الجمعة، 30 ديسمبر 2016


التأصيل الإسلامي لأخلاقيات أشغال الكشافة في سبيل تحقيق التفاعل الايجابي بين  الإنسان والبيئة

د/ وائل احمد خليل صالح الكردي

مقدمة
إن أشغال الكشافة (نسبة إلى الحركة الكشفية) هي مجموعة المناشط والأعمال التي تبدو مشتركة بين الكشفية وغيرها من الهيئات والمؤسسات سواء كانت عسكرية أو مدنية وغيرها، ولكنها تتميز بأنها أشغال كشفية لأنها تنفذ في قوالب الطريقة الكشفية والتي تعد حياة الخلاء بكل مؤشراتها وتفاعلاتها البيئية ابرز وأهم عناصرها.
هذا اضافة إلى المبادئ التي تقيم عليها الحركة الكشفية هذه المناشط والأعمال ونوع الأهداف المطروحة أمامها لبلوغها بواسطة شرائح معينة في خارطة النمو البشري وعلى رأسها شريحة (الفتيان).
عليه فإن تحقيق أقصى فعالية وجودة لأشغال الكشافة في سبيل بلوغ الأهداف المنشودة إنما يعتمد على المرجعية التي تصاغ عليها وتحتكم إليها تلك المبادئ والقواعد الأساسية للكشفية.من هنا كان الإدعاء بأنه إذا كانت المرجعية الأولى في رقي الإنسان تربوياً وأخلاقياً في الماضي والراهن والمستقبل هي مرجعية الوحي الكريم فإن المصادر التربوية الأخلاقية البنائية التي يقدمها الدين الاسلامي تمثل المرجعية الضابطة والفاعلة في ترسيخ وتطوير أشغال الكشافة وتحقيق أثارها بنحو ملموس ومباشر في مجالات الوقائع الاجتماعية والبيئية المختلفة. وهذا ما يمكن اثباته وايضاحة وتنقيته بدءاً بالجذر العام للحركة الكشفية عبر روادها الأوائل الذين هدفوا بالتدريب الكشفي إلى إلى تحقيق التفاعل الحي والمباشر مع الوجود والعالم براً وبحراً وجواً بما يتجاوز الوسائط المصطنعة والمعقدة تقنياَ ما أمكن ذلك ليصبح الفرد أكثر قدرة على:
1/ تحمل مسؤولية نفسه وقيادة الآخرين.
2/ تنمية وتوظيف القدرة على العمل الصالح والخدمة المجتمعية والسلامة البيئية.
3/ تحقيق وتوطين اسس ومبادئ تعمير الأرض بمقتضيات الفطرة الطبيعية التي خلقها الله عليها.
4/ بناء القدرة التفاعلية المتبادلة للإنسان في محيطه البيئي من خلال تدريب مهارات الربط والحل ، الملاحظة ، التوفيق والتوليف ، الرياضة ، التنظيم الحركي والإداري ، الفهم ، والاستجابة  الدقيقة ، التأثير والتوجيه ، القياس والاستدلال ، التخطيط والتنفيذ. وذلك على اعتبار أن (التفاعل) هو "عملية التأثير المتبادل بين نظامين أو اكثر أو طرفين أو اكثر فيؤثر احدهما في الآخر ويتأثر به سلوكياً" (1)، أما (المهارة) فهي "القدرة على عمل شيء ما بكفاءة وبمستوى معين من الأداء (2) .

عليه تظهر أهمية البحث في هذا الموضوع  بما يلي:
اولاً – ابراز ضرورة التشريع الاسلامي للأخلاق في تفعيل قناة حيوية وخلاقة بنحو الحركة الكشفية لإعادة الضبط والانتظام البيئي اللازم لإصحاح حياة الانسان.
ثانياً – نقل اشغال الكشافة من حيز الاقتصار على اعتبارها منظمة للعمل الطوعي الشعبي وإدخالها إلى حيز البحث العلمي الاكاديمي لاعتمادها علمياً ووظيفياً في تدريب وتأهيل القيادات بها على النهج الأخلاقي الاسلامي القويم .
ثالثا – توفير التوعية والإحاطة المعرفية المتقدمة لدي مختلف فئات المجتمع بأهمية دور الحركة الكشفية المبنية على الأصول الاسلامية لبلوغ اعلى درجات الفائدة والاستغلال الأمثل لها.

تقوم الورقة على محورين رئيسيين – محور بنائي برسم الصياغة الأخلاقية الاسلامية للطريقة الكشفية وتبريرها بمصدري القران الكريم والسنة النبوي. والمحور الآخر محور وظيفي برسم رؤية التنزيل الاستراتيجي لمقررات المحور البنائي على المجال البيئي العام. على أن يسبق هذه المحاور بالضرورة تعيين الاستحقاق الشرعي للحركة الكشفية.
وتتم المعالجة البحثية على هذه المحاور باستخدام منهج تحليل المضمون.

الاستحقاق الشرعي للحركة الكشفية:
إن الاستحقاق الشرعي للحركة الكشفية بناءً على محدداتها ومقوماتها البنائية الاساسية إنما يصدر عن مقتضى الاحسان وليس عن مقتضى الفرض أو الوجوب أو ألإلزام وذلك باعتبارها شكلاً من أشكال العمل المهاري الطوعي الاختياري البعيد عن الايديولوجيات السياسية  يدعى له من توفرت لديه الرغبة وتكاملت عنده مع الأهلية لهذا العمل ، على أن يكون هذا الاستناد من باب قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بهامن بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء(اخرجه مسلم).ونحسب أن الشكل التنظيمي للطريقة التي توافرت عليها الحركة الكشفية هي من قبيل السنن الحسنة على مستوى جلب المصالح وليس من قبيل الابتداع ي الدين.
                  
أولاً -  المحور البنائي في التأصيل الاسلامي للطريقة الكشفية واخلاقياتها:
إن اثبات الجذر العام في إنشاء حركة الكشافة قد جاء في مفتتح الكتاب الدستوري للكشافة  (الكشفية للفتيان) SCOUTING FOR BOYS   لمؤلفه اللورد الانكليزي (بادن باولB.P.) المؤسس الأول للحركة الكشفية – بقوله "إن الكشفية كانت قبل كل شئ فكرة اريد بها تجديد الحياة في الهواء الطلق ، ثم لم تلبث هذه الفكرة أن تكشف عن عنصر فعال في ميدان التربية  ... إنها مدرسة تعد الانسان إلى الحياة العامة النشيطة عن طريق الاعتماد على الطبيعة" (3) .
من هنا بدأ تكوين ما يعرف بالطريقة الكشفية بكونها نوع من التنظيم يضمن للمنتمين الى الحركة الكشفية تحقيق غايات التفاعل الايجابي مع الوجود المحيط بالإنسان برا وبحرا وجوا .وتبرير الطريقة الكشفية هو أنه لما كان هذا التفاعل لا يقوم الا على قواعد ومبادئ اخلاقية تثبت لكل طرف من طرفي التفاعل حدود الحرية اللازمة له حتى يمر الانسان على الوجود من حوله دون اتلاف وإفساد لحقيقته الفطرية ومن ثم يضمن الانسان نفسه بهذا سلامة معيشته طوال فترة حياته، ولعل ان من ضمن المقتضيات اللازمة للسلامة الحياتية والمعيشية الضرورية هو توفير القدرة على تقديم  الدعم النفسي والجسدي والاجتماعي اصحاحا وتربية وإرشادا لأي انسان اخر يشارك في الحياة على هذا الوجود بفطرته السليمة المتوازنة.  اذن فالأمر يستند اجمالا على اسس اخلاقية حتمية ، وأن حتمية هذه الأسس للتفاعل الإيجابي أمر ثابت لا خلاف عليه كبير لاسيما اذا كان وراءها مصدر مرجعي محيط يتمتع بصفة الشمول والضبط العلمي القابل للتحقق. عليه فان متى ما توفر هذا المصدر توفرت معه وبناء عليه القاعدة الاخلاقية الملزمة، ولكن يتبقى الوسيلة أو القناة أو الكيفية الملائمة لإنفاذ هذه القواعد الاخلاقية لتغذية وضبط التفاعل الايجابي. لذا كان اصطناع وتنظيم الطريقة الكشفية كأحدى الوسائل الممتازة في استثمار القواعد والأسس الاخلاقية بغرض تحقيق الهدف المنشود.
والشاهد في هذا الأمر أن المصدر المنتج أو المنشئ للقاعدة الاخلاقية السليمة على اطلاقها هو (الدين) – بدا هذا في الاصرار الشديد من جانب مؤسس الكشافة على اثبات الواجب نحو الله كأساس لكل الواجبات الأخرى وبكون أن خطاب الله تعالى الينا هو (الدين). ولكن السؤال الذي نطرحه نحن .. أي (دين) ؟  والإجابه عنه تمثل الفرضية الاساسية لهذا البحث بأن الدين الاسلامي ومصادره القرآن والسنة هو الدين الحق الذي لا تحسب تعاليمه بكونها مجرد آدابا أو عادات مستحسنة سلوكيا واجتماعيا بل بكونها حقائق علمية مطلقة. وسيتبين ذلك مع التحليل المفصل للعناصر أو المحاور الرئيسية في الطريقة الكشفية بمشيئة الله تعالى.
إن الميزة الكبرى للطريقة الكشفية – والتي جعلتها قناة مثلى لإنفاذ مقتضيات التفاعل الايجابي -  هي الربط الوثيق بين التعاليم الأخلاقية ودرجة الالتزام بها وبين تنمية المهارات الأدائية والكفائية لدى الإنسان وكأنما قد اطلع مؤسسو الحركة الكشفية على معجزات رجل (اليوجا) في الهند القديمة وقدراته البدنية الخارقة التي تحققت لديه نتيجة ربط الأوضاع الرياضية البدنية التي يمارسها لزمن طويل بنظام أخلاقي صارم فيه – على سبيل المثال – الزهد الشديد والعفة الشديدة ما نحو ذلك من قيم. فما بال الطريقة الكشفية اذن اذا كانت مصدر الامداد الاخلاقي لها هو مصادر الوحي الرباني الكريم.
إن أول وأهم محاور الطريقة الكشفية هو (قانون الكشافة) وبنوده العشرة والتي تجد لها سنداً تأصيلياً الزامياً في التشريع الأخلاقي الإسلامي. فهذه البنودكما جاءت في كتاب (الكشفية للفتيان) (4):

1/ الكشاف صادق يوثق بشرفه ويعتمد عليه.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ" (الشعراء 84).

2/ الكشاف مؤمن بالله ، مخلص لوطنه ورؤسائه ومرؤوسيه.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" (المعارج 32).

3/ الكشاف نافع ويساعد الاخرين.
واسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ" (الرعد 17).

4/ الكشاف صديق للجميع وأخ لكل كشاف.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"(ال عمران 159).
5/ الكشاف شهم مهذب .
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (ابراهيم 24،25).

6/ الكشاف محب للطبيعة ، يرفق بحيوانها ، ويحافظ على نباتها.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني  "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا " (الاعراف 56).

7/ الكشاف مطيع لأوليائه ورؤسائه دون تردد.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (النساء 59).

8/ الكشاف مقدام ويواجه الصعاب بشجاعة.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (ال عمران 200).

9/ الكشاف مقتصد.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا" (الفرقان 67).

10/ الكشاف طاهر الفكر والقول والعمل.
وإسنادها الاخلاقي في المتن القرآني "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (ال عمران 104).

يظهر من هذا أن القانون الكشفي يصدر عن الفطرة الأخلاقية السليمة في الأصل لدى بني البشر عموماً  ويسندها الشرع الحنيف سواء أن علموا هذا أو لم يعلموا ولكنها لدى المسلمين تصدر عن فطرة سليمة وعن علم بإسنادها الشرعي مما يحقق لها خاصية الإلزام السلوكي في نفس الكشاف المسلم عن وعي وليس تلقاءً.

ثم تالياً ، الوعد الكشفي والذي هو شرط القبول لعضوية الكشاف والتي تبدأ من لحظته الراهنة ثم لا نهاية لها وفق الشعار المبدئي "كن كشافاً يوماً تكن كشافاً دوماً". فهذا الوعد هو عهد الكشاف مع نفسه أمام الله تعالى ومن بعده الناس أجمعين أن : "يبذل جهده لكي يقوم بواجبه نحو الله  ثم الوطن ، وأن يساعد الناس في كل حين ، وأن يعمل بقانون الكشافة  (5) (وفي هذا إشارة إلى أن قانون الكشافة هو قانون للعمل وليس مجرد لوائح تنظيمية).
وكان من أهمية هذا الوعد الكشفي أن تشكلت التحية الكشفية الرسمية (بنحو الصياغة العسكرية) لتعبر تمثيلاً بالأصابع عن بنوده فيظل الكشاف دائما في حالة تذكر له - من جهة - وليثبت للمجتمع المتعامل معه بأنه قد أدى هذا الوعد وأنه يظل ملتزم به - من جهة أخرى. وبكون هذا الوعد قائماً أمام الله تعالى فإن الله تعالى يلزم من قام به من جملة الإيفاء بالعهود بقوله "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا" (النحل 91).
كذلك الشعار الكشفي الأساسي المنوط به تحقيق الوعد (كن مستعداً) (6)والذي يشمل - اولاً -  الاستعداد العقلي في القدرة على التصرف السريع والسليم المترتب على الفهم والاستيعاب الجيد لمقتضى أي ظرف من الظروف مهما كان طارئاً ومفاجئاً. ويشمل - ثانياً - الاستعداد البدني بالقوة والمرونة واللياقة والذي يمثل مطلباً ضرورياً ولازما للاستعداد العقلي بأنه العامل المحول للفهم والاستيعاب الصحيح  لأي ظرف راهن والتقدير العقلي السليم للموقف واتخاذ القرار المناسب بصدده - إلى واقع وإجراءات عملية وسلوكية تتمثل في حسن التصرف باتخاذ التدابير الصحيحة في الوقت المناسب مما يتطلب التهيئة اللائقة لبدن الكشاف. ولعلنا نجد ترجمة تأصيلية مباشرة لهذا الشعار وما يحمله من دلالات في قول الله تعالى "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ" (القصص 26) وهو ما تستهدف الطريقة الكشفية تحقيقه بصورة أساسية على وجه العموم عبر مهارات حياة الخلاء والمهارات اليدوية في الربط والحل ، الملاحظة ، التوفيق والتوليف ، الرياضة ، التنظيم الحركي والأدائي والإدارية ، الفهم والاستجابة ، التأثير والتوجيه ، الاستدلال والقياس ، التخطيط والتنفيذ من ، ويتم الاعلان عن تلك القيم والقدرات لدي الكشاف بواسطة الزي الكشفي المميز (من منديل وعقلة وشارة العضوية) والذي يمثل لغة عالمية تفيد أن من يرتديه إنما هو قادر على كذا وكذا ويدعوا الناس بذلك إلى اللجوء إليه دون تردد في طلب العون أو الارشاد منه ، وهذا يوضح أهمية وضع الأعمال والقيم والمرجعيات السلوكية الأخلاقية في قالب تنظيمي منضبط ومحدد بأهداف ورؤى استراتيجية وخطط عمل وبرامج للتدريب والتنفيذ وهياكل قيادية ، ولعل شيئاً مما تتسم به الكشافة من مظهر عسكري في الزي والأشكال التنظيمية في الاصطفاف والسير يحقق توحيد وانتظام الخطوة وجدية العمل والتذكير الدائم بما يحمله الكشاف من مسئولية.
وهذه التهيئة العقلية والبدنية إنما تتبع الخصائص النوعية للنمو للمراحل السنية أو العمرية المختلفة وما يناسب كل مرحلة من وظائف ومهام متعلقة بقدرة وأهلية الاستعداد الكشفي العام ولكن من جهة الجزء الذي يتوافق مع طبيعة المرحلة التي يقف عليها الكشاف، وذلك بنحو ما يلي:
1/ الفئة العمرية (7 - 11سنة):
(أ) المرحلة الكشفية/ الأشبال.
(ب) الشعار/  (بذل الجهد) وهو حد الاستطاعة في الفعل ، ويحقق اكتشاف الذات لدى الطفل اعداداً له لتحقيق الانجاز المباشر في المرحلة التي تليها وفيها يكون اعتماد الكشاف الشبل على القائد أو المرشد التربوي بنسبة 80% تقريباً.
(ج) القاعدة السلوكية/ عرض وإيضاح القيم بحسب رد الفعل لدى القائد أو المرشد التربوي بصدد وبحسب ما يفرضه السلوك الانفعالي التلقائي للكشاف الشبل والناتج عن استجابته الحرة تجاه البيئة المحيطة وما يصدر عنها من متغيرات ومؤثرات.
(د) المنهج الكشفي/ (اللعب) أولاً ، بإجراء الألعاب الحرة في ذاتها في الميادين الخلوية أكثر. وثانياً ، بتحويل المادة التدريبية الكشفية إلى صيغة العاب إما في تصميمها وتلقينها وإما في تنفيذ الكشاف الشبل لها ، ويتوافق مع أغراض هذه المرحلة كثرة علامات الكفاءة والجدارة والهوايات والتي تمثل الإعلان أمام الآخرين بما قد حازه وما يحمله هذا الكشاف الشبل من قدرات ومواهب الأمر الذي يدعم بنحو بالغ  ثقة الكشاف الشبل بنفسه فيزيد عطاؤه (تقل هذه العلامات تدريجياً كلما ترقى في المراحل الكشفية المتقدمة).
(ه) الهدف ألنهائي تحقيق وتنمية القدرة لدى الكشاف الشبل في التصرف والاعتماد على الذات وفق المعطيات الممكنة والمتاحة بحسب أي موقع في تلبية احتياجاته الذاتية وحل مشكلاته الشخصية.


2/ الفئة العمرية (12 – 16 سنة):
(أ) المرحلة ألكشفية الفتيان.
(ب) الشعار/  (الاستعداد الفعلي) وهي المرحلة المفصلية والحلقة الأساسية الحاسمة في التدريب الكشفي واكتمال تحقيق الطريقة الكشفية في استخراج وتوظيف قدرات ومواهب الكشاف. وغالباً ما تكون نسبة الاعتماد على القائد أو المرشد التربوي 50% أي أن نسبة الكشاف في المجهود التدريبي توازي نسبة القائد أو المرشد التربوي. 
(ج) القاعدة السلوكية/خضوع الكشاف الفتى لتلقي واكتساب القيم في ذاتها بالاستفادة من القائد أو المرشد التربوي وبغض النظر عما إذا كان صدورها عن سلوك فعلي أو نحواً من ذلك.
(د) المنهج ألكشفي(التدريب) على المهارات الكشفية العامة عبر التدرج في المراحل بدءاً بمرحلة الكشاف الحديث أو المبتدئ ثم مرحلة الكشاف الثاني وانتهاءاً بمرحلة الكشاف الأول.
(ه) الهدف ألنهائي تحقيق وتنمية القدرة لدى الكشاف الفتى في التصرف والاعتماد على الذات وفق المعطيات الممكنة والمتاحة بحسب أي موقع في تجاوز قدرته على تلبية احتياجاته الذاتية وحل مشكلاته الشخصية إلى تدبير أمور الآخرين وحل مشكلاتهم.

3/ الفئة العمرية (17 - 22 سنة):
(أ) المرحلة الكشفية/ الجوالة.
(ب) الشعار/  (الخدمة العامة) وهي المرحلة التي يتقلص دور القائد في التدريب الكشفي فيها إلى نسبة 20% تقريباً حيث يعتمد الكشاف الجوال على تفاعله المباشر والحي مع المواد والوسائل والاغراض التدريبية وبالاشتراك المتكافئ  مع المجموعات الأخرى والقادة من أجل اكتشاف وتعميم القيم العليا.
(ج) القاعدة السلوكية/ضبط القدرة التحكمية في ادارة القيم العليا وانزالها الى حيز قضايا ومتغيرات الواقع المعاصر وتوظيفها في المجال الخدمي على المستوى البيئي والإنساني والاجتماعي.
(د) المنهج ألكشفي/ (البحث) وهي الوسيلة الأكثر فعالية في تحقيق الفهم المتعمق  والناضج والشمولي للحقائق المختلفة طبيعية أو انسانية عبر اجراء الأعمال البحثية العامة والمتخصصة وما ينتج عن هذا الفهم من رؤى للتخطيط الاستراتيجي المستقبلي.
(ه) الهدف ألنهائي/ تجاوز الكشاف الجوال مرحلة بيان المشكلات الشخصية ومعالجتها ثم تجاوز مرحلة التصرف السليم في تلبية احتياجات الاخرين ومعالجة مشكلاتهم ، للانتقال إلى اثبات القدرة لديه في عدم انتظار وقوع الأزمات والمشكلات ثم معالجتها وإنما وضع وصياغة التدابير اللازمة لمنع وقوعها أصلاً على نحو علمي سليم من خلال البناء والتطوير دون المساس بالأحوال الطبيعية للبيئة وطرق الحياة المختلفة للناس وأيضا عبر الطريقة الكشفية الاساسية - تلك هي المعادلة الصعبة.

ثانيا - المحور الوظيفي في تنزيل مجمل تأصيل اشغال الكشافة وأخلاقياتها على معالجة المسألة البيئية:
يمكن القول أن الحركة الكشفية تحمل رؤية كونية شاملة world-view  تجاه البيئة حيث أن الأزمة البيئية العالمية بدورها تتسم بطابع الشمول من جهة أنها تتصل على نحو مباشر بجميع ميادين النشاط البشري النظري والعملي (7). الأمر الذي يجعل الوظائف السلوكية الانسانية النابعة من تصوراته الكونية الشاملة هي مصدر التوازن والاختلال الحقيقيين للنظام البيئي. وهذا ما يجعل الموضوع بكليته أدخل إلى المجال الأخلاقي العملي  practical ethics  في تحقيق الضبط المعرفي على هذا التوازن.
وتجدر الاشارة هنا إلى أن العلاقة الرؤى الكونية الشاملة وبين مقتضيات التوازن البيئي عبر السلوك الانساني النابع من النظام الاخلاقي التابع لهذه الرؤية أو تلك - يحتاج إلى ما يعرف بالنموذج الإرشادي paradigm(8) المستند إلى مرجعية عقدية أو ايديولوجية يكون من شأنها أن تثبت الحجة الكافية لهذه الرؤية.ولذلك فإن الشاهد الموضوعي أن المستند الذي ينبغي رد أو ارجاع النموذج الارشادي له لابد أن يكون مستمداً من ذات الأصول المنشئة للحقيقة الكونية الطبيعية بنفسها. ولا يتاح ذلك باعتماد مصادر الوحي الكريم في تشريعاته الكلية (القرآن والسنة) كأصل لازم لصياغة نموذجا ارشادياً سليماً تبنى على اساسه الرؤية الشاملة التي تخطط لحركة السلوك والعمل بصدد العالم الطبيعي.
إن قلب المسألة البيئية من جهتها الاخلاقية السلوكية هي تحقيق الموازنة بين كلمة )التسخير) الواردة بالقران الكريم في قول الله تعالى : "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ" (الجاثية 13) وبين ترسيم حدود  الحريات الفاصلة بين فعل الانسان في حركته لتعمير الأرض وبين ترسيم حرية الطبيعة فيما ينبغي أن تكون عليه دون تدخل مخل بتوازنها البيئي. ولربما حدث تجاوز لهذه الحدود الفاصلة إما عفواً بصدور الفعل الانساني عن جهل بحقيقة الطبيعة وما ينبغي أن تظل عليه.حتى لا تؤذي الانسان نفسه ، وإما أن يصدر الفعل الانساني عن قصد لتغيير الطبيعة بحسبان أنه الأفضل أو بحسبان السيطرة عليها وتوظيفها لخدمة أغراض نفعية معينة ولو أدى ذلك إلى اهلاك الحرث والنسل في مكان ما من العالم. من هنا يمكن الانطلاق نحو تعيين استراتيجي لمبادئ الحركة الكشفية في صياغتها وفق النظام الأخلاقي الاسلامي بصدد العامل البيئي.
إن العمل الكشفي على النحو السلف رسمه في بيان الطريقة الكشفية وتأصيلها إنما يمثل حتماً نسقاً لرؤية كونية شاملة كامنة به ويصدر عنها الاطار التنظيمي لفاعلية النشاط الكشفي ومظاهر تفاعل الأفراد المنتمين إليه بداخله.
ومما لا ريب فيه أننا إذا أردنا أن ننظر إلى أي منظومة ذهنية فكرية كانت أو وقائعية أو اجرائية باعتبارها نسفاً Systemتنتظم في داخله وتبعاً له أنظمة Orders  وبرامج Programs ، فإن أول ما يقام عليه هذا النسق (بديهيات) Axioms و(مسلمات) Postulates (9) ويمكن الجمع بينهما في تعبير اصطلاحي واحد هو (المرتكزات الأولية)لأغراض تقريب المحاور وتجنب الاغراق في التفصيلات المنطقية المتخصصة.
1/ اولى هذه المرتكزات الأولية ما افتتح به الأمين العام للمنظمة الكشفية العربية الدكتور عاطف عبد المجيد كلمته بعنوان (التكامل في الحركة الكشفية) بالنشرة الشهرية للمنظمة ، بقوله:
"خلق المولى عز وجل هذا الكون ليكون وحدة متكاملة فكل ظواهر الطبيعة يكمل كل منها الآخر بل ويؤدي إليها وكذلك البشر فكل ميسر لما خلق له" (10).
من هنا قد ظهرت المشكلة البيئية الأساسية في قول الله تعالى "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم 41)، وما يحمله هذا التقرير ضمناً من أن هنالك رابط كلي بين أي جزئية كونية وجزئية أخرى. وعليه ، فإن حدث سلوك وفعل سالب من لدن الانسان أدى ذلك بالضرورة إلى تحقيق فساد في جانب معين من جوانب الوجود الكوني المحيط بالإنسان والمتكامل والمتصل معه. ولربما صدر هذا السلوك السالب عن جهل بحقيقة الأمور مصداقاً لقول الله تعالى: "... وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا" (الاحزاب 72) ، وهذا يوضح أهمية دور المستند الأخلاقي والمرجعية الأخلاقية الحاكمة لأغراض السلوك الانساني.
2/ إن هذا الكون الواحد المتكامل والمتصل بعضه ببعض - سواء علمنا نوع وماهية هذا الاتصال أم لم نعلم - إنما لا يشمل فقط الكائنات الحية (وفق تصنيف علماء الطبيعة) أو التي بها حياة تبعاً لما عبروا عنه بقولهم ".. ليست مجرد أشياء إنها اشياء (حيوية) وذات ميول بايولوجية فطرية تحدد نموها الطبيعي. زد على ذلك أننا نقول أن شروطاً معينة (جيدة) أو (سيئة) بالنسبة إلى النباتات - والحيوانات - مما يوحي بأنها خلافاً للصخور مؤهلة لأن يكون لها خير" (11). وبقولهم هذا يكون للأشياء الحية التي تولد وتتوالد وتنمو وتتغذى وتتحرك هي وحدها ما لديها الاستحقاق للاعتبار الأخلاقي بصددها دون سواها من يتواضع عليه بأنه (أشياء جمادية أو غير حية).في حين أنه من الثابت في القرآن الكريم أن الله خاطب كل كائنات الوجود في وحدة حقيقية مشتركة في المبدأ والمعاملة. فكما كان قوله تعالى "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ" (الانعام 38)، فقد قال كذلك "ثم قَسَتْقُلُوبُكُمْمِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَكَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" (البقرة 74)،ثم جمع ذلك كله بقوله "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ "(الاسراء 44)، بهذا يتسع لدينا المنظور البيئي العام ليشمل الوجود الشيئ أو المادي لينال درجة الاستحقاق الاخلاقي التي للموجودات الحية. وهذا كله مما ينبغي أن يراعيه (الكشاف) في اجراءاته اثناء تنفيذ الطريقة الكشفية بصدد هذا الوجود على اختلاف انحائه  وأنواعه وأجناسه.
وإذا انتقلنا إلى مستوى الاجراءات السلوكية اللازمة تبعاً لتلك المرتكزات ، فيمكن ايضاحها على النحو التالي:

1/ يدعم المرتكز الأول اتجاه المدرسة السلوكية في تفسيرها للعلاقة بين الأثر والمؤثر بأن السلوك الانساني الفاعل يصطلح عليه (بالسلوك الاجرائي) Operant Behavior لأنه سلوك يؤثر على البيئة ويترتب عليه تغير في العالم ، بل يغير في البنية ذاتها بطريقة أو بأخرى وهو يماثل إلى حد كبير جداً(السلوك الادائي) أو ما يعرف في اللغة المستخدمة في الحياة اليومية باسم (السلوك الارادي) أو (السلوك العرضي) voluntary or purposive behavior (12). وهذا يعني أن كل مجال من مجالات الوجود أو كل حقل من حقوله يحتاج إلى نوع معين من الملائمة الخاصة بالسلوك الموجه نحوه أو المقصود به وبما يتوافق مع ماهيته وماهية المتصل به. وهو على النحو الذي عبر عنه فلاسفة المدرسة التحليلية في انكلترا بأن الرابط الاتصالي بين المجالات المختلفة والموائمة بينها إنما يتم عبر ما اصطلحوا عليه (بالألعاب اللغوية) Language-Games و(المشابهات العائلية) Family Resemblances (13). عليه ، فقد صاغت الحركة الكشفية اشغالها وأنشطتها بما يطور مهارات المنتمين إليها ويكسبهم مهارات جديدة متلازمة مع الوعي بحقائق الطبيعة وذلك من خلال التقيد الصارم ببنود الوعد الكشفي والقانون الكشفي على مستوى التهيئة والدافعية الاخلاقية على النحو السالف ايضاحه وتأييده بالشواهد القرآنية. فمثلاً ما يتعلق بالبند الأول من القانون الكشفي أنه قد أصبح من المفترض علمياً أن الكلمة التي تخرج من فاه الانسان صدقاً أو كذباً أو حسناً أو سؤً يكون لها تأثيراً فيزيائياً ايجابياً أو سلبياً على التوازن البيئي العام بنحو مباشر أو غير مباشر.

2/ بناء على المرتكز الثاني يلزم للكشاف التحقيق الاجرائي (لثلاث مراتب) في الموقف المتخذ بصدد البيئة العامة من خلال ممارسة التخييم وحياة الخلاء (والتي هي أحد أهم عناصر الطريقة الكشفية وميدان تطبيق مهارات الكشف Scouting ):

المرتبة الأولى/
ترك كل شيء في الطبيعة المجردة على ما هو عليه - أي (حفظ الطبيعة) - ومن ثم عدم استهداف السلوك الخلوي أي نوع من أنواع التغيير للبيئة أو الإدخال عليها ما ليس منها بغرض التطوير أو العمران الحضري بشكله المادي التقني ، حيث أن الله تعالى قد خلق آلية التكيف الحيوي والأشكال الارتقائية في الطبيعة على نحو ذاتي فيها يحفظ لكل نوع نصيبه من البقاء والاستمرار والتحول بحسب مطلوبات نسبة توفره وتفاعله : "قَال رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" (طه 50). إذن ينبغي على الكشاف ألا يستخدم في الطبيعة ما ليس منها أو أن يدخل عليها عناصر أو أدوات آلية ولا حتى أن يخلط أصناف الأنواع ومجالاتها الفطرية ، وإنما عليه أن يبقي على كل شيء كما هو عليه ويستخدم منها فقط ما هو فيها.
المرتبة الثانية/
ممارسة الكشاف للدور المنعي تجاه إفساد البيئة براً وبحراً وجواً واتخاذ التدابير الواقية للطبيعة أثناء الحياة الخلوية والتخييم والقيام بأعمال الريادة. وذلك من خلال مبدأ قابلية الاستعمال للمتغيرات الطبيعية ، فهناك من عناصر ومفردات البيئة ما هو قابل للاستعمال بما لا يخل بالتعايش الانساني السلمي معها مثل : استخدام الغطاء النباتي الأخضر مع عدم ازالته بصورة بالغة أو القنص البري للطير أو الصيد المائي للسمك. وهناك ما ليس بقابل للاستعمال أصلاً مثل ما نص عليه الحديث النبوي الشريف باجتناب (الملاعن الثلاث):فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الملاعن الثلاث ، قيل : ما الملاعن يا رسول الله ؟ قال : "أن يقعد أحدكم في ظل يُسْتَظلُّ به أو في طريق أو في نقع ماء" (حسنه الألباني) .
وعند أبي داود عن معاذ مرفوعا بلفظ : "اتقوا الملاعن الثلاثة : البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل ".
وليس المقصود فقط اداء هذا الدور المنعي من جانب  جماعات الكشافة وإنما بالأصالة قيام الكشاف بالدور الارشادي المتعلق بالأخلاق البيئية وسط فئات المجتمع المختلفة.
المرتبة الثالثة/
الانتقال والتطور في التدريب الكشفي الخلوي وأعمال الريادة بما يحقق ازالة اثار الفساد الواقعة على البيئة بيد الانسان وحسب نوع وكم أي مظهر من مظاهر هذا الفساد - وهو ما كان لائقاً بالتدريب الكشفي العام ومبادئه القيمية والأخلاقية.
ومن جهة اخرى ، إذا نظرنا إلى الأمر من جانب التصنيف العلمي فنجد أن هذه المراتب الثلاث تدخل جميعها إلى مجال علم (السايبرنتك)Cybernetics  أي علم الادارة التحكمية للنظم والأنساق ، الامر الذي من شأنه أن يمنح القدرة التنفيذية الفاعلة للعمل الكشفي في اداء الكشافة لرسالتها السامية في حفظ ورعاية الوجود الطبيعي.والشاهد أن هذا العلم في مرحلة تطوره المعاصرة قد انقسم إلى نظامين اساسيين (14) :



النظام الاول First Order Cybernetics ويستهدف:
1- ادرة وتنظيم عملية أو اجراء ملاحظة ومراقبة الانساق  Observed Systems.
2- ادارة وتنظيم تحقيق الاغراض والأهداف للنماذج والأنماط المختلفة The purpose of a Model.
3- ادارة وتنظيم الانساق الخاضعة للعمليات التحكمية Controlled Systems.
4- ادارة وتنظيم التداخل والتفاعل بين متغيرات أي نسق.
5- ادارة وتنظيم بناء وتوظيف النظريات في الانساق الاجتماعية.

النظام الثاني Second Order Cybernetics ويستهدف:
1- ادارة وتنظيم الشخص القائم بعملية أو اجراء الملاحظة والمراجعة عل الانساقObserving System.
2- ادارة وتنظيم تحقيق الاغراض والأهداف لدى الشخص القائم بوضع وتأليف النماذج والأنساق A Modeler.
3- ادارة وتنظيم الانساق المستقلة واتجاهات التصرف الحرة لديها Autonomous Systems.
4- ادارة وتنظيم التداخل والتفاعل بين الملاحظ أو المراقب وموضوع الملاحظة والمراقبة.
5- ادارة وتنظيم بناء وتوظيف التفاعل بين الافكار لدى الانسان ومجريات الواقع الاجتماعي.
وفي ضوء هذا التصنيف يمكن ملاحظة أن التدريب الكشفي النوعي بحكم طبيعته والضوابط الشرعية للأخلاقيات السلوكية اللازمة له انما يقوم على النظام الثاني لعلم السايبرنتك بكونه يهدف إلى صياغة الانسان ليقوم عبر وظائف المراتب الثلاث السالفة الذكر بإدارة مجريات الواقع البيئي وهو ما يندرج تحت النظام الاول لعلم السايبرنتك. وكذلك من شأن هذا التصنيف وفق القوالب المنطقية  وتحت علم السايبرنتك أن يجسد المعنى المتعارف عليه للأخلاق بكونها علماً ، حيث يعرف (علم الأخلاق) " .. بأنه العلم المعياري لسلوك الكائنات البشرية التي تحيا في المجتمعات .. وأنه العلم الذي يحكم على مثل هذا السلوك بالصواب أو الخطأ ... إن هذا التعريف ينص أولاً على أن الأخلاق علم ، ويمكن تحديد العلم بأنه نسق معرفي لمجموعة وقائع جزئية مترابطة ، ولفظة نسقي Systematic تعتبر لفظة هنا لأنها هي التي تميز المعرفة العلمية عن المعرفة العادية التي تتصف بالعشوائية واللا ترابط" (15).

خلاصة:
إن اشغال الكشافة والتدريب الكشفي على استخدام وممارسة الطريقة الكشفية المتعارف عليها عالمياً إنما هي وسيلة فعالة في تحقيق ما كلف به بني آدم من تعمير الأرض وما خلق الله من شيء وما أمده الله به من نعم ظاهرة وباطنه. وحقيقة الأمر في جعل الكشافة وسيلة على هذه الدرجة العالية من الفعالية هو مرتكزاتها الاخلاقية وأهدافها القيمية حيث أن الكشاف لا يخطوا خطوة إلا وكانت مبررة ومدعمة بالأسانيد الأخلاقية السامية والتي تتطلب تأديباً كبيراً للنفس وتجردها عن الهوى والشهوات. لذا لم يكن من العير ابداً أن يتم تحقيق هذه الأسانيد الأخلاقية للكشافة بمرجعية الشرع الاسلامي مما يجعلها قواعد قائمة بذاتها ومستقلة عن اتجاهات ونوازع الضمير الشخصي للإنسان ، فالنفس امارة بالسوء إلا ما ضبط منها بالإلزام الشرعي.

رؤية مستقبلية:
لقد ظل التدريب الكشفي منذ تأسيسه وحتى اليوم يستند على أحد العناصر الفرعية للطريقة الكشفية وهي ممارسة الأنشطة عبر النظام التقليدي للطلائع والفرق والجماعات وما يتبعها من وظائف وتقسيمات. ولكن ربما نلحظ أن الالتزام بصرامة بهذا النظام العام قد يسمح بربط العمل الكشفي ومستواه بتقلبات الأحوال بالنسبة لانحطاط أو رقي هذه الفرق والجماعات فإذا كانت القيادة قوية ومخلصة وتملك الامكانات المناسبة قوي النشاط بقوتها وإذا ما كانت القيادة على غير ذلك واتسمت بالضعف انحط النشاط وحدث تفلت الافراد وتسربهم من الفرق بدعوى أن الأمر كله أصبح ضياعاً للوقت فيما لا يفيد ويثمر ، عندها تسوء الرؤية ويتدهور النظام العام للفرق والجماعات فتتعطل تبعاً لذلك فاعلية الكشافة ودورها الموسوم على نحو ما سلف. وعلى هذا ، فلعلنا نجد في الأسس الاصلية للحركة الكشفية الأولى متسعاً كبيراً لتطوير أشكال جديدة لتحقيق العناصر الرئيسية للطريقة الكشفية(الوعد ، القانون ، حياة الخلاء وأعمال ألريادة نظام الشارات) وذلك بما يحقق قدراً مركزاً من التأهيل التربوي للكشاف فيصدر في أفعاله الكشفية الأخلاقية عن أصالة في طبعه وليس عن تكلف مكتسب. والمقصود هنا لتلبية هذا الغرض هو مقترح لإنشاء ما يعرف (بمشروع وحدات الكشافة المنزليةHome Scout Units)كشكل جديد لممارسة ذات الطريقة الكشفية ولكن بنحو قد يكون اكثر فاعلية من الأشكال التقليدية ، كما أنه يخلوا من التأثر بالتذبذب في الارتقاء والانحطاط ويتجنب تبدلات الاحوال بالنسبة لنظام الفرق والجماعات التقليدية. عليه ، فإن أهداف وغايات ووسائل النظام الأساسي المقترح لهذا الشكل الجديد هو ما يلي:
1- تتألف عضوية الوحدة من فردين على الأقل هم الأبناء ، والقيادة مؤلفة من الأب أو الوالد والأم أو الوالدة ما أمكن ويتم التأهيل على ذلك.
2- تعقد الاجتماعات للأنشطة في مدة ساعتين ونصف الساعة إلى ثلاث ساعات ما أمكن في يوم متفق عليه من كل اسبوع. ويكون في مكان مناسب  يسمح بالتخييم والأنشطة الخلوية وأعمال الريادة سواء كان هذا المكان داخل المنزل أو ميدان خارجي قريب.
3- تحقيق التفاعل الايجابي بين أفراد الاسرة الواحدة من خلال الالتزام بنشاط رسمي.
4- ايجاد الرابط التفاعلي الدائم بين الأبناء (الكشافين) والآباء (القادة) حتى بعد سن الرشد ومرحلة الاستقلال الشخصي والتقاعد.
5- ترقية وتفعيل التأهيل التربوي وبناء القدرات لدى الكشافين الأبناء من خلال التدريب المركز على يد القادة الاباء بتوفر الجمع والتناسب لعنصري العقل والعاطفة.
6- دمج النشاط الكشفي للفتيان والنشاط الارشادي للفتيات وتنقيته في مرحلة ما بعد البلوغ وذلك باستيفاء الشرط الفقهي الاسلامي في رفع الحرج عن محارم الأرحام في مزاولة الأنشطة الجماعية العامة بينهم كأخ وأخت ، في حين تشديد الحدود في مواجهة الاختلاط غير الشرعي بين الاجانب فتيان وفتيات في مثل هذه الانشطة وإن كانوا ذوي قربى.
7- ابراز وتنمية الجوانب المهارية الفردية وتزكية خصائص الاستقلالية الشخصية دون الاعتماد على الجماعة.
8- توسعة دائرة ممارسة النشاط الكشفي / الارشادي ليصبح المجتمع كله كشافة / مرشدات.
9- الالتزام بالطرقة الكشفية الاساسية مع تعديل نظام (الطلائع) إلى نظام (الوحدات الجمعية)، والتركيز على الممارسة المستعرضة للتدريب الكشفي دون الالتزام بالتقسيم التدرجي للمراحل الكشفية ودمج هذه المراحل في وحدة تدريبية واحدة مستعرضة.
10- الالتزام بالزي الكشفي المتعارف عليه وشارات الجدارة والهوايات المعتمدة بأنواعها.
11- يصبح نظام منح شارات الجدارة والهوايات اكثر مرونة وضبطاً وعدالة واستحقاقاً باعتبار توفر الكشاف (الابن) أمام قادته (الوالدين) على مدار الوقت جله مما يجعله على دراية كاملة اكثر من أي شخص آخر بمظاهر موهبة الكشاف واتجاهاتها ودرجتها وكذلك خلق الفرص أمام هذه الموهبة لتنمو وتتطور في اطار البيئة المنزلية.
12- تركيز مبادئ الحفاظ على ما هو قائم ، ومنع الضرر ، وإزالة الاثار السالبة ، في اطار التفاعل الكشفي - البيئي بالانطلاق من الوحدة البيئية الصغرى على مستوى المسكن ثم الاوسع فالاوسع ، وليس فقط على مستوى الارض الخلوية العامة والغابات والبحار والأجواء.
والأمر من بعد مطروح ومقدم للتفاكر والتدبر ثم التنفيذ ، ولا مشاحة في هذا إذ أن العمل الكشفي هو عمل طوعي مرن وليس عملاً حكومياً صارماً.



الاحالات المرجعية:

(1)             ياسين عبد الحميد - رسالة التربية الحديثة - (عمان ، الاردن ، وزارة التربية والتعليم ، 1975م)، 123.
(2)             عبد اللطيف فؤاد ابراهيم - المناهج اسسها وتنظيمها وتقويم اثرها - (القاهرة ، مكتبة مصر ، ط 3، 1973م)، 301.
(3)             بادن باول – الكشفية للفتيان – ترجمة/ رشيد شقير، (بيروت ، مكتبة المعارف ، بدون سنة نشر)،3.
(4)             بادن باول – الكشفية للفتيان –  6.
(5)             بادن باول – الكشفية للفتيان - 14.
(6)             بادن باول – الكشفية للفتيان –  15.
(7)             مايكل زيمرمان - الفلسفة البيئية ، من حقوق الحيوان إلى الايكولوجيا ألجذرية ترجمة معين شفيق رومية، (الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، العدد 333، 2006م)، 9.
(8) Stuart A. Umpeby - The Science of Cybernetics and the Cybernetics of Science - Cybernetics and Systems, vol. 21, no.1, 1990, p. 117.
(9) عبد الرحمن بدوي - مناهج البحث العلمي - (الكويت ، وكالة المطبوعات ، ط 3، 1977م)، 89.
(10) عاطف عبد المجيد - التكامل في الحركة الكشفية -آراء وافكار ، نشرة شهرية تصدرها المنظمة الكشفية العربية ، القاهرة ، العدد 234 ، السنة التاسعة عشرة ، 2007م.

(11) مايكل زيمرمان - الفلسفة البيئية ، من حقوق الحيوان إلى الايكولوجيا الجذرية - 103.

(12) جورج أم. غازدا (وآخرين) - نظريات التعلم ، دراسة مقارنة - ترجمة/ علي حسين حجاج ، (الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، العدد 70، 1983م) ص 148.
(13) Ludwig Wittgenstein - Philosophical Investigations -
( London,  Basil Blackwell, 1958), s.179.
(14) Stuart A. Umpeby - The Science of Cybernetics and the Cybernetics of Science - (Cybernetcs and Systems, vol. 21, no.1, 1990), 113.

(15) وليام ليلي - مقدمة في علم الأخلاق - ترجمة/على عبد المعطي محمد ، (الأسكندرية ، منشأة المعارف ، 2000م)، 26.

أوهام المسرح .. (المحرقة المقدسة) د. وائل أحمد خليل الكردي

أوهام المسرح .. (المحرقة المقدسة)

د. وائل أحمد خليل  الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com                           

ذكر (فرانسيس بيكون) في الجزء الأول من كتابه الأساسي (الأورجانون الجديد) Novum Organum  ما يلي:
"تلك الأوهام والتصورات الزائفة التي استحوذت على الذهن البشري ومازالت متجذرة فيه بعمق – لا ترين فقط على عقول البشر فلا تجد الحقيقة منفذاً إليها ، بل حتى إذا وجدت الحقيقة منفذاً فإن هذه الأوهام سوف تلاحقنا مرة أخرى في عملية تجديد العلوم نفسها وتضع أمامنا العوائق ما لم يأخذ البشر حذرهم ويحصنوا أنفسهم منها قدر ما يستطيعون" ..
إن هذا القول يدل على أن التفكير السليم والمنطقي والحكم السديد في أي قضية يستلزم وجوباً تخليص الذهن الإنساني من مجموعة من العوائق النابتة فيه بفعل أسباب كثيرة منها ما هو معلوم وأكثرها مجهول .. ولقد صنف (بيكون) – وكان موفقاً في ذلك - تلك العوائق في أربعة  مناطق أساسية أسماها بالأوهام Idols (أوهام المسرح) Idols of the Theatre و(أوهام القبيلة) Idols of the Tribe  و(أوهام الكهف) Idols of the Cave  و(أوهام السوق) Idols of the Market place  .. ويجوز لنا أن نقتبس هذه الأوهام لنقرأ من نافذتها بعض وقائع الحياة والتاريخ وذلك مع شيء من التصرف في استخدام وظائف المصطلح .. وإذا بدأنا بأوهام المسرح فذلك لأنها تصور كل ما ران على أنظارنا من عمىً بصدد مجريات وأحداث مضت أمام أعيننا وهي تلبس ثوباً كثيفاً لا يشف ولا يصف ما تحته من حقيقة ومعنى ومضمون .. فيذهب الناس بها شرقاً وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .. في حين أنها تسعى بأرجلهم غرباً إلى حيث لا يدرون فكان ذلك عليهم تلبيس إبليس.. فنحن قد نرى من نافذة القطار السريع أن الشجر والهوام تجري إلى الوراء وهي في الحقيقة قائمة في مكانها ونحن الذين نجري إلى الأمام ولكن ليس بأرجلنا على الأرض وإنما بعجلات القطار.
لقد قال (بيكون) في كتابه "إن كل الفلسفات التي تعلمها الناس وابتكروها حتى الآن هي أشبه بمسرحيات عديدة جداً تقدم وتؤدي على المسرح خالقة عوالم من عندها زائفة وهمية"  .. لقد تكلم (بيكون) عن أوهام المسرح تلك في حدود النظريات والمذاهب .. أما هنا فسنضرب لها الوقائع .. ومثل هذا ما قد حرره يهود عصرنا .. فقد حدث في التاريخ السالف عندما أوهم بني صهيون جميع العالم بمأساة  (المحرقة المقدسة) وأظهروا فيها لكل الناس بشاعة وجبروت وطغيان الحكم النازي بأن أحرق نحواً من ستة ملايين يهودي في الأفران العالية وكيمياء التذويب وغير ذلك .. فصوروا كيف أن الشعب اليهودي قد صار بذلك هو أكبر ضحية في تاريخ البشرية .. هذا ما سحر اليهود به أعين الناس .. في حين أن الحقيقة التي كشفت من بعد ذلك وراء المشهد المسرحي أن كبراء اليهود وسادتهم هم أنفسهم الذين دفعوا في الخفاء بعدد من أبنائهم كبش فداء إلى (هتلر) وجنوده ليبيدوهم حرقاً وتعذيباً ودون أن يعلم هو أو يعلم أحد من أولئك الضحايا أنهم مدفوعون إلى مصيرهم بيد أهلهم وبني جلدتهم .. وبهذا ضرب سادة اليهود اثنين من العصافير بحجر واحد : أولاً – إجبار أعداد كبيرة من يهود أوروبا (الأشكيناز) خاصة الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال على الهجرة غير الطواعية إلى أرض الميعاد والوطن الجديد خوفاً من الموت والإبادة ومصادرة الثروات .. وبهذا حقق الخوف في النفوس الهدف الذي أذاع به (هرتزل) وقصرت دونه السياسة  وتردد فيه أول الأمر كثير من يهود أوروبا المديرين لعجلة الاقتصاد فيها .. وبعد المحرقة المقدسة هاجر اليهود من شتى أرجاء العالم فرادى وجماعات إلى أرض فلسطين ونقلوا معهم معظم رؤوس أموالهم وثرواتهم فأداروا بها عجلة اقتصاد الوطن الجديد ، هذا بخلاف تثقيل كفة اليهود الأشكيناز (يهود أوروبا) على كفة يهود الشرق (السفارديم) ليكونوا هم حكام الدولة دوماً والعرق اليهودي الأنقى فيها .. ثانياً – الظهور للعالم بمظهر الشعب المظلوم صاحب الحق الذي يطلب التعويض فيما ابتلاه بإحراق وذبح الملايين من أبنائه مالاً طائلاً غير منقطع يجبى إلى إسرائيل من ألمانيا كل بضعة أعوام فاتورة التكفير عما اقترفت يدا زعيمها .. هذا مثال واحد ولكن قس عليه ما يصعب إحصائه وعده من ضروب أوهام المسرح التي تعرض علينا في حياتنا كل يوم غدواً وعشيا ونحن عليها في غفلة من الأيام والحقائق .. وللخروج من هذا الوهم فقد قال الله تعالى "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا" .. "فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً" .. والأمر مفتوح للتدبر


كمثل الحمار يحمل أسفارا   

د. وائل أحمد خليل الكردي    
wailahkhkordi@gmail.com
مضمون الصورة : منحوتة يابانية تجسد مشهد طفلة صغيرة ضئيلة الحجم تجلس على طرف أرجوحة وعلى جوارها أربعة كتب كبيرة الحجم والدسم .. وعلى الطرف الآخر يجلس فتى كبير الجسم ضخم الجثة يمسك بيديه كتاب صغير على سبيل الترفيه مما يبدو .. وتمام المشهد أن الأرجوحة رجحت بكفة الطفلة الصغيرة إلى الأسفل بينما طارت كفة الفتى الكبير الحجم ذو الكتاب الصغير إلى الأعلى ..

مغذى الصورة : أن وزن وقيمة الإنسان هي بما يحمل من علم مهما خف وزنه وضؤل حجمه ..وأبان لنا ربنا العظيم إذ قال (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)..
عندما أرسلت تلك الصورة إلى صديقي السعودي الذي كان ثمرة كسبي من أيام غربتي لما علمته فيه من مثال نادر للمفكر الحر والناقد الحصيف والمتأمل ثاقب النظرة والكلمة والباحث الذي لا تفتر عزائمه .. أرسل الرد من فوره سؤال استدراكي يحوي في قلبه إجابات عميقة فقال : ( افترض أمن إنسانا أنفق السنوات الطوال في التحصيل المعرفي ، وأنه بلغ درجة عالية في المعرفة ، وأصبح الأول في مجتمعه من حيث التحصيل المعرفي الشامل الغزير جداً .. ولكن هذا الإنسان هو الأول في مجتمعه من حيث الإجرام والانحراف الأخلاقي ، فلم يترك خلقاً قبيحاً ولا جريمة نكراء إلا ارتكبها .. سرق وضرب الناس واغتصب وسب وشتم وكذب وأدمن المخدرات وروجها وأكل أموال الناس بالباطل .. إلى آخر القائمة الطويلة من الفساد الوظيفي والمالي والإداري والأخلاقي وكل المستقبحات والمنكرات .. كيف نقيم هذا الإنسان والحال كذلك ، وهل تنطبق عليه هذه الصورة ؟) 
فما كان جوابي إلا أن هذا الرجل العالم الفاسد قد فصل ما بين ما لا يمكن فصله وإلا صار كمثل الحمار يحمل أسفارا .. وقد صار .. لأن الحقيقة هي أن لا انفصال في الإنسان بين علم وقيم .. أو بلغة الفيلسوف الكبير (إيمانويل كانط)  I. Kant، لا انفصال بين (العقل النظري أو المجرد) القائم بالمدركات والعلوم وبين (العقل العملي) القائم بالأخلاق والقيم والمثل العليا .. فما كان التفريق بينهما أصلاً إلا مجازا .. إن المسألة القيمية والأخلاقية والذوقية مضمنة بالضرورة فيما نسميه دائما بالعملية المعرفية ومكون بارزا من مكوناتها .. وحيث أن هذه العملية المعرفية إن خلت من الجانب الوظيفي في ضد السياق العام للوجود والكون أصبحت لا قيمة لها بل وفاسدة لأنها فقدت شقها الأساسي الآخر وهو الوظيفة القيمية تلك .. فالأمر على مثال من يقرأ القرآن والقرآن يلعنه ، أو من أضله الله بالقرآن الذي هدى به غيره .. ولعل ما كان المقصود من الصورة – والأقرب إلى فكر أولئك الشرقيين من أهل اليابان – هو المعرفة بمعناها الكيفي المتكامل وليس بمعناها الكمي المتراكم بعضه فوق بعض في تراص دونما رابط عميق ودونما رؤية كلية شاملة world-view .. ومن غير الممكن أن تكون هنالك رؤية كلية شاملة ندير بها أمور حياتنا وشؤون دنيانا ما لم يكن السياق المعرفي كاملاً بشقيه الإدراكي والقيمي .. أي العقل المجرد والعقل العملي معاً ..

ولقد فسد هذا الرجل العارف وافسد حينما فصل بين عقله المجرد وعقله العملي .. عندما فصل بين روحه وجسده .. عندما فصل بين كونه هو ، على الفطرة ، وبين ما يعلم .. ولله الحكمة أخيراً على ما قد كثر في زماننا هذا من الرويبضة .. صخاب في أسواق العلم والدين .. ذاك الدعي بكل معرفة وأمر حُصل في الصدور أو بدا للعيان شاهدا قائما .. يقول بهيئة العالم على المنابر فيما لا علم له به ويسحر أعين الناس وعقولهم فيجني من الشهرة والمجد والمال والآذان  الصاغية ما لم يجنه علماء خلد التاريخ أعمالهم وأسمائهم .. فعلينا إذن أن نسبر المدافن بحثاً عن عصا موسى فنضرب بها كل فرعون آثم ..
نصل (أوكام) ..
 وأعد كم أكذوبة عني يقول الواهمون ..


د. وائل أحمد خليل الكردي    
wailahkhkordi@gmail.com

لقد اتخذ عقل أوروبا الفلسفي  في أخريات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من مبدأ الراهب الانجليزي (أوكام) W. Occam  القائل (لا ينبغي أن نكثر من الكائنات في العالم بغير ضرورة) نصلاً حاداً لقص وبتر كل ما يعد وجوداً افتراضياً فقط في عقولنا ولا حقيقة فعلية له في العالم الواقعي ..فكل ما لا يمكننا أن نتوجه إليه بالإشارة في الأشياء من حولنا عندما نتحدث عنه في سياقات كلامنا فلابد أن نصمت بصدده ، وأن لا نفترض أصلاً وجود ما لا وجود له .. وأن لا حقيقة لما لا عيان له .. عرف هذا بقاعدة (نصل أوكام) في أدبيات الفكر الأوروبي المعاصر .. أما نحن فإن في حضارتنا (غير الأوروبية) ما ليس يجعلنا نتخذ من هذا المبدأ أسوة ولا صنيعة .. فلدينا ما هو ذا قيمة في حديثنا وإن لم يمكننا الإشارة إليه من حولنا .. (إذ ليس كل الوجود أشياء وأعيان) ولكن فقط لنا أن نستلهم المنهج دون التطبيق .. فإن قالوا هم (لا ينبغي أن نكثر من الكائنات في العالم بغير ضرورة) .. قلنا نحن (لا ينبغي أن نكثر من المشكلات في مجتمعاتنا بغير ضرورة) .. ولعل دافع القول في هذا أن كثير من مشكلاتنا قد تكون بنحو أشجار قائمة على سطح الأرض تطاول بأفرعها عنان السماء ، ولكنها ليست بذات بذور وجذور تحتها كما الأشجار .. أم أنها كجبال شاهقات أمام ناظرينا وهي ليست راسيات بذي أوتاد تضرب في الأرض أغوراً سحيقة كما الجبال .. تلك هي المشكلات الزائفة .. ضرب من كلام وألفاظ في غير مواضعها ، وتأليف أفكار ليست بذي ائتلاف .. حتى صدق من قال أن أكثر مشكلاتنا صراعات عقلية نشأت عن سؤ فهمنا لمنطق كلامنا وعن سحر عقولنا بأحجيات وخطب .. لقد شغلنا أنفسنا وأقساماً من أوقاتنا بأسئلة ذات إجابات مفتوحة لا تنتهي إلا جدلاً (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) وننسى بذلك أن نضرب عمق الهدف في مقتله بأن نسلم بمنطوق النصوص الوصفية والآمرة في ديننا ونذهب منها للعمل والفعل المنتج والمؤثر .. فعندما نسأل مثلاً عن (جبر واختيار) ألا يكفينا الحاجة لهذا السؤال أنه لن يسد رمق من يطارد أرجل المارة في الطرقات وأعينهم تكففاً لما يغنيه لقمة العيش الآن وتواً ، ولا يعنيه فيها ما سيكون عليه حاله في اللحظة التالية ..كما أن هذا السؤال أيضاً لن يغني أولئك الذين لا توقد في بيوتهم ناراً ، وفي الخارج تجلد الشمس ظهر الأرض بسياطها وتئن هل من زارع وهل من ناسج وهل من مستثمر في طاقة بلا وقود .. (إن الجائع لن يتوقف ليسأل هل أنا حر أم مسير .. بل سيتخذ الأسباب سعياً وكفاحاً دون تفكير إلا فيها للحصول على لقمة تبقي أوده قائماً .. وهكذا دوماً هو صاحب الحاجة) ..
ثم مثلاً إلى ذلك الذي يسأل .. (هل بعد الموت نحيا أجساداً أم أرواحاً ، أم كلاهما معاً وما المعذٌب أو المنعٌم منهما.. وكيف نكون آنذاك  إنساناً بغير ما كنا عليه في دنيانا) .. وينسى صاحب السؤال أن الموت لا يعانيه إلا من مات وسبق عليه الكتاب، فلا يعود ليخبرنا كيف بأحوال القبور وأهلها .. إن الموت هو المعاناة الوجودية الوحيدة التي لا يدخل معك فيها إنسان آخر ولن تناله إلا تجربة ً .. فرداً .. وحيداً .. وإن هذه الأحوال محلها فحسب هو الإيمان بأن الله هو الحق وأنه على كل شيء قدير وأنه يبعث من في القبور ..  ولا يصلح في شأنها الجدل وبناء أفكار ومذاهب تتضاد أو تتناقض فيما بينها ، ثم يقوم من يفتي فيها بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير ..

والقياس على منوال تلك الأسئلة كثير مما كان مداره التسليم ولا يعني العقل الإجابة عنها في شيء ، وأن الجدل فيها يضيع العمل ويضل السبيل ، ثم لا يزال الجدل لا ينتهي .. ولنعد كم أكذوبة بعدها سيقولون .. 
ماسون السودان ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
منذ أخريات العام 1969م ظل الرئيس (جعفر نميري) رحمه الله ، يغلق المحافل الماسونية التي وسع انتشارها في مدن السودان الكبرى الخرطوم وعطبره  ومدني وبورتسودان .. ولعل ما أرشده إلى هذا الفعل عن وعي وإدراك بين ، هو الدور المهم جداً الذي لعبته مقالات الأستاذ (خضر حمد) رحمه الله ، والتي جمعت هي والمقالات المعقبة عليها من آخرين ثم نشرها في كتابه (هذه هي الماسونية) الصادر بالخرطوم في مايو 1969م .. وكيف أن هذا الكتاب حوى على صغره دسماً كثيراً عن حقيقة الماسونية وخطورتها البالغة .. كل هذا في زمان كانت فيه الصحافة هي بالفعل الصائد لانتباهات  العقول وقاطفة لثمار الوعي وباعثة للحقائق حول الناس ..
لقد فعلت الماسونية فعلها في نسيج البلاد الفكري والعقدي والاجتماعي بما لم يزل أثره فينا إلى الآن . وكان هذا عبر منظومة من الشعائر الطقوسية الرمزية والتي وافقت إلى مدى بعيد ما تهواه أرواح الشرق وأفريقيا من شغف للغموض والأسرار .. فأقام عشائر (البناءون الأحرار) – أي الماسون – نظامهم على عمودين راسخين لديهم وهما (الإخاء المطلق) و(السرية المشددة) .. ولقد أورد (خضر حمد) في المقالة الأولى من كتابه إشارة لذلك ما يلي : (يتحتم على الماسوني في جميع الأحوال أن يساعد أخاه ويرشده ويدافع عنه ولو خاطر بحياته ، وهذا طبعاً حتى لو كان الأخ المشار إليه صهيونياً .. أليس أخاً ماسونياً ؟) .. (في منشور صدر في سنة 1892م جاء : يجب أن يكتم الأخوان السر الماسوني كتماناً كلياً)..
أما عن المراسيم التي يتبعها جماعة البناءون الأحرار (الماسون) في تعميد أعضائهم من أجل تحقيق السرية والإخاء  في سبيل تنفيذ السيطرة على الشعوب والمجتمعات وتسييرها نحو الوجهات المرسومة لها في العهد القديم (التوراة) وكتاب (التلمود) و(بروتوكولات حكماء صهيون) ، فقد تم تدوينها في كتاب صغير سمي (الشعائر الأصلية لشعائر الماسونية – التابعة للمحفل الانكليزي الأعظم) وقد تم ترجمة نسخة منه إلى العربية علي يد الأخ الواجب الاحترام (يحى عمران) نائب الأستاذ الإقليمي الأعظم لمصر والسودان بحسب التقاليد والتسميات المتبعة في الماسونية .. وقد جاء في مقدمة الطبعة العربية الصادرة بتاريخ مارس 1962م والمطبوعة بمطبعة التمدن بالخرطوم (ولما عرض على الأخ الواجب الاحترام الأستاذ "محمد صالح الشنقيطي" الأستاذ الأعظم الإقليمي لمصر والسودان ، تفضل ووافق على نشره) .. ومن ابرز ما جاء في هذا الكتاب هو نص (التعهد) الذي يقوم به طالب الماسونية على عدم افشاء الأسرار بأي صورة من الصور وإلا فإنه يقر بوقوعه تحت طائلة ما يعاقب به الغادر الحانث الناقض للعهد .. ثم بعد العهد يعطيه رئيس المحفل التحذير التالي – ولاحظ أن النقاط هي كلمات حذفت قصداً من النص بالكتاب لسبب غير معلوم أو أنها من ضمن الأسرار - (واعلم أنك بحسن انقيادك هذه الليلة .. قد نجوت من خطرين عظيمين هما "..." والخنق فقد كان هذا الخـ .. موجهاً إلى صدرك عند دخولك من باب الهيكل ، حتى إذا بدر منك سؤ نية كنت ساعياً إلى قتل نفسك طعناً به ويكون الأخ الذي يحمله قد قام بما وجب عليه . ولقد كان هذا "..." في عنقك حتى إذا حاولت النكوص خنقت به في الحال . وأما الخطر الذي يجب عليك أن تحذره ما حييت فهو العقاب الذي حكمت به على نفسك في تعهدك وهو أن تؤثر "..." على إفشاء أسرارنا . وبما إنك قد الزمت نفسك التعهد اللازم والميثاق الواجب في الماسونية فأخبرك أن للماسونية درجات وأن لكل درجة منها أسراراً يكشفها الرئيس للطالب على قدر استحقاقه وأهليته) ..


إن هذا الكتاب ، والذي ربما لا يوجد له نظير حالياً ، يوضح بدقة الممارسات الطقوسية الحاكمة لأسرار المحافل الماسونية في السودان وقت أن كانت معلنة تماماً في مجتمعاتنا مثلها مثل النوادي الاجتماعية والرياضية والتنظيمات الخيرية . وبرغم من علانيتها تلك لم يدر أحد من الناس في خارج الماسونية ما هي حقيبة الأسرار المخصصة لكل رتبة من رتب الترقي في درجاتها والتي تبلغ كل منها من الخطورة ما يكلف إفشاء العضو لأي كلمة منها حياته حتماً .. وربما يكون الشاهد في هذا الأمر أن الرمزية الشديدة والتي تملئ الحيز في محافل الماسون بالخوف والرهبة أثناء طقوس وشعائر فتح المحفل وإغلاق المحفل ما يوجد رابطاً ومبرراً منطقياً  وإجرائياً في اتخاذ بعض الحركات والطرق الاجتماعية ذات الشكل العقدي كثيرة الانتشار لشعائر رمزية قريبة الشبه من تلك التي للماسونية مما ييسر جعلها مطية للماسون في تنفيذ أغراضهم عبرها في الوقت الذي حظر فيه النشاط العلني للماسونية .. إن هذا الأمر ليس مصادفة بل هو ترتيب نتائج على مقدمات والشواهد على ذلك من التاريخ والواقع ماثلة للعيان .    
من يدري عن .. (مارون عبود)؟
د. وائل أحمد خليل الكردي   
لقد عثرت على (مارون عبود) دون قصد مني بين كتب عتيقة على رفوف مكتبة عريقة في أحد شوارع الخرطوم القديمة .. وكان ذلك منذ زمن ليس بالقريب. فعرفت أن قليلون هم جداً في بلادنا اليوم من يعرفون (مارون عبود) - 1886- 1962م - ذلك الرجل من الطراز الفريد النادر في خلقه وفكره وسعة وعيه وفيض إيمانه . (مارون عبود) رجل مسيحي ماروني متشدد في تدينه  إلى درجة الصواب ولمس الفطرة الحقة والنقاء الإنساني الخالص ..
 (مارون عبود) رجل ولد وتربى وهرم في قريته الريفية (عين كفاع) بالجنوب اللبناني ، وهو وإن كان قد خرج مراراً من قريته تلك إلى جميع العالم إلا أنه حملها معه نموذجاً دائما لمواد قلمه الثر.. فأحاديث قريته بين نفسه وبين الناس لا تنضب . ومن جهات أخرى ، فالحق أقول أنني لم أرى من فاق (مارون عبود) في تفسير ووصف بنية وحقيقة الشخصية العربية الأصلية بما لها وما عليها في مقالاته الفذة نقداً ونثراً وشعراً وفلسفة ، وكيف أنه قد صاغ بشيء واضح من التبرير المتسق مع واقع الحال أن كل بيت في قصيد العرب يدل على خاصية حياتهم وهويتهم الأولى وسمات منطقهم ، ولعله في هذا قد أثبت أطروحات الفلسفات التحليلية المعاصرة بأن الفكر الصواب هو ما سلك منهجاً لفهم وإيضاح طرق الحياة المختلفة للشعوب والقبائل ، فكان هو من أقدر الكتاب على تحليل ونقد طريقة حياة الناس وأحوالهم في بلاد العرب ومنطق عقولهم ..
إن  (مارون عبود) ذلك المسيحي الصالح المتشدد الذي دعته سلامة فطرته إلى الدعوة إلى تصحيح العقيدة لدى أبناء جلدته بما يرضي الرب ويصلح الأرض ، حتى أنه زعم أن المسيح إن عاد ورأى ما قد أحدثه الناس في أعياد الميلاد لما عرفهم  ولأنكر منهم كل فعل .
(مارون عبود) هو صاحب القضية الكبرى في حب رسولنا الكريم (محمد) صلى الله عليه وسلم من بين بني النصارى حتى مجدت قصائده (محمداً) ، ولم يطرق داراً  ولا حدثاً ولا أمراً إلا وقدم له بأية من القرآن المجيد أو دل عليه بحديث شريف قبل أن ينص عليه من الإنجيل . وقد بلغ من احترامه لمحمد صلى الله عليه وسلم  شأناً أن سمى ولده (محمداً) فثارت الدنيا عليه من بني جلدته ولم تهدأ. وحسبنا شاهداً عليه من كلامه أبيات في مدح الحبيب المصطفى وتسمية ابنه عليه :
عشت يا ابني، عشت يا خير صبي ولدته أمه في (رجبِ)
فهتفنا واسمُهُ محمدٌ أيها التاريخ لا تستغربِ
خَفّفِ الدهشةَ واخشعْ إن رأيتَ ابنَ مارونٍ سميّاً للنبي
اُمّه ما ولَدتْهُ مسلماً أو مسيحياً ولكن عربي
والنبيُّ القرشيُّ المصطفى آية الشرق وفخر العربِ
يا ربوع الشرق أصغي واسمعي وافهمي درساً عزيز المطلبِ
زرع الجهل خلافاً بيننا فافترقنا باسمنا واللقبِ
(فالأفندي) مسلمُ في عرفنا والمسيحيُّ (خواجه ) فاعجبي
شغلوا المشرق في أديانةِ فغدا عبداً لأهل المغربِ
يا بني اعتزَّ باسمٍ خالدٍ وتذكّرْ إن تعشْ، أوفى أبِ
جاء ما لم يأِتهِ من قبلهِ عيسويٌّ في خوالي الحقبِ
فأنا خصم ُالتقاليد التي ألقتِ الشرقَ بشرّ الحَرَبِ
بخرافاتِهِِمِ استهزئ وقلْ: هكذا قد كان من قبلي أبي.
وغداً يا ولدي، حين ترى اثري متبَّعاً تفخر بي
بكَ قد خالفتُ يا ابني ملّتي راجياً مطلعَ عصر ذهبي ..
ولعل المغذى المستفاد من إيراد سيرة رجل مثل (مارون عبود) يكون قول الله تعالى في القرآن المجيد "ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" .. وأحسب أن في قلب هؤلاء رغبة وتمني أن لو كانوا مسلمين فيجدون الحياة بذلك أفضل وأرحب وأكبر معنى ، ولعل أولئك من أهل الكتاب الذين قال فيهم الله تعالى "وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" .. فكم فينا وبيننا ممن سلمت فطرتهم ، وأثمر الرجاء الطيب فيهم بإنفاذنا معهم أمر الله تعالى بقوله "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون" .. وكم ضيعنا الكثير من الفرص في تكثير أمة الإسلام ليس بغث كثيف من أبناءنا وإنما بمن هم ذوي نفع وجلد وعزم وعلم في أصحاب الملل الأخرى  و(مارون عبود) يقف في قبره خير شاهد ودليل لنا في ذلك .. أدعوا الله أن يكون (مارون عبود) النصراني الصالح قد أعلن في قلبه لله وحده أنه مسلم .. وأرجو لنا أن نقرأ من سيرته وسيرة أمثاله وما كتبوا وألفوا لعلنا نكسب شيئاً من المستقبل مع هؤلاء في ظل الإيمان قبل فوات الأوان .