مركز الدكتور وائل أحمد خليل الكردي للدراسات الإنسانية هو مركز يعنى بالنشر العلمي والفكري ومعاونة الباحثين الأكاديميين (وغيرهم) في العلوم الإنسانية والاجتماعية . ويقوم على تقديم الخدمات الاستشاريه ، والتدريبية ، وتكوين قاعات البحث الافتراضية ، ومهام الارشاد والتوجيه في التخطيط والتأليف العلمي ، والمراجعات التحليلية على الأفكار الأساسية لدى الباحثين وكتاب البحوث والأوراق العلمية. كل ذلك باستهداف مناهج وأساليب وأنماط البحث العلمي وبناء الخلفيات المنطقية في تصميم الأبحاث والأوراق العلمية.
الأربعاء، 6 يوليو 2022
قضية (مابل سيمور)
قضية (مابل سيمور) ..
د. وائل احمد خليل الكردي
(ليس هناك غير طريق واحد، هو استجوابها استجوابا مرهقا عنيفاً، وتوجيه اسئلة تتعلق بالاشياء والامور الصغيرة البسيطة التافهة، وعلى الرغم من ان روايتها تبدو منسجمة في ظاهرها وخطوطها العريضة، لكن هل تستطيع ان تضع النقاط فوق الحروف؟ عليك الا ترحمها، اترك لها حبل الاسئلة، على ما تعلم فهذه هي الطريقة الوحيدة لكسب المعركة)
قد لا يمتلك المرء نفسه من الشعور بانه مرهق فعليا اثناء استغراقه في قراءة هذه الرواية الواقعية التي الفها من تجربة حية القاضي الامريكي (داڤيد. و. بيك) تحت عنوان (قضية وصية مسز جرير) والتي تم اقتباس النص المذكور انفا منها.. ومحور القضية هو ان (مسز جرير) والتي اسمها الشخصي (مابل) كانت وصيتها للميراث بعد وفاتها الى جامعة (هارفارد) في حين ان لديها ابن غير الشرعي والذي لم يثبت قانوناً نسبه اليها حيث انها انجبت طفلا في حالة فقر وغموض وقد هجرته لكي تتزوج من رجل غني.. وبالرغم من ان اغلب المحامين لا يقبلون الترافع في قضية الا في مقابل اتعاب محددة الا ان هناك من المحامين -سيما في امريكا- من ينتهز الفرصة للدفاع في قضية كبيرة بحيث انه يساعد الموكل الفقير صاحب الحق في ان يجد من يمثله امام المحاكم ثم يتقاضى اتعابه مؤخرا وهذا ما جرى بالنسبة للمحامي (فريدمان) مع موكلة (هارولد سوجر) والذي كان مطلوبا اثبات نسبه كإبن للمتوفية فيستحق هو الميراث ولا يتوجه الى جامعة (هارفرد)،.. فهذه الرواية تجسد طريقة قضاء المحاكم الامريكية في القضايا المدنية والتي تميزت بانها تجعل من مرافعات المحامين معارك كلامية شديدة القوة والضغط الانفعالي، فمن كان اذن غير (هنري رياض) القانوني السوداني البارز ومعه (كرم شفيق) يمكن له ان يترجمها باقتدار عال مثلما فعلوا هم..
لقد كان الحوار بين المحامين والشهود في الرواية حواراً سقراطيا توليدياًً بامتياز، حيث لم يبني (سقراط) الاغريقي القديم في زمانه يبني فلسفة على دعائم معرفية شاهقة ومكتملة ولكن كان سائحا بين الناس حراً يثير حوارات واسئلة يولد بها المعارف من اجابات من يحاوره فقد كان مؤمناً بمقولته المشهورة (اعرف نفسك) وان الحقيقة تنطوي داخل الانسان ولكنه نسيها فلا يتذكرها الا حين السؤال.. وهكذا يظل يسئل في العمق حتى يصل الى مستقر يطمئن اليه القلب.. وهكذا كان فعل المحامين الامريكان كما في الرواية انهم ينقلون السؤال للشاهد الى مستويات متعددة فيصطدم الشاهد بها ويجيب حالا فيظهر الاتساق او التناقض في اقواله. فيمكن القول ان المحامي الامريكي -كما ظهر في الرواية- يبدو انه ينطلق من الثغرات القانونية ويطرق عليها بتركيز عميق اكثر مما يهدف ويتجه الى النصوص الحكمية المباشرة في القانون.. فتلك الثغرات القانونية تكشف عن فراغات نصية بين كل مادة قانونية واخرى فتترك بذلك المجال مفتوحاً امام المحامين لممارسة الحيل المنطقية والاعيب الاستدلالية بحسب مهارتهم وحذقهم في توجيه الاسئلة بما يجسد حنكة المحامي الامريكي في القضايا المدنية اكثر الشيء..
ولنا ان نقرأ من بين السطور في هذه الرواية ما يصلح ليكون دروساً مستفادة ووصايا.. فقد ظهر من مجريات المرافعة القضائية للخصوم بها ان هناك من الناس من لا تقوم ذاكرتهم ولا يتوجه انتباههم بصدد الوقائع والاحداث الا نحو الابعاد المكانية التي تقع فيها وذلك دون الظرف الزماني فليست تعلق في ذاكزتهم التواريخ ولا يحسبون حساباتهم بالارقام الزمانية عادة، ولكنهم يعملون تركيزهم على التنظيم والترتيب للوقائع في المكان او على طريقة التفكير المكاني وبالتالي ايضاً يدركون الكائنات والاشياء على ظواهرها الكلية كبنية اطارية واحدة دون التدقيق في ملاحظة الجزئيات حيث تأخذ التفاصيل الدقيقة في اذهانهم غالباً شكلا ضبابياً يصعب معه تذكرهم وسردهم اياها، فهولاء الاشخاص من هذا النوع يكون من الأجدى استنطاق روح النصوص القانونية وليس منطوقها المباشر في التعامل مع شهاداتهم واثبات اقولهم..
وكذلك ايضا قد يظهر من وراء سطور الرواية ان المحامين كانت لديهم مهارة يبدو انهم تدربوا عليها جيدا هي استخدام اسلوب التحليل النفسي في اختيار نوع الاسئلة المناسبة الامر الذي يعتمد على مهارة المحقق الذي يقوم بالغوص نحو الصورة الحقيقية للوقائع في عقول من يدلون بشهاداتهم امام المحاكم.. فكم من عدالة تضيع وكم من مظالم تقع على الناس في القضاء فقط لان محاميي الدفاع لا يجيدون فنون طرح السؤال على الشهود في القضايا.. وكم من براءة نالها متهم بجرم كبير جراء حنكة محامي الدفاع في سد الفراغات بين النصوص القانونية باستدلالات منطقية اوحت له به طريقتة في طرح الاسئلة فيقود النصوص نحو صالح المتهم.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق