تحليل سرديات الآخرة
د. وائل أحمد خليل الكردي
نوع من السرد الأليف المخيف موقظ للضمير.. نوع من أدب الرحلات غير العادية..
ما سبب ظهور فن تحليل سرديات الآخرة ؟
برزت كتابات اﻵخرة وأدب العالم اﻷخروي وما بعد الموت كأشهر السرديات التي خلدت نفسها في اﻵداب العالمية. كان ذلك الظهور منذ بواكير التدوين التاريخي لتراث الحضارات القديمة لدى اليونان وفي الشرق إلى أن بلغت أوج مجدها في مطلع عصر النهضة اﻷوروبية. وربما مازال التأليف في هذا النوع من اﻷدب مستمراً حتى أيامنا الراهنة بأثواب عديدة مختلفة. ويبدو أن ظهور هذا الفن وانتشاره ثم بقاء تأثيره عائد إلى سببين:
السبب اﻷول:
الخوف الفطري الدائم لدى الإنسان من المجهول والظلمة والمستقبل الغامض، والعامل المشترك الحتمي في هذه المخاوف كلها هو (الموت) حيث لا يدري كل إنسان كيف سيكون موته هو ومآل مصيره الخاص، فلقد اطمئن اﻹنسان دائماً إلى كل ما هو مشترك به مع الناس في المجتمع والعائلة ورفقاء الطريق. ولعله كان تعبيراً بليغاً عما يبعث الثقة واﻹلفة في نفسه الشعار الذي أطلقه الكسندر دومان في روايته الشهيرة (الفرسان الثلاثة) أن (الجميع للواحد والواحد للجميع) فكان هذا هو احتماء اﻹنسان بمجتمعه وعشيرته اﻷقربين على نحو ما تتدفأ أفراخ الطير ببعضها من برد البرية، وهكذا اﻹنسان نهاراً حيث ضياء سطوع الشمس والنشاط، وتفاعل الناس يكون مختلفاً عنه إذا جن عليه الليل والتفاف الظلام وسكون كل شيء والبقاء وحيداً، فينام حتى يستعجل انقضاء الليل وعودة النهار. وعلى ذاك المنوال يكون أخوف ما في الموت غير رؤية ظلمة القبور وأفول تاريخ اﻷحياء، هو التجربة الوجودية للموت نفسها فهي التجربة الوحيدة التي هي بكاملها وجودية حيث لا إنسان يموت موتة إنسان آخر، فليست القضية أن هناك موت ولكن القضية أنني أموت، ولو أن الموت كان حالة اجتماعية مشتركة لما ثارت هنا مشكلة. واﻷسوأ على الإطلاق أن أحداً حتى لم يأتي من الموت ليخبرنا ما جرى معه فيه، وحتى ينشئ بهذا شيء من مشاركة ومعقولية التجربة التي يطمئن بها اﻹنسان أو باﻷحرى يقنع نفسه بهذا الاطمئنان على اﻷقل. ولذلك اشتغل كتاب اﻷدب شعراً ورواية على أن ينقلوا إلينا صورة عن هذا العالم اﻷخروي تعضيداً لما جاءت به اﻷديان على نحو العموم. فالخيال يمكن له أن يأتي بهذه الصورة (فردوساً وجحيماً) على ذات المفردات والمعاني التي ألفناها في حياتنا الدنيا ومجتمعاتنا فنطمئن شيئاً ما ونحلم، ثم نمضي على الصراط المستقيم. وليس هذا الرسم للآخرة إلا تجاوزاً تفاؤلياً لحفرة القبر المظلمة التي لا يرى الأحياء من الميت فيها سوى التهام الدود للحم البشري المتعفن. لقد قصد مؤلفو كتابات الآخرة – أغلب الظن – أن الترغيب والترهيب الكامن في آدابهم الأخروية هو دافع الإنسان نحو الصلاح في الدنيا وتجنب الآثام والخطايا.
بعض الأعمال الفنية التي تناولت سرديات الآخرة
• ملحمة الأوديسا لهوميروس
هكذا كانت رحلة اوديسيوس ورفاقه في ملحمة (الاوديسا) التي الفها هوميروس كأقدم نص أدبي جاء فيه وصف للجنة والجحيم، فحينما رحل البطل قافلاً من حرب طروادة قاصداً دياره وجد الطريق إلى هناك مستحيلاً إلا أن يعبر إليه ماراً بعالم الموتى وصولاً إلى ديار هاديس حيث دركات الجحيم من أجل أن يبلغ وطنه الدنيوي بعدما يكون قد رأى هناك ما قد رأى وعانى ما قد عانى. قال لويس عوض في كتابه (على هامش الغفران) عن (اوديسا) هوميروس أنها (تمثل مشكلة أدبية وفلسفية حقيقية، فهي من الناحية الشكلية الحرفية لا تشتمل إلا على فصل واحد أو حلقة واحدة من أربع وعشرين حلقة تصور نزول البطل اوديسيوس إلى الجحيم ليلتقي هناك بأبطال اليونان وملوكهم وليعرف هناك طريقه الذي ينبغي أن يسلكه حتى يعود إلى وطنه إيثاكا بعد طول ضلال. ولكن إذا صح تفسير العصور الوسطى لهذه الملحمة الخالدة بأنها في حقيقتها ملحمة دينية تمثل ضلال الإنسان بعد خروجه من الجنة الأولى وبحثة الذي لا يني عن جنة الميعاد وما يلاقيه الإنسان بين الجنتين من أخطار واهوال ومغامرات وغوايات. فربما كانت الاوديسا كلها … رحلة الإنسان في الدار الأخرى حتى يصل في النهاية إلى الجنة التي كان قد خرج منها) فيكون البطل بعد هذه الرحلة قد عرف بحق ما هو الخير وما هو الشر.
• نص الضفادع لأرسطوفانيس
وعلى ذات الأثر والغاية سار نص (الضفادع) لمؤلفه ارسطوفانيس، فخصصه بكامله لتصوير زيارة الإنسان للعالم الآخر، وفيه قرر ديونيزيوس أن ينزل إلى ديار هاديس حتى يأتي بالشاعر يوريبيدس، فديونيزيوس يصدق بأن الشعراء هم من مصادر الحكمة والهداية وأن منهم من يثبت الإيمان في قلوب الناس ويدعم أركان الدين في عالم انتشر فيه الشك والتجديف والإلحاد. وفي الشرق، ملحمة (جلجامش) البابلية القديمة التي تصور زيارة البطل الأشوري إلى الجحيم أيضاً ولنفس الغاية ولنفس دافع الفضيلة والحكمة.
السبب الثاني:
فكرة الخلاص وتحليل سرديات الآخرة في السرد الأدبي
فكرة الخلاص، والتي هي مترتبة بالضرورة على الخوف من مجهول الآخرة. وكان السؤال عند بعض فلاسفة الوجود إذا كان الموت هو الخلاص من الحياة التي نحياها في الدنيا فلما لا نصنع هذا الخلاص هنا في هذه الحياة وهذه الدنيا قبل الموت، حتى إذا حانت لحظته كان الخلاص فيما بعده امتداد للخلاص الذي كان قبله. هنا وقف ابيقوروس الاغريقي في المناداة بحالة (الاتراكسيا) أو الطمأنينة السلبية المكتسبة بتعطيل الإرادة الإنسانية سبب كل الآلام والشرور. وبمثل ذلك نادى الرواقيون أيضأً. ثم ظهرت مواقف وآداب الصوفية الشرقيين الذين جعلوا للخلاص الدنيوي أساسا دينياً عبر مقاماتهم وأحوالهم ورياضاتهم.
ولكن بقدر ما كان لفكرة الخلاص من أثر إيجابي في نفوس القائلين بها، بقدر ما اجتهد آخرون ليجعلوا منها تجارة رابحة لحظهم الشخصي، فليس ثمة ما هو مربح مادياً أكثر من الاتجار في ذنوب العباد وخطاياهم. فكان هذا باستغلال قلة الوعي العام لدى الجماهير المؤمنة مع ارتفاع عاطفتهم الدينية وتعظيم الدين في قلوبهم، وعندما يجتمع قلة الوعي مع ارتفاع العاطفة يقع الاستغلال غالباً بشهادة التاريخ على ذلك. فكان أن ادعى البعض من هؤلاء المتاجرين التفويض لأنفسهم دون غيرهم بالحق الإلهي من لدن الله تعالى بمحو خطايا الناس، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فدقوا صكوك الغفران لكل عاصٍ تائب ليجد خلاصه في الدنيا، فصك الغفران بزعمهم يغفر كل الخطايا ويضمن للإنسان عدم السقوط في مراتب الجحيم التي صورها دانتي في (الكوميديا الإلهية) لتكون أعظم أثر سردي في أدب تصورات الإنسان عن العالم الأخروي. ولكن دارت الدائرة بعد هذا على مانحي الصكوك بأن أطاحت بهم ثورة التنوير.
كيف حلّل أبو العلاء المعري وابن شهيد الأندلسي سرديات الآخرة وفكرة الخلاص؟
ولم يكن الشرق بعيداً عما كان في الغرب سواء في تصوير الرحلة إلى العالم الأخروي أو في ختم الصكوك للخلاص، فكانت (رسالة التوابع والزوابع) لابن الشهيد الاندلسي لمحاكمة الشعراء في الآخرة، ثم استلهام أبي العلاء المعري له في نسج (رسالة الغفران) ذلك النص الرفيع الذي ربما اقتبس فكرته دانتي دون تخفي. وسيرة ابن القارح في أثر المعري هذا تضمنت ما أسماه (صكوك التوبة) التي تُختم بأيدي القضاة ليحملها من تُختم له كمفتاح لأبواب الجنة ونجاته من السقوط في الجحيم. وقد صور نص (الغفران) طبقات الآخرة ومواطنها كما تخيلها المعري في رحلة بن القارح.
لقد كانت فكرة الخلاص الفلسفية في تصورات الآخرة سبباً كافياً أمام كثير من أصحاب المآسي والآلام الإنسانية والاعتلالات النفسانية لأن يقعوا فريسة لتجار الإرهاب السياسيين باستخدامهم تأويلات منحرفة للدين الحق، حيث كانوا يبثون في هؤلاء الضعفاء الطالبين للخلاص وقيمة الحياة عقيدة أن هذا الخلاص هو في الوصول السريع والمباشر والمضمون إلى جنة الخلد وأن الطريق الحقيقي للوصول هناك هو بالموت، فعليهم إذاً أن يختاروا موتهم بأنفسهم وأن يأخذوا معهم آخرين يحسبونهم بظنهم أنهم أسباب البلاء في الدنيا فأوجبوا ازالتهم، وهنا سمى لديهم تدمير الذات (تضحية) وسمى تدمير الآخرين الأبرياء (جهاد). لهذا لم تخلو فكرة الخلاص في السرد الأدبي من خطورة بسبب التأويلات المنحرفة لحقيقة ذلك الغيب الأخروي واستغلاله بسوء. وهكذا، تستمر رحلة الإنسان الحائر بين الحقيقة والخيال، وبين الغفران والخلاص، وجدلية الدنيا والآخرة. ولكن الموت وما بعده هو التجربة الوحيدة الفردية بكاملها والحالة الوجودية الكبرى (كل نفسٍ ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة).
د. وائل أحمد خليل الكردي
نوع من السرد الأليف المخيف موقظ للضمير.. نوع من أدب الرحلات غير العادية..
ما سبب ظهور فن تحليل سرديات الآخرة ؟
برزت كتابات اﻵخرة وأدب العالم اﻷخروي وما بعد الموت كأشهر السرديات التي خلدت نفسها في اﻵداب العالمية. كان ذلك الظهور منذ بواكير التدوين التاريخي لتراث الحضارات القديمة لدى اليونان وفي الشرق إلى أن بلغت أوج مجدها في مطلع عصر النهضة اﻷوروبية. وربما مازال التأليف في هذا النوع من اﻷدب مستمراً حتى أيامنا الراهنة بأثواب عديدة مختلفة. ويبدو أن ظهور هذا الفن وانتشاره ثم بقاء تأثيره عائد إلى سببين:
السبب اﻷول:
الخوف الفطري الدائم لدى الإنسان من المجهول والظلمة والمستقبل الغامض، والعامل المشترك الحتمي في هذه المخاوف كلها هو (الموت) حيث لا يدري كل إنسان كيف سيكون موته هو ومآل مصيره الخاص، فلقد اطمئن اﻹنسان دائماً إلى كل ما هو مشترك به مع الناس في المجتمع والعائلة ورفقاء الطريق. ولعله كان تعبيراً بليغاً عما يبعث الثقة واﻹلفة في نفسه الشعار الذي أطلقه الكسندر دومان في روايته الشهيرة (الفرسان الثلاثة) أن (الجميع للواحد والواحد للجميع) فكان هذا هو احتماء اﻹنسان بمجتمعه وعشيرته اﻷقربين على نحو ما تتدفأ أفراخ الطير ببعضها من برد البرية، وهكذا اﻹنسان نهاراً حيث ضياء سطوع الشمس والنشاط، وتفاعل الناس يكون مختلفاً عنه إذا جن عليه الليل والتفاف الظلام وسكون كل شيء والبقاء وحيداً، فينام حتى يستعجل انقضاء الليل وعودة النهار. وعلى ذاك المنوال يكون أخوف ما في الموت غير رؤية ظلمة القبور وأفول تاريخ اﻷحياء، هو التجربة الوجودية للموت نفسها فهي التجربة الوحيدة التي هي بكاملها وجودية حيث لا إنسان يموت موتة إنسان آخر، فليست القضية أن هناك موت ولكن القضية أنني أموت، ولو أن الموت كان حالة اجتماعية مشتركة لما ثارت هنا مشكلة. واﻷسوأ على الإطلاق أن أحداً حتى لم يأتي من الموت ليخبرنا ما جرى معه فيه، وحتى ينشئ بهذا شيء من مشاركة ومعقولية التجربة التي يطمئن بها اﻹنسان أو باﻷحرى يقنع نفسه بهذا الاطمئنان على اﻷقل. ولذلك اشتغل كتاب اﻷدب شعراً ورواية على أن ينقلوا إلينا صورة عن هذا العالم اﻷخروي تعضيداً لما جاءت به اﻷديان على نحو العموم. فالخيال يمكن له أن يأتي بهذه الصورة (فردوساً وجحيماً) على ذات المفردات والمعاني التي ألفناها في حياتنا الدنيا ومجتمعاتنا فنطمئن شيئاً ما ونحلم، ثم نمضي على الصراط المستقيم. وليس هذا الرسم للآخرة إلا تجاوزاً تفاؤلياً لحفرة القبر المظلمة التي لا يرى الأحياء من الميت فيها سوى التهام الدود للحم البشري المتعفن. لقد قصد مؤلفو كتابات الآخرة – أغلب الظن – أن الترغيب والترهيب الكامن في آدابهم الأخروية هو دافع الإنسان نحو الصلاح في الدنيا وتجنب الآثام والخطايا.
بعض الأعمال الفنية التي تناولت سرديات الآخرة
• ملحمة الأوديسا لهوميروس
هكذا كانت رحلة اوديسيوس ورفاقه في ملحمة (الاوديسا) التي الفها هوميروس كأقدم نص أدبي جاء فيه وصف للجنة والجحيم، فحينما رحل البطل قافلاً من حرب طروادة قاصداً دياره وجد الطريق إلى هناك مستحيلاً إلا أن يعبر إليه ماراً بعالم الموتى وصولاً إلى ديار هاديس حيث دركات الجحيم من أجل أن يبلغ وطنه الدنيوي بعدما يكون قد رأى هناك ما قد رأى وعانى ما قد عانى. قال لويس عوض في كتابه (على هامش الغفران) عن (اوديسا) هوميروس أنها (تمثل مشكلة أدبية وفلسفية حقيقية، فهي من الناحية الشكلية الحرفية لا تشتمل إلا على فصل واحد أو حلقة واحدة من أربع وعشرين حلقة تصور نزول البطل اوديسيوس إلى الجحيم ليلتقي هناك بأبطال اليونان وملوكهم وليعرف هناك طريقه الذي ينبغي أن يسلكه حتى يعود إلى وطنه إيثاكا بعد طول ضلال. ولكن إذا صح تفسير العصور الوسطى لهذه الملحمة الخالدة بأنها في حقيقتها ملحمة دينية تمثل ضلال الإنسان بعد خروجه من الجنة الأولى وبحثة الذي لا يني عن جنة الميعاد وما يلاقيه الإنسان بين الجنتين من أخطار واهوال ومغامرات وغوايات. فربما كانت الاوديسا كلها … رحلة الإنسان في الدار الأخرى حتى يصل في النهاية إلى الجنة التي كان قد خرج منها) فيكون البطل بعد هذه الرحلة قد عرف بحق ما هو الخير وما هو الشر.
• نص الضفادع لأرسطوفانيس
وعلى ذات الأثر والغاية سار نص (الضفادع) لمؤلفه ارسطوفانيس، فخصصه بكامله لتصوير زيارة الإنسان للعالم الآخر، وفيه قرر ديونيزيوس أن ينزل إلى ديار هاديس حتى يأتي بالشاعر يوريبيدس، فديونيزيوس يصدق بأن الشعراء هم من مصادر الحكمة والهداية وأن منهم من يثبت الإيمان في قلوب الناس ويدعم أركان الدين في عالم انتشر فيه الشك والتجديف والإلحاد. وفي الشرق، ملحمة (جلجامش) البابلية القديمة التي تصور زيارة البطل الأشوري إلى الجحيم أيضاً ولنفس الغاية ولنفس دافع الفضيلة والحكمة.
السبب الثاني:
فكرة الخلاص وتحليل سرديات الآخرة في السرد الأدبي
فكرة الخلاص، والتي هي مترتبة بالضرورة على الخوف من مجهول الآخرة. وكان السؤال عند بعض فلاسفة الوجود إذا كان الموت هو الخلاص من الحياة التي نحياها في الدنيا فلما لا نصنع هذا الخلاص هنا في هذه الحياة وهذه الدنيا قبل الموت، حتى إذا حانت لحظته كان الخلاص فيما بعده امتداد للخلاص الذي كان قبله. هنا وقف ابيقوروس الاغريقي في المناداة بحالة (الاتراكسيا) أو الطمأنينة السلبية المكتسبة بتعطيل الإرادة الإنسانية سبب كل الآلام والشرور. وبمثل ذلك نادى الرواقيون أيضأً. ثم ظهرت مواقف وآداب الصوفية الشرقيين الذين جعلوا للخلاص الدنيوي أساسا دينياً عبر مقاماتهم وأحوالهم ورياضاتهم.
ولكن بقدر ما كان لفكرة الخلاص من أثر إيجابي في نفوس القائلين بها، بقدر ما اجتهد آخرون ليجعلوا منها تجارة رابحة لحظهم الشخصي، فليس ثمة ما هو مربح مادياً أكثر من الاتجار في ذنوب العباد وخطاياهم. فكان هذا باستغلال قلة الوعي العام لدى الجماهير المؤمنة مع ارتفاع عاطفتهم الدينية وتعظيم الدين في قلوبهم، وعندما يجتمع قلة الوعي مع ارتفاع العاطفة يقع الاستغلال غالباً بشهادة التاريخ على ذلك. فكان أن ادعى البعض من هؤلاء المتاجرين التفويض لأنفسهم دون غيرهم بالحق الإلهي من لدن الله تعالى بمحو خطايا الناس، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فدقوا صكوك الغفران لكل عاصٍ تائب ليجد خلاصه في الدنيا، فصك الغفران بزعمهم يغفر كل الخطايا ويضمن للإنسان عدم السقوط في مراتب الجحيم التي صورها دانتي في (الكوميديا الإلهية) لتكون أعظم أثر سردي في أدب تصورات الإنسان عن العالم الأخروي. ولكن دارت الدائرة بعد هذا على مانحي الصكوك بأن أطاحت بهم ثورة التنوير.
كيف حلّل أبو العلاء المعري وابن شهيد الأندلسي سرديات الآخرة وفكرة الخلاص؟
ولم يكن الشرق بعيداً عما كان في الغرب سواء في تصوير الرحلة إلى العالم الأخروي أو في ختم الصكوك للخلاص، فكانت (رسالة التوابع والزوابع) لابن الشهيد الاندلسي لمحاكمة الشعراء في الآخرة، ثم استلهام أبي العلاء المعري له في نسج (رسالة الغفران) ذلك النص الرفيع الذي ربما اقتبس فكرته دانتي دون تخفي. وسيرة ابن القارح في أثر المعري هذا تضمنت ما أسماه (صكوك التوبة) التي تُختم بأيدي القضاة ليحملها من تُختم له كمفتاح لأبواب الجنة ونجاته من السقوط في الجحيم. وقد صور نص (الغفران) طبقات الآخرة ومواطنها كما تخيلها المعري في رحلة بن القارح.
لقد كانت فكرة الخلاص الفلسفية في تصورات الآخرة سبباً كافياً أمام كثير من أصحاب المآسي والآلام الإنسانية والاعتلالات النفسانية لأن يقعوا فريسة لتجار الإرهاب السياسيين باستخدامهم تأويلات منحرفة للدين الحق، حيث كانوا يبثون في هؤلاء الضعفاء الطالبين للخلاص وقيمة الحياة عقيدة أن هذا الخلاص هو في الوصول السريع والمباشر والمضمون إلى جنة الخلد وأن الطريق الحقيقي للوصول هناك هو بالموت، فعليهم إذاً أن يختاروا موتهم بأنفسهم وأن يأخذوا معهم آخرين يحسبونهم بظنهم أنهم أسباب البلاء في الدنيا فأوجبوا ازالتهم، وهنا سمى لديهم تدمير الذات (تضحية) وسمى تدمير الآخرين الأبرياء (جهاد). لهذا لم تخلو فكرة الخلاص في السرد الأدبي من خطورة بسبب التأويلات المنحرفة لحقيقة ذلك الغيب الأخروي واستغلاله بسوء. وهكذا، تستمر رحلة الإنسان الحائر بين الحقيقة والخيال، وبين الغفران والخلاص، وجدلية الدنيا والآخرة. ولكن الموت وما بعده هو التجربة الوحيدة الفردية بكاملها والحالة الوجودية الكبرى (كل نفسٍ ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق