د. وائل أحمد خليل الكردي
كنت اتحاور مع صديقي الدكتور (شمس الدين يونس) حول ذلك التاجر اليهودي المرابي في مسرحية (شكسبير) الذي أقرض التاجر النبيل مالاً لأجل، وحينما حان الأجل ولم يسدد كان العقد بينهما أن يأخذ اليهودي مقداراً معتبراً من لحم صدره، فأي حياة تبقى له بعد ذلك.. ولكن القاضي أمر بإنفاذ العقد فقط في حدود ما نص عليه بأن يأخذ مقدار اللحم ولكن دون إراقة نقطة دم واحدة.. هكذا كان العقد منذ أوله ومبتدئه فاسداً غير صالح فلا يمكن أن يكون مقابل حفنة من المال إلا حفنة من المال مثلها وليس حياة إنسان..
قفز حينها إلى ذهني أن تاجر البندقية اليهودي هذا يعود دائما من جديد في كل زمان ومكان.. وكان دوماً هناك هدف واحد وراءه يخفى على عموم الناس، وربما أن (شكسبير) قد أراد من وراء مسرحيته هذه أن يكشف عن محاولات فئة من البشر الحد من حياة بشر آخرين لتخلو لهم الدنيا، فلو أن التاجر اليهودي نفذ عهده لمات التاجر النبيل حتف أنفه ثم ينقطع أثره ونسله.. فهناك دائماً أقوام يعملون على إزاحة الآخرين عن الحياة فيلجئون من ضمن ما يلجئون إلى الإبادة البشرية بقطع اسباب النسل سواء كان ذلك بغرض التطهير العرقي بدعوى البقاء للأصلح أو بالأحرى (الأقوى) وهو ما درج عليه غالب التاريخ الإنساني القديم والوسيط.. أو بدافع ما نشهده في عهدنا المعاصر من احتكار وإدارة الثروات الطبيعية لصالحهم دون غيرهم، فما فتئوا يصنعون لذلك شتى الصنائع والتفانين والصيحات العصرية التي توجه انتباه الناس وعقولهم نحو مغذى وهدف معين ظاهر وهم في الحقيقة يريدون بها هدف آخر تماماً محجوب عن الظهور، وهذا ما عجن السياسة بالاقتصاد فيما عرف (بالاقتصاد السياسي) الذي هو التزاوج بين لعبة الأهداف الإنسانية المخفية وسياسة تحويل الثروات إلى أوراق مالية.. فصارت الأرض ملعباً كبيراً يتجاذب أطرافه معسكر رأسمالي أثبت نفسه منذ التاريخ القديم ومعسكر اشتراكي ولد حديثاً نوعاً ما وكان هو دائما ردة فعل معاكسة في الاتجاه على ما يقوله الرأسماليون.. لذلك كانت الرأسمالية تغلب دائماً برغم صعود نجم الاشتراكية بشكل يثير الإعجاب في فترات من التاريخ. حتى أنه يمكن القول أن من يتحكم في عالم الاقتصاد السياسي منذ ظهور نظرية (مالتوس) في السكان في العام 1798م هو ظل (مالتوس) نفسه وما تمت عليه من شروح وتفسيرات وتأويلات تلوح جميعها بما يسمى بالكارثة المالتوسية أو المأزق المالتوسي بأن النمو السكاني يمضي رأسياً في حين تنمو الموارد الغذائية خطياً وهو ما يؤدي في المحصلة إلى تدني مستويات المعيشة إلى حد الأزمات التي يتولد عنها المجاعات والحروب والهجرات الثقيلة، فكان الحل لديه فيما يسمى (النمو السكاني المتأثر بالضوابط الوقائية) أي اتخاذ الإجراءات الجبرية التي تحقق التوازن بين ما هو رأسي وما هو خطي بالتحكم في النمو السكاني.. أي باختصار وبلغة أخرى، قطع النسل بما وسع القاطعون من سبل.. منع الحمل القانوني.. عقاقير منع الحمل.. إضعاف الخصوبة التناسلية.. الإبادة المباشرة.. اجراء التجارب القاتلة على البشر.. تجارة السلاح ونشر الأسلحة البيولوجية.. تأجيج الصراعات العرقية والقبلية.. المهم هو إيقاف التزايد البشري حتى لا يطغى على الثروة والموارد التي يديرها لمصلحتهم أصحاب رؤوس الأموال الذين أرادوها أن تكون دولة بين الأغنياء، والغاية في هذا تبرر الوسيلة تماماً عندهم..
ولطالما كنت أتساءل عن تلك الدعاوى الجديدة في أيامنا هذه والتي يجمع بينها كلها هدف خفي وحيد هو (الحد من تزايد نمو النسل البشري في العالم)، ولماذا تم تغليف هذه الدعاوى بأغطية زاهية من الشعارات السياسية والحقوقية الإنسانية.. فوجدت الإجابة في خبر تخطي العالم اليوم لحاجز الثمانية مليار نسمة والتصور المصاحب لذلك عما سيعانيه كل هؤلاء البشر من صعوبات بالغة في العيش.. وأنه لما كان عالمنا الراهن لا يقبل إلا ما كان سائغاً من ناحية الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية والديمقراطية السياسية، لذلك ابيحت مشروعية الإجهاض القصدي تحت غطاء النسوية وحقوق النساء.. وتعميق المساواة الكاملة بغير عدالة حقيقية وطبيعية تحت غطاء (الجندر) أو الدفاع عن حقوق النوع المستضعف من البشر وهم النساء في مقابل اضطهاد الرجال لهم.. إلى أن بلغ بنا الحال في تفانين قطع الأنسال إلى الجهر عالياً وفي جميع المحافل بشتى وسائل الدعاية بمشروعية المثلية والتزاوج من نفس النوع باسم حقوق الأقليات وإطلاق الحرية البيولوجية للإنسان، فكان ما خفي هو أن زواج الرجل من الرجل لا ينجب وزواج المرأة من المرأة أيضاً غير منتج، فهذا حتماً إذا تفشى سيحد كثيراً من تزايد اعداد البشر بشكل تلقائي وغير مكلف.. وعاد (تاجر البندقية) من جديد ليؤكد أن المثليين هم جسم طبيعي تماماً في المجتمع، وربما تم تجنيد عدد من مشاهير الأطباء النفسانيين ليعلنوا أمامنا وهم يلوون عنق الحقيقة أن هؤلاء المثليين أناس أسوياء تماماً وانما هي كلها أنواع من الحاجات البيولوجية موجودة في الانسان، ولا عزاء في هذا لضمائرهم العلمية فالمال المدفوع كثير ومعه الحظوة.. وفي سبيل هذا حتى الدين طالبوا بإبعاده عن الحياة العامة للناس بزعمهم أن الله لا ينبغي أن يتدخل في حياة البشر وكيفما يكونون (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً) وأن كثير من الحقوق والحريات تضيع وتهدر لأن أصحاب الدين يكبلون أيدي وأرجل الناس من خلاف بتعاليم السماء.. وهكذا، وبالتأثير المتصاعد لهذه الدعاية انخرط كثير من الشباب بل ومن الناضجين ممن يمنون أنفسهم باكتساب قيمة للذات أو حتى لملء الفراغ الوجداني بمخالفة الشرائع واتباع الشاذ الغريب بدفاعهم عن الحق والحرية في أفعال كأفعال قوم (لوط).. وربما هؤلاء لا يعلمون إلا ظاهر من الأمر ولا يقفون إلا على هامش المفاهيم الجادة والحقائق العميقة، فأصبحوا بذلك كروتاً في لعبة ورق كبرى يلعبها اتباع (مالتوس) ممن يديرون رؤوس الأموال العالمية لقطع أكبر قدر من نسل البشر، ولو أنهم آمنو من قريب أن الله قدر لكل نفس رزقها وبقوله (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) لأخرجوا أنفسهم تواً من لعبة الورق تلك ومن دائرة الاستغلال، فإن الإنسان عندما يكون غراً غافلاً يكون مطية سائغة للاعبين الكبار الممسكين بأوراق اللعب..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق