الجمعة، 31 مارس 2023

يوتوبيا الغائبين.. رؤية في فيلم (الصحوة)


يوتوبيا الغائبين.. رؤية في فيلم (الصحوة) د. وائل أحمد خليل الكردي (كان فصل الصيف رائعاً.. كان موسم الولادة من جديد والبراءة.. كان معجزة.. شعر بذلك خمسة عشر مريضاً، ونحن المشرفون أيضاً.. لكن الآن علينا التكيف مع حقائق المعجزات.. يمكننا إلقاء اللوم على العلم والقول أن الدواء لم يكن فعالاً أو أن الداء عاد من جديد أو أن المرضى عجزوا عن التأقلم مع خسارة العقود المنصرمة من حياتهم، في الحقيقة لا نعلم ما الخطأ الذي حدث بقدر ما نجهل ما كان الصحيح.. ما نعرفه هو أنه مع انغلاق النافذة الكيمياوية حدثت صحوة جديدة.. إن روح الإنسان أقوى من أي دواء، وهذا ما يجب تغذيته من خلال العمل واللعب والصداقة والعائلة.. هذه هي الأمور الأهم.. لقد نسينا أمرها.. أبسط الأمور).. تلك هي الكلمات التي ختم بها (روبين وليامز) R. Williams فيلم (الصحوة) Awakening والذي أدى فيه دور البطولة تحت شخصية (دكتور ساير) Dr. Sayer وشاركه في البطولة الرائع بحق (روبيرت دو نيرو) R. Deniro تحت شخصية (ليونارد)Leonard المريض النموذجي في تجربة العلاج.. وذلك حينما عين (د. ساير) طبيباً معالجاً في مستشفى الأمراض المزمنة في مقاطعة (برونكس) ليجد عالماً فريداً من البشر الأحياء الغائبين عن فاعلية الحياة لعقود طويلة من عمرهم نتيجة اصابتهم بمرض التصلب اللويحي ومتلازمة (توريت) ومرض (باركسون)، فظلوا طول فترتهم وراء جدران المستشفى لا يخرجون الى العالم الخارجي، منهم من غاب عن معايشة الحياة لأربعين سنة ومنهم ثلاثين ومنهم دون ذلك أو أكثر.. تحرك الطبيب (ساير) بالدافع الشعوري الإنساني نحوهم بتعاطف عميق كان سبباً في أن كرس نهاره وليله من أجل اكتشاف علاج لهؤلاء يعيدهم به إلى الحياة الواعية الواقعية من جديد إذ كان هو الوحيد من بين الأطباء من آمن بأن ذلك ممكن، وقد فعل.. وربما ليته ما فعل.. نحن كثيراً ما نضع معياراً للحقيقة والوجود والسعادة وفقاً لزماننا القريب وما عليه مقتضى الأمور في يومنا الراهن والذي بلغناه بتتابع السنوات المتصلة حين ننمو وتنمو معنا الحياة، إلى أن تشكلت خبراتنا التي نعالج بها ظروف عصرنا لكي نضع عليها تلك المعايير.. وكذلك كل الأفكار الحالمة بالمدن الفاضلة أو (اليوتوبيا) كانت لأجل تحقيق السعادة للإنسان حاضراً ومستقبلاً بحسب هذه المعايير التي وضعناها من واقع عصرنا وطرق حياتنا.. هكذا فعل (أفلاطون) في جمهوريته، وفعل (توماس مور) في يوتوبيا، وما أشار إليه الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة، وغير ذلك من جهود وأفكار مختلفة.. ولكن كلها كانت تشترك في تصور ما ينبغي أن يكون ورسم المستقبل بناء على الحاضر، ولكن ماذا لو كانت هناك يوتوبيا أو مدن فاضلة شعوبها موجودة بيننا في زماننا وحاضرنا ولكنهم يعيشونها في زمانهم هم الخاص.. إذن، كان من الطبيعي أن يفكر الطبيب بمعايير يومه وخبرته السوية هو عندما قرر في شأن مراضاه أن الأصلح لهم هو إعادتهم مما هم فيه وتحريرهم من الأسر في الماضي ومن جدران المستشفى.. ولكن كانت الصدمة والدرس المستفاد في آن معاً عندما نجح الدواء وعاد الغائبون، ولكنهم عادوا بعقلياتهم ومشاعرهم القديمة وحدود خبراتهم التي توقفوا عندها يوم اصيبوا بالمرض وغادروا عليها منذ سنوات طوال، فمن هو بالسبعين عاد بروح وعقل وخبرة الشاب في العشرين حيث كان يومذاك.. هنا كان لابد أن ينشأ صراع نفسي كبير بين الماضي والحاضر الذي أتى فجأة في حياة هؤلاء، ثم ليتحول الصراع إلى نقمة وتمرد على الأطباء الذين وقع بظنهم أنهم يحولون بينهم وبين أن يمارسوا بحرية الحياة كما يعوها هم وليس كما يفرضها هذا الحاضر الغريب تماماً.. وكانت الأزمة لتتحول إلى كارثة حقيقية لولا أن أدركهم قدر الله بلطفه بأن الدواء لم يحسم المرض نهائياً وانما فقط كان ذا تأثير جزئي مؤقت، فكانت مجرد لحظات (صحوة) رجعوا بعدها تدريجياً إلى مرضهم بسلام ولتطمئن نفوسهم وتهدأ في عالمهم الخاص الذي ألفوه طويلاً.. فتلك هي مدينتهم الفاضلة التي لا مفر منها لكي يقضوا ما بقي لهم في العمر براحة بال وبغير هموم جسام، وكأن لسان حالهم يقول للطبيب عتاباً (لماذا اخرجتنا أول مرة؟ ولو كنا علمنا حال زمانكم ودنياكم لرفضنا دوائكم هذا قولاً واحداً) تماماً كما هو حال أهل الكهف في سورتهم بالقرآن الكريم عادوا إلى الموت بعد صحوهم في زمان غير زمانهم.. إن هذا الفيلم البديع هو قصة واقعة بالفعل في أخريات الستينات من القرن العشرين، وهو بهذا العرض الدرامي المتقن كان ينطلق من مقدمة منطقية أساسية هي (أن المدينة الفاضلة ليست دائما كما يرها الأسوياء، وأن حياة الحاضر ورؤية المستقبل تبعاُ لها ليست هي المعيار الأوحد للسعادة في هذه الحياة، فرب أقوام أخر لديهم حسابات مختلفة).. وهذه المقدمة المنطقية تضمنت ما يلي من قيم: أولاً- أن هناك نوع من الصحة أهم بكثير للإنسان من صحة العقل والجسد، هي صحة التوافق الروحي مع الحياة ولو برغم المرض، فيجب أن لا نستسلم في حال لم يوجد الدواء فأرواحنا وعزائم النفس أقوى من أي دواء.. وفي حال تمكن المرض لا محالة فنعيش الحياة في داخله بأرواحنا القوية.. ولنا في (المعري) ضرب مثل حين داهمه كف البصر في ريعان الصغر. وثانياً- هنالك حوار قصير دار بين أم المريض (ليونارد) والطبيب (ساير) عند اللقاء الأول.. وجدها تكلم ابنها كأنها تحاوره، فسألها (هل يتكلم معك يوماً؟) فأجابت (بالطبع لا.. ليس بالكلمات) فسألها (ماذا تعنين، هل يتكلم بطرق أخرى؟) فسألته عما إذا كان لديه أولاد فلما أجاب بالنفي قالت له (لو كان لديك لعلمت).. فلعل أكثر لغات التعبير عن الأحوال الإنسانية سطحية هي الكلمات، وأن هناك من اللغات ما هو أكثر عمقاً تُفهم ولا تُنطق تماماً كلغة الشعور والحدس الفطري بين الأم وابنها، والمغذى في هذا أننا يجب أن نتعلم استخدام مثل هذا اللغات فقد تكون فعاليتها في تحقيق الأثر أكبر مما نتصور.. وهذا ما يدعم بقوة المقدمة المنطقية للفيلم .

الخميس، 2 فبراير 2023

القيم المتجذرة.. كيف لها أن تبقى


القيم المتجذرة.. كيف لها أن تبقى د. وائل أحمد خليل الكردي قد نعبر سريعاً وبلا مبالاة من أمام لوحة (الحذاء) التي صور فيها الرسام العالمي (فان جوخ) حذاءً ضخماً ملقىً في أرض فلاة ولا يحيط به شيء ولا يبدو خلفه أي طريق أو أي معلم من المعالم.. ولكننا إذا تمهلنا قليلاً وأمعنا النظر إلى الجزء الداخلي من هذا الحذاء لأمكننا أن نلحظ آثار الاعياء مرسومة عليه ولو أننا نظرنا إلى ثقل الحذاء وصلابته لتوقعنا أنه حذاء لفلاح يشق به طريقه نحو الحقول كل يوم، كما أن النعل الملطخ يدل على مدى معاناة هذا الفلاح فيما يعمل.. ورغم كل ذلك وكل تلك الالام والمعاناة والأوحال ومهما طرأت عليه من متغيرات الظروف والأحوال لم يتخلى الحذاء عن مهمته الاصيلة في حماية أقدام الرجل حتى يهلك دونها.. تلك هي صفة القيم المتجذرة، هي قيم وأحوال فطرية إيجابية خيرة. وطالما أنها متجذرة في قلب ووجدان كل فرد فهي بطبيعة الحال تكون عامة مشاعة لدى كل الأمم والشعوب لأنها من أصل التكوين الفطري للإنسان، جاء ذلك في قول الله تعالى (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله - الروم (30. علينا إذاً والحال هكذا، أن ننبه العقول الى وجود وحقيقة هذه القيم، فإن جزءاً كبيراً من مشكلاتنا الإنسانية يكمن فيما يمكن تسميته (التضليل النفسي) والذي يقع بفعل طريقة استخدامنا للمفاهيم والعبارات التي نتداولها. فيكون التضليل النفسي – على سبيل المثال - برسم صورة مأساوية اكبر من حقيقة الواقع بفعل الكلمات والاشارات والأوصاف التي نستخدمها فنضع لها دلالات معينة تستجيب لها امزجتنا النفسية فنتفاعل معها على نحو ما إما إيجاباً أو سلباً، فالتضليل النفسي لا يقتصر على السلبي فقط. ومن هذا القبيل، جملة مفاهيم القيمة التي نحملها في أذهاننا ونتعامل معها ونتفاعل بها، في حين قد تكون هذه المفاهيم ذات دلالات غير حقيقية في واقع الأمر؛ تماماً كما لو قلنا كلمة (وجود) ووضعنا في مقابلها كلمة (عدم) فإننا نضل نفسياً وعقلياً إذا تعاملنا مع كليهما بأن لهما نفس التجسد الواقعي العيني المشخص، فكلمة (وجود) هي فقط ما لها هذا التجسد الذي نشير إليه في الموجودات والكائنات، أما كلمة (عدم) فليس ثمة شيء هناك في العالم لكي نشير إليه بدلالة الماهية أو الكينونة، إذ العدم هو محض سلب للوجود الذي هو صفة للأشياء العينية. فعلى نفس هذا المثال نجد أن قيم الخير هي ما له وجود حقيقي أما ما يسمى بقيم الشر فليست بقيم أصلاً وإنما هي محص سلب للقيم الحقيقية. وهذا يحيلنا إلى ما هو (فطري غريزي) وما هو (ثقافي مكتسب) في مجال القيم. لما قال الرسول صل الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم صالح – وفي قول مكارم - الأخلاق) فإن ذلك مما يعطي دلالة أن هنالك أصل فطري للقيم بحكم أن الكائن الإنساني يحمل الغريزة الفطرية في قبول ورفض الأشياء كما باقي الكائنات ولكنه يتميز عنها بالتكليف بعمران الدنيا والذي يتطلب قدراً ضرورياً من حرية الاختيار، فالإنسان يتمم ما هو فطري غريزي بما هو ثقافي مكتسب من خلال الاختيار الحر لمزيد من القيم المركبة التي تمنحه إياها تفاعلاته المعرفية مع الطبيعة والمجتمعات ومن ذلك تلك القيم التي جاء بها الدين متمماً بها فطرة الله تعالى في خلقه. فهناك إذاً دور كبير لهذه القيم المتممة في عمران العالم وصلاح البشرية. ويبدو من هذا أن هناك قيم متممة سليمة وصالحة وهناك أخرى غير ذلك، فما الذي يمكن أن يحدث إذا لم يأخذ الانسان بالقيم المتممة الصالحة؟.. هنا يظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولنا أن نتوقف عند هذه النقطة لنضع ملاحظة قد تبدو مهمة؛ أن الاحتفاظ بالقيم المتجذرة – والتي هي الأساس – ثم الاكتساب للقيم المتممة يحتاج إلى نوع من (الإدارة) تماماً كما هي إدارة المؤسسات والهيئات. ولكي نحقق منظومة إدارية ناجحة للقيم المتجذرة تبنى عليها القيم المتممة الصالحة فلابد أن نميز بين مفهومي (تغيير القيم) و(تطوير القيم)؛ فتغيير القيم هو ازالتها وتحويل الإنسان عن فطرته القيمية فيفقد ما هو متجذر لديه منها بفعل التبعية غير الرشيدة وغير الواعية لقيم متممة وافدة من حقول ثقافية منقصة أو منافية للأصول الأخلاقية فيضل الإنسان بهذا عن فطرته قبل أن يضل عن قيمه. أما تطوير القيم، فهو اختيار الإنسان لمجموعة القيم المتممة التي تتوافق مع مبادئ الفطرة الإنسانية وما بها من قيم متجذرة فيسير بها تراكمياً في خط رأسي للتطور والتركيب والتكثيف مع كل مرحلة من مراحل الاستحداث والتقدم الثقافي والعلمي والتقني للمجتمعات الإنسانية وبشرط عدم تناقض المتطور مع ما هو متجذر في الأصل. وزبدة القول أن هذه القيم المتممة الصالحة هي ما جاءت به الأديان بعد حيرة البشر (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا - يونس19). لذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. إذاً، وباعتبار أن القيم المتجذرة هي قيم فطرية عامة مشاعة بين جميع البشر وأن الانسان ينحرف عنها عند تبنيه لقيم متممة غير صالحة، فإن القيم المتجذرة لها القوة في الأخير لأنها تظل باقية في الإنسان على هيئة ضمير حي وإلا فقول ربنا تعالى (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون – الأنعام1) هو دلالة على ذلك، وما قال الرسول صل الله عليه وسلم (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) هو حديث عن ذلك الضمير الحي بما تجذر فيه من قيم مثل قيم الحياء والشرف وهذا لكل الناس. ولذلك حينما دعا الفيلسوف البارز (فريدريش نيتشه) للتمرد على هذا الضمير الانساني العالمي بقلب القيم رأساً على عقب واعلاء قيم القوة والبطش التي يتصف بها عنده الإنسان الأعلى (السوبرمان) واعتباره قيم التسامح والإيثار قيم ضعف يتصف بها العاجزين، فإن دعوته هذه وإن كانت قد طبقت في بعض حقب التاريخ بقدر ما إلا أنها لم تعش طويلاً وكانت القيم المتجذرة تعلو في كل مرة من جديد. ولأجل تعزيز هذه القيم في بلادنا العربية والإسلامية فليس علينا محاربة الثقافات الوافدة ذات قيم غريبة وشاذة بقدر ما علينا واجب المبادرة بتقوية وعينا الشعبي لأمتنا بحقيقة تلك القيم المتجذرة فينا ليحقق ذلك واقياً تلقائياً تجاه كل وافد غير متوافق معها. وليست هذه التقوية فقط على المستوى الدفاعي لشعوبنا وإنما أيضاً على مستوى التأثير الإيجابي في الأمم الأخرى كافة، وهنا يكون هذا الدور منوطاً بالفنون البصرية والسمعية تأليفاً واخراجاً وأداءً ونقداً فنياُ بكونها رسائل جمالية تخترق وجدان الإنسان وعقله معاً بما تحمله من مضامين قيمية، وهو دور تفاعلي لا يقتصر على فهم المتلقي للرسالة القيمية فقط وإنما تفاعله معها من خلال انفعاله الوجداني وهو ما ينتج في الأخير وعياً متكاملاً. فإذا اتفقنا مع ما ذهبت إليه الفيلسوفة (سوزان لانجر) في تعيين الوظيفة الأولى للفن (إنما هي إحالة الوجدان إلى حقيقة موضوعية) فأن هذه الحقيقة الموضوعية تجد حتماً أرضاً مشتركة لها عند كل أبناء آدم. وخلاصة قولنا في هذا، أن تقوية الوعي الشعبي بالقيم المتجذرة ابتداءً وبالقيم المتممة الصالحة هو ما يحفظ لنا بقاء هوياتنا المجتمعية تماماً كما حفظ حذاء (فان جوخ) قدم الفلاح القديم في أشد وأحلك الظروف.

قسم الأطباء


قسم الأطباء.. 
 د. وائل أحمد خليل الكردي
 لعل قسم الحكيم الاغريقي (أبقراط) بما تضمنه من قيم أخلاقية في صون الحياة وحفظ كرامة الناس وعدم التمييز بينهم إنسانياً في المعاملة الطبية، لم يكن فقط نموذجاً للأخلاقيات الإنسانية المتجذرة التي يجدها كل انسان سوي في نفسه بحكم الفطرة بغض النظر عن معتقده الديني.. وإنما أيضاً هو قطعة أدبية فريدة بقوة تعابيرها وجمال تراكيبها.. فهكذا ربط (ابقراط) الحكيم بين الواجب الأخلاقي والنفاذ الأدبي ليصير قسمه دستوراً في الآداب الخلقية التي يتحلى بها كل طبيب كما ينبغي.. فمسوغ هذا القسم عند الناس أن الإنسان يصون كرامة الآخرين صوناً لكرامته هو ويحافظ على حياتهم لحفاظه على حياته هو ولا يميز بينهم لغرض أن لا يميزونه إنسانياً، وهذه ليست أنانية لأن الأنانية تعني أن تعطي الخير لنفسك فقط ولا تعطيه لغيرك. وإنما أراد (أبقراط) أن يجعل هذه الآداب الخلقية قسماً حتى يحرص بها كل طبيب أن لا ينحرف عنها بحرية إرادته فيكون غير إنسان سوي فلا يحق له حينها أن يلامس حياة الناس وقت حاجتهم إليه (إذ كيف يعطي الناس الحياة السليمة من يفقدها هو في نفسه) ولأجل هذا قال الله تعالى على قتل أحد ابني (آدم) أخاه بدافع الغيرة غير السوية (ومن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً - المائدة 33). فغذا كانت الأخلاق على العموم هي منظومة القيم التي تدفع الإنسان بوازع من داخله الى السلوك والتصرف نحو الأخرين بمعاملة إيجابية خيرة، فيمكن إذاً القول أن هناك اخلاق متجذرة فطرية في الإنسان وهناك آداب أخلاقية مكتسبة متممة لتلك الفطرية. فلما قال الرسول صل الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم صالح – وفي رواية مكارم - الأخلاق). فإن ذلك مما يعطي دلالة أن هنالك أصل فطري للقيم مشاع عند كل الناس بحكم أن الكائن الإنساني يحمل الغريزة الفطرية في قبول ورفض الأشياء كما باقي الكائنات ولكنه يتميز عنها بالتكليف بعمران الدنيا والذي يتطلب قدراً ضرورياً من حرية الاختيار، فالإنسان يتمم ما هو فطري غريزي بما هو ثقافي مكتسب من خلال الاختيار الحر لمزيد من القيم المركبة التي تمنحه إياها تفاعلاته المعرفية مع الطبيعة والمجتمعات ومن ذلك تلك القيم التي جاء بها الدين متمماً بها فطرة الله تعالى في خلقه. فهناك إذاً دور كبير لهذه القيم المتممة في عمران العالم وصلاح البشرية، ومن ذلك صلاح المهن والأعمال، وهي تلك الأخلاقيات المضافة التي اقتضتها تعقيدات الحياة الاجتماعية الانسانية واختلف الناس في أخذها وردها، فهي من دلالة قول الله تعالى (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا - يونس19)، لذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ومن هذا القبيل فإن الحد الأدنى البسيط من الآداب الأخلاقية المتممة للطبيب قد تكون بنحو ما يلي: عدم المباهاة بالعالمية: فمن تأخذه العزة الزائدة بنفسه وما كسب وحقق فقد وقع في عهد الكبر كما هو لدى (قارون) (قال إنما أوتيته على علم عندي – القصص 78) ووقع من قبله في عهد الغرور لدى (ابليس) بقوله (أنا خير منه – ص 76)، ولعل الأطباء هم أكثر الناس عرضة للوقوع في عهود الكبر والغرور بأنفسهم وما يملكون من علم إلا من جاهد نفسه وقاوم هواها، وهذا أمر وارد تماماً فالطبيب يرى عجز وضعف الناس بين يديه ويرى نفسه يهبهم أسباب الصحة بما يمنحهم إياه من دواء قد علمه بعد درس عميق وتعلم شاق ومعرفة غزيرة تكسبها دون غيره من الناس عن الحياة والصحة. ولكن الوقوع في المباهاة هذه بالعالمية والتعالي بالعلم على الآخرين ربما ينذر بصدمة كارثية شديدة تحيق بالطبيب إذا تمادى إذ الله تعالى يستدرج مثل ذاك ويمد له في الطغيان حتى إذا عماه الكبر أخذه فلم يفلته فالكبر والغرور ظلم. وكذلك يورثه كراهية الناس على حاجتهم إليه (فما بال طبيب يأخذ الناس عنه وهم كارهون ناقمون ولا يدعون له، وآخر يأخذ الناس عنه وهم راضون محبون شاكرون.. هل يستويان). تقليل الأخطاء: إن كل ابن (آدم) خطاء.. هكذا قال النبي. ولكن الواجب اللازم على الطبيب أن يحرص ويسعى بكل ما لديه من عقل وفن إلى تقليل احتمالية وقوعه في الخطأ الطبي فالخطأ الطبي حتى لو بدى بسيطاً قد يكلف الإنسان حياته أو يجعله معاقاً باقي عمره. ولذلك لا يجدر بالطبيب خوض المغامرات والمجازفة في علاج مريضه إلا إذا كانت تلك هي الضرورة القصوى وعندما تصبح نسبة احتمال موت المريض في حال العلاج أو عدم العلاج على السواء هي الأغلب، والله تعالى بذلك أعلم. أدب المقابلة الطبية: الإنسان كائن انطباعي.. واللحظة الأولى عادة هي اللحظة الحاسمة عنده. واللحظة الأولى في مقابلة المريض لطبيبه تحدد عنده إما الارتياح والقبول وإما الانقباض والرفض. ولذلك فإن المقابلة الطبية هي من أبرز المواطن التي يتجلى فيها خلق الطبيب. وهي تشتمل على عدد من المبادئ: أ- التعاطف/ فإذا كان قادة أجهزة المخابرات العسكرية في العالم يعلمون عناصرهم أول ما يعلمونهم أنه (لا دخل للعواطف في العمل) فإن القاعدة الأخلاقية في الطب تكون عكس ذلك تماماً (فينبغي إدخال العواطف في العمل) وهو نوع التعاطف السلوكي الإيجابي تجاه الأخرين (المرضى) وليس نوع العواطف الناجمة عن الأحوال الذاتية والمزاجية جراء الظروف الشخصية التي يمر بها الطبيب. ولعل أبرز صور التعاطف التي قررها النبي صل الله عليه وسلم في معاملة الناس قوله (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طلق) وقوله (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) وخير دلالة لهذا القول ما فسره به (ابن عيينة) حيث قال (البشاشة مصيدة المودة، والبر شيء هين، وجه طليق، وكلام لين) وبخاصة لما يكون الإنسان مريضاً ضعيفاً لاجئاً لطبيبه بالعشم ورجاء الشفاء بإذن الله. ب- الصراحة مع اللين/ وذلك سواء في التصريح بوضع الحالة أو في أخذ الموافقة بالعلم على العلاج من لدن المريض.. فإن ربنا قد قضى أنه (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك – آل عمران 159)، وأقر رسوله (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه). والصراحة مع المريض عن حقيقة مرضه وطبيعة علاجه لا تنافي اللين والرفق، بل إن الصراحة برفق ولين مما يعطي الأمل للمريض ويريحه نفسياً ويجعله متهيئا برحابة صدر لقبول أمر الله بغير جزع، فمن أدب الرفق أن يبث الطبيب في روع مريضه أنه يتخذ كل ما يمكن من أسباب للعلاج وإنما الشفاء من عند الله، وإن دس الحقيقة عن المريض قد يجعله يواجه الواقع بالتجربة المباشرة بغير تهيئة وهو ما قد يصيبه بحالة يأس واكتئاب بأن الطبيب يقول شيئاً وما يجري على الواقع شيء آخر فهذا هو التطمين الكاذب.. ولكن أيضاً قول الصراحة بنحو صادم جاف قد يضر المريض بما يصيب نفسيته بضرر بالغ ربما إلى الدرجة التي تحول بينه وبين الاستجابة للعلاج. فلا مناص إذاً من قول الصراحة مع اللين والهون والرحمة والرأفة والطرق المستمر على منح الأمل بالله. وبطبيعة الحال أن لكل قاعدة استثناء، فهناك أحوال يقدرها الطبيب قد لا ينفع فيها كثيراً قول الصراحة الكاملة حتى ولو كانت بلين، فهذا يتحدد بحسب دراسة وفهم البناء النفسي للمريض. الإدارة الطبية الناجحة: أنه كما أمر الله تعالى نبيه (يحيى) أن يأخذ الكتاب بقوة، فكذلك الطبيب إذا صار مديراً على مرفق طبي أن يأخذ هذه الإدارة بقوة أي بحقها وهذا أخذ أخلاقي في المقام الأول، إذ عليه أن يتبين القدرة على الإدارة هذه في نفسه فهي أمانة تخذي حاملها إلا من أداها بحقها، فإن لم يجد فلا يأخذ التكليف بالمنصب وكل إنسان على نفسه بصيرة. والقاعدة الذهبية في الإدارة الطبية هي قول الرسول صل الله عليه وسلم (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فرعاية الطبيب المدير في إدارته أن يعامل كل من يليه بالعدل بحسب ما يستحق، وأن لا يولي بالتكاليف إلا من هو أهل له ويشرف عليه اشراف مباشر، وأن يتخذ البطانة الصالحة لنفسه، والأهم أن يعين في إدارته الكادر الطبي الكفء ذا الخلق النبيل الذين يقومون بالأعمال الحيوية، وفي الأخير أن يكون كما كان الراشدين العظماء من قبل لا يغلقون بابهم دون أحد أياً من كان. هذا والله تعالى أعلم.

البيت الطائر.. قصة الغرام السامي

البيت الطائر.. قصة الغرام السامي
 د. وائل أحمد خليل الكردي
 مشكلتنا.. أننا لا نحيا كما الجمادات.. فقصة البيت الطائر ليست مجرد فيلم كارتون للفتية.. وليست مجرد قصة خرافية، وانما كان وضع الحكاية في هذا القالب الخرافي لجذب العقول والأفئدة والمشاعر نحو المغذى الحقيقي للعرض لدى من يشاهدون ولكي يلمسوا ما وراء الحكاية من معان وقيم إنسانية نبيلة.. فليس المقصد الأعلى والأعمق لقصة فيلم البيت الطائر هو ما يتبادر من ظاهر الفيلم أن بيتاً قد طار بصاحبه الآلاف الأميال بواسطة عدد كبير من البالونات المملوءة بالغاز.. وليس المقصد كذلك هو حكاية الطائر الخرافي النادر الذي صرف أكثر من منتصف الفيلم للدفاع عنه ضد المغامر القديم الشهير صاحب المنطاد الطائر والذي فقد رشده عندما انكر عليه الناس ادعاؤه بوجود هذا الطائر على الحقيقة، فعزفوا عنه وفقد هو شعبيته فعزم على اصطياد الطائر واحضاره عياناً للناس كي يعود له صيته مرة أخرى حتى ولو أضاع الشطر الأكبر من عمره في سبيل ذلك.. وقد اضاعه. وهذا ربما أحد الدلالات البارزة المستفادة من هذا الفيلم، أن فقد الشهرة بعد اكتسابها من أشق الأمور وأصعبها على النفس الإنسانية وربما لا يحتمل هذا الفقد للشهرة والجماهيرية إلا من كان قوياً في وجدانه وإيمانه، وإلا فإننا نرى كثيرين من هؤلاء إما أنهم يضعون حداً لحياتهم بالانتحار أو يفقدون عقولهم أو يتحولون إلى مجرمين ساديين أو يتوارون بقية حياتهم بحالة حادة من الاكتئاب النفسي.. ولكن المقصد الأكبر من وراء كل أحداث الفيلم هو تجسيد أروع الأمثلة لأعلى ما يمكن أن يصل إليه أنسان في محبة انسان ومنها إلى محبة الوجود.. فكل ما هنالك أن ذلك الرجل الطاعن في السن (بطل الحكاية) قد فقد زوجته.. ولكنها لم تكن بالنسبة إليه مجرد زوجة أو شريكة حياة بل كانت هي الحياة نفسها، فمنذ براءة الطفولة الأولى وهما يمضيان الطرقات سوياً ويخوضان تجارب الحياة مع بعضهما ويحلمان سوياً، وفي كل عام ينمو معهما ارتباطهما الوجداني ويزداد قوة في الشد.. لقد كانا واحداً وكنا نراهما وهماً اثنين.. وعندما بلغا أوائل عتبات الرشد تزوجا بعضهما لا محالة.. لم ينجبا اطفلا، ولكنهما اكتفيا ببعضهما البعض ليعيشا كل ذرات الحياة.. لقد كان صانع الفيلم بارعاً عندما ركز على اللمحات الصغيرة ذات الدلالات العظيمة كأن تلتحم ايديهما معاً عندما يجلسان يقرأن في الكتب والصحف كأنما ارادا أن تمتزج افكارهما وانفعالاتهما بما يقرأن.. ثم كان لديهم حلم كبير، أن يهجرا هذا العالم الصاخب ويذهبا إلى حيث أقاصي الأرض بعيدا ويبنيا بيتهما الصغير على قمة جبل ينبع منه الشلال لتكون تلك أرض احلامهم و(اليوتوبيا) التي يعيش فيها السعادة المطلقة ذلك الشعب المؤلف من زوجين فقط.. وفي سبيل ذلك كانا يدخران ما تيسر من العملات المعدنية في كل يوم، ولكن كانت دائماً تضطرهما ضرورات الحياة إلى كسر حصالة الادخار.. ولكن يبقى الحلم قائما هناك بلا يأس فيعود الادخار من جديد وفي نفس الوقت بلا توقف عن التفاعل معاً بكل لحظات الحياة. . ثم أتي يوم.. ومرضت الزوجة مرضاً لم يبدو له شفاء، وبدأت الرحلة نحو النهاية تقطعت فيها القلوب بتخيل كيف سيكون الفراق، حتى وارها الموت الحتمي.. عاش بعدها العاشق المسن لسنوات مشقوق الوجدان يكلمها ساعة بساعة وعن كل شيء كأن لم ترحل يوما، فلقد كان قبرها داخله، وكان يوقن أنها ليس فقط تسمعه وانما أيضا تنفعل وتتفاعل بكلماته.. وفي كل صباح بعد الافطار والقيام بأعمال النظافة المعتادة وتلميع التذكارات كان يجلس على الكرسي المعتاد والى جواره كرسيها خالياً ليتصفح بشيء من الغصة الحارقة الألبوم الذي حوى رسوماتها منذ الطفولة وعبارتها العذبة المكتوبة إليه، ثم يتوقف متأملاً صورة بيت الحلم التي رسمتها وهو قائم على قمة جبل الشلال وحيداً.. من هنا تبدأ القصة حقيقة، فقد عزم الرجل أن يحقق حلمها الكبير وإقامة البيت على جبل الشلال، ولكن لم يكن يصلح بعد أن ماتت أن يتحقق الحلم بأي بيت يبنيه هناك، لم يكن يصلح إلا البيت الذي عاشت فيه هي وضم حياتهما معاً.. فكان أن صنع العدد الضخم من البالونات في ليلة وطار بالبيت بكل ما فيه. ثم كانت المغامرات التي خاضها عبر وقائع الفيلم مع صديقه شبل الكشافة الصغير.. وفي اخريات الفيلم انفلت البيت من الرجل وطار لوحده بعيداً.. وربما كان ذلك قصداً، إذ لعل البيت الصامت قد استشعر الضرورة من فعل ذلك تماماً كما البشر أو حتى كما تلك الحجارة التي تهبط من خشية الله.. لم يعلم الزوج المتيم ابداً أن البيت استقر من تلقاء نفسه على نفس الموضع الذي رسمته زوجته الراحلة على جبل الشلال.. وكانت الرسالة وراء ذلك: أولاً- أن الرجل كان لا يمكن أن يعيش في ذاك المكان بمفرده وحيداً دون وجود حقيقي لشريكة حياته، وهذا من باب أن الإنسان حتماً هو كائن اجتماعي. ثانياً- أن الأحلام تنتهي بتحققها، فلو بقي الرجل مع بينه أو حتى علم بأنه قد بلغ واستقر في المكان المعلوم لتوقف الحلم ولم يبقى ثمة دافع نفسي نحو ما يمكن للرجل أن يهب له الرغبة في الحياة بالتفاعل معه، فقد كان ذاك الحلم هو الخيط الذي مازال حياً يربطه بزوجته وما يمكن أن يقدمه لها بعد موتها فسيستمر بهذا شاعراً بقيمة حياته. ولذلك فبرحيل البيت بمفرده ودون علم صاحبه بمصيره سيظل دائماً هناك شيء من الحلم قائماً في وجدانه. ثالثاً- برحيل البيت فإنه يتيح بذلك فرصة للرجل أن يكمل حياته بروح جديدة في بيت جديد غير بيته القديم، وبهذه الروح الجديدة المختلطة بروح وذكرى زوجته الراحلة يمكنه أن يقدم السعادة لمن بجواره من أطفال الحي الذي تمنى هو وهي يوماً في الماضي أن يكون لديهما مثلهم. رابعاً- لعلنا نحسب دائماً خاطئين أن أقلامنا للكتابة والمقاعد التي نرتاح عليها وأرصفة الطرقات التي نمر بها والمنازل الأسمنتية التي نقطنها إن هي إلا جمادات صماء صرف وأنها لا تحس ولا تشعر ولا تفرح ولا تحزن تماماً كما نفعل نحن، وربما أكثر.. ولكن البيت الطائر يؤكد لنا غير ذلك، فقد فهم البيت العتيق الرسالة وأحس بها، فرحل ولم يستقر إلا على جبل الشلال ليحقق بإيثار بالغ حلم العمر لمن كانوا يعيشون فيه والذي ربما صار مع الوقت والحنين والأشواق حلماً له هو أيضاً.. وليس كل ذاك محض خيال لكاتب دراما، ففي العالم الحقيقي توفي في زمن قريب (أحمد الكردي) وهو في أخريات الثمانين من عمره ولم يكن قد شاهد قط فيلم البيت الطائر وحكاية الغرام السامي تلك.. ولكن بعد أربعين عاماً من العيش الجميل معاً رحلت شريكة عمره (وداد) إلى جنات الخلد بإذن الله، فعاش هو بعدها ذات تلك الروح لصاحب قصة البيت الطائر.. حيث عكف لعقد ونصف من الزمان منذ رحيلها يكلمها بكل شيء شعراً ونثراً ومناجاة بنهار وليل والبكاء سراً والضحكات، هو أيضاً كان قبرها داخله، حتى أتى يومه المكتوب ورقد في قبره الحقيقي إلى جوراها.. كل هذا لنعلم أن الإنسان عندما يكون ذا قلب سليم فهو كائن عظيم مكرم في أخلاقه وعشقه وتفاعله مع كل من وما حوله، فيحبه الله ويباهي به الملائكة عنده.. ولنعلم أن العشق النقي والغرام السامي بين الزوجين ليس ضرباً من خيال وأوهام بل هو إمكان واقع حقاً لدى البشر من أصحاب القلوب السليمة تزدان به الحياة.. وهذا ما ينبغي أن يكون.

اثنا عشر رجلا غاضبون

اثنا عشر رجلاً غاضبون.. 

 د. وائل أحمد خليل الكردي
 في زمان الأبيض والأسود.. فيلم سينمائي أمريكي من مشهد واحد وداخل حجرة واحدة.. اثنا عشر رجلاً هم هيئة من المحلفين في محكمة الجنايات الأمريكية، منوط بهم الوصول الى قرار حاسم بإجماعهم في الحكم بالإدانة على فتى لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره اتهم بأنه قتل والده بطعنه في صدره بمطواة، فإما أنه مذنب أو غير مذنب ولا شيء آخر. وقد بنى الاتهام في القضية حكمه على شهادة سماع من رجل مسن وشهادة رؤية وسماع من امرأة تبدو في منتصف الأربعين من عمرها، ثم أيضاً المطواة الخاصة بالفتى والتي هي أداة الجريمة برغم أنه لم يكن عليها بصماته.. أغلق باب الحجرة على المحلفين الاثنا عشر من الخارج بالمفتاح لأجل أن لا يغادر أحد منهم الحجرة دون وصولهم جميعا إلى قرار موحد، مذنب أم غير مذنب، فإن كان قرارهم بأنه مذنب فسيتم إعدامه على الكرسي الكهربائي وإلا فسيطلق صراحه.. دخل المحلفون إلى الحجرة وهم جازمون بأنهم لن يمكثوا سوى دقائق قليلة هي تلك المدة التي يستغرقها التصويت بأن الفتى مذنب، فكان مما يبدو لأول وهلة أن الجميع مسلمون بذلك دون أدنى شك.. فعزموا على انهاء الأمر سريعاً بكونه مجرد اجراء روتيني محسوم سلفاً خاصة وأن الجو كان شديد الحرارة، وحرارة الحجرة أشد.. ثم كان التصويت كتابة، فجاءت كل الأوراق تحمل كلمة (مذنب) ما عدا ورقة واحدة (غير مذنب).. تصبب الجميع عرقاً للحرارة وبلغ بهم التعجب والاستياء مبلغاً من ذلك الرجل الوحيد الذي خالف الجميع في أمر بدى لهم بديهياً جداً وأن هذا الاعتراض ربما سيستغرق منهم زمناً أطول داخل هذه الحجرة في الشرح والتوضيح.. ثم دارت حول المائدة أسئلة وأجوبة بجدل منطقي حاد. وأظهرت المناقشة أن الرجل صاحب الصوت المخالف لم يقر أنه مقتنع ببراءة الفتى كما لم يكن أيضاً مقتنع بعدم براءته ولم يحاول أن يثبت اهتماماً شخصياً أو عاطفياً تجاه الفتى وانما كان محايداً تماماً في موقفه بأن كل ما هنالك فقط أن أدلة الإدانة لم تكن بعيدة عن (الشك المعقول) فيها، فهو إذن –بعكس موقف الآخرين- لم يعنيه أن يكون الفتى مذنباً أو غير مذنب وإنما فقط كانت تعنية البينة أو الأدلة التي استند عليها القضاة في اثبات الجرم على الفتى، وكان هذا مصدر القوة في موقفه.. وبعد كل جولة من النقاش كان يتم إعادة التصويت وفي كل مرة كان الرجل صاحب الصوت المخالف يكسب واحداً من الاثنا عشر رجلاً إلى صفه بالإقناع العقلي ليغير صوته إلى (غير مذنب). وهكذا أخذ عدد المخالفين يتزايد في كل مرة يصوتون فيها حتى انتهى الفيلم بإقرار الجميع أن الفتى غير مذنب بما فيهم من كان أشدهم تعصباً لموقفه الأول، فتضمن ذلك عدداً من الدلالات التي جعلت من الفيلم (نصاً واخراجاً وتمثيلاً وتصميماً درامياً) عملاً ابداعياً بامتياز.. أولاً- في مواقفنا في الحياة، كثيراً ما نسلم تسليماً قاطعاً بأمر معين ربما لدرجة أن نعتبره أمراً بديهياً معلوم بالضرورة ومعروف بمحض الفطرة فلا يحتاج إلى تفكير. ولكن ما أن نستدعيه من مؤخرة دماغنا لنضعه أمام وعينا المباشر كأنما نراه بأعيننا ونتأمل فيه مرات ومرات حتى نرى أنه طوال تلك المدة الماضية التي عرفناه فيها لم يكن بالفعل أمراً بديهياً، وأننا كنا نتعامل معه من زاوية ظهرت لنا وخفيت عنا منه زوايا.. وهذا تماماً ما فعله الرجل صاحب الصوت المخالف مؤكداً من خلال تساؤلاته المنطقية بأننا لا ينبغي مطلقاً عندما نكون بصدد ازهاق حياة إنسان أو حرمانه من حريته الطبيعية إلى الأبد أن نحكم بما نعتقد –أو نظن أننا نعتقد- أنه حكم مسلم به بداهة لدى جميع الناس ولا يحتاج بذاته إلى برهان قوي. خطورة هذا الأمر أننا كما لو كنا نبني احكامنا على قواعد من الرمال فتنهار قريباً بأن نكتشف -وكثيراً بعد فوات الأوان- أننا كنا مخطئون. وفي قضية مثل تلك ربما دفع ثمن هذا الخطأ إنسان بفقد روحه، فماذا يفيد الشعور بتأنيب الضمير بعد وقوع المقاصل على الرقاب.. لذلك تكلم أعمق الفلاسفة في هذا الشأن خصوصاً (فلسفة الظاهرات) التي أسسها (ادموند هوسرل) وقال فيها بضرورة أن يضع الإنسان خبراته وتجاربه ونتائج معاملاته كلها بين قوسين ليعزلها عن خلفياتها وكل ما يحيط بها من مؤثرات ومن آراء سابقة وانطباعات عند الآخرين، ثم النظر إليها بتفاعل شعوري خالص ومباشر في التو واللحظة، فيكسر الأقواس بعد أن يكون قد أعاد الحكم عليها على هذا النحو الجديد. وقديماً قال (فرانسيس بيكون) أن الإنسان لابد أن يتخلص في أفكاره وأحكامه مما أسماه (أوهام القبيلة) وهي ما يغذى به عقل الإنسان دون تفكير منه نتيجة انتمائه إلى مجتمع معين بما له من مفاهيم ومبادئ وتصورات عن الأشياء والحياة تمت تنشئته تربوياً على قبولها والتصرف على أساسها دون نقاش أو تمحيص أو نقد. ثانياً- لقد استعمل الرجل صاحب الصوت المخالف أسلوب الفيلسوف (سقراط) في التهكم والتوليد بالتساؤل، حيث أقر أمامهم منذ البداية أنه لا يدافع عن المتهم وأنه لا يعتقد أبداً أنه غير مذنب، هو فقط قال (لا أدري) إن كان مذنباً أم لا لأن الأدلة المساقة لا تجزم بتجريمه.. فهكذا هدم أول درجة في سلم اعتقادهم البديهي فعندما يكون الحكم متعلقاً بحياة إنسان فلا ينبغي أن تقبل أدلة الاتهام أدنى نسبة من الشك المعقول.. على هذا الأساس صار يتساءل ويولد السؤال من السؤال، والقوم يجتهدون في التفكير والرد ليكتشفوا مع كل سؤال جديد يتولد من ردودهم ما في موقفهم من مواطن شك واحتمال المخالفة لم تكن في وعيهم وانتباههم، وهذا يؤكد أنه من تمام الوعي السليم والفطنة في كل الأمور التوقف دائماً والسؤال، وليكن السؤال للذات قبل الآخرين عما هي الأوجه التي يحتملها أي حكم من احكامنا التي نصدرها على الآخرين.. ولذلك كانت كلمة (الشك المعقول) هي المحور الذي دارت حوله دائرة توليد التساؤلات والإجابات مما يعني إما التساوي في احتمالية الحكم المؤيد والحكم المناقض وإما الكسر في بنية الحكم الواحد. ولعل هذا ما جرى عليه المبدأ الفقهي (درء الحدود بالشبهات) والمبدأ القضائي (الشك هو في مصلحة المتهم).. وفلسفياً –لمزيد من الإيضاح- يوضع (الشك المعقول) الذي هو يفرض نفسه على عقل الإنسان بفعل الملاحظة والتجربة بصدد ما كان يظنه يقينياً، في مقابل، (الشك المنهجي) الذي يقصد إليه الإنسان قصداً ويصطنعه اصطناعاً من أجل أن يبرر أحكامه ونتائجه التي توصل إليها بالفعل أو لكي يجعلها يقينية. ثالثاً- الكثير من أبناء آدم في هذه الحياة يغلفون نوازعهم النفسية الذاتية الخاصة في أحكامهم على الآخرين بغلاف من البينات والأدلة الموضوعية.. فكان من بين الاثنا عشر رجلاً من تطرفوا في التمسك بالحكم على الفتى بأنه مذنب لا محالة، بل ولابد من إعدامه على الكرسي الكهربائي إمعاناً في تعذيبه، كل هذا وهم لا يعرفون الفتى مسبقاً ولم يروه قبل ذلك قط مما يثبت أن حرصهم على تحقيق العدالة والحق والقانون هو محض أمر ظاهري فقط بينما كان هدفهم الحقيقي الكامن في أعماقهم هو الرغبة في إشفاء غليل أنفسهم من أبناء هذا الجيل كله بأنهم جاحدون لآبائهم عاقون لهم، دون أن يفطنوا إلى أن هذا العقوق والجحود كانوا هم الذين أورثوه في نفوس أبنائهم بقسوتهم عليهم.. فيسقطون ما بدخيلة أنفسهم على القضية الموضوعية بلا حياد موضوعي.. وهكذا، إن أكبر الظلم في القضاء وفي معاملات الناس يقع بنحو هذا الإسقاط النفسي تماماً كما أثبت الفيلم.. وأن السؤال النقدي الصادق عن حقيقة مواقف الذين يحكمون يجعلهم يفطنون أن مشاعرهم هي التي كانت تحكم وليس عقولهم. حتى (سقراط) الحكيم نفسه حكم عليه بالإعدام لاتهامه أنه كان يفسد أخلاق الناس في حين أن ما كان يقوم به هو فعل تنويري توعوي، ومن يحكمون لا يريدون ذلك فأسقطوا في حكمهم عليه بالإدانة والإعدام رغباتهم الذاتية وغلفوها بغلاف العدل والحق وأن هذا ما تريده الآلهة ليسوغوا لأنفسهم وغيرهم ما أفكت يداهم.. وهكذا كثيراً ما نفعل نحن.. تم انتاج فيلم (اثنا عشر رجل غاضبون) في العام 1957م.

قطع الأنسال.. (تاجر البندقية) يعود من جديد

قطع الأنسال.. (تاجر البندقية) يعود من جديد
 د. وائل أحمد خليل الكردي


 كنت اتحاور مع صديقي الدكتور (شمس الدين يونس) حول ذلك التاجر اليهودي المرابي في مسرحية (شكسبير) الذي أقرض التاجر النبيل مالاً لأجل، وحينما حان الأجل ولم يسدد كان العقد بينهما أن يأخذ اليهودي مقداراً معتبراً من لحم صدره، فأي حياة تبقى له بعد ذلك.. ولكن القاضي أمر بإنفاذ العقد فقط في حدود ما نص عليه بأن يأخذ مقدار اللحم ولكن دون إراقة نقطة دم واحدة.. هكذا كان العقد منذ أوله ومبتدئه فاسداً غير صالح فلا يمكن أن يكون مقابل حفنة من المال إلا حفنة من المال مثلها وليس حياة إنسان.. قفز حينها إلى ذهني أن تاجر البندقية اليهودي هذا يعود دائما من جديد في كل زمان ومكان.. وكان دوماً هناك هدف واحد وراءه يخفى على عموم الناس، وربما أن (شكسبير) قد أراد من وراء مسرحيته هذه أن يكشف عن محاولات فئة من البشر الحد من حياة بشر آخرين لتخلو لهم الدنيا، فلو أن التاجر اليهودي نفذ عهده لمات التاجر النبيل حتف أنفه ثم ينقطع أثره ونسله.. فهناك دائماً أقوام يعملون على إزاحة الآخرين عن الحياة فيلجئون من ضمن ما يلجئون إلى الإبادة البشرية بقطع اسباب النسل سواء كان ذلك بغرض التطهير العرقي بدعوى البقاء للأصلح أو بالأحرى (الأقوى) وهو ما درج عليه غالب التاريخ الإنساني القديم والوسيط.. أو بدافع ما نشهده في عهدنا المعاصر من احتكار وإدارة الثروات الطبيعية لصالحهم دون غيرهم، فما فتئوا يصنعون لذلك شتى الصنائع والتفانين والصيحات العصرية التي توجه انتباه الناس وعقولهم نحو مغذى وهدف معين ظاهر وهم في الحقيقة يريدون بها هدف آخر تماماً محجوب عن الظهور، وهذا ما عجن السياسة بالاقتصاد فيما عرف (بالاقتصاد السياسي) الذي هو التزاوج بين لعبة الأهداف الإنسانية المخفية وسياسة تحويل الثروات إلى أوراق مالية.. فصارت الأرض ملعباً كبيراً يتجاذب أطرافه معسكر رأسمالي أثبت نفسه منذ التاريخ القديم ومعسكر اشتراكي ولد حديثاً نوعاً ما وكان هو دائما ردة فعل معاكسة في الاتجاه على ما يقوله الرأسماليون.. لذلك كانت الرأسمالية تغلب دائماً برغم صعود نجم الاشتراكية بشكل يثير الإعجاب في فترات من التاريخ. حتى أنه يمكن القول أن من يتحكم في عالم الاقتصاد السياسي منذ ظهور نظرية (مالتوس) في السكان في العام 1798م هو ظل (مالتوس) نفسه وما تمت عليه من شروح وتفسيرات وتأويلات تلوح جميعها بما يسمى بالكارثة المالتوسية أو المأزق المالتوسي بأن النمو السكاني يمضي رأسياً في حين تنمو الموارد الغذائية خطياً وهو ما يؤدي في المحصلة إلى تدني مستويات المعيشة إلى حد الأزمات التي يتولد عنها المجاعات والحروب والهجرات الثقيلة، فكان الحل لديه فيما يسمى (النمو السكاني المتأثر بالضوابط الوقائية) أي اتخاذ الإجراءات الجبرية التي تحقق التوازن بين ما هو رأسي وما هو خطي بالتحكم في النمو السكاني.. أي باختصار وبلغة أخرى، قطع النسل بما وسع القاطعون من سبل.. منع الحمل القانوني.. عقاقير منع الحمل.. إضعاف الخصوبة التناسلية.. الإبادة المباشرة.. اجراء التجارب القاتلة على البشر.. تجارة السلاح ونشر الأسلحة البيولوجية.. تأجيج الصراعات العرقية والقبلية.. المهم هو إيقاف التزايد البشري حتى لا يطغى على الثروة والموارد التي يديرها لمصلحتهم أصحاب رؤوس الأموال الذين أرادوها أن تكون دولة بين الأغنياء، والغاية في هذا تبرر الوسيلة تماماً عندهم.. ولطالما كنت أتساءل عن تلك الدعاوى الجديدة في أيامنا هذه والتي يجمع بينها كلها هدف خفي وحيد هو (الحد من تزايد نمو النسل البشري في العالم)، ولماذا تم تغليف هذه الدعاوى بأغطية زاهية من الشعارات السياسية والحقوقية الإنسانية.. فوجدت الإجابة في خبر تخطي العالم اليوم لحاجز الثمانية مليار نسمة والتصور المصاحب لذلك عما سيعانيه كل هؤلاء البشر من صعوبات بالغة في العيش.. وأنه لما كان عالمنا الراهن لا يقبل إلا ما كان سائغاً من ناحية الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية والديمقراطية السياسية، لذلك ابيحت مشروعية الإجهاض القصدي تحت غطاء النسوية وحقوق النساء.. وتعميق المساواة الكاملة بغير عدالة حقيقية وطبيعية تحت غطاء (الجندر) أو الدفاع عن حقوق النوع المستضعف من البشر وهم النساء في مقابل اضطهاد الرجال لهم.. إلى أن بلغ بنا الحال في تفانين قطع الأنسال إلى الجهر عالياً وفي جميع المحافل بشتى وسائل الدعاية بمشروعية المثلية والتزاوج من نفس النوع باسم حقوق الأقليات وإطلاق الحرية البيولوجية للإنسان، فكان ما خفي هو أن زواج الرجل من الرجل لا ينجب وزواج المرأة من المرأة أيضاً غير منتج، فهذا حتماً إذا تفشى سيحد كثيراً من تزايد اعداد البشر بشكل تلقائي وغير مكلف.. وعاد (تاجر البندقية) من جديد ليؤكد أن المثليين هم جسم طبيعي تماماً في المجتمع، وربما تم تجنيد عدد من مشاهير الأطباء النفسانيين ليعلنوا أمامنا وهم يلوون عنق الحقيقة أن هؤلاء المثليين أناس أسوياء تماماً وانما هي كلها أنواع من الحاجات البيولوجية موجودة في الانسان، ولا عزاء في هذا لضمائرهم العلمية فالمال المدفوع كثير ومعه الحظوة.. وفي سبيل هذا حتى الدين طالبوا بإبعاده عن الحياة العامة للناس بزعمهم أن الله لا ينبغي أن يتدخل في حياة البشر وكيفما يكونون (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً) وأن كثير من الحقوق والحريات تضيع وتهدر لأن أصحاب الدين يكبلون أيدي وأرجل الناس من خلاف بتعاليم السماء.. وهكذا، وبالتأثير المتصاعد لهذه الدعاية انخرط كثير من الشباب بل ومن الناضجين ممن يمنون أنفسهم باكتساب قيمة للذات أو حتى لملء الفراغ الوجداني بمخالفة الشرائع واتباع الشاذ الغريب بدفاعهم عن الحق والحرية في أفعال كأفعال قوم (لوط).. وربما هؤلاء لا يعلمون إلا ظاهر من الأمر ولا يقفون إلا على هامش المفاهيم الجادة والحقائق العميقة، فأصبحوا بذلك كروتاً في لعبة ورق كبرى يلعبها اتباع (مالتوس) ممن يديرون رؤوس الأموال العالمية لقطع أكبر قدر من نسل البشر، ولو أنهم آمنو من قريب أن الله قدر لكل نفس رزقها وبقوله (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) لأخرجوا أنفسهم تواً من لعبة الورق تلك ومن دائرة الاستغلال، فإن الإنسان عندما يكون غراً غافلاً يكون مطية سائغة للاعبين الكبار الممسكين بأوراق اللعب..

الأربعاء، 6 يوليو 2022

سياسة جلد الاخر..

سياسة جلد الاخر .. د. وائل احمد الكردي سياسة جلد الاخر بالسوط .. كانت سياسية معهودة منذ الصراعات الاولى للانسان باعتبارها حملت فائدة بعيدة المدى وعميقة الاثر . لم تكن هذه السياسة مجرد فعل يصدر عن انسان قاس قلبه ، وانما هي بالفعل حالة سياسية واسعة الاستخدام ، في الحاضر كما كانت في الماضي .. تأمل معي هذا النص بعنوان (عصا المعلم من الجنة) لرواية (شللي ، أو قبور في جنة الحب) التي الفها بابداع بارز الكاتب (اندريه موروا) يكشف فيها عن الوجدان الذي تربى عليه اعيان المجتمع البريطاني منذ القرن التاسع عشر ، حيث قال في افتتاحيته للرواية (في عام 1809 ، امر (جورج الثالث) ملك انجلترا بتعيين الدكتور (كيت) ناظرا لكلية (ايتون) الارستقراطية الشهيرة . وكان رجلا قصير القامة ، شديد المراس ، يرى ان التأديب (بالفلقة) هو محطة لا غنى عنها في طريق الكمال . وكان يختم مواعظه بقول (كونوا من أهل الخير يا اولاد ، والا ضربتكم حتى تصيحوا) .. وكان الاعيان والوجهاء والتجار الاثرياء الذين يشرف الدكتور (كيت) على تربية اولادهم ، ينظرون بلا استياء الى مثل هذه القسوة التقية ، ويقدرون بعين الاعتبار رجلا معروفا بأنه جلد اغلب وزراء البلاد واساقفتها وقوادها . وفي تلك الايام ، كان الخاصة من الناس يقرون ضرب التأديب الرادع) .. انتهى النص . والان ، لعله يمكننا القول ان هذه السياسة في جلد الاخر بالسوط كانت تشمل كل مستويات الحياة بدأ من تربية الصغار وحتى علاقات الدول والشعوب .. فنرى في بلادنا كيف ان تعليم الاولاد في المدارس يتم بتربية قاسية ،(الفلقة) فيه تلعب دورا حاسما ، وحتى في مراكز وخلاوي التعليم الديني للصبيان الصغار ذوي الاظافر الناعمة كان تحفيظهم وتفقيههم يتم بالجلد والضرب بقسوة والربط بالحبل والتهديد بالعقاب الشديد من جانب الشيخ او المعلم .. وجميع هؤلاء كانوا يظنون ان هذه الشدة والقسوة هي انسب طريق لغرس العلوم والمعارف في عقل الانسان منذ صغره والى ابواب الجامعة .. ولكن الشيء الذي لم يدركوه انهم مع غرسهم للدروس والتعاليم بهذه الطريقة يغرسون معها في نفوس الطلاب كما مقدرا من العقد النفسية والشعور بالكراهية والتمرد والنقمة على ما تعلموه وربما على الحياة كلها .. وقد ظلت سياسة جلد الاخر على مستوى الامن في احيان كثيرة نوعا من الارهاب والتعسف في العقوبة لمن ارتكب فعلا معينا حتى يرتدع من لم يفكر اصلا في ارتكاب نفس الفعل ، ويمكن قياس هذا على منطق المثل السائد في الثقافة المحلية السودانية (الجفلن خلهن .. اقرع الواقفات) او المثل المصري على ذات السياق (اضرب المربوط .. يخاف السايب) .. ولكأنما في تصورهم ان الانسان جبل على الخطيئة والشر اصلا ولابد من إلزامه طريق الحق والخير عنوة وجبرا بسلخ الجلود وكسر الرؤوس .. اما في مجال سياسات الدول ، فإن هذين المثلين السوداني والمصري ينقلبان في كثير من الاحيان الى العكس ، حيث يكون اعتداء دولة بالجلد على دولة اخرى حرة ، مدعاة لارهاب مواطني هذا البلد المعتدي نفسه وتثبيتا لدعائم حكم من يحكمون فيه .. فلقد كان استخدام (هتلر) لحرب التوسع الاستعماري للعالم بأسم المانيا وباسم علو الجنس الاري هو مخطط يحمل جانبا ظاهرا من الامر هو ذاك ، وجانبا اخر في الخفاء هو تثبيت الحكم النازي في المانيا نفسها تحت اسمه بصورة ابدية .. والان نفس السياسة تمارس في حرب روسيا - اوكرانيا ، حيث تجلد روسيا اوكرانيا بعنف اليوم ، وغدا ستجلد دولا اخرى .. وهذا من اجل استعادة الامبراطورية الروسية تحت ظل البطل الروسي الذي اختاره القدر لذلك ولكن هذه المرة باسمه هو وليس باسم الشيوعية السوفيتية ، وعلى رقاب الشعب الروسي نفسه .. هنا يبدو ان الدافع المحرض لتنفيذ هذا النوع من السياسة هو عشق السلطة ورغبة الجلوس على عرش كبير بخروج الزعيم عن حدود بلاده الى حدود الاخرين بما سيثبت التاريخ له فيما بعد والذكر بين العالمين عهودا وليبقى بعد عمره اعمارا .. فحقا (ان الانسان ليطغى) .. ولكن ، وبرغم ان هذا الجلد للاخر استمر طويلا لاسيما في عصرنا الراهن ، وهو عصر ازهاق الارواح ، فانه قد جعل الوقت الذي ستتحدث فيه الشعوب عن نفسها وليس عن زعمائها يقترب كثيرا ، فالحروب والمآسي الانسانية تصقل الوعي كما تجلى النار الذهب .. وتلك هي البشارة .

مقدمة في نقد الوعي الشعبي

مقدمة في نقد الوعي الشعبي.. د/ وائل أحمد خليل الكردي 1/ في البدء: على منوال قول توفيق الحكيم في كتابه (فن اﻷدب) : (شعور الجماعة نحو موقف من المواقف، وقرارها إذاء مسألة من المسائل .. وهذا الشعور وهذا القرار ينبعان فجأة وفي الوقت عينه، كأنهما خارجان من قلب واحد وعقل واحد .. كأنما هذا الرأي العام إذن كائن مستقل، يخلق ويحبو وينمو .. إلى أن يصبح قوة ناضجة محركة موجهة تؤثر في الدولة والمجتمع). وقوله (من اليسير أن نجد الشعور العام الموحد ... ﻷن الشعور العام يصدر عن الضمير، والضمير قلما يختلف بين إنسان وإنسان). فهكذا هو وصف (الوعي الشعبي) على أقرب تصوير. 2/ نقد الوعي وليس نقد العقل: ربما نقع في مأزق لفظي ودلالي كبير حينما ننسب النقد إلى عقل فرد ما أو فئة اجتماعية أو عرقية أو حالة اعتقادية على نحو من التخصيص. فنقول مثلاً (نقد العقل العربي) أو (نقد العقل اﻷوروبي) أو (نقد العقل الديني)، فالعقل ما هو إلا أداة فطرية وكان أوثق تعبير في وصفه أنه (أعدل اﻷشياء قسمة بين الناس) وهو قول (رينيه ديكارت)، ولذلك فإن كان التخصيص بالوصف العقلي هذا لازماً بتعيين جملة آثار متميزة لكيان ما، فإن ذلك ليس يكون على العقل وإنما على نتائج العقل ونتائج الفعل به. فما هو خاص إذاً بكيان معين إنما هو جملة نتائج ذاتية ترتبت على مقدمات ذاتية صيغت بآلة أو بأداة العقل لدى هذا الكيان، كما صاغ بها غيره نتائجه على مقدماته. فتكون هذه النتائج والمقدمات هي المعبر عنها بوصف (الوعي)، حيث يصح القول (نقد الوعي كذا أوكذا) أحرى وأولى من (نقد العقل كذا أو كذا)، فالوعي شخصي لمجتمع وفرد بينما العقل مشاع لكل البشر على السواء. كل هذا الرأي في التمييز بين مفهومي العقل والوعي الدليل عليه هو قواعد علم المنطق الصوري بكاملها. وربما يبين هذا الدليل خطأ (ايمانويل كانط) الفيلسوف الألماني في تصوره لحقيقة العقل بأن فرض له حدود لا يعمل إلا في حيزها على المستوى النظري، وهو في هذا قد خلط بين مفهومي العقل واﻹدراك، حيث أن العقل (بمعنى آليات المنطق الصوري) يعمل على كل الوقائع في كل المستويات سواء الواقعية أو المتخيلة والطبيعية وما فوق الطبيعية. أما الإدراك فهو الفهم لمعطيات أعطاها التفاعل المنطقي وفق معالجات الترتيب والاستقلال. فالإدراك إذاً هو عملية ذهنية وليست عقلية، إذ أن الذهن يقوم بعمليات الفهم على طريقة القوالب المعرفية ومن ثم اعطاء الدلالات، والفهم هو ادراك المحسوسات، أما العقل فهو العقال الذي يحقق التفاعل والترتيب والاستدلال المنطقي على ما تم فهمه فينتج فهماً جديداً أعلى من الفهم اﻷولي يمكن بما يمكن تسميته (الحكم).. لذلك فكثير من الأساطير والخرافات واﻷحاجي والتصورات الميتافيزيائية تتم معالجتها وفق بناء منطقي سليم في صياغة وقائعها والعلاقات بينها بنفس الطريقة التي يتم بها البناء المنطقي للأشياء في العالم وهذا ربما ما قد ألمح إليه فيلسوف العلم (ثوماس كون) في كتابه (بنية الثورات العلمية) ولكن قد لا يستطيع الفهم اعطاء الدلالة الحقيقية للأساطير وما نحوها ﻷنها لم تدخل إلى الجهاز الادراكي للإنسان عبر آليات الحس التجريبي كما الاشياء الواقعية ولكن التفاعلية العقلية تجعلها متصورة بفعل عمليات القياس والتشبيه والتماثل بين عناصرها ومفردات الاشياء الواقعية، ولكن التهيئة الكلية التي تجتمع فيها هذه العناصر قد لا يكون لها ما يقابلها من تهيئة كلية للأشياء في الواقع ولذلك تصنف كأسطورة أو خرافة أو تصور ميتافيزيائي. لقد صاغ (افلاطون) تصوراً منطقيا محكماً عن عالم متكامل تماماً، هو عالم المثل، ولكنه عالم تجريدي مفارق لعالمنا الواقعي إلا أنه بالرغم من هذه المفارق قد جعله (أفلاطون) مهيمناً ومدبراً وذا سلطة عليا على عالمنا الواقعي، بحيث لا يمكن لديه حكم الجمهورية على اﻷرض إلا بقوانين عالم المثل. إذاً ، فاﻹدراك مع البناء العقلي المنطقي مع الفهم هو ما يؤلف (الوعي)، وهذا الوعي هو متلازمة الشعب، ونوع الوعي هو الذي يميز بين شعب وآخر. 3/ جدلية الثابت والمتحول: ذكر (جيلبرت رايل) Gilbert Ryle في محفل فلسفي حكاية الفلاحين الذين اذهلهم سماع صافرة القطار البخاري وهو يتحرك لأول مرة يشاهدوه فيها ، وكيف أن مطران كنيستهم جمعهم في محاضرة شرح لهم فيها كيف تعمل الآلة البخارية . فقام أحد الفلاحين وقال "نعم سيدي المطران ، نحن قد فهمنا تماماً كل ما قلته عن الآلة البخارية ، وان الحصان صار داخل تلك الآلة يجرها من داخلها، أليس كذلك ؟" . إن هذا الفلاح البسيط لم تيسر له نشأته وبيئته من حوله أن يتصور قط أن تتحرك آلة من غير أن تجرها خيل ، وبالتالي فكل ما قد عناه تطور الآلة البخارية لديه فقط أن الحصان لم يعد يقود القاطرة من الخارج وانما من الداخل ، هذا منتهى ما وصل إليه عقله في الاستدلال، ولعل هذا كان نزوعا طبيعيا لديه ان يميل لقبول ما هو تليد لديه اكثر مما هو وافد، فاكثر الناس يألف ما يأتيه من العالم خارج قريته اذا نظر اليه فقط بمنظور طريقة حياة قريته. ابتداءً بهذا المثال من قول (رايل)، يمكن التعرف على مفهوم الوعي الشعبي وخصائصه من خلال عرض جدلية (الثابت) و(المتحول) وفق الدلالة المنطقية اﻷولية لكل منهما. حيث أن الثابت منطقيا هو (العلاقة) relation القائمة بين متغيرات وهي المحدد للحكم على القضية التي تشمل هذه المتغيرات كما أنها تحدد شكل القضية التي ترد فيها هذه المتغيرات على وجه العموم، فثابت القضية المنطقية هو اﻷرض التي تتعاقب عليها العوامل والمفردات المتغيرة دون أن تتغير هي، وعلى هذا اﻷساس يمكن هنا تنزيل هذه الدلالة للثابت المنطقي على الصورة التكوينية بالنسبة لما هو شعبي وهو هيئة الشعوب والقبائل. وتفسير ذلك أن كلمة (شعب) وكلمة (قبيلة) تمثل كل منها علاقة ثابتة تجمع وتأطر (متغيرات) variables هم (الأفراد) و(الشخوص) في سمات مشتركة تلزم بالضرورة من يتحدث عنهم تصنيفهم جملةً واحدة بما يميزهم عن غيرهم، وعلى الأغلب يصطلح لذلك التصنيف تسمية عرفية تلصق بالشعب المعين أو القبيلة المعينة. أما من جهة الاختلاف بين (شعب) و(قبيلة) فيمكن القول انه محض اختلاف كمي اعتباري أو تقديري – فكلما صغرت الوحدة الاجتماعية كلما كانت الروابط والسمات بين أفرادها أشد وأقوى بنحو أقرب إلى الشكل الأسري أو العائلي وبالتالي فإن الفرد في انتمائه إلى شعب أو قبيلة يكون هذا الانتماء حتمياً وضرورياً لا محالة، فليس من إنسان إلا وهو من أب وأم انتهاءً بأبينا الأول آدم عليه السلام الذي هو النبت الأول من طين الأرض مباشرة على نحو ما نجده في مخيال رواية (حي بن يقظان) لدى ابن طفيل، وهذا العود المستديم إلى الأبوة والأمومة هو ما ألف رباط الشعب أو القبيلة على متوالية تراكمية وهذا ما يجعل الفرد حتى وإن نشأ وأقام في بلد غريب ولم تختلط أنسابه هناك يكون موسوماً بوسم قبيلته أو شعبه الأصل الذي قضى به تسلسل الأبوة والأمومة أن يكون كذلك من الناحية التكوينية والمزاجية والآثار التربوية والثقافية المختلفة. أما المتغير فهو الريح التي تمر على الأرض الواحدة تغدو ولا تعود، ومياه نهر (هيراقليطس) المتجددة إلى ما لا نهاية بين ضفتين ثابتتين. ويمكن أن يشمل ذلك على المستوى الثقافي كل العوامل والعناصر التي تطرأ على الأصول المزاجية والتكوينية لشعب ما. ويمكن هنا اعتماد كلمة (شعب) لتشمل في داخلها مفهوم القبيلة باعتبارها كلمة تدل على دائرة كبرى تتضمن داخلها دائرة صغرى بكون القبيلة حالة من حالات الشعب، والتي وصف جوهرها (توفيق الحكيم) في كتابه (فن الأدب) بقوله (شعور الجماعة نحو موقف من المواقف، وقرارها إزاء مسألة من المسائل.. وهذا الشعور وهذا القرار ينبعان فجأة وفي الوقت عينه، كأنهما خارجان من قلب واحد وعقل واحد.. لكأنما هذا الرأي العام إذن كائن مستقل، يخلق ويحبو وينمو – إلى أن يصبح قوة ناضجة، وحركة موجهة تؤثر في الدولة والمجتمع) ثم يقول (من اليسير أن نجد الشعور العام الموحد... لأن الشعور العام يصدر عن الضمير، والضمير قلما يختلف بين إنسان وإنسان). فهكذا إذاً هي صفة (الوعي الشعبي) على أقرب تصوير. وعلى هذا الميزان، ووفق منطق أن الضد يظهر حسنه الضد، ففي النقطة التي تبلغ عندها ردة فعل شعب معين على ثقافة وافدة عليهم بما يميز مزاج وتكوين هذا الشعب هي بالضبط النقطة التي عندها يمكن وصف سمة (الوعي الشعبي) لديهم. وهي حالة – أي الوعي الشعبي – تبعد تماماً عن كونها حالة لاوعي وإن بدت في صدورها عن الأشخاص على نحو من التلقائية والاندفاع ما يوحي لأول وهلة أن الذي يتحدث هو اللاوعي أو العقل الباطن وليس الوعي أو العقل الواعي. ولعل هذا التحديد يبعد فكرة الوعي الشعبي عن نموذج (جوستاف لوبون) في أقواله عن سيكولوجية الجماهير، إذ أنه – أي (لوبون) – كان اقرب في تناوله لوعي الجماهير إلى نوع من البنيوية التي ترهن العناصر المفردة إلى الكل أو الاطار الكلي الى الدرجة التي لا تسمح بالحرية الكافية لهذه العناصر المفردة فتسير بصورة حتمية لا ارادية ولا ادرية تحت هذا الاطار الكلي. وما ذاك على ما يبدو إلا لأن (لوبون) ينطلق ضمنياً من التمييز النفساني بين وعي ولا وعي، في حين أن الفكرة البديلة التي قد تكون أقرب إلى الحقيقة في تفسير أحوال الانسان الادراكية هي تقسيم هذه الأحوال إلى (وعي إرادي) و(وعي لا ارادي) وليس إلى وعي ولاوعي أو إلى عقل باطن وآخر ظاهر، فكل ما يصدر ادراكياً وسلوكياً عن الانسان هو لا يخرج عن مصطلح (الوعي). فحالة الحلم لدى النائم هي حالة وعي منطقي ولكنه غير ارادي من النائم، وهو لا يفسر بالرجوع إلى رغبات مكبوتة على نحو ما ذهب (سيجموند فرويد) في مدرسة التحليل النفسي، لأن العلاقة السببية بين رغبة معينة ملحة واحداث الأحلام لدى أي شخص في الغالب غير ظاهرة أو ثابتة على النحو المنطقي الاستدلالي في السببية. أما عن حالة (الوعي الارادي) فهو حالة الوعي القصدي التي أسس (ادموند هوسرل) عليها منهجه في الفينومينولوجيا – فهذا الوعي القصدي يركز به الانسان الانتباه نحو موضوع محدد ثم يجري عليه عمليات (العقل الحسابي) reason من استنباط واستقراء، وايضاً يجري عليه عمليات (العقل الانفعالي) mind من ردود الأفعال والتفاعلات النفسية والابداعية. وكلتا العمليتين هما مما يؤلف الحكم على الموضوع كما يؤلف التعبير عن هذا الحكم بقضايا لغوية وعمليات فنية. ويمكن الملاحظة في هذا الحيز فيما يتعلق بالوعي الشعبي أن عمليات العقل الانفعالي فيه هي ما يمثل الثابت، بينما يكون المتحول المصاغ على مقتضى الثابت هو ما ينقلنا بصورة نسقية systematic إلى المبدأ الآخر في تأليف الوعي الشعبي. 4/ تبعية الاعتقاد للميل العاطفي: (لقد قررت الأقدار مصيرك فلا حاجة بك إلى بذل جهد كبير) مقولة أوردها (هاي روتشيلس) في كتابه (التفكير الواضح) عندما كان يتحدث عن العلم والخرافة. ولقد ظهر من هذا كيف أنه حتى في مناطق التحضر المدني كان الوعي الشعبي دائماً يرجع إلى حالة عاطفية انفعالية (العقل الانفعالي) في أخذ الجماهير لكثير من أمور حياتهم رغماً عن المادية الطاغية التي وسمت حياتهم المدنية، فمثلاً ما الذي يدفع كثير من الناس تحضراً يلمسون الخشب الذي قالت عنه الخرافة القديمة أنه فعل لاسترضاء جنية الغابة التي أصبحت حبيسة قطعة من الاثاث عندما قطعت شجرة للانتفاع بخشبها، وكذلك ما الذي يدفع بعض بناة ناطحات السحاب يسقطون الرقم 13 من حسابهم عندما يرقمون طوابق عماراتهم حيث يرفض الكثيرون العمل في المكاتب التي تقع في الدور الثالث عشر من المبنى، ولماذا راجت صفحات قراءة الطالع ومعرفة البخت في أكبر الصحف وقيد لها أشخاص ذوي رواتب معتبرة للقيام عليها بصورة يومية حتى أصبحت من أهم المواد المحفزة على شراء الصحف. كل هذا وغيره مما يدل على أن حتى الثورة الصناعية التي في سياق عصر النهضة والتنوير في اوروبا والتأسيس الكبير للتفكير الوضعي التجريبي البحت كان بعد كل هذه السنوات من تطبيقه الفعلي يمثل حالة متغيرة في الوعي الاوروبي وافدة عليه وليست نابعة من باطنه أو ثوابته التي عبر عنها الوعي الشعبي الاوروبي منذ اساطير الياذة (هوميروس) وعبورا بمسرحيات (شكسبير) الخيالية بنحو (حلم منتصف ليلة صيف) وصولا الى حياة السحرة في قصص (هاري بوتر)، وبين هذا وذاك وتلك ما هو كثير جدا من حكايات وتصورات ومعتقدات العوالم الخرافية. فاذاً، الاعتقاد يتبع الميل العاطفي، هذا إذا صح الاستقراء على (الاعتقاد) كمفهوم بأنه حالة انجذاب لطرف كائن نحو طرف معنوي بدافع شعوري ابتداء يتم تبريره بالمنطق العقلي وربما حتى بالاستدلال الرياضي، أي ان الاعتقاد يتغذى على آليات العقل ويتمدد حتى يتجاوز حالة العقل الفردي الى حالة العقل الجمعي. يأتي ذلك مصداقاً لقول (توفيق الحكيم) في كتابه (فن الأدب) (شعور الجماعة نحو موقف من المواقف، وقرارها ازاء مسألة من المسائل.. وهذا الشعور وهذا القرار ينبعان فجأة وفي الوقت عينه، كأنهما خارجان من قلب واحد وعقل واحد.. كأنما هذا الرأي العام اذن كائن مستق، يخلق ويحبو وينمو - الى ان يصبح قوة ناضجة، محركة موجهة تؤثر في الدولة والمجتمع). فهكذا اذن هو وصف (الوعي الشعبي) على اقرب تصوير.. ومازال (الحكيم) يتحدث (من اليسير ان نجد الشعور العام الموحد... لأن الشعور العام يصدر عن الضمير ، والضمير قلما يختلف بين انسان وانسان). ومن هنا يكون الشاهد في تكوين الضمير الجمعي في حالة القبيلة انها تعتمد في شكلها الاولي على رابطة الدم والعرق المباشر كما في الاسرة او العائلة الواحدة. ولكن تظل القبيلة تتمدد بكثرة تعداد الافراد فيها حتى نكاد نفقد هذا الشكل الاسري او العائلي في مراحل تكوين متقدمة، وهنا - وبعد تجاوز الشكل الاسري للقبيلة - يصبح المحدد الظاهر للانتماء فيها والرابط بين افرادها اكثر الشيء ليس هو رابطة الدم ووحدة العرق وانما حالة الوعي الجمعي المشترك المتمثل في مظاهر الثقافة المحلية التي تشكل وجدان ومزاج هؤلاء الافراد.. وحتى ان القبائل التي مازالت تجتهد في المحافظة على رابطة الدم الاسري رغم تمددها السكاني فانها لا تصطلح على تأكيد النسب على خط الأم مثلما هو واقع في بلاد النوبة شمال السودان وجنوب مصر حيث ينادى الشخص عرفيا بأنه (فلان بن فلانة)، ولعل هذا له وجه اخر فيما اورده (فريدرك انجلز) في كتابه (اصل العائلة) بأن الاساطير الادبية القديمة تحكي عن ان النسب كان يحدد بخط الام وليس خط الاب نسبة لشيوع تعدد الازواج للمرأة الواحدة فيما قبل ما يعرف بالزواج المنظم وحيث لم يكن بدا من ان يتم اثبات وتاكيد النسب للمولود بمرجعه الرحمي وهو امه حيث يكاد يكون الاب مجهولا. وايضا نجد مثالا اخر لذلك في شجرة نسب السيد المسيح في (الانجيل) اذ كان لا محالة الا ان يحسب هذا النسب من جهة الام وحدها. ولكن في حالة النوبيين فبرغم حفاظهم على الشكل الاسري لقبائلهم كمرتكز حضاري اساسي لهم، إلا انهم لم يسلكوا في ذلك بنحو ما قالته الاساطير القديمة من تعدد ازواج المرأة الواحدة بل على العكس تماما كانت الهيئة الاجتماعية للزواج في قبائل النوبيين تعتمد اكثر الشيء على الزوج الواحد للزوجة الواحدة وحتى تعدد الزوجات للرجل الواحد عندهم هو محض استثناء، ولكن التأكيد على الرابطة الرحمية هي التي تعطي في الاساس الشكل الاسري للمجتمعات هناك وتاكيد الاحتفاظ بهذه الرابطة، ولذلك ان كان مسموحا في القانون العرفي للرجل النوبي ان يتزوج من خارج القبيلة مع كراهة ذلك فيها واجرائه في حدود الضرورة والاستثناء الشديد، فان رواج المرأة من رجل خارج القبيلة يكاد يكون امرا ممنوعا على الاغلب. اذن، فاصول الوعي الشعبي لدى بعض القبائل مرجعه الاصلي هو الاحتفاظ بحالة التكوين الاسري لها. في حين ان هناك قبائل اخرى قد انفتحت بنحو كبير تجاه الاخرين لم يقاس فيها بالاساس الوعي الشعبي على الشكل الاسري وانما على التجريد للثقافة المحلية وتوارث عادات وتقاليد أي انماط سلوكية مشتركة تميز طريقتهم في الحياة. 5/ من اسفل الى اعلى: على ما سلف، فان الوعي الشعبي هو مجموعة الطبائع والامزجة النفسية التي شكلت وجدان فئة من الناس بشكل مشترك وليس بشكل فردي بتأثير العوامل الاطارية المحيطة بهذه الفئة من بيئة مشتركة ومقومات حياة ووسائط اتصالية لغوية محكية وحركية. لذلك كان لابد من منهج ما لأجل تنزيل انماط من المتغيرات المختلفة والمستحدثة على شعب معينبخطاب لا يحدث تناقضا مع ثوابت الوعي لدى هذا الشعب. فبالعودة الى التاريخ القريب لرأينا (هتلر) قد نجح في استقطاب قلوب وعزائم وتأييد الشعب الالماني لمحاربة العالم اجمع ليس بما فرضه عليهم من نظم صارمة ولكن بجعلهم يتقبلون هذه النظم بنحو تلقائي بأن اخرج من داخلهم بطريقة التوليد السقراطي ما كانوا يتمنونه لانفسهم ووضعه امام اعينهم بخطبه المشتعلة بالحماسة للعرق الاري الرفيع حين كانوا يتمنون ان يكونوا هم بالفعل الشعب المتفوق ذو العرق الرفيع الاعلى فوق شعوب العالم، لذلك سمعوا له واطاعوا فيما اتاهم به من أمر جديد فالحقوا حتى فتيانهم لخدمة (هتلر) والنازية عبر الانضواء تحت (الشبيبة الهتلرية). ولكن في مقابل ذلك عندما فطنت بريطانيا العظمى متأخرا انه لكي تكسب اراضيها الجديدة في افريقيا واستراليا ان من الضروري ان لا تسقط .على شعوب هذه الاراضي الشكل والنموذج الاجتماعي الاقتصادي من اعلى الى اسفل وانما لابد ان تستنبطه من اسفل الى اعلى بحسب طبيعة كل شعب من شعوب هذه الاراضي، كان الاوان فد فات وفقدت اغلب مستعمراتها في الشرق وافريقيا، فطريقة الحياة المخصوصة لدى اي شعب هي ما يحدد الشكل النموذجي للرسم الاجتماعي والاقتصادي الملائم لها. ولكي يمكن تحقيق هذا النموذج والتأثير فيه لابد ان ياتي الامر بمعايشة مباشرة لداخل طرق الحياة ومجرياتها وتصرفاتها وليس مجرد النظر اليها من خارجها. ولهذا المنهج ايضا جانبه الخطير اذا اخذناه من زاوية اخرى، فنجاح مأساة شعوب اوروبا في عصور الظلام كانت بسبب هذا المنهج وإعماله على احدى ثوابت الوعي الاوروبي الشعبي انذاك وهو ليس ثابت الدين بذاته وانما ثابت العاطفة الدينية او الشعور الديني والانفعال الوجداني به في قلوب وعقول تلك الشعوب، ولكن بدون فهم منطقي وفقهي كاف لاحكام ومقاصد الرسالة الدينية وهذا ما اعطى الفرصة لبعض رجال الدين للسيطرة على هذه الشعوب بقيادتهم من خطام هذه العاطفة الدينية غير المرشدة بعلم، وايضا باستعمال رجال السياسة والملوك في تحقيق هذه السيطرة. وما كان هذا الا حين صدقت تلك الشعوب اولئك الرجال في ادعائهم بالتفويض بالحق الالهي وانهم اوصياء الكتاب المقدس وانهم في الاخير آخذي الاعترافات ومانحي صكوك الغفران. ثم قد تكرر سيناريو حكم الناس بعواطفهم الدينية غير المرشدة بالعلم الحقيقي في مجتمعات مختلفة قديمة ومعاصرة وعلى ديانات متعددة، ولكن ظل مبدأ التسلط والاستغلال باسم الدين واحدا في كل الاحوال. لكن الوجه الايجابي لهذا الامر، ان التغيير والغاء هذا التسلط كان يتم ايضا من خلال تحريك ثوابت الوعي ايضا ليس بتجاوز المسأل الدينية جملة وانما بتوجيه رشيد لنفس تلك العاطفة الدينية. وليس الامر متعلق فقط وانما حتى على المستوى الاجتماعي تأتي الازم باستلاف اشكال التدين اكثر الشيء بنوع من التكلف بالمحاكاة والتقليد وليس ان يأتي طبعا وسجية، فمن الشعوب فمن الشعوب ما تقبل التدين بحقائق العلم ومنها ما تقبله بنوع من التفكير الاسطوري او الخرافي لطبع فيهم على النزوع نحو التخيل والتأمل على ما يند عن الواقع. 6/ الرسالة: الرسالة المستخلصة من كل ما ذكر، هي ان وعي الشعب لابد ان يتم التأثير فيه بأمر ما من داخله الخاص وليس بفرض هذا الامر من خارجه ومن نموذج ثقافي مغاير لثقافته المحلية. وذلك بحيث يكون التغيير المتقادم لهذا الوعي لا يمثل انحرافا عن المسار الطبيعي لهذا الوعي الشعبي وانما يكون نموا وتطورا على ذات السياق الطبيعي لهذا الوعي ولن يتحقق ذلك دون ان يخلق حوله ازمات اجتماعية وسياسية الا برعاية ودراسة واعتبار ما هو ثابت في هذا الوعي الشعبي المعين وما هو متغير ويظهر كلاهما في طريق الحياة لعامة الشعب. ومن هذا المنتهى تنطلق المطالبة بمزيد من الحفاظ على اشكال وطرق الحياة كما هي عليه، وهذا لا يكون الا بمزيد من انتماء حقيقى صادق للافراد والاشخاص نحو قبائلهم وشعوبهم تماما كما انتمائهم لاسرهم. والفرق هنا بين هذه الدعوة للانتماء الى الشعب المحلي والقبيلة وبين الدعوة للشعوبية والقومية والجهوية، هو ان دعوتنا تنافي فكرة التفوق العرقي لعرق على عرق او لقبيلة على قبيلة وهيمنة شعب على شعب وتسلط قومية على قومية او علو ثقافة على ثقافة. فالدعو هنا للحفاظ على الذات دون تفضلها او تفضيلها بميزات على ذوات اخرى، فالكل هناك قائم سواء في هذا العالم، ولعل هذا هو سبيل السلم العالمي وضمان حقوق الانسان، فانت لا تتميز وانما تشارك بهويتك وطريقة حياتك في كل العالم تماما كما يشارك الاخرون، وهذا ما يوصلنا الى تحقيق قول الله تعالى (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). انتهى

قضية (مابل سيمور)

قضية (مابل سيمور) ..
د. وائل احمد خليل الكردي (ليس هناك غير طريق واحد، هو استجوابها استجوابا مرهقا عنيفاً، وتوجيه اسئلة تتعلق بالاشياء والامور الصغيرة البسيطة التافهة، وعلى الرغم من ان روايتها تبدو منسجمة في ظاهرها وخطوطها العريضة، لكن هل تستطيع ان تضع النقاط فوق الحروف؟ عليك الا ترحمها، اترك لها حبل الاسئلة، على ما تعلم فهذه هي الطريقة الوحيدة لكسب المعركة) قد لا يمتلك المرء نفسه من الشعور بانه مرهق فعليا اثناء استغراقه في قراءة هذه الرواية الواقعية التي الفها من تجربة حية القاضي الامريكي (داڤيد. و. بيك) تحت عنوان (قضية وصية مسز جرير) والتي تم اقتباس النص المذكور انفا منها.. ومحور القضية هو ان (مسز جرير) والتي اسمها الشخصي (مابل) كانت وصيتها للميراث بعد وفاتها الى جامعة (هارفارد) في حين ان لديها ابن غير الشرعي والذي لم يثبت قانوناً نسبه اليها حيث انها انجبت طفلا في حالة فقر وغموض وقد هجرته لكي تتزوج من رجل غني.. وبالرغم من ان اغلب المحامين لا يقبلون الترافع في قضية الا في مقابل اتعاب محددة الا ان هناك من المحامين -سيما في امريكا- من ينتهز الفرصة للدفاع في قضية كبيرة بحيث انه يساعد الموكل الفقير صاحب الحق في ان يجد من يمثله امام المحاكم ثم يتقاضى اتعابه مؤخرا وهذا ما جرى بالنسبة للمحامي (فريدمان) مع موكلة (هارولد سوجر) والذي كان مطلوبا اثبات نسبه كإبن للمتوفية فيستحق هو الميراث ولا يتوجه الى جامعة (هارفرد)،.. فهذه الرواية تجسد طريقة قضاء المحاكم الامريكية في القضايا المدنية والتي تميزت بانها تجعل من مرافعات المحامين معارك كلامية شديدة القوة والضغط الانفعالي، فمن كان اذن غير (هنري رياض) القانوني السوداني البارز ومعه (كرم شفيق) يمكن له ان يترجمها باقتدار عال مثلما فعلوا هم.. لقد كان الحوار بين المحامين والشهود في الرواية حواراً سقراطيا توليدياًً بامتياز، حيث لم يبني (سقراط) الاغريقي القديم في زمانه يبني فلسفة على دعائم معرفية شاهقة ومكتملة ولكن كان سائحا بين الناس حراً يثير حوارات واسئلة يولد بها المعارف من اجابات من يحاوره فقد كان مؤمناً بمقولته المشهورة (اعرف نفسك) وان الحقيقة تنطوي داخل الانسان ولكنه نسيها فلا يتذكرها الا حين السؤال.. وهكذا يظل يسئل في العمق حتى يصل الى مستقر يطمئن اليه القلب.. وهكذا كان فعل المحامين الامريكان كما في الرواية انهم ينقلون السؤال للشاهد الى مستويات متعددة فيصطدم الشاهد بها ويجيب حالا فيظهر الاتساق او التناقض في اقواله. فيمكن القول ان المحامي الامريكي -كما ظهر في الرواية- يبدو انه ينطلق من الثغرات القانونية ويطرق عليها بتركيز عميق اكثر مما يهدف ويتجه الى النصوص الحكمية المباشرة في القانون.. فتلك الثغرات القانونية تكشف عن فراغات نصية بين كل مادة قانونية واخرى فتترك بذلك المجال مفتوحاً امام المحامين لممارسة الحيل المنطقية والاعيب الاستدلالية بحسب مهارتهم وحذقهم في توجيه الاسئلة بما يجسد حنكة المحامي الامريكي في القضايا المدنية اكثر الشيء.. ولنا ان نقرأ من بين السطور في هذه الرواية ما يصلح ليكون دروساً مستفادة ووصايا.. فقد ظهر من مجريات المرافعة القضائية للخصوم بها ان هناك من الناس من لا تقوم ذاكرتهم ولا يتوجه انتباههم بصدد الوقائع والاحداث الا نحو الابعاد المكانية التي تقع فيها وذلك دون الظرف الزماني فليست تعلق في ذاكزتهم التواريخ ولا يحسبون حساباتهم بالارقام الزمانية عادة، ولكنهم يعملون تركيزهم على التنظيم والترتيب للوقائع في المكان او على طريقة التفكير المكاني وبالتالي ايضاً يدركون الكائنات والاشياء على ظواهرها الكلية كبنية اطارية واحدة دون التدقيق في ملاحظة الجزئيات حيث تأخذ التفاصيل الدقيقة في اذهانهم غالباً شكلا ضبابياً يصعب معه تذكرهم وسردهم اياها، فهولاء الاشخاص من هذا النوع يكون من الأجدى استنطاق روح النصوص القانونية وليس منطوقها المباشر في التعامل مع شهاداتهم واثبات اقولهم.. وكذلك ايضا قد يظهر من وراء سطور الرواية ان المحامين كانت لديهم مهارة يبدو انهم تدربوا عليها جيدا هي استخدام اسلوب التحليل النفسي في اختيار نوع الاسئلة المناسبة الامر الذي يعتمد على مهارة المحقق الذي يقوم بالغوص نحو الصورة الحقيقية للوقائع في عقول من يدلون بشهاداتهم امام المحاكم.. فكم من عدالة تضيع وكم من مظالم تقع على الناس في القضاء فقط لان محاميي الدفاع لا يجيدون فنون طرح السؤال على الشهود في القضايا.. وكم من براءة نالها متهم بجرم كبير جراء حنكة محامي الدفاع في سد الفراغات بين النصوص القانونية باستدلالات منطقية اوحت له به طريقتة في طرح الاسئلة فيقود النصوص نحو صالح المتهم.