهنية حرفية عليا لربما فاز المجتمع فوزاً اكبر ولربما اغتنم الشباب أعمارهم البكر قبل ضياعها تعطلاً بلا عمل على الأرصفة وأماكن قتل الأوقات يحملون في جيوبهم شهادات اكاديمية رفيعة ولكنها محض أوراق بلا قيمة اذا لم تملئ شاغرا في مقاعد العمل.
ان كل شيء له قسطاسه المستقيم وميزانه الحق .. فلقد كان صدقاً ما قاله صديقي الوراق الناسك (ود الجبل) ان (سانشو كان سبب استمرارية الدونكشوتية .. لولاه لسقط الفرس).

الكنديون يقرعون الطبل الافريقي

الكنديون يقرعون الطبل الأفريقي..

 وائل الكردي

لقد كان (محمد اقبال) حكيماً حقاً فيما قال عن حركة الزمان (لا يمكن تصورها على شكل خط قد رسم بالفعل بل هي خط مازال يرسم.. أو تحقيق لممكنات جائزة، وهي تتصف بالغائية فقط بمعنى أن من خصائصها الانتفاء وأنها تصل إلى نوع من تحقيق الحاضر عن طريق الحرص على الاحتفاظ بالماضي والاضافة إليه) وعندما ارتبط هذا بمعنى الحرية لديه قال بأن النظرة المادية تحمل العالم وإرادة الانسان على مبدأ الجبر الصارم (فالعالم الذي يعتبر هو حالة حركة من أجل تحقيق أهداف سبق بها القضاء ليس عالماً يتألف من قوى حرة تسأل عما تفعل، فما هو إلا مسرح عليه دمى تحركها يد من خلف الستار).. وهكذا يكون وصف السياسة وطريقتها، وهكذا يكون حال من تربوا على ألا ينظروا الى وقائع الحياة وتصرفات الناس إلا من المنظور السياسي، وهكذا تربى شعبنا في السودان.. فأحياناً قد تكون الإجابات مختبئة في ثنايا السؤال المطروح علينا نفسه ولكننا نبحث عنها بعيداً.. وكثيراً ما نغفل عن الحقائق المجردة عندما نأخذ ما يقع أمامنا إما بالانفعالات والعاطفة التي لا تفكر وإنما ترتد على الأحداث والوقائع كارتداد الكرة المطاطية عن الحائط، وإما لأننا نضع كل حدث في حيز خبرتنا الفردية على ما اعتدنا عليه في الحياة اليومية وحسب فنحكم عليه بما سبق أن حكمنا به على غيره حتى ولو لم يكن الحدث اللاحق يطابق الأحداث السابقة فيحصل الخلط الكبير.. ولذلك عندما حرك أحدهم حصانه كأول قطعة يحركها في بداية مباراة الشطرنج وقفز به مرتين ليضرب به البيدق إلى جوار ملك الخصم، أضمر هذا الخصم حكمه بحماقة ذاك اللاعب إذ كيف يضحي بقطعة مهمة هكذا مقابل لا شيء، ولكن عندما يأتي دوره في اللعب لا يجد من خيار امامه إلا أن يحرك الملك من مكانه ليقتل به الحصان، حينها لربما اكتشف أن تحريك الملك في أول اللعب اشد خطورة عليه من فقدان خصمه لحصانه وأنه يحتاج إلى مراجعة كل حساباته من جديد.. وأن صاحب الحصان لم يكن أحمقاً عندما ضحى به.. 
لقد ظللنا عمراً طويلاً ننظر إلى أحوالنا ونصنع خططنا ومشاريعنا بناء على فكرة السياسة فحق لنا أن نرتطم ببعضنا البعض كثيراً ونتعثر ونظل نبدأ في كل مرة من نقطة الصفر الأولى ويمشي أواخرنا على هام الأولي دون أن نتقدم شبراً.. ومن هذا المقام، لم نتوقف لنسأل لماذا نتهم ونهاجم رئيس الوزارة في حكومتنا الانتقالية على ما يفعل كما لماذا نتفق معه ونوافق.. فربما ذلك لأننا ننظر من منظار السياسة التي تتعدد فيها زوايا الحقيقة الواحدة وتكثر فيها ردود الفعل المتباينة تجاه الحدث الواحد بحسب مواقعنا وانتماءاتنا السياسية، حيث الحقيقة في أرض السياسة تكون عائمة ورمال متحركة.. فماذا لو فطنا أن الرجل ليس (سياسي) ولا يلعب في حلبة السياسة وإنما هو (إداري) موظف وعلى هذا الأساس يفكر ويقرر، فكان حرياً أن ننظر إليه وفق طريقة الإدارة فلا نضل السبيل لفهمه شجباً أو تأييداً..
فبينما يؤدي المنظور السياسي إلى اتخاذ المواقف المتحيزة وخلق الصراع بين الأطراف المتضادة وإزالة التناقض برفع طرف ليبقى الطرف الآخر واستغلال الحالة الاجتماعية للشعب من أجل تغليب بعض على بعض وسوق سواد الناس كمثل القطيع الطائع تحت إرادة فئة قليلة منهم إن بالحيلة أو بالكذب وعرض الحقائق على غير ما تبدو واللعب على أوتار الرأي العام الانفعالية والحماسية على طريقة السؤال الخبيث حول قضية متعلقة على سبيل المثال بالمال العام (متى كففت عن ضرب زوجتك؟) فيوحي هذا السؤال للحاضرين بأن المسؤول في أصله رجل سيء لأنه قد اعتاد ضرب زوجته فترتسم مشاعرهم نحوه ابتداءً بشيء من البغض، فلو أنه أجاب فقط (لم أفعل) مال الناس إلى تفسير رده (أنه لم يتوقف عن الضرب) وإذا قال (لم أضربها قط) وإن كان صادقاً، طالبه الناس بدليل على اجابته تلك لأن السائل لم يوجه إليه اتهاماً يستوجب تقديم البينة عليه وإنما فقط طرح سؤالاً فلزم على المسؤول تقديم دليل على اجابته، وإذا آثر الصمت فلم يجب على السؤال أصلاً اتجه الشعور العام للحاضرين أن صمته إقرار بضربه زوجته، وهكذا المأزق قائم في معظم الحالات، فنحو ذلك ما تصنعه السياسة.. أما عن المنظور الإداري، فقد استرعت انتباهي عبارة قالها المفكر السعودي البارز (يعرب خياط) ضمن منشور له على (فيسبوك) قال فيها (ما هي الإرادة الوطنية التي استدعت كلاً من البلدين للعمل الدؤوب المستمر لتحويل مجتمعيهما إلى مجتمعات مترابطة.. يعمل الكندي في قرع الطبل الأفريقي)..  فهكذا يعامل المنظور الإداري الشعب كله كمنظومة واحدة بكل متناقضاته ومتضاداته واختلاف اعراقه وتباين اتجاهات افراده الفكرية والعقدية بحيث يتم ترك كل شيء فيهم على حاله بكل ما لهم وما عليهم بدون مطالبة لهم بتغير جذري لصالح فكرة أو لصالح فئة، ثم يتم دفع المنظومة بكاملها في وقت واحد بإيجاد العامل المشترك بين جميع أطراف وعناصر هذه المنظومة مهما كانت مساحة هذا العامل المشترك صغيرة ولكنها مع نجاح الممارسة الإدارية والاستمرار والنمو تتسع هذه المساحة مع كل جيل جديد ويفرض الاشتراك في المنظومة قبول الآخر المختلف.. حينها تتحول الإدارة المجتمعية إلى إرادة جماهيرية، يكون الدور الأكبر في تحقيقها هو التنوير للمجتمع بهذا الفارق بين المنظور السياسي والمنظور الإداري. وليكن هذا التنوير على هيئة قطرات الماء الصغيرة المركزة والمتتابعة ببطء فكما أن قطرات الماء التي تطرق برفق على رأس إنسان كفيلة بمرور الزمن أن تثقبه ثم تقتله فإنها هنا تغرس الوعي السليم.. بهذا المنظور فقط يمكن احتواء الكل ليس في الداخل فقط بل احتواء الدول الأخرى للإسهام الفاعل في دفع منظومتنا بتنافس سلمي حر وشريف ومثمر بين جموع تلك الدول في ميادين الاقتصاد الوطني والنهضة العمرانية والتنمية البشرية.. فلقد كان هذا المنظور هو الكفيل بجعل الإدارة المجتمعية تصبح إرادة شعبية، كما كان هو الكفيل بجعل الكنديون يقرعون طبول أفريقيا.

خرافة الحق التاريخي

خرافة الحق التاريخي..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لماذا إذن نحارب إسرائيل؟ .. هل أتى اليهود من خارج فلسطين ابتداء، أم أنهم وجدوا فيها كغيرهم ثم هُجر إليهم المزيد من أنحاء
 العالم؟ وهل كان العرب حالة عرقية راسخة على طول تاريخ فلسطين؟ .. 
لم يكن ذلك الأثر القابع في منتصف شارع القصر (قديماً، شارع فيكتوريا) بالعاصمة الخرطوم يثير الفضول لدى الدارسين بكونه سينما (كوليزيوم) .. ولكن بعد أن أميط اللثام بأن هذه السينما أقيمت في الموقع الذي كان يحتله نادي (مكابي) الرياضي اليهودي، اتجهت انظار بعض من ينقبون خلف الكواليس إليها حيث لم تكن سينما (كوليزيوم) مجرد مكان للترفيه والمشاهدة قبيل ظهور البث التلفزيوني وانما كانت تعبيراً عن نوع ذلك النسيج الاجتماعي ذو الطابع الغريب ليهود السودان فيما بينهم ومع باقي السودانيين .. فذكر الكاتب مكي أبوقرجة - رحمه الله – في قرأته لكتاب الياهو سلمون ملكا (أبناء يعقوب في بقعة المهدي) أن اليهود أقاموا علاقات واسعة مع السودانيين وتشربوا الحياة الثقافية السودانية وتأثروا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية إلا أنهم ظلوا يهوداً ملتزمين بديانتهم فأقاموا معبداً ونادياً اجتماعياً وأخذوا يتصاهرون في اطار جاليتهم.. وحتى الأجيال الجديدة من اليهود السودانيين التي لم تر ذلك البلد البعيد وعاش معظمها في أوروبا تحمل ذكريات غامضة وحباً مبهماً للسودان ذلك الوطن الذي بات مستحيلاً .. هؤلاء اليهود لم يستطيعوا نسيان السودان ولم تعوضهم إسرائيل عن ذلك الحنين الجارف الذي يلف ارواحهم.
والسؤال الآن، هل من يطالبون – أو على الأقل يؤيدون – التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب هم من بقايا اليهود في السودان، أم أنهم السودانيين الذين عايشوا اليهود ودخلوا معهم في هذا النسيج الاجتماعي؟ أم أنهم من عموم الأجيال المتأخرة في السودان ولم تعد بينهم وبين عهد اليهود في السودان ثمة صلة؟ الشاهد الآن أن المطالبين هم من هذه الفئة الأخيرة، فهل يجوز التطبيع برغم الزعم بالحق التاريخي الذي باسمه أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، والذي باسمه أيضاً حارب العرب هذا الإعلان وقاتلوا اليهود على ذات الأرض؟ .. لنفرد الأمر برمته إذن على طاولة التحليل ..
إذا سألنا عن ثمة حق تاريخي في فلسطين، فلن نجد من لديه حق تاريخي كامل فيها، إن هي إلا أمم وحضارات قد تعاقبت عليها في سير حقب التاريخ إلى وقتنا المعاصر .. فليس للعرب ولا لإسرائيل سواء بسواء حق تاريخي جامع مانع في فلسطين، وإنما هي محض حالة السيادة على الأرض بحسب الدور التاريخي والظرف الحضاري للمنطقة على سنة قول الله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وهذا ليس تأييداً لقيام دولة إسرائيل وإنما إقرار بأمر قد تم وصار واقعاً راهناً وجب علينا التعامل معه .. وإذا سألنا عن المسلمين والإسلام في فلسطين فإنها قد دانت للفتح الإسلامي الذي أتى إليها متأخراً عن أمم الشرق القديم واليهودية والنصرانية، ولهذا فلن يكون السؤال عن الاسلام بالتأكيد من باب أن هناك حق تاريخي له كباقي الدعاوى العرقية أو العنصرية أو القومية وإنما يكون من باب أن الإسلام رسالة إلى البشرية جميعاً وليس تخصيصاً لشعب أو أرض بدعوى حق تاريخي .. لذلك لم تكن حرب سنة 1948م حين اعلان قيام دولة إسرائيل رسمياً حرباً إسلامية وإنما حرباً عروبية .. فلقد أخلى المسلمون مقعد الحق الإسلامي المكتسب بالفتح في فلسطين لصالح الحق العروبي العرقي أو العنصري فلم تعد بذلك حرباً جهادية مقدسة لنصرة دين الله في الأرض وإنما هي لمنح حق مزعوم لقوم عرب قد يتساوون فيه مع أقوام أخر، ناهيك عن أن الأصل العرقي والتاريخي لبقعة فلسطين ليس عربياً صرفاً ولكن تم تعريب لسانهم على نحو ما يمكن لأي انسان أن يتحول إلى عربي بتعريب لسانه .. وناهيك أيضاً عن أنه ربما كان غالب أهل إسرائيل اليهود هم من فئة يهود الشرق (سفارديم) والذين يتحدث اكثرهم العربية كلغة أم، فهم من العرب .. فإذا دعونا إلى حق تاريخي عروبي في فلسطين لاختلط الأمر بينهم وبين اليهود، وبالتالي يتقلص الحق الإسلامي الذي ربما استعمله العروبيين كعامل تبريري مساعد في حربهم ضد اسرائيل وفق هذا المنطق في بضع اثار ومقدسات لا تحتل المرتبة التعبدية العليا للمسلمين بمثل ما يحتله الحرمين الشريفين.
إن الحق العروبي التاريخي المزعوم في فلسطين التي عليها الآن دولة إسرائيل هو سبب ختم جواز السفر السوداني (كل الأقطار عدا اسرائيل) وليس الإسلام هو ما منع ذلك .. إذ أن حرب 48 جاءت متأخرة عقب انهيار الخلافة الإسلامية بخمس وعشرين سنة، وكان الاعداد وقتها لثورة القومية العربية التي تحققت في عام 1952م .. لقد فتح المسلمون بلاد الدنيا حتى دان لهم ثلث العالم تحت راية واحدة عندما اسقطوا دعاوى القومية والعرقية والعنصرية ولم يلتفتوا للحقوق التاريخية، تلك الراية التي فقدها المسلمون تباعاً حتى سلموا آخر مفتاح فيها بعزل السلطان عبد الحميد، ولسنا هنا بصدد شرح أسباب ذلك وانما حسبنا أن نأخذ النتيجة الواقعية. إذن فقد عادت كل ولايات الخلافة الإسلامية لعظمى الى سابق عهدها كأمم وشعوب منفصلة بعضها عن بعض كدول ذات سيادة مستقلة .. فنحن المسلمون إذن من أخلينا مقاعدنا وفرطنا في رايتنا والأمة الواحدة الممتدة بكاملها وليس فقط أرض فلسطين عندما طالبنا بالحق التاريخي، فما المسوغ إذن أن نطالب الآن بجزء معين دون الكل؟ .. وحتى إن صح ذلك فالأولى بحق المطالبة هو الأندلس والقسطنطينية واسطنبول القديمة، ناهيك عن أننا كنا طوال الفترة الماضية لا نحارب دولة إسرائيل من أجل حق الإسلام بل لحق العروبة، والفرق كبير .. فلربما لو أننا حكمنا الإسلام في الوضع الراهن والذي ليس فيه مقاتلة مباشرة لحكم علينا بحكم الله في القرآن الكريم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). فنحن الآن لسنا في مقام الفتح العسكري وإنما القدرة السياسية، وهذه الآية هي الدال على خارطة الفعل السياسي في ظرفنا الراهن في ظل الجنوح للسلم، وخاصة أن الفلسطينيين هم بدورهم قد رسموا حدود دولتهم باتفاق جزئي مع الكيان الصهيوني واعتراف غالبية دول الأمم المتحدة بها .. وأذكر في زيارة إلى سجن كوبر ضمن وفد اسرة القانون المدني بجامعة القاهرة فرع الخرطوم في العام 1988م وقفت وزميل لي مع الفلسطينيين المحكوم عليهم بالإعدام في قضية تفجير فندق الأكروبول في وسط الخرطوم، وقال لي احد المحكومين بأنهم نفذوا ذلك اعتراضاً على أي توفيق أوضاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين العرب وقال لي نصاً - وكنت أحمل كراساً في يدي - (لو أن هذا الكراس لي وقبلت بإرادتي بأن اتنازل في وقت ما عن نصفه فهل سيحق لي المطالبة به كله مرة أخرى، كذلك هو موقفنا في فلسطين ولم نندم على ما فعلنا) .. كل هذه المواقف وغيرها قد ترتبت على النزاع بين خرافة الحق العروبي التاريخي في الأرض وبأيديولوجيا القومية العربية التي غرستها في المنطقة ثورة يوليو 52 في مصر وأيضاً خرافة الحق اليهودي التاريخي لبني إسرائيل فيها .. في حين أن كل ما هنالك أنها دولة أقيمت على أنقاض دولة ولنا حق التعامل معها ما لم يقم شرط المقاتلة وأن كان قد جنحوا هم للسلم حتى ولو كانوا أشد الناس عداوة لنا.. وأما عن جرائم ومذابح بني صهيون في حق الفلسطينيين في صبرا وشتلا وغزة ودير ياسين وغيرها فلن ننساها كحق جنائي خاص لفلسطين وحق عام للمسلمين كما لن ننسى مذبحة فض اعتصام القيادة العامة على أيدي بني جلدتنا وهو أشد سوءً من ذاك، ومثلها كانت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان وفيتنام، والآن بين أيدينا حرب الإبادة والتهجير في سوريا ومذابح مسلمي الروهينجا في ميانمار، والقائمة طويلة جداً.. فكلها بانتظار أخذ الحق بالقانون والعدالة الدولية دون أن يلغي ذلك استمرارية الدبلوماسية السياسية القائمة على العلاقات بين النظم وإدارة المصالح العامة للشعوب .. فإلى حين أن يأخذ القانون مجراه، وإلى حين أن نطهر بيتنا من الداخل أولاً بالقصاص العادل تظل السياسة والدبلوماسية تأخذ مجراها بما ينفع الناس مع أي دولة في الأرض. والله تعالى غالب على أمره.