مركز الدكتور وائل أحمد خليل الكردي للدراسات الإنسانية هو مركز يعنى بالنشر العلمي والفكري ومعاونة الباحثين الأكاديميين (وغيرهم) في العلوم الإنسانية والاجتماعية . ويقوم على تقديم الخدمات الاستشاريه ، والتدريبية ، وتكوين قاعات البحث الافتراضية ، ومهام الارشاد والتوجيه في التخطيط والتأليف العلمي ، والمراجعات التحليلية على الأفكار الأساسية لدى الباحثين وكتاب البحوث والأوراق العلمية. كل ذلك باستهداف مناهج وأساليب وأنماط البحث العلمي وبناء الخلفيات المنطقية في تصميم الأبحاث والأوراق العلمية.
الثلاثاء، 17 مارس 2020
ديار (هاديس)
ديار (هاديس) ..
وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
هل (كورونا) وباء طبيعي؟ .. لماذا كان الاهتمام الشائع لدى وسائط اﻷخبار أكثر الشيء عن نسبة انتشار هذا الوباء وكيفية الوقاية منه وتدابير الاحاطة به والتعامل مع المصابين، وضربوا صفحاً عن مصادر المرض نفسه إلا بأسباب ضيقة ومباشرة مثل التغذي على بعض الحيوانات التي لا يجب أن تغذي عليها الانسان؟ ولكن هذا لم يرد على السؤال، فالصينيون يأكلون هذه اﻷطعمة الغريبة وغيرها منذ أزمان بعيدة ولم تضرب فيهم اﻷوبئة مثلما ضربتهم (كورونا) في عامنا هذا ٢٠٢٠م ..
لقد ألف (آرثر لفجوي) كتاباً أسماه (سلسلة الوجود الكبرى) روج فيه لفكرة تزامن العوالم لدى بعض فلاسفة عصر النهضة في أوروبا حيث قالوا بأن العالم اﻷخروي (اﻵخرة) موجودة في نفس مكان وزمان هذا الكون الذي نعيش فيه حياتنا الدنيوية، وليس أن اﻵخرة تبدأ بعد أن تنتهي الدنيا بيوم القيامة، وأن الانتقال من الدنيا إلى اﻵخرة هو انتقال مرتبة وليس انتقال مكان وزمان، وأن ليس في اﻹمكان خلق كون جديد ابدع مما كان .. ومن هنا تبدأ الحكاية اﻷليمة.
لو رجعنا إلى الوراء لبضعة أعوام، وبالتحديد عند صدور رواية (الجحيم) لمؤلفها (دان براون) إذ لربما وجدنا فيها بعض مفاتيح السر .. تتحدث (الجحيم) عن فكرة أساسية هي محاولة إيجاد حل لمشكلة الانفجار السكاني العالمي بالتخلي عن ثلث سكان العالم الحاليين في سبيل الحفاظ على الجنس البشري من الانقراض بواسطة فيروس معدل جينياً. ومفتاح فهم المعتقد وراء استخدام هذا الفيروس المعدل يكمن في (الكوميديا اﻷلهية) اسطورة (دانتي اليجيري) التي تعد من أبرز اﻵثار الانسانية الخالدة في اﻷدآب العالمية، حيث أن عالم الجحيم اﻷخروي بكل طبقاته حاضر معنا فهو قطعة من اﻷرض نفسها، وعلينا أن نمر به حتى نعبر إلى الفردوس .. وقد اتفقت آثار النثر اﻹنساني التي تناولت اﻵخرة على أن الجحيم معبر ضروري لبلوغ الجنة، فإن لم يتخذ الانسان تدابير العبور السليم سقط في الجحيم وبقي فيه ..
نحن نؤمن بأن أحوال اﻵخرة تحدث عقب القيامة (وإن منكم إلا واردها) ولكن إيمان هؤلاء هو ما أتى بها إلى الدنيا، فلقد رسمت (أوديسا هوميروس) طريق (أوديسيوس) في رحلة عودته إلى وطنه ليمر حتماً بمملكة الموتى (هاديس) حيث لن يعرف وجهته إلا من العراف الميت هناك عندما يشرب من الدماء السوداء لكي يعود إلى حالة الوعي ثم يرشد (أوديسيوس) إلى مبتغاه، وفي الطريق تعترضه صعوبات وعوائق الجحيم .. وكوميديا (ارسطوفانيس) المسماة (الضفادع) أيضاً تحكي شيئاً بنحو ذلك الجحيم اﻷخروي الذي خاضه بطله (ديونيزيوس) في رحلة دنيوية .. وعلى الجانب الشرقي تتمثل فكرة الجحيم اﻷخروي الذي على اﻷرض في (جلجامش) الملحمة البابلية المشهورة، ثم في (رسالة الغفران) لمؤلفه العربي (المعري).. وهكذا نشأت فكرة (التطهير) في نقل حالة الجحيم اﻷخروي إلى العالم بوحي أساسي من هذه السرديات والملاحم بأن المرور بالجحيم أمر حتمي للوصول إلى الجنة، سواء في الآخرة أو على هذه اﻷرض التي نعيش عليها حياتنا الدنيا.. وأياً كانت نسبة الحقيقة إلى الخيال في هذه اﻷساطير إلا أنها ألهمت العديد من الحركات الداعية إلى (الخلاص) اﻹنساني بخروج الشرور عن العالم حتى ولو كان هذا الخروج بموت البشر أنفسهم .. إن فكرة (الخلاص) تمثل الهدف السامي لهذه اﻵداب وأن هذا الخلاص لن يكون إلا باجتياز معبر الجحيم واسقاط قسماً من البشر في الهلاك ليستمر القسم اﻵخر في الحياة وتجديد الدماء البشرية وتجديد المجتمعات، ولقد اختلفت الشعارات واﻷساليب في ذلك ولكن ظل الهدف للخلاص واحداً، لذلك ظهرت منظمات وكيانات دعت لقيادة الناس نحو الخير بتحقيق نوع من اﻹبادة الجماعية لفئات من الناس يقدمون كضحايا لهذا الخلاص ومن أجل سعادة الجنس البشري والحفاظ على استمرار الحياة ومن أجل أن يفسح أهل الجحيم السبيل لمن سيخلدون في الجنة .. ولم يتوقف اﻷمر عند حد السرديات الروائية لمبدعين فرادى بل امتد ليصبح مادة غنية في صناعة السينما لعبت فيه السياسة دوراً خفياً على أوتار التطرف الديني والعصبية العرقية وما نحو ذلك، فظهرت سلسلة أفلام أنصاف الموتى الذين يمثلون عالم الجحيم على اﻷرض يخرجون من المقابر ليلاً فحسب من أجل أن ينالوا من اﻷحياء ويرسلون منهم إلى الجحيم كل من لم يجعله سوء حظه أن يدرك طلوع النهار .. وأكثر من ذلك، سلسلة الأفلام الامريكية (ليلة التطهير) فعملية التطهير التي تدعو اليها هذه الأفلام شبيهة بعملية التطهير التي كانت تقام كل خريف فى سبارطة القديمة، وهى أيضا صورة محددة الوقت من عمليات التطهير العرقي لمجازر ارتكبت ضد الأقلية المستهدفة مثل تلك التي تمت في البوسنة والهرسك ومذابح رواندا وغيرها، ولكن هذه المرة تكون عملية التطهير تحت شعار (خلق امريكا جديدة) من خلال تنفيذ سيناريوهات الفوضى الناتجة عن غياب الدولة ومؤسساتها القادرة على بسط نفوذ القانون بل وتشجيع حكومة السيناتورات للعنف والاقتتال الداخلي بين الناس وفساد الجماعات المسلحة بحجة تنفيس الشعب المسالم في أصله عن مشاعر الشر السلبية الكامنة فيه فيتسبب ذلك أخيرا في قيام نظام جديد والتطهر من الماضي، وبرغم أن الحكومة في هذه الأفلام تسمح بالقتل غير المبرر والرعب وكل أشكال العنف والاعتداء يقوم بها حتى اشد الناس تدينا وداخل دور العبادة في 12 ساعة من منتصف الليل هي وقت التطهير من أجل ان تصبح الولايات المتحدة كما يقول الفيلم (أمة تولد من جديد) إلا أن الحقيقة في الواقع أن هذا الوقت ممتد حتى تحقق أمريكا مآربها المنشودة، لذلك فإن سلسلة أفلام التطهير (PURGE) تصور واقع ما فعله في العالم من فوضى المحافظون الجدد أو (الآباء الجدد) كما يطلق عليهم في هذه الأفلام، فليلة التطهير اذن هي ليلة الجحيم ..
والان، والأرض تضج وتختنق بكثافة الساكنين عليها من البشر يهلكون الموارد واسباب البقاء في الحياة وتزيد معدلات الفقر والبؤس في أكثر المجتمعات ويصبح الانسان عبء على الطبيعة، هنا تنشأ الحروب التقنية باسم المصالح الاقتصادية وتزدهر منظمات صناعة الإبادة وتروج تجارة الهلاك حتى تخلو الأرض للأقوياء من غير انتخاب طبيعي كالذي قال به (داروين) .. وبعد كل هذا، لم لا يكون فيروس (كورونا) نتاج سياسي لإلهام النثر الأدبي الأخروي وافلام التطهير بنحو أو بآخر .. لم لا يكون (كورونا) صناعة من أرادوا تقليل الكثافة الزائدة عن الحد لنوع من البشر حتى تعود الموازنة بين جميع الأجناس على الأرض إلى معدلها الطبيعي .. (كورونا) هو جحيم (هاديس) ديار الموتى الذي بعبوره تكون الجنة على الناحية الأخرى لمن كان لهم حظ العبور .. ليست المشكلة في وباء (كورونا) أو أي وباء آخر، ولكن المشكلة في الاستغلال السياسي لتلك التنظيمات والجمعيات الإنسانية التي تنهض في كل مرة من جديد بدعاوى إبادة جماعية ربما ورائها إيمان ديني شديد ولكنه إيمان متعصب ومنحرف، فليس دائما ما يبدو إنسانياً في ظاهره يكون في مصلحة الجنس البشري.
وائل أحمد خليل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
هل (كورونا) وباء طبيعي؟ .. لماذا كان الاهتمام الشائع لدى وسائط اﻷخبار أكثر الشيء عن نسبة انتشار هذا الوباء وكيفية الوقاية منه وتدابير الاحاطة به والتعامل مع المصابين، وضربوا صفحاً عن مصادر المرض نفسه إلا بأسباب ضيقة ومباشرة مثل التغذي على بعض الحيوانات التي لا يجب أن تغذي عليها الانسان؟ ولكن هذا لم يرد على السؤال، فالصينيون يأكلون هذه اﻷطعمة الغريبة وغيرها منذ أزمان بعيدة ولم تضرب فيهم اﻷوبئة مثلما ضربتهم (كورونا) في عامنا هذا ٢٠٢٠م ..
لقد ألف (آرثر لفجوي) كتاباً أسماه (سلسلة الوجود الكبرى) روج فيه لفكرة تزامن العوالم لدى بعض فلاسفة عصر النهضة في أوروبا حيث قالوا بأن العالم اﻷخروي (اﻵخرة) موجودة في نفس مكان وزمان هذا الكون الذي نعيش فيه حياتنا الدنيوية، وليس أن اﻵخرة تبدأ بعد أن تنتهي الدنيا بيوم القيامة، وأن الانتقال من الدنيا إلى اﻵخرة هو انتقال مرتبة وليس انتقال مكان وزمان، وأن ليس في اﻹمكان خلق كون جديد ابدع مما كان .. ومن هنا تبدأ الحكاية اﻷليمة.
لو رجعنا إلى الوراء لبضعة أعوام، وبالتحديد عند صدور رواية (الجحيم) لمؤلفها (دان براون) إذ لربما وجدنا فيها بعض مفاتيح السر .. تتحدث (الجحيم) عن فكرة أساسية هي محاولة إيجاد حل لمشكلة الانفجار السكاني العالمي بالتخلي عن ثلث سكان العالم الحاليين في سبيل الحفاظ على الجنس البشري من الانقراض بواسطة فيروس معدل جينياً. ومفتاح فهم المعتقد وراء استخدام هذا الفيروس المعدل يكمن في (الكوميديا اﻷلهية) اسطورة (دانتي اليجيري) التي تعد من أبرز اﻵثار الانسانية الخالدة في اﻷدآب العالمية، حيث أن عالم الجحيم اﻷخروي بكل طبقاته حاضر معنا فهو قطعة من اﻷرض نفسها، وعلينا أن نمر به حتى نعبر إلى الفردوس .. وقد اتفقت آثار النثر اﻹنساني التي تناولت اﻵخرة على أن الجحيم معبر ضروري لبلوغ الجنة، فإن لم يتخذ الانسان تدابير العبور السليم سقط في الجحيم وبقي فيه ..
نحن نؤمن بأن أحوال اﻵخرة تحدث عقب القيامة (وإن منكم إلا واردها) ولكن إيمان هؤلاء هو ما أتى بها إلى الدنيا، فلقد رسمت (أوديسا هوميروس) طريق (أوديسيوس) في رحلة عودته إلى وطنه ليمر حتماً بمملكة الموتى (هاديس) حيث لن يعرف وجهته إلا من العراف الميت هناك عندما يشرب من الدماء السوداء لكي يعود إلى حالة الوعي ثم يرشد (أوديسيوس) إلى مبتغاه، وفي الطريق تعترضه صعوبات وعوائق الجحيم .. وكوميديا (ارسطوفانيس) المسماة (الضفادع) أيضاً تحكي شيئاً بنحو ذلك الجحيم اﻷخروي الذي خاضه بطله (ديونيزيوس) في رحلة دنيوية .. وعلى الجانب الشرقي تتمثل فكرة الجحيم اﻷخروي الذي على اﻷرض في (جلجامش) الملحمة البابلية المشهورة، ثم في (رسالة الغفران) لمؤلفه العربي (المعري).. وهكذا نشأت فكرة (التطهير) في نقل حالة الجحيم اﻷخروي إلى العالم بوحي أساسي من هذه السرديات والملاحم بأن المرور بالجحيم أمر حتمي للوصول إلى الجنة، سواء في الآخرة أو على هذه اﻷرض التي نعيش عليها حياتنا الدنيا.. وأياً كانت نسبة الحقيقة إلى الخيال في هذه اﻷساطير إلا أنها ألهمت العديد من الحركات الداعية إلى (الخلاص) اﻹنساني بخروج الشرور عن العالم حتى ولو كان هذا الخروج بموت البشر أنفسهم .. إن فكرة (الخلاص) تمثل الهدف السامي لهذه اﻵداب وأن هذا الخلاص لن يكون إلا باجتياز معبر الجحيم واسقاط قسماً من البشر في الهلاك ليستمر القسم اﻵخر في الحياة وتجديد الدماء البشرية وتجديد المجتمعات، ولقد اختلفت الشعارات واﻷساليب في ذلك ولكن ظل الهدف للخلاص واحداً، لذلك ظهرت منظمات وكيانات دعت لقيادة الناس نحو الخير بتحقيق نوع من اﻹبادة الجماعية لفئات من الناس يقدمون كضحايا لهذا الخلاص ومن أجل سعادة الجنس البشري والحفاظ على استمرار الحياة ومن أجل أن يفسح أهل الجحيم السبيل لمن سيخلدون في الجنة .. ولم يتوقف اﻷمر عند حد السرديات الروائية لمبدعين فرادى بل امتد ليصبح مادة غنية في صناعة السينما لعبت فيه السياسة دوراً خفياً على أوتار التطرف الديني والعصبية العرقية وما نحو ذلك، فظهرت سلسلة أفلام أنصاف الموتى الذين يمثلون عالم الجحيم على اﻷرض يخرجون من المقابر ليلاً فحسب من أجل أن ينالوا من اﻷحياء ويرسلون منهم إلى الجحيم كل من لم يجعله سوء حظه أن يدرك طلوع النهار .. وأكثر من ذلك، سلسلة الأفلام الامريكية (ليلة التطهير) فعملية التطهير التي تدعو اليها هذه الأفلام شبيهة بعملية التطهير التي كانت تقام كل خريف فى سبارطة القديمة، وهى أيضا صورة محددة الوقت من عمليات التطهير العرقي لمجازر ارتكبت ضد الأقلية المستهدفة مثل تلك التي تمت في البوسنة والهرسك ومذابح رواندا وغيرها، ولكن هذه المرة تكون عملية التطهير تحت شعار (خلق امريكا جديدة) من خلال تنفيذ سيناريوهات الفوضى الناتجة عن غياب الدولة ومؤسساتها القادرة على بسط نفوذ القانون بل وتشجيع حكومة السيناتورات للعنف والاقتتال الداخلي بين الناس وفساد الجماعات المسلحة بحجة تنفيس الشعب المسالم في أصله عن مشاعر الشر السلبية الكامنة فيه فيتسبب ذلك أخيرا في قيام نظام جديد والتطهر من الماضي، وبرغم أن الحكومة في هذه الأفلام تسمح بالقتل غير المبرر والرعب وكل أشكال العنف والاعتداء يقوم بها حتى اشد الناس تدينا وداخل دور العبادة في 12 ساعة من منتصف الليل هي وقت التطهير من أجل ان تصبح الولايات المتحدة كما يقول الفيلم (أمة تولد من جديد) إلا أن الحقيقة في الواقع أن هذا الوقت ممتد حتى تحقق أمريكا مآربها المنشودة، لذلك فإن سلسلة أفلام التطهير (PURGE) تصور واقع ما فعله في العالم من فوضى المحافظون الجدد أو (الآباء الجدد) كما يطلق عليهم في هذه الأفلام، فليلة التطهير اذن هي ليلة الجحيم ..
والان، والأرض تضج وتختنق بكثافة الساكنين عليها من البشر يهلكون الموارد واسباب البقاء في الحياة وتزيد معدلات الفقر والبؤس في أكثر المجتمعات ويصبح الانسان عبء على الطبيعة، هنا تنشأ الحروب التقنية باسم المصالح الاقتصادية وتزدهر منظمات صناعة الإبادة وتروج تجارة الهلاك حتى تخلو الأرض للأقوياء من غير انتخاب طبيعي كالذي قال به (داروين) .. وبعد كل هذا، لم لا يكون فيروس (كورونا) نتاج سياسي لإلهام النثر الأدبي الأخروي وافلام التطهير بنحو أو بآخر .. لم لا يكون (كورونا) صناعة من أرادوا تقليل الكثافة الزائدة عن الحد لنوع من البشر حتى تعود الموازنة بين جميع الأجناس على الأرض إلى معدلها الطبيعي .. (كورونا) هو جحيم (هاديس) ديار الموتى الذي بعبوره تكون الجنة على الناحية الأخرى لمن كان لهم حظ العبور .. ليست المشكلة في وباء (كورونا) أو أي وباء آخر، ولكن المشكلة في الاستغلال السياسي لتلك التنظيمات والجمعيات الإنسانية التي تنهض في كل مرة من جديد بدعاوى إبادة جماعية ربما ورائها إيمان ديني شديد ولكنه إيمان متعصب ومنحرف، فليس دائما ما يبدو إنسانياً في ظاهره يكون في مصلحة الجنس البشري.
السبت، 7 مارس 2020
عندما يكون التابع هو السيد
(صحيفة اليوم التالي)
عندما يكون التابع هو السيد ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
حقاً، ان الصغار هم الذين يصنعون العمالقة .. فكذلك كل جبار وطاغية وحاكم بأمره ومتشيخ ظان بنفسه علوا بكراماته هم صنيعة كل امعة ساذج رهين سيده كَلٌّ على مولاه ينفخ النار في الحطب تحت القدر ليغلي ماؤها ويصعد بخاره عالياً فيحرق وجوه الواقفين فيحسبون البخار هو حارقهم ولا ينظرون الى من ينفخ النار.
لقد حمل فارس الظل الحزين (دون كيشوت) حربته ودرعه الصدئة وقاد حصانه العجوز ظناً منه أنه يعيد زمان الفرسان النبلاء المجندين دوماً لإنقاذ البشرية في كل موطن .. فحارب كائنات خياله الجامح وهي في الحقيقة لا شيء، فتهشمت عظامه ولكنه استمر حتى لقي حتفه وهو يحسب انه فارس حقيقي من العصور الغابرة .. فمن اين كان له كل هذا العزم والإصرار؟ بلا شك كان سبب هذا شعوره العظيم بالنشوة بانه يفعل فعل السادة وانه هو السيد النبيل .. ولكن من يقرأ ما وراء السطور في الرواية يرى أن منبع هذه النشوة الحقيقي لديه لم يكن كل تلك المؤلفات العديدة لقصص الفرسان القدامى التي اغرق نفسه فيها لسنوات حتى ابيضت لحيته، ولم يكن منبعها أيضا تلك الهتافات والتحيات الملقاة عليه في كل درب هو سالكه، وانما المنبع الحقيقي لنشوة الفروسية والسيادة لديه كان هو تابعه (سانشو بانثا) الذي بدا ساذجاً يصدق سيده في كل ما يقول وكل ما يقوده اليه .. فالقراءة الواعية لشخصية هذا الرجل (سانشو) انه ربما كان رجلا خارق الذكاء ليس بأنه قد صدق سيده وانما لأنه جعل سيده يصدق نفسه فكان بذلك هو المدد الحقيقي الذي مكن (دون كيشوت) من الاستمرار والنضال فيما كان يتصوره .. لقد كان التابع هو السيد في الحقيقة ومن بدا للجميع بأنه القائد كان هو المقود يمسك بخطامه ذلك التابع المسكين .. ومما يبدو أن هذا هو منطق إدارة الاحداث وراء كثير من وقائع عصرنا المصيرية، وهو ان ما يبدو لنا تابعاً متدني الأهمية يكون في الحقيقة المستترة هو السيد والربان خلف الدفة.
ما يقوله الساسة في اروقتهم السرية تقوله صناعة السينما في العلن .. ففي أحد الأفلام الواقعية عن ضلوع قادة اكبر البنوك العالمية في عمليات فساد دولية، تكلم الرجل بأن اكثر حروب العصابات والنزاعات الاقليمية المسلحة تعتمد في الأساس على السلاح الخفيف لاسيما الذي تصنعه الصين بكثافة وبأسعار زهيدة نوعاً ما، وان هذا البنك العالمي يقوم بدور السمسار في أزمات النزاع المسلح ليس من اجل الربح غير المجزي لعائدات بيع السلاح الخفيف وانما من اجل السيطرة .. السيطرة ليس على النزاعات ولكن السيطرة على الديون التي تخلفها النزاعات. فهذه الديون هي الطوق الذي يقيد عنق جميع الدول والمؤسسات وحتى الافراد لكي يكونوا عبيداً لديونهم، وهنا يصطاد البنك في الماء العكر ..
اذن، فهي السمسرة ما تكون وراء كل أزمة، ووراء اشتعال الأسعار واختلال الموازنة ما بين العملة المحلية وقيمتها الحقيقية من مخزون الذهب الاستراتيجي الكافي فعلا لتغطية العملة، وذلك بأن يتم رفع سعر العملة الأجنبية الصعبة ارتفاعاً وهمياً خارج هذه التغطية الحقيقية، ثم استغلال هذا الامر بما يحقق تضييق كل سبل العيش على الناس لأجل مصالح أصحاب رؤوس الأموال ولأجل الثراء بفاض القيمة الوهمية المتراكمة بفعل السمسرة ..
والان هي الثورة، ولو ان الدولة الثورية تخلت الى حد ما عن الاعتماد على إدارة الأوراق النقدية الملونة ولجأت الى إدارة الغلال المحلية في سوقها الداخلي دون الخارجي لربما كفت لكل مواطن قوت يومه وليلته بفائض ملحوظ .. ولو أن الأسواق امتلأت بما يمنحه البحر مدداً مستمراً من الأسماك دون مقابل وبلا زرع او قلع فقط جهد الاستخراج والتوزيع لربما صار الشعب غنياً دون مال .. ولو أن كل انسان غرس بزرة في ارض الوطن لربما طغى الثمر في يوم قريب .. ولو ان الدولة الثورية اعتمدت على السواعد البشرية المجردة في وطن اكثره الشباب دون انتظار لألات او لبترول لربما كان كسب الوقت بالجهد والعرق مباركاً واشد ظهيراً للمجتمع في الخروج من الأزمات .. ولو ان أصحاب الرعاية جمعوا كل الفاقد الإنساني من أبناء الشوارع والمشردين والهائمين بلا مأوى صفاً واحداً في ميادين الإنتاج والتنمية القومية وتحسين البيئة في مقابل ضمان غذائهم وكسائهم وسكنهم لربما لم تحتج البلاد يوما الى غير أبنائها بل لربما صدرنا الخيرات لغيرنا بعدما يفيض ما في بيوتنا عن حاجتنا .. ولو ان اكثر الجامعات تحولت الى معاهد فنية مهنية حرفية عليا لربما فاز المجتمع فوزاً اكبر ولربما اغتنم الشباب أعمارهم البكر قبل ضياعها تعطلاً بلا عمل على الأرصفة وأماكن قتل الأوقات يحملون في جيوبهم شهادات اكاديمية رفيعة ولكنها محض أوراق بلا قيمة اذا لم تملئ شاغرا في مقاعد العمل.
ان كل شيء له قسطاسه المستقيم وميزانه الحق .. فلقد كان صدقاً ما قاله صديقي الوراق الناسك (ود الجبل) ان (سانشو كان سبب استمرارية الدونكشوتية .. لولاه لسقط الفرس).
عندما يكون التابع هو السيد ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
حقاً، ان الصغار هم الذين يصنعون العمالقة .. فكذلك كل جبار وطاغية وحاكم بأمره ومتشيخ ظان بنفسه علوا بكراماته هم صنيعة كل امعة ساذج رهين سيده كَلٌّ على مولاه ينفخ النار في الحطب تحت القدر ليغلي ماؤها ويصعد بخاره عالياً فيحرق وجوه الواقفين فيحسبون البخار هو حارقهم ولا ينظرون الى من ينفخ النار.
لقد حمل فارس الظل الحزين (دون كيشوت) حربته ودرعه الصدئة وقاد حصانه العجوز ظناً منه أنه يعيد زمان الفرسان النبلاء المجندين دوماً لإنقاذ البشرية في كل موطن .. فحارب كائنات خياله الجامح وهي في الحقيقة لا شيء، فتهشمت عظامه ولكنه استمر حتى لقي حتفه وهو يحسب انه فارس حقيقي من العصور الغابرة .. فمن اين كان له كل هذا العزم والإصرار؟ بلا شك كان سبب هذا شعوره العظيم بالنشوة بانه يفعل فعل السادة وانه هو السيد النبيل .. ولكن من يقرأ ما وراء السطور في الرواية يرى أن منبع هذه النشوة الحقيقي لديه لم يكن كل تلك المؤلفات العديدة لقصص الفرسان القدامى التي اغرق نفسه فيها لسنوات حتى ابيضت لحيته، ولم يكن منبعها أيضا تلك الهتافات والتحيات الملقاة عليه في كل درب هو سالكه، وانما المنبع الحقيقي لنشوة الفروسية والسيادة لديه كان هو تابعه (سانشو بانثا) الذي بدا ساذجاً يصدق سيده في كل ما يقول وكل ما يقوده اليه .. فالقراءة الواعية لشخصية هذا الرجل (سانشو) انه ربما كان رجلا خارق الذكاء ليس بأنه قد صدق سيده وانما لأنه جعل سيده يصدق نفسه فكان بذلك هو المدد الحقيقي الذي مكن (دون كيشوت) من الاستمرار والنضال فيما كان يتصوره .. لقد كان التابع هو السيد في الحقيقة ومن بدا للجميع بأنه القائد كان هو المقود يمسك بخطامه ذلك التابع المسكين .. ومما يبدو أن هذا هو منطق إدارة الاحداث وراء كثير من وقائع عصرنا المصيرية، وهو ان ما يبدو لنا تابعاً متدني الأهمية يكون في الحقيقة المستترة هو السيد والربان خلف الدفة.
ما يقوله الساسة في اروقتهم السرية تقوله صناعة السينما في العلن .. ففي أحد الأفلام الواقعية عن ضلوع قادة اكبر البنوك العالمية في عمليات فساد دولية، تكلم الرجل بأن اكثر حروب العصابات والنزاعات الاقليمية المسلحة تعتمد في الأساس على السلاح الخفيف لاسيما الذي تصنعه الصين بكثافة وبأسعار زهيدة نوعاً ما، وان هذا البنك العالمي يقوم بدور السمسار في أزمات النزاع المسلح ليس من اجل الربح غير المجزي لعائدات بيع السلاح الخفيف وانما من اجل السيطرة .. السيطرة ليس على النزاعات ولكن السيطرة على الديون التي تخلفها النزاعات. فهذه الديون هي الطوق الذي يقيد عنق جميع الدول والمؤسسات وحتى الافراد لكي يكونوا عبيداً لديونهم، وهنا يصطاد البنك في الماء العكر ..
اذن، فهي السمسرة ما تكون وراء كل أزمة، ووراء اشتعال الأسعار واختلال الموازنة ما بين العملة المحلية وقيمتها الحقيقية من مخزون الذهب الاستراتيجي الكافي فعلا لتغطية العملة، وذلك بأن يتم رفع سعر العملة الأجنبية الصعبة ارتفاعاً وهمياً خارج هذه التغطية الحقيقية، ثم استغلال هذا الامر بما يحقق تضييق كل سبل العيش على الناس لأجل مصالح أصحاب رؤوس الأموال ولأجل الثراء بفاض القيمة الوهمية المتراكمة بفعل السمسرة ..
والان هي الثورة، ولو ان الدولة الثورية تخلت الى حد ما عن الاعتماد على إدارة الأوراق النقدية الملونة ولجأت الى إدارة الغلال المحلية في سوقها الداخلي دون الخارجي لربما كفت لكل مواطن قوت يومه وليلته بفائض ملحوظ .. ولو أن الأسواق امتلأت بما يمنحه البحر مدداً مستمراً من الأسماك دون مقابل وبلا زرع او قلع فقط جهد الاستخراج والتوزيع لربما صار الشعب غنياً دون مال .. ولو أن كل انسان غرس بزرة في ارض الوطن لربما طغى الثمر في يوم قريب .. ولو ان الدولة الثورية اعتمدت على السواعد البشرية المجردة في وطن اكثره الشباب دون انتظار لألات او لبترول لربما كان كسب الوقت بالجهد والعرق مباركاً واشد ظهيراً للمجتمع في الخروج من الأزمات .. ولو ان أصحاب الرعاية جمعوا كل الفاقد الإنساني من أبناء الشوارع والمشردين والهائمين بلا مأوى صفاً واحداً في ميادين الإنتاج والتنمية القومية وتحسين البيئة في مقابل ضمان غذائهم وكسائهم وسكنهم لربما لم تحتج البلاد يوما الى غير أبنائها بل لربما صدرنا الخيرات لغيرنا بعدما يفيض ما في بيوتنا عن حاجتنا .. ولو ان اكثر الجامعات تحولت الى معاهد فنية مهنية حرفية عليا لربما فاز المجتمع فوزاً اكبر ولربما اغتنم الشباب أعمارهم البكر قبل ضياعها تعطلاً بلا عمل على الأرصفة وأماكن قتل الأوقات يحملون في جيوبهم شهادات اكاديمية رفيعة ولكنها محض أوراق بلا قيمة اذا لم تملئ شاغرا في مقاعد العمل.
ان كل شيء له قسطاسه المستقيم وميزانه الحق .. فلقد كان صدقاً ما قاله صديقي الوراق الناسك (ود الجبل) ان (سانشو كان سبب استمرارية الدونكشوتية .. لولاه لسقط الفرس).
الكنديون يقرعون الطبل الافريقي
الكنديون يقرعون الطبل الأفريقي..
وائل الكردي
لقد كان (محمد اقبال) حكيماً حقاً فيما قال عن حركة الزمان (لا يمكن تصورها على شكل خط قد رسم بالفعل بل هي خط مازال يرسم.. أو تحقيق لممكنات جائزة، وهي تتصف بالغائية فقط بمعنى أن من خصائصها الانتفاء وأنها تصل إلى نوع من تحقيق الحاضر عن طريق الحرص على الاحتفاظ بالماضي والاضافة إليه) وعندما ارتبط هذا بمعنى الحرية لديه قال بأن النظرة المادية تحمل العالم وإرادة الانسان على مبدأ الجبر الصارم (فالعالم الذي يعتبر هو حالة حركة من أجل تحقيق أهداف سبق بها القضاء ليس عالماً يتألف من قوى حرة تسأل عما تفعل، فما هو إلا مسرح عليه دمى تحركها يد من خلف الستار).. وهكذا يكون وصف السياسة وطريقتها، وهكذا يكون حال من تربوا على ألا ينظروا الى وقائع الحياة وتصرفات الناس إلا من المنظور السياسي، وهكذا تربى شعبنا في السودان.. فأحياناً قد تكون الإجابات مختبئة في ثنايا السؤال المطروح علينا نفسه ولكننا نبحث عنها بعيداً.. وكثيراً ما نغفل عن الحقائق المجردة عندما نأخذ ما يقع أمامنا إما بالانفعالات والعاطفة التي لا تفكر وإنما ترتد على الأحداث والوقائع كارتداد الكرة المطاطية عن الحائط، وإما لأننا نضع كل حدث في حيز خبرتنا الفردية على ما اعتدنا عليه في الحياة اليومية وحسب فنحكم عليه بما سبق أن حكمنا به على غيره حتى ولو لم يكن الحدث اللاحق يطابق الأحداث السابقة فيحصل الخلط الكبير.. ولذلك عندما حرك أحدهم حصانه كأول قطعة يحركها في بداية مباراة الشطرنج وقفز به مرتين ليضرب به البيدق إلى جوار ملك الخصم، أضمر هذا الخصم حكمه بحماقة ذاك اللاعب إذ كيف يضحي بقطعة مهمة هكذا مقابل لا شيء، ولكن عندما يأتي دوره في اللعب لا يجد من خيار امامه إلا أن يحرك الملك من مكانه ليقتل به الحصان، حينها لربما اكتشف أن تحريك الملك في أول اللعب اشد خطورة عليه من فقدان خصمه لحصانه وأنه يحتاج إلى مراجعة كل حساباته من جديد.. وأن صاحب الحصان لم يكن أحمقاً عندما ضحى به..
لقد ظللنا عمراً طويلاً ننظر إلى أحوالنا ونصنع خططنا ومشاريعنا بناء على فكرة السياسة فحق لنا أن نرتطم ببعضنا البعض كثيراً ونتعثر ونظل نبدأ في كل مرة من نقطة الصفر الأولى ويمشي أواخرنا على هام الأولي دون أن نتقدم شبراً.. ومن هذا المقام، لم نتوقف لنسأل لماذا نتهم ونهاجم رئيس الوزارة في حكومتنا الانتقالية على ما يفعل كما لماذا نتفق معه ونوافق.. فربما ذلك لأننا ننظر من منظار السياسة التي تتعدد فيها زوايا الحقيقة الواحدة وتكثر فيها ردود الفعل المتباينة تجاه الحدث الواحد بحسب مواقعنا وانتماءاتنا السياسية، حيث الحقيقة في أرض السياسة تكون عائمة ورمال متحركة.. فماذا لو فطنا أن الرجل ليس (سياسي) ولا يلعب في حلبة السياسة وإنما هو (إداري) موظف وعلى هذا الأساس يفكر ويقرر، فكان حرياً أن ننظر إليه وفق طريقة الإدارة فلا نضل السبيل لفهمه شجباً أو تأييداً..
فبينما يؤدي المنظور السياسي إلى اتخاذ المواقف المتحيزة وخلق الصراع بين الأطراف المتضادة وإزالة التناقض برفع طرف ليبقى الطرف الآخر واستغلال الحالة الاجتماعية للشعب من أجل تغليب بعض على بعض وسوق سواد الناس كمثل القطيع الطائع تحت إرادة فئة قليلة منهم إن بالحيلة أو بالكذب وعرض الحقائق على غير ما تبدو واللعب على أوتار الرأي العام الانفعالية والحماسية على طريقة السؤال الخبيث حول قضية متعلقة على سبيل المثال بالمال العام (متى كففت عن ضرب زوجتك؟) فيوحي هذا السؤال للحاضرين بأن المسؤول في أصله رجل سيء لأنه قد اعتاد ضرب زوجته فترتسم مشاعرهم نحوه ابتداءً بشيء من البغض، فلو أنه أجاب فقط (لم أفعل) مال الناس إلى تفسير رده (أنه لم يتوقف عن الضرب) وإذا قال (لم أضربها قط) وإن كان صادقاً، طالبه الناس بدليل على اجابته تلك لأن السائل لم يوجه إليه اتهاماً يستوجب تقديم البينة عليه وإنما فقط طرح سؤالاً فلزم على المسؤول تقديم دليل على اجابته، وإذا آثر الصمت فلم يجب على السؤال أصلاً اتجه الشعور العام للحاضرين أن صمته إقرار بضربه زوجته، وهكذا المأزق قائم في معظم الحالات، فنحو ذلك ما تصنعه السياسة.. أما عن المنظور الإداري، فقد استرعت انتباهي عبارة قالها المفكر السعودي البارز (يعرب خياط) ضمن منشور له على (فيسبوك) قال فيها (ما هي الإرادة الوطنية التي استدعت كلاً من البلدين للعمل الدؤوب المستمر لتحويل مجتمعيهما إلى مجتمعات مترابطة.. يعمل الكندي في قرع الطبل الأفريقي).. فهكذا يعامل المنظور الإداري الشعب كله كمنظومة واحدة بكل متناقضاته ومتضاداته واختلاف اعراقه وتباين اتجاهات افراده الفكرية والعقدية بحيث يتم ترك كل شيء فيهم على حاله بكل ما لهم وما عليهم بدون مطالبة لهم بتغير جذري لصالح فكرة أو لصالح فئة، ثم يتم دفع المنظومة بكاملها في وقت واحد بإيجاد العامل المشترك بين جميع أطراف وعناصر هذه المنظومة مهما كانت مساحة هذا العامل المشترك صغيرة ولكنها مع نجاح الممارسة الإدارية والاستمرار والنمو تتسع هذه المساحة مع كل جيل جديد ويفرض الاشتراك في المنظومة قبول الآخر المختلف.. حينها تتحول الإدارة المجتمعية إلى إرادة جماهيرية، يكون الدور الأكبر في تحقيقها هو التنوير للمجتمع بهذا الفارق بين المنظور السياسي والمنظور الإداري. وليكن هذا التنوير على هيئة قطرات الماء الصغيرة المركزة والمتتابعة ببطء فكما أن قطرات الماء التي تطرق برفق على رأس إنسان كفيلة بمرور الزمن أن تثقبه ثم تقتله فإنها هنا تغرس الوعي السليم.. بهذا المنظور فقط يمكن احتواء الكل ليس في الداخل فقط بل احتواء الدول الأخرى للإسهام الفاعل في دفع منظومتنا بتنافس سلمي حر وشريف ومثمر بين جموع تلك الدول في ميادين الاقتصاد الوطني والنهضة العمرانية والتنمية البشرية.. فلقد كان هذا المنظور هو الكفيل بجعل الإدارة المجتمعية تصبح إرادة شعبية، كما كان هو الكفيل بجعل الكنديون يقرعون طبول أفريقيا.
وائل الكردي
لقد كان (محمد اقبال) حكيماً حقاً فيما قال عن حركة الزمان (لا يمكن تصورها على شكل خط قد رسم بالفعل بل هي خط مازال يرسم.. أو تحقيق لممكنات جائزة، وهي تتصف بالغائية فقط بمعنى أن من خصائصها الانتفاء وأنها تصل إلى نوع من تحقيق الحاضر عن طريق الحرص على الاحتفاظ بالماضي والاضافة إليه) وعندما ارتبط هذا بمعنى الحرية لديه قال بأن النظرة المادية تحمل العالم وإرادة الانسان على مبدأ الجبر الصارم (فالعالم الذي يعتبر هو حالة حركة من أجل تحقيق أهداف سبق بها القضاء ليس عالماً يتألف من قوى حرة تسأل عما تفعل، فما هو إلا مسرح عليه دمى تحركها يد من خلف الستار).. وهكذا يكون وصف السياسة وطريقتها، وهكذا يكون حال من تربوا على ألا ينظروا الى وقائع الحياة وتصرفات الناس إلا من المنظور السياسي، وهكذا تربى شعبنا في السودان.. فأحياناً قد تكون الإجابات مختبئة في ثنايا السؤال المطروح علينا نفسه ولكننا نبحث عنها بعيداً.. وكثيراً ما نغفل عن الحقائق المجردة عندما نأخذ ما يقع أمامنا إما بالانفعالات والعاطفة التي لا تفكر وإنما ترتد على الأحداث والوقائع كارتداد الكرة المطاطية عن الحائط، وإما لأننا نضع كل حدث في حيز خبرتنا الفردية على ما اعتدنا عليه في الحياة اليومية وحسب فنحكم عليه بما سبق أن حكمنا به على غيره حتى ولو لم يكن الحدث اللاحق يطابق الأحداث السابقة فيحصل الخلط الكبير.. ولذلك عندما حرك أحدهم حصانه كأول قطعة يحركها في بداية مباراة الشطرنج وقفز به مرتين ليضرب به البيدق إلى جوار ملك الخصم، أضمر هذا الخصم حكمه بحماقة ذاك اللاعب إذ كيف يضحي بقطعة مهمة هكذا مقابل لا شيء، ولكن عندما يأتي دوره في اللعب لا يجد من خيار امامه إلا أن يحرك الملك من مكانه ليقتل به الحصان، حينها لربما اكتشف أن تحريك الملك في أول اللعب اشد خطورة عليه من فقدان خصمه لحصانه وأنه يحتاج إلى مراجعة كل حساباته من جديد.. وأن صاحب الحصان لم يكن أحمقاً عندما ضحى به..
لقد ظللنا عمراً طويلاً ننظر إلى أحوالنا ونصنع خططنا ومشاريعنا بناء على فكرة السياسة فحق لنا أن نرتطم ببعضنا البعض كثيراً ونتعثر ونظل نبدأ في كل مرة من نقطة الصفر الأولى ويمشي أواخرنا على هام الأولي دون أن نتقدم شبراً.. ومن هذا المقام، لم نتوقف لنسأل لماذا نتهم ونهاجم رئيس الوزارة في حكومتنا الانتقالية على ما يفعل كما لماذا نتفق معه ونوافق.. فربما ذلك لأننا ننظر من منظار السياسة التي تتعدد فيها زوايا الحقيقة الواحدة وتكثر فيها ردود الفعل المتباينة تجاه الحدث الواحد بحسب مواقعنا وانتماءاتنا السياسية، حيث الحقيقة في أرض السياسة تكون عائمة ورمال متحركة.. فماذا لو فطنا أن الرجل ليس (سياسي) ولا يلعب في حلبة السياسة وإنما هو (إداري) موظف وعلى هذا الأساس يفكر ويقرر، فكان حرياً أن ننظر إليه وفق طريقة الإدارة فلا نضل السبيل لفهمه شجباً أو تأييداً..
فبينما يؤدي المنظور السياسي إلى اتخاذ المواقف المتحيزة وخلق الصراع بين الأطراف المتضادة وإزالة التناقض برفع طرف ليبقى الطرف الآخر واستغلال الحالة الاجتماعية للشعب من أجل تغليب بعض على بعض وسوق سواد الناس كمثل القطيع الطائع تحت إرادة فئة قليلة منهم إن بالحيلة أو بالكذب وعرض الحقائق على غير ما تبدو واللعب على أوتار الرأي العام الانفعالية والحماسية على طريقة السؤال الخبيث حول قضية متعلقة على سبيل المثال بالمال العام (متى كففت عن ضرب زوجتك؟) فيوحي هذا السؤال للحاضرين بأن المسؤول في أصله رجل سيء لأنه قد اعتاد ضرب زوجته فترتسم مشاعرهم نحوه ابتداءً بشيء من البغض، فلو أنه أجاب فقط (لم أفعل) مال الناس إلى تفسير رده (أنه لم يتوقف عن الضرب) وإذا قال (لم أضربها قط) وإن كان صادقاً، طالبه الناس بدليل على اجابته تلك لأن السائل لم يوجه إليه اتهاماً يستوجب تقديم البينة عليه وإنما فقط طرح سؤالاً فلزم على المسؤول تقديم دليل على اجابته، وإذا آثر الصمت فلم يجب على السؤال أصلاً اتجه الشعور العام للحاضرين أن صمته إقرار بضربه زوجته، وهكذا المأزق قائم في معظم الحالات، فنحو ذلك ما تصنعه السياسة.. أما عن المنظور الإداري، فقد استرعت انتباهي عبارة قالها المفكر السعودي البارز (يعرب خياط) ضمن منشور له على (فيسبوك) قال فيها (ما هي الإرادة الوطنية التي استدعت كلاً من البلدين للعمل الدؤوب المستمر لتحويل مجتمعيهما إلى مجتمعات مترابطة.. يعمل الكندي في قرع الطبل الأفريقي).. فهكذا يعامل المنظور الإداري الشعب كله كمنظومة واحدة بكل متناقضاته ومتضاداته واختلاف اعراقه وتباين اتجاهات افراده الفكرية والعقدية بحيث يتم ترك كل شيء فيهم على حاله بكل ما لهم وما عليهم بدون مطالبة لهم بتغير جذري لصالح فكرة أو لصالح فئة، ثم يتم دفع المنظومة بكاملها في وقت واحد بإيجاد العامل المشترك بين جميع أطراف وعناصر هذه المنظومة مهما كانت مساحة هذا العامل المشترك صغيرة ولكنها مع نجاح الممارسة الإدارية والاستمرار والنمو تتسع هذه المساحة مع كل جيل جديد ويفرض الاشتراك في المنظومة قبول الآخر المختلف.. حينها تتحول الإدارة المجتمعية إلى إرادة جماهيرية، يكون الدور الأكبر في تحقيقها هو التنوير للمجتمع بهذا الفارق بين المنظور السياسي والمنظور الإداري. وليكن هذا التنوير على هيئة قطرات الماء الصغيرة المركزة والمتتابعة ببطء فكما أن قطرات الماء التي تطرق برفق على رأس إنسان كفيلة بمرور الزمن أن تثقبه ثم تقتله فإنها هنا تغرس الوعي السليم.. بهذا المنظور فقط يمكن احتواء الكل ليس في الداخل فقط بل احتواء الدول الأخرى للإسهام الفاعل في دفع منظومتنا بتنافس سلمي حر وشريف ومثمر بين جموع تلك الدول في ميادين الاقتصاد الوطني والنهضة العمرانية والتنمية البشرية.. فلقد كان هذا المنظور هو الكفيل بجعل الإدارة المجتمعية تصبح إرادة شعبية، كما كان هو الكفيل بجعل الكنديون يقرعون طبول أفريقيا.
خرافة الحق التاريخي
خرافة الحق التاريخي..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لماذا إذن نحارب إسرائيل؟ .. هل أتى اليهود من خارج فلسطين ابتداء، أم أنهم وجدوا فيها كغيرهم ثم هُجر إليهم المزيد من أنحاء
العالم؟ وهل كان العرب حالة عرقية راسخة على طول تاريخ فلسطين؟ ..
لم يكن ذلك الأثر القابع في منتصف شارع القصر (قديماً، شارع فيكتوريا) بالعاصمة الخرطوم يثير الفضول لدى الدارسين بكونه سينما (كوليزيوم) .. ولكن بعد أن أميط اللثام بأن هذه السينما أقيمت في الموقع الذي كان يحتله نادي (مكابي) الرياضي اليهودي، اتجهت انظار بعض من ينقبون خلف الكواليس إليها حيث لم تكن سينما (كوليزيوم) مجرد مكان للترفيه والمشاهدة قبيل ظهور البث التلفزيوني وانما كانت تعبيراً عن نوع ذلك النسيج الاجتماعي ذو الطابع الغريب ليهود السودان فيما بينهم ومع باقي السودانيين .. فذكر الكاتب مكي أبوقرجة - رحمه الله – في قرأته لكتاب الياهو سلمون ملكا (أبناء يعقوب في بقعة المهدي) أن اليهود أقاموا علاقات واسعة مع السودانيين وتشربوا الحياة الثقافية السودانية وتأثروا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية إلا أنهم ظلوا يهوداً ملتزمين بديانتهم فأقاموا معبداً ونادياً اجتماعياً وأخذوا يتصاهرون في اطار جاليتهم.. وحتى الأجيال الجديدة من اليهود السودانيين التي لم تر ذلك البلد البعيد وعاش معظمها في أوروبا تحمل ذكريات غامضة وحباً مبهماً للسودان ذلك الوطن الذي بات مستحيلاً .. هؤلاء اليهود لم يستطيعوا نسيان السودان ولم تعوضهم إسرائيل عن ذلك الحنين الجارف الذي يلف ارواحهم.
والسؤال الآن، هل من يطالبون – أو على الأقل يؤيدون – التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب هم من بقايا اليهود في السودان، أم أنهم السودانيين الذين عايشوا اليهود ودخلوا معهم في هذا النسيج الاجتماعي؟ أم أنهم من عموم الأجيال المتأخرة في السودان ولم تعد بينهم وبين عهد اليهود في السودان ثمة صلة؟ الشاهد الآن أن المطالبين هم من هذه الفئة الأخيرة، فهل يجوز التطبيع برغم الزعم بالحق التاريخي الذي باسمه أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، والذي باسمه أيضاً حارب العرب هذا الإعلان وقاتلوا اليهود على ذات الأرض؟ .. لنفرد الأمر برمته إذن على طاولة التحليل ..
إذا سألنا عن ثمة حق تاريخي في فلسطين، فلن نجد من لديه حق تاريخي كامل فيها، إن هي إلا أمم وحضارات قد تعاقبت عليها في سير حقب التاريخ إلى وقتنا المعاصر .. فليس للعرب ولا لإسرائيل سواء بسواء حق تاريخي جامع مانع في فلسطين، وإنما هي محض حالة السيادة على الأرض بحسب الدور التاريخي والظرف الحضاري للمنطقة على سنة قول الله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وهذا ليس تأييداً لقيام دولة إسرائيل وإنما إقرار بأمر قد تم وصار واقعاً راهناً وجب علينا التعامل معه .. وإذا سألنا عن المسلمين والإسلام في فلسطين فإنها قد دانت للفتح الإسلامي الذي أتى إليها متأخراً عن أمم الشرق القديم واليهودية والنصرانية، ولهذا فلن يكون السؤال عن الاسلام بالتأكيد من باب أن هناك حق تاريخي له كباقي الدعاوى العرقية أو العنصرية أو القومية وإنما يكون من باب أن الإسلام رسالة إلى البشرية جميعاً وليس تخصيصاً لشعب أو أرض بدعوى حق تاريخي .. لذلك لم تكن حرب سنة 1948م حين اعلان قيام دولة إسرائيل رسمياً حرباً إسلامية وإنما حرباً عروبية .. فلقد أخلى المسلمون مقعد الحق الإسلامي المكتسب بالفتح في فلسطين لصالح الحق العروبي العرقي أو العنصري فلم تعد بذلك حرباً جهادية مقدسة لنصرة دين الله في الأرض وإنما هي لمنح حق مزعوم لقوم عرب قد يتساوون فيه مع أقوام أخر، ناهيك عن أن الأصل العرقي والتاريخي لبقعة فلسطين ليس عربياً صرفاً ولكن تم تعريب لسانهم على نحو ما يمكن لأي انسان أن يتحول إلى عربي بتعريب لسانه .. وناهيك أيضاً عن أنه ربما كان غالب أهل إسرائيل اليهود هم من فئة يهود الشرق (سفارديم) والذين يتحدث اكثرهم العربية كلغة أم، فهم من العرب .. فإذا دعونا إلى حق تاريخي عروبي في فلسطين لاختلط الأمر بينهم وبين اليهود، وبالتالي يتقلص الحق الإسلامي الذي ربما استعمله العروبيين كعامل تبريري مساعد في حربهم ضد اسرائيل وفق هذا المنطق في بضع اثار ومقدسات لا تحتل المرتبة التعبدية العليا للمسلمين بمثل ما يحتله الحرمين الشريفين.
إن الحق العروبي التاريخي المزعوم في فلسطين التي عليها الآن دولة إسرائيل هو سبب ختم جواز السفر السوداني (كل الأقطار عدا اسرائيل) وليس الإسلام هو ما منع ذلك .. إذ أن حرب 48 جاءت متأخرة عقب انهيار الخلافة الإسلامية بخمس وعشرين سنة، وكان الاعداد وقتها لثورة القومية العربية التي تحققت في عام 1952م .. لقد فتح المسلمون بلاد الدنيا حتى دان لهم ثلث العالم تحت راية واحدة عندما اسقطوا دعاوى القومية والعرقية والعنصرية ولم يلتفتوا للحقوق التاريخية، تلك الراية التي فقدها المسلمون تباعاً حتى سلموا آخر مفتاح فيها بعزل السلطان عبد الحميد، ولسنا هنا بصدد شرح أسباب ذلك وانما حسبنا أن نأخذ النتيجة الواقعية. إذن فقد عادت كل ولايات الخلافة الإسلامية لعظمى الى سابق عهدها كأمم وشعوب منفصلة بعضها عن بعض كدول ذات سيادة مستقلة .. فنحن المسلمون إذن من أخلينا مقاعدنا وفرطنا في رايتنا والأمة الواحدة الممتدة بكاملها وليس فقط أرض فلسطين عندما طالبنا بالحق التاريخي، فما المسوغ إذن أن نطالب الآن بجزء معين دون الكل؟ .. وحتى إن صح ذلك فالأولى بحق المطالبة هو الأندلس والقسطنطينية واسطنبول القديمة، ناهيك عن أننا كنا طوال الفترة الماضية لا نحارب دولة إسرائيل من أجل حق الإسلام بل لحق العروبة، والفرق كبير .. فلربما لو أننا حكمنا الإسلام في الوضع الراهن والذي ليس فيه مقاتلة مباشرة لحكم علينا بحكم الله في القرآن الكريم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). فنحن الآن لسنا في مقام الفتح العسكري وإنما القدرة السياسية، وهذه الآية هي الدال على خارطة الفعل السياسي في ظرفنا الراهن في ظل الجنوح للسلم، وخاصة أن الفلسطينيين هم بدورهم قد رسموا حدود دولتهم باتفاق جزئي مع الكيان الصهيوني واعتراف غالبية دول الأمم المتحدة بها .. وأذكر في زيارة إلى سجن كوبر ضمن وفد اسرة القانون المدني بجامعة القاهرة فرع الخرطوم في العام 1988م وقفت وزميل لي مع الفلسطينيين المحكوم عليهم بالإعدام في قضية تفجير فندق الأكروبول في وسط الخرطوم، وقال لي احد المحكومين بأنهم نفذوا ذلك اعتراضاً على أي توفيق أوضاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين العرب وقال لي نصاً - وكنت أحمل كراساً في يدي - (لو أن هذا الكراس لي وقبلت بإرادتي بأن اتنازل في وقت ما عن نصفه فهل سيحق لي المطالبة به كله مرة أخرى، كذلك هو موقفنا في فلسطين ولم نندم على ما فعلنا) .. كل هذه المواقف وغيرها قد ترتبت على النزاع بين خرافة الحق العروبي التاريخي في الأرض وبأيديولوجيا القومية العربية التي غرستها في المنطقة ثورة يوليو 52 في مصر وأيضاً خرافة الحق اليهودي التاريخي لبني إسرائيل فيها .. في حين أن كل ما هنالك أنها دولة أقيمت على أنقاض دولة ولنا حق التعامل معها ما لم يقم شرط المقاتلة وأن كان قد جنحوا هم للسلم حتى ولو كانوا أشد الناس عداوة لنا.. وأما عن جرائم ومذابح بني صهيون في حق الفلسطينيين في صبرا وشتلا وغزة ودير ياسين وغيرها فلن ننساها كحق جنائي خاص لفلسطين وحق عام للمسلمين كما لن ننسى مذبحة فض اعتصام القيادة العامة على أيدي بني جلدتنا وهو أشد سوءً من ذاك، ومثلها كانت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان وفيتنام، والآن بين أيدينا حرب الإبادة والتهجير في سوريا ومذابح مسلمي الروهينجا في ميانمار، والقائمة طويلة جداً.. فكلها بانتظار أخذ الحق بالقانون والعدالة الدولية دون أن يلغي ذلك استمرارية الدبلوماسية السياسية القائمة على العلاقات بين النظم وإدارة المصالح العامة للشعوب .. فإلى حين أن يأخذ القانون مجراه، وإلى حين أن نطهر بيتنا من الداخل أولاً بالقصاص العادل تظل السياسة والدبلوماسية تأخذ مجراها بما ينفع الناس مع أي دولة في الأرض. والله تعالى غالب على أمره.
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لماذا إذن نحارب إسرائيل؟ .. هل أتى اليهود من خارج فلسطين ابتداء، أم أنهم وجدوا فيها كغيرهم ثم هُجر إليهم المزيد من أنحاء
العالم؟ وهل كان العرب حالة عرقية راسخة على طول تاريخ فلسطين؟ ..
لم يكن ذلك الأثر القابع في منتصف شارع القصر (قديماً، شارع فيكتوريا) بالعاصمة الخرطوم يثير الفضول لدى الدارسين بكونه سينما (كوليزيوم) .. ولكن بعد أن أميط اللثام بأن هذه السينما أقيمت في الموقع الذي كان يحتله نادي (مكابي) الرياضي اليهودي، اتجهت انظار بعض من ينقبون خلف الكواليس إليها حيث لم تكن سينما (كوليزيوم) مجرد مكان للترفيه والمشاهدة قبيل ظهور البث التلفزيوني وانما كانت تعبيراً عن نوع ذلك النسيج الاجتماعي ذو الطابع الغريب ليهود السودان فيما بينهم ومع باقي السودانيين .. فذكر الكاتب مكي أبوقرجة - رحمه الله – في قرأته لكتاب الياهو سلمون ملكا (أبناء يعقوب في بقعة المهدي) أن اليهود أقاموا علاقات واسعة مع السودانيين وتشربوا الحياة الثقافية السودانية وتأثروا بالقيم الاجتماعية والأخلاقية إلا أنهم ظلوا يهوداً ملتزمين بديانتهم فأقاموا معبداً ونادياً اجتماعياً وأخذوا يتصاهرون في اطار جاليتهم.. وحتى الأجيال الجديدة من اليهود السودانيين التي لم تر ذلك البلد البعيد وعاش معظمها في أوروبا تحمل ذكريات غامضة وحباً مبهماً للسودان ذلك الوطن الذي بات مستحيلاً .. هؤلاء اليهود لم يستطيعوا نسيان السودان ولم تعوضهم إسرائيل عن ذلك الحنين الجارف الذي يلف ارواحهم.
والسؤال الآن، هل من يطالبون – أو على الأقل يؤيدون – التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب هم من بقايا اليهود في السودان، أم أنهم السودانيين الذين عايشوا اليهود ودخلوا معهم في هذا النسيج الاجتماعي؟ أم أنهم من عموم الأجيال المتأخرة في السودان ولم تعد بينهم وبين عهد اليهود في السودان ثمة صلة؟ الشاهد الآن أن المطالبين هم من هذه الفئة الأخيرة، فهل يجوز التطبيع برغم الزعم بالحق التاريخي الذي باسمه أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، والذي باسمه أيضاً حارب العرب هذا الإعلان وقاتلوا اليهود على ذات الأرض؟ .. لنفرد الأمر برمته إذن على طاولة التحليل ..
إذا سألنا عن ثمة حق تاريخي في فلسطين، فلن نجد من لديه حق تاريخي كامل فيها، إن هي إلا أمم وحضارات قد تعاقبت عليها في سير حقب التاريخ إلى وقتنا المعاصر .. فليس للعرب ولا لإسرائيل سواء بسواء حق تاريخي جامع مانع في فلسطين، وإنما هي محض حالة السيادة على الأرض بحسب الدور التاريخي والظرف الحضاري للمنطقة على سنة قول الله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وهذا ليس تأييداً لقيام دولة إسرائيل وإنما إقرار بأمر قد تم وصار واقعاً راهناً وجب علينا التعامل معه .. وإذا سألنا عن المسلمين والإسلام في فلسطين فإنها قد دانت للفتح الإسلامي الذي أتى إليها متأخراً عن أمم الشرق القديم واليهودية والنصرانية، ولهذا فلن يكون السؤال عن الاسلام بالتأكيد من باب أن هناك حق تاريخي له كباقي الدعاوى العرقية أو العنصرية أو القومية وإنما يكون من باب أن الإسلام رسالة إلى البشرية جميعاً وليس تخصيصاً لشعب أو أرض بدعوى حق تاريخي .. لذلك لم تكن حرب سنة 1948م حين اعلان قيام دولة إسرائيل رسمياً حرباً إسلامية وإنما حرباً عروبية .. فلقد أخلى المسلمون مقعد الحق الإسلامي المكتسب بالفتح في فلسطين لصالح الحق العروبي العرقي أو العنصري فلم تعد بذلك حرباً جهادية مقدسة لنصرة دين الله في الأرض وإنما هي لمنح حق مزعوم لقوم عرب قد يتساوون فيه مع أقوام أخر، ناهيك عن أن الأصل العرقي والتاريخي لبقعة فلسطين ليس عربياً صرفاً ولكن تم تعريب لسانهم على نحو ما يمكن لأي انسان أن يتحول إلى عربي بتعريب لسانه .. وناهيك أيضاً عن أنه ربما كان غالب أهل إسرائيل اليهود هم من فئة يهود الشرق (سفارديم) والذين يتحدث اكثرهم العربية كلغة أم، فهم من العرب .. فإذا دعونا إلى حق تاريخي عروبي في فلسطين لاختلط الأمر بينهم وبين اليهود، وبالتالي يتقلص الحق الإسلامي الذي ربما استعمله العروبيين كعامل تبريري مساعد في حربهم ضد اسرائيل وفق هذا المنطق في بضع اثار ومقدسات لا تحتل المرتبة التعبدية العليا للمسلمين بمثل ما يحتله الحرمين الشريفين.
إن الحق العروبي التاريخي المزعوم في فلسطين التي عليها الآن دولة إسرائيل هو سبب ختم جواز السفر السوداني (كل الأقطار عدا اسرائيل) وليس الإسلام هو ما منع ذلك .. إذ أن حرب 48 جاءت متأخرة عقب انهيار الخلافة الإسلامية بخمس وعشرين سنة، وكان الاعداد وقتها لثورة القومية العربية التي تحققت في عام 1952م .. لقد فتح المسلمون بلاد الدنيا حتى دان لهم ثلث العالم تحت راية واحدة عندما اسقطوا دعاوى القومية والعرقية والعنصرية ولم يلتفتوا للحقوق التاريخية، تلك الراية التي فقدها المسلمون تباعاً حتى سلموا آخر مفتاح فيها بعزل السلطان عبد الحميد، ولسنا هنا بصدد شرح أسباب ذلك وانما حسبنا أن نأخذ النتيجة الواقعية. إذن فقد عادت كل ولايات الخلافة الإسلامية لعظمى الى سابق عهدها كأمم وشعوب منفصلة بعضها عن بعض كدول ذات سيادة مستقلة .. فنحن المسلمون إذن من أخلينا مقاعدنا وفرطنا في رايتنا والأمة الواحدة الممتدة بكاملها وليس فقط أرض فلسطين عندما طالبنا بالحق التاريخي، فما المسوغ إذن أن نطالب الآن بجزء معين دون الكل؟ .. وحتى إن صح ذلك فالأولى بحق المطالبة هو الأندلس والقسطنطينية واسطنبول القديمة، ناهيك عن أننا كنا طوال الفترة الماضية لا نحارب دولة إسرائيل من أجل حق الإسلام بل لحق العروبة، والفرق كبير .. فلربما لو أننا حكمنا الإسلام في الوضع الراهن والذي ليس فيه مقاتلة مباشرة لحكم علينا بحكم الله في القرآن الكريم (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). فنحن الآن لسنا في مقام الفتح العسكري وإنما القدرة السياسية، وهذه الآية هي الدال على خارطة الفعل السياسي في ظرفنا الراهن في ظل الجنوح للسلم، وخاصة أن الفلسطينيين هم بدورهم قد رسموا حدود دولتهم باتفاق جزئي مع الكيان الصهيوني واعتراف غالبية دول الأمم المتحدة بها .. وأذكر في زيارة إلى سجن كوبر ضمن وفد اسرة القانون المدني بجامعة القاهرة فرع الخرطوم في العام 1988م وقفت وزميل لي مع الفلسطينيين المحكوم عليهم بالإعدام في قضية تفجير فندق الأكروبول في وسط الخرطوم، وقال لي احد المحكومين بأنهم نفذوا ذلك اعتراضاً على أي توفيق أوضاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين العرب وقال لي نصاً - وكنت أحمل كراساً في يدي - (لو أن هذا الكراس لي وقبلت بإرادتي بأن اتنازل في وقت ما عن نصفه فهل سيحق لي المطالبة به كله مرة أخرى، كذلك هو موقفنا في فلسطين ولم نندم على ما فعلنا) .. كل هذه المواقف وغيرها قد ترتبت على النزاع بين خرافة الحق العروبي التاريخي في الأرض وبأيديولوجيا القومية العربية التي غرستها في المنطقة ثورة يوليو 52 في مصر وأيضاً خرافة الحق اليهودي التاريخي لبني إسرائيل فيها .. في حين أن كل ما هنالك أنها دولة أقيمت على أنقاض دولة ولنا حق التعامل معها ما لم يقم شرط المقاتلة وأن كان قد جنحوا هم للسلم حتى ولو كانوا أشد الناس عداوة لنا.. وأما عن جرائم ومذابح بني صهيون في حق الفلسطينيين في صبرا وشتلا وغزة ودير ياسين وغيرها فلن ننساها كحق جنائي خاص لفلسطين وحق عام للمسلمين كما لن ننسى مذبحة فض اعتصام القيادة العامة على أيدي بني جلدتنا وهو أشد سوءً من ذاك، ومثلها كانت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان وفيتنام، والآن بين أيدينا حرب الإبادة والتهجير في سوريا ومذابح مسلمي الروهينجا في ميانمار، والقائمة طويلة جداً.. فكلها بانتظار أخذ الحق بالقانون والعدالة الدولية دون أن يلغي ذلك استمرارية الدبلوماسية السياسية القائمة على العلاقات بين النظم وإدارة المصالح العامة للشعوب .. فإلى حين أن يأخذ القانون مجراه، وإلى حين أن نطهر بيتنا من الداخل أولاً بالقصاص العادل تظل السياسة والدبلوماسية تأخذ مجراها بما ينفع الناس مع أي دولة في الأرض. والله تعالى غالب على أمره.
حرب التقديس
حرب التقديس ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
(ما جعل المؤرخون لا يفتأون من ذكر (كوبرنيكوس) ؟ وهل كان لهم أن يفعلوا لولا تمرده على قدسية مركزية اﻷرض التي باتت عند الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من تعاليم الدين ... ؟ ما الذي جعل مؤرخي الفلسفة الحديثة يؤرخون بدايتها بكتاب (ديكارت) (المقال في المنهج) ؟ أكان لذلك العصر أن يبدأ ب (ديكارت) لولا أنه – إبان شكه – قد رفض كل المعتقدات التي غبر بنو زمانه على تقديسها ؟ أي تطور كان من شأن أعراب الجاهلية إحداثه لو لم يكن قد قدر للمصطفى صل الله عليه وسلم أن يخلصهم من اﻷوثان التي أخلصوا في عبادتها ؟) هذه أسئلة عن حالة تقديس المقدس طرحها (نجيب الحصادي) في كتابه (جدلية اﻷنا – اﻵخر) .. وعلينا نحن اﻷن أن نطرح أسئلة جديدة ..
فلقد كان الطامحون إلى القبضة القابضة على شعوبهم يلعبون على هذا الوتر (تقديس المقدس) ، فإذا نطقوا على المنابر سكت عامة الناس .. فهل كل ما نطق به الطامحون هو الحق . لقد أعدم (سقراط) الاغريقي بشرب السم ﻷنه هتك التقديس المسلم به بعماء لدى أبناء مجتمعه ورهابنة معابدهم بكثرة سؤاله عن الحق والحقيقة، وقد كانت غايته أنك إن أرت أن تقدس شيئاً فقدسه بوعي وعلى اتجاه الحقيقة وليس بمحض ما تهوى نفسك .. وفي العصور الوسطى في أوروبا نصبت المشانق والمقاصل والمحارق والمسالخ وصناديق المسامير ﻷجل كل من خالف ليس الدين بل ما أراده كهنة الدين على مقولة (فرعون) اللعين (إن أريكم إلا ما أرى) .. وكذا الشيء في العهد العثماني للخلافة اﻹسلامية حيث كانت الخوازيق الثاقبة والمناشير ربما هي أهون أنواع العذاب هناك .. فهل كل هذا الويل الذي أذاقه البشر للبشر على مر التاريخ غيرة على المقدسات ورعاية لحرمتها أم أن هناك ما هو مختبئ وراء اﻷكمة ، فأنفس اﻷمارون بالقتل والتعذيب في كل العصور عطشى إلى السلطة وحظ الجاه والنفوذ على أقوامهم ، فباسم المقدس لديهم يقتلون وما يقتلون إلا لهوى أنفسهم ، ومن ورائهم كهنة المقدس يزينون لأعينهم سوء الفعال بأنه من رضى الرب وهم يحلمون بمجد الدنيا وعزها وليس مجد السماء ، فصاروا تماماً كمن جمع أهل الدار في حديقتهم جبراً ليلقي عليهم موعظة أخلاقية باسم ما يقدسون بغير وعي وهو يرسل رجاله خفية يدخلون إلى الدار من الفناء الخلفي لسرقة أموالهم .. فكذلك يحكم قاضي السلطان على اﻷسير لديه في الظاهر بجرم انتهاك حرمة التقديس وهو في قرارة نفسه يريد منعه من البلوغ إلى نفوذه أو منازعته سلطانه .. إن المشكلة حقيقة ليست في المقدس كما أنها ليست في التقديس فبغير التقديس للمقدس لا يعيش اﻹنسان سوياً مطمئناً ، وإنما المشكلة في طريقة التقديس والاتجاه فيه على العماء بغير بصر ولا بصيرة ولا استدلال راجح على حقائق اﻷمور في ظواهرها وبواطنها ، فيأتي من لا يرعى في الناس حرمة لدماء واعراض إلا من والاه ليحكم فيهم بزعم أنه أمر المقدس ولكنه في الحقيقة أمره هو .. فينبغي إذن أن ننظر إلى من يتحدث قبل أن ننظر فيما يتحدث .
والسؤال اﻵن .. هل أعدم (الحلاج) بسبب الردة فعلاً ، أم لأنه قد صار تأثيره السياسي مداً طاغياً وكان لابد لأصحاب السلطة آنذاك الحد منه لذا كانت التهمة الدينية في الظاهر مجرد حيلة لقتله وسبباً كافياً أمام الناس بأنه قد تطاول على المقدس .. وفي الباطن ، قصدوا إلى إيقاف مده السياسي ولذلك قطعوه ومثلوا بجثته، فهل هذه هي طريقة الإسلام في الإعدام ؟ .. وفي السودان يتحدث التاريخ القريب عن (حلاج) جديد .. وبرغم أننا والكثيرون لم نرضى منه يوماً ما استحدثه برأيه في أصول عقيدتنا اﻹسلامية ، إلا أننا كنا نعتبر أن هذا خاصته واتباعه من غير سوء على عموم الناس وليس لنا عليه إلا الحجة والبرهان بجانب لين المعاملة، فالضرر غير المتعدي خاصة صاحبه .. تماماً كما يزعم فلاسفة الصوفية أن اﻹنسان غير مؤاخذ بما يقول في (حال المحو) وإنما يحاسب فقط بأقواله في (حال الصحو) وقول (الحلاج) في السياسة كان في حال الصحو ولكنه أخذ بجريرة قوله في حال المحو .. وهذا هو (محمود محمد طه) حلاج بلادنا الجديد ، قتلوه في عهد الرئيس (النميري) فهل كانت قتلته ﻷجل الانتصار للعقيدة ولأنه مرتد حقيقة ، أم أنها ﻷجل شيء كان في نفس من قتلوه ؟ فمن هم الذين قتلوه؟
.. (محمود محمد طه) لم يرتد عن الدين لأنه كان يشهد حتى آخر لحظة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله .. ولكن المطلع على فكره ربما يجده قد احدث ببعض مزاعمه خللا في بعض جوانب العقيدة لديه ولدى اتباعه ، وهو في كل الاحوال قد يكون اهون كثيرا من حادثات الملحدين والدهريين والصوفية الشاطحين في العقيدة ورغم ذلك لم يتم اعلانهم مرتدين . هذا ناهيك عن التكفيريين والدواعش الذين يهدرون دماء المسلمين الأبرياء بعقيدة فاسدة .. فلماذا (محمود محمد طه) ؟ ولعل الاجابة بنحو ما يلي :
1/ ان جعفر نميري لم يعلن تطبيق الشريعة في سبتمبر 1983م الا بعد اشراك عناصر الجبهة القومية الاسلامية في الأمر.
2/ المد السياسي الذي كان يقوده الحزب الجمهوري – وهو حزب سياسي في الأساس - بقيادة (محمود محمد طه) كان من أكبر المهددات بإزاحة الجبهة الاسلامية القومية عن المشهد السياسي آنذاك . ولذلك كان لابد من صياغة التهمة بحيث تكون مقنعة للرئيس (النميري) ومقنعة لعموم الشعب السوداني انها لسبب ديني صرف وليس سياسي ، ومن لم يقتنع كان عليه يلتزم الصمت كرهاً .
3/ شهد عصر إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية بقوانين سبتمبر تطبيقا منحرفا وخاطئا للشريعة الاسلامية بنحو تطبيق الكنيسة الكاثوليكية لشرائعها على المجتمع في عهود الظلام في أوروبا . مما يدل على أن الهدف لم يكن هو تحقيق الدين والحكم الراشد كما تم على عهد (عمر بن عبد العزيز) وانما الهدف هو التمكين السياسي بظاهر الدين وبجعل نصوص القانون متعسفة بغرض الردع العام والتخويف الشديد وفرق تسد وهو ما ينافي مقاصد التشريع الاسلامي العظيم في جوهرها ، فكانت الحدود بقطع الأيدي والأرجل من خلاف على أشدها في وقت بلغت فيه المجاعة في السودان واغلب أفريقيا حداً فتاكاً بمجتمعات بأكملها إلى الدرجة التي غنى معها العالم (we are the world) حتى يجمعوا قدراً عظيماً من المال من اجل إغاثة من يموتون جوعاً في افريقيا ، وكان حرياً بقادة المسلمين أن يفعلوا .. ولكن على العكس ، لم يشفع الجوع لمن سرق في قطع يديه ، فلعل القضاة آنذاك ظنوا بأنفسهم العدل فوق عدل (عمر بن الخطاب) الذي عطل تطبيق الحدود في عام الرمادة . ولذلك لم يكن بمستغرب أن يتم القضاء على الخصومة السياسية مع (الجمهوريين) بإعدام زعيمهم بسبب ديني لا سواه .
وهكذا لم يقع الظلم والقهر باسم الشريعة الاسلامية على (محمود محمد طه) وعصبته فحسب حتى نقول بأنه الحق وأن الحق لا يتجزأ .. وانما وقع الظلم والقهر على بسطاء بلادي ، ولم يكن هذا إلا لأجل التمكين السياسي ، ودائماً يجيء التمكين السياسي مقروناً بالتعسف في تطبيق الأحكام والشرائع دون انزال كل حالة مقامها ، فما هو (ارتداد) ليس كما هو (الحاد) ليس كما هو (خرق في العقيدة مع الاحتفاظ بأصل الدين) . وليس ثمة حل لمقاومة حروب التقديس التي يشنها إما الساسة لمآربهم السلطوية وإما المتشددين المتعصبين لما يحسبونه قيمة شخصية لهم بغيرها لا معنى لحياتهم ، إلا بالوعي والتوعية بحقيقة الدين ومقاصده وانه لا مقدس إلا ما اراداه الله تعالى مقدساً .. فليس الحل في المروق من الدين جملة إذا ما عاث به وتحت اسمه الساسة فسادا وظلماً، وانما الحل بإقامة الحجة والبرهان عليهم بالعقيدة السليمة ورفض استغلال الناس بدافع تقديس المقدس .
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
(ما جعل المؤرخون لا يفتأون من ذكر (كوبرنيكوس) ؟ وهل كان لهم أن يفعلوا لولا تمرده على قدسية مركزية اﻷرض التي باتت عند الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من تعاليم الدين ... ؟ ما الذي جعل مؤرخي الفلسفة الحديثة يؤرخون بدايتها بكتاب (ديكارت) (المقال في المنهج) ؟ أكان لذلك العصر أن يبدأ ب (ديكارت) لولا أنه – إبان شكه – قد رفض كل المعتقدات التي غبر بنو زمانه على تقديسها ؟ أي تطور كان من شأن أعراب الجاهلية إحداثه لو لم يكن قد قدر للمصطفى صل الله عليه وسلم أن يخلصهم من اﻷوثان التي أخلصوا في عبادتها ؟) هذه أسئلة عن حالة تقديس المقدس طرحها (نجيب الحصادي) في كتابه (جدلية اﻷنا – اﻵخر) .. وعلينا نحن اﻷن أن نطرح أسئلة جديدة ..
فلقد كان الطامحون إلى القبضة القابضة على شعوبهم يلعبون على هذا الوتر (تقديس المقدس) ، فإذا نطقوا على المنابر سكت عامة الناس .. فهل كل ما نطق به الطامحون هو الحق . لقد أعدم (سقراط) الاغريقي بشرب السم ﻷنه هتك التقديس المسلم به بعماء لدى أبناء مجتمعه ورهابنة معابدهم بكثرة سؤاله عن الحق والحقيقة، وقد كانت غايته أنك إن أرت أن تقدس شيئاً فقدسه بوعي وعلى اتجاه الحقيقة وليس بمحض ما تهوى نفسك .. وفي العصور الوسطى في أوروبا نصبت المشانق والمقاصل والمحارق والمسالخ وصناديق المسامير ﻷجل كل من خالف ليس الدين بل ما أراده كهنة الدين على مقولة (فرعون) اللعين (إن أريكم إلا ما أرى) .. وكذا الشيء في العهد العثماني للخلافة اﻹسلامية حيث كانت الخوازيق الثاقبة والمناشير ربما هي أهون أنواع العذاب هناك .. فهل كل هذا الويل الذي أذاقه البشر للبشر على مر التاريخ غيرة على المقدسات ورعاية لحرمتها أم أن هناك ما هو مختبئ وراء اﻷكمة ، فأنفس اﻷمارون بالقتل والتعذيب في كل العصور عطشى إلى السلطة وحظ الجاه والنفوذ على أقوامهم ، فباسم المقدس لديهم يقتلون وما يقتلون إلا لهوى أنفسهم ، ومن ورائهم كهنة المقدس يزينون لأعينهم سوء الفعال بأنه من رضى الرب وهم يحلمون بمجد الدنيا وعزها وليس مجد السماء ، فصاروا تماماً كمن جمع أهل الدار في حديقتهم جبراً ليلقي عليهم موعظة أخلاقية باسم ما يقدسون بغير وعي وهو يرسل رجاله خفية يدخلون إلى الدار من الفناء الخلفي لسرقة أموالهم .. فكذلك يحكم قاضي السلطان على اﻷسير لديه في الظاهر بجرم انتهاك حرمة التقديس وهو في قرارة نفسه يريد منعه من البلوغ إلى نفوذه أو منازعته سلطانه .. إن المشكلة حقيقة ليست في المقدس كما أنها ليست في التقديس فبغير التقديس للمقدس لا يعيش اﻹنسان سوياً مطمئناً ، وإنما المشكلة في طريقة التقديس والاتجاه فيه على العماء بغير بصر ولا بصيرة ولا استدلال راجح على حقائق اﻷمور في ظواهرها وبواطنها ، فيأتي من لا يرعى في الناس حرمة لدماء واعراض إلا من والاه ليحكم فيهم بزعم أنه أمر المقدس ولكنه في الحقيقة أمره هو .. فينبغي إذن أن ننظر إلى من يتحدث قبل أن ننظر فيما يتحدث .
والسؤال اﻵن .. هل أعدم (الحلاج) بسبب الردة فعلاً ، أم لأنه قد صار تأثيره السياسي مداً طاغياً وكان لابد لأصحاب السلطة آنذاك الحد منه لذا كانت التهمة الدينية في الظاهر مجرد حيلة لقتله وسبباً كافياً أمام الناس بأنه قد تطاول على المقدس .. وفي الباطن ، قصدوا إلى إيقاف مده السياسي ولذلك قطعوه ومثلوا بجثته، فهل هذه هي طريقة الإسلام في الإعدام ؟ .. وفي السودان يتحدث التاريخ القريب عن (حلاج) جديد .. وبرغم أننا والكثيرون لم نرضى منه يوماً ما استحدثه برأيه في أصول عقيدتنا اﻹسلامية ، إلا أننا كنا نعتبر أن هذا خاصته واتباعه من غير سوء على عموم الناس وليس لنا عليه إلا الحجة والبرهان بجانب لين المعاملة، فالضرر غير المتعدي خاصة صاحبه .. تماماً كما يزعم فلاسفة الصوفية أن اﻹنسان غير مؤاخذ بما يقول في (حال المحو) وإنما يحاسب فقط بأقواله في (حال الصحو) وقول (الحلاج) في السياسة كان في حال الصحو ولكنه أخذ بجريرة قوله في حال المحو .. وهذا هو (محمود محمد طه) حلاج بلادنا الجديد ، قتلوه في عهد الرئيس (النميري) فهل كانت قتلته ﻷجل الانتصار للعقيدة ولأنه مرتد حقيقة ، أم أنها ﻷجل شيء كان في نفس من قتلوه ؟ فمن هم الذين قتلوه؟
.. (محمود محمد طه) لم يرتد عن الدين لأنه كان يشهد حتى آخر لحظة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله .. ولكن المطلع على فكره ربما يجده قد احدث ببعض مزاعمه خللا في بعض جوانب العقيدة لديه ولدى اتباعه ، وهو في كل الاحوال قد يكون اهون كثيرا من حادثات الملحدين والدهريين والصوفية الشاطحين في العقيدة ورغم ذلك لم يتم اعلانهم مرتدين . هذا ناهيك عن التكفيريين والدواعش الذين يهدرون دماء المسلمين الأبرياء بعقيدة فاسدة .. فلماذا (محمود محمد طه) ؟ ولعل الاجابة بنحو ما يلي :
1/ ان جعفر نميري لم يعلن تطبيق الشريعة في سبتمبر 1983م الا بعد اشراك عناصر الجبهة القومية الاسلامية في الأمر.
2/ المد السياسي الذي كان يقوده الحزب الجمهوري – وهو حزب سياسي في الأساس - بقيادة (محمود محمد طه) كان من أكبر المهددات بإزاحة الجبهة الاسلامية القومية عن المشهد السياسي آنذاك . ولذلك كان لابد من صياغة التهمة بحيث تكون مقنعة للرئيس (النميري) ومقنعة لعموم الشعب السوداني انها لسبب ديني صرف وليس سياسي ، ومن لم يقتنع كان عليه يلتزم الصمت كرهاً .
3/ شهد عصر إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية بقوانين سبتمبر تطبيقا منحرفا وخاطئا للشريعة الاسلامية بنحو تطبيق الكنيسة الكاثوليكية لشرائعها على المجتمع في عهود الظلام في أوروبا . مما يدل على أن الهدف لم يكن هو تحقيق الدين والحكم الراشد كما تم على عهد (عمر بن عبد العزيز) وانما الهدف هو التمكين السياسي بظاهر الدين وبجعل نصوص القانون متعسفة بغرض الردع العام والتخويف الشديد وفرق تسد وهو ما ينافي مقاصد التشريع الاسلامي العظيم في جوهرها ، فكانت الحدود بقطع الأيدي والأرجل من خلاف على أشدها في وقت بلغت فيه المجاعة في السودان واغلب أفريقيا حداً فتاكاً بمجتمعات بأكملها إلى الدرجة التي غنى معها العالم (we are the world) حتى يجمعوا قدراً عظيماً من المال من اجل إغاثة من يموتون جوعاً في افريقيا ، وكان حرياً بقادة المسلمين أن يفعلوا .. ولكن على العكس ، لم يشفع الجوع لمن سرق في قطع يديه ، فلعل القضاة آنذاك ظنوا بأنفسهم العدل فوق عدل (عمر بن الخطاب) الذي عطل تطبيق الحدود في عام الرمادة . ولذلك لم يكن بمستغرب أن يتم القضاء على الخصومة السياسية مع (الجمهوريين) بإعدام زعيمهم بسبب ديني لا سواه .
وهكذا لم يقع الظلم والقهر باسم الشريعة الاسلامية على (محمود محمد طه) وعصبته فحسب حتى نقول بأنه الحق وأن الحق لا يتجزأ .. وانما وقع الظلم والقهر على بسطاء بلادي ، ولم يكن هذا إلا لأجل التمكين السياسي ، ودائماً يجيء التمكين السياسي مقروناً بالتعسف في تطبيق الأحكام والشرائع دون انزال كل حالة مقامها ، فما هو (ارتداد) ليس كما هو (الحاد) ليس كما هو (خرق في العقيدة مع الاحتفاظ بأصل الدين) . وليس ثمة حل لمقاومة حروب التقديس التي يشنها إما الساسة لمآربهم السلطوية وإما المتشددين المتعصبين لما يحسبونه قيمة شخصية لهم بغيرها لا معنى لحياتهم ، إلا بالوعي والتوعية بحقيقة الدين ومقاصده وانه لا مقدس إلا ما اراداه الله تعالى مقدساً .. فليس الحل في المروق من الدين جملة إذا ما عاث به وتحت اسمه الساسة فسادا وظلماً، وانما الحل بإقامة الحجة والبرهان عليهم بالعقيدة السليمة ورفض استغلال الناس بدافع تقديس المقدس .
اغريق السودان
اغريق السودان ..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
عندما تتفتح ازهار أشجار النيم في مطلع صيف كل عام في الخرطوم ، تبعث رائحتها رسائل الذكريات ، فتثير الشجون وتزيد الحنين إلى أيام قد خلت ..
وفي أيام قد خلت .. اثرى تاريخنا الانساني رجال ونساء من نبت هذا الوطن ، فلم نسجل ولم ندون عنهم شيئا كما هم يستحقون وكما هي أهمية عطائهم وما يقدمون ولم تمتلئ صفحات الجرائد كل صباح وقنوات التلفاز كل مساء بأخبارهم ومآثرهم .. فان كان هذا هو حالنا مع أبناء الوطن ، فما بالنا بأبناء الجاليات الذين وفدوا إلى السودان واستوطنوا فيه ثم تفاعلوا مع حياتنا الثقافية ومظاهر شخصية مجتمعنا العقلية وعاشوا معنا في احيائنا وقرانا ومدننا كما نحن نعيش فكانوا هم الانجليز واﻷرمن والاغريق واليهود واخرين غيرهم ..
على هذا كان اللقاء مع الاستاذ (الحاج محمد اﻷمين) صاحب (مكتبة النيل) العريقة وهو رجل من رجال هذا الوطن المخلصين ، حمل في رأسه ووجدانه تاريخاً عظيماً ليوميات شخصيات وطنية بارزة واعلام من الجاليات التي كانت مؤثرة في حركة الواقع السوداني .. فلقد قامت مكتبته الانيقة في شارع شهير بحي من أحياء الخرطوم القديمة والمهمة والتي قطنها بأعداد كبيرة احفاد (طاليس) و(ارسطو) من اليونانيين واجناس اخرى من عموم الاوروبيين ممن جلبتهم اقدارهم للحياة في السودان ، فصاروا جزءا لا يتجزأ من تاريخنا الثقافي والاجتماعي .. ولان (الحاج) كان قد تنقل بين منارات الثقافة في الخرطوم منذ أيام شبابه إلى أن أسس (مكتبة النيل) ، ولان الكثيرين من أبناء الجاليات الاجنبية كانوا يرتادون مكتبته ، فقد علم عن اخبارهم غير يسير .. فتكلم في لقائنا بعفو الخاطر عنهم فأبان عن كثير وما خفي عنا لديه كان اعظم .. تحدث عن اليونانيين الذين كانت لهم بصمات غائرة في مجتمعنا السوداني امتزج فيها ما هو اقتصادي وما هو سياسي وما هو ثقافي .. تحدث عن اصول وايجارات الجالية اليونانية وكيف أن عائداتهم منها كانت تذهب لدعم ورعاية الجنوبيين الابناء ﻷم يونانية أو أب يوناني ، فحمل كلامه اشارات الى حالة اجتماعية فريدة ومهمة لم نسلط عليها الضوء بما يكفي وهي علاقة التداخل الاجتماعي بين اليونانيين واهلنا الجنوبيين فلابد انه كان لهذا التفاعل الحضاري اثر في عموم واقع الحياة الاجتماعية السودانية .. وصحيح أن اليونانيين كانوا هم امراء الاقتصاد السوداني في وقت ما وان من يدير عجلة الاقتصاد غالبا ما يدير معها حركة الثقافة ، الا اننا لم نهتم بالتوثيق للجانب الثقافي كما الجانب الاقتصادي لهؤلاء .. ولعل مما دل على ارتباط الاثر الثقافي بالمحرك الاقتصادي ما ورد في كلام (الحاج) عن رجل الاقتصاد اليوناني الاول في السودان ( كونتا ميخالوس) واسهامه في تأسيس ما عرفت اليوم بجامعة الاحفاد حيث مازالت ملامحه معلقة هناك على جدرانها الاثرية وكما نحت اسمه على واجهة مبنى الجالية اليونانية في وسط الخرطوم ..
وفي المقابل .. تحدث (الحاج) بمرارة عن اغلاق مكتبة (سنترال بوكشب) والتي كانت في نفس تلك البناية المملوكة للجالية اليونانية على شارع الجمهورية ، لذلك لاقت نفس المصير الذي لاقته مكتبة (مروي بوكشب) والتي كانت تقع على الواجهة الاخرى من المبنى على شارع البرلمان العريق .. واذكر كيف كانت (سنترال بوكشب) من ابرز المكتبات الثقافية في الخرطوم وكانت تديرها سيدة يونانية طاعنة في السن ومعها زوجها حتى بدايات التسعينات من القرن الماضي ، وبعد وفاتهما آل امرها الى (الحاج) الذي حفظ هذا التراث الثقافي بنفس طابعه مع التوسع والتطوير .. فماذا ومن كان السبب وراء هذا المصير المؤلم لهذه المؤسسات الثقافية وغيرها والتي كانت جزءا من تراثنا (مكتبات السودان والخرطوم ومروي وسنترال ، سينما كوليزيوم ، مركز اتينيه التراثي .. وكثير من المطاعم والمقاهي) .. ان هناك من تسلط على تلك الاصول والعقارات والمحال وانتزعها من يد مستأجريها برفع قيمة الايجار الى الدرجة التي تتجاوز بعيدا حدود ما يطيقون .. لقد تسلط هذا الشخص السوداني والذي يبدو انه متزوج من يونانية حتى على مباني الجالية والقنصلية اليونانية لينشئ فيها مدرسة دولية باهظة التكاليف وبأغراض ربحية صرف .. ولكي يتمكن من فعل ذلك اخاف ابناء الجالية بشيء ذي قوة وبأس شديد ، حيث ان الشبهة في ذلك ان له ثمة علاقة وثيقة بجهاز امن النظام البائد ومعلوم ما كان من فساد هذا الجهاز .. لقد ترك اليونانيين ديارهم ومبنى جاليتهم وقنصليتهم بنحو اقرب الى الفرار وتركوا كل شيء فيها على حاله ورحلوا مع كثير من علامات الاستفهام .. ومن قبل ذلك امسك اليونانيين عن بناء برج استثماري كان مخطط له على احدى املاكهم في وسط الخرطوم خوفا من ضياع حقوقهم في ظل نظام لم يرعى حرمة قانونية للناس وممتلكاتهم .. لقد سرد (الحاج) كيف عشق كثير من هؤلاء اليونانيين وغيرهم السودان وضرب الحنين قلوبهم الينا الى درجة انه كان منهم من يحضرون من اثينا الى الخرطوم لإحياء احتفالاتهم برأس السنة الميلادية بنواديهم فيها .. وليس في الامر سر اذ ان كل الناس ينشدون المكان الذي يجدون فيه طيب المعشر والاخاء الانساني المفقود في كثير من مجتمعات الارض وبلدانها .. وليس غريبا ان بكى على يدينا الكابتن (بانو تريزيس) في وداعه الاخير لنا عندما اضطر للرحيل الى مهجره في بريطانيا بعدما بلغ من العمر عتيا عاش جله في السودان ثم مات في مهجره الجديد غريبا .. وان كان (بانو تريزيس) له فضل تربية على كثير من فتيان الكشافة السودانيين حتى اخريات الثمانينات بكونه من اعظم القادة الذين اسسوا للكشافة السودانية تشهد عليه اراضي التخييم ونيران المعسكرات ، فان (وليم الكسندر ميلر) الايرلندي كان له فضل علم غزير على اجيال من الطلاب بجامعة الخرطوم منذ الستينات وحتى اوان رحيله مكرها عن السودان في النصف الاخير من العقد الاول للألفية الراهنة ، وهو ايضا ودع السودان ورحل باكيا ، وكثيرون امثالهم .. فترى كم بعدهم وقبلهم من رحلوا بحزة النفس والاسى لتركهم ذكريات اعمارهم على تراب هذا الوطن .. وترى هل من راد في عهدنا الجديد هذا لحقوقهم الادبية والمادية .. وقبل ذلك هل من موثق لتاريخهم وتاريخ بلادنا معهم ويجمع من صدور الرجال علومهم واخبارهم .. ان استاذنا (الحاج محمد الامين) حفظه الله ، هو بذاته وثيقة تاريخية بما حمل في عقله وبما حملته جدران مكتباته من شهادة على حياتنا الثقافية وحياة أولئك الذين عاشوا بيننا .. وكم هم كثيرون مثله ولكن صحافتنا ومصادر معلوماتنا جهلت عنهم .
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
عندما تتفتح ازهار أشجار النيم في مطلع صيف كل عام في الخرطوم ، تبعث رائحتها رسائل الذكريات ، فتثير الشجون وتزيد الحنين إلى أيام قد خلت ..
وفي أيام قد خلت .. اثرى تاريخنا الانساني رجال ونساء من نبت هذا الوطن ، فلم نسجل ولم ندون عنهم شيئا كما هم يستحقون وكما هي أهمية عطائهم وما يقدمون ولم تمتلئ صفحات الجرائد كل صباح وقنوات التلفاز كل مساء بأخبارهم ومآثرهم .. فان كان هذا هو حالنا مع أبناء الوطن ، فما بالنا بأبناء الجاليات الذين وفدوا إلى السودان واستوطنوا فيه ثم تفاعلوا مع حياتنا الثقافية ومظاهر شخصية مجتمعنا العقلية وعاشوا معنا في احيائنا وقرانا ومدننا كما نحن نعيش فكانوا هم الانجليز واﻷرمن والاغريق واليهود واخرين غيرهم ..
على هذا كان اللقاء مع الاستاذ (الحاج محمد اﻷمين) صاحب (مكتبة النيل) العريقة وهو رجل من رجال هذا الوطن المخلصين ، حمل في رأسه ووجدانه تاريخاً عظيماً ليوميات شخصيات وطنية بارزة واعلام من الجاليات التي كانت مؤثرة في حركة الواقع السوداني .. فلقد قامت مكتبته الانيقة في شارع شهير بحي من أحياء الخرطوم القديمة والمهمة والتي قطنها بأعداد كبيرة احفاد (طاليس) و(ارسطو) من اليونانيين واجناس اخرى من عموم الاوروبيين ممن جلبتهم اقدارهم للحياة في السودان ، فصاروا جزءا لا يتجزأ من تاريخنا الثقافي والاجتماعي .. ولان (الحاج) كان قد تنقل بين منارات الثقافة في الخرطوم منذ أيام شبابه إلى أن أسس (مكتبة النيل) ، ولان الكثيرين من أبناء الجاليات الاجنبية كانوا يرتادون مكتبته ، فقد علم عن اخبارهم غير يسير .. فتكلم في لقائنا بعفو الخاطر عنهم فأبان عن كثير وما خفي عنا لديه كان اعظم .. تحدث عن اليونانيين الذين كانت لهم بصمات غائرة في مجتمعنا السوداني امتزج فيها ما هو اقتصادي وما هو سياسي وما هو ثقافي .. تحدث عن اصول وايجارات الجالية اليونانية وكيف أن عائداتهم منها كانت تذهب لدعم ورعاية الجنوبيين الابناء ﻷم يونانية أو أب يوناني ، فحمل كلامه اشارات الى حالة اجتماعية فريدة ومهمة لم نسلط عليها الضوء بما يكفي وهي علاقة التداخل الاجتماعي بين اليونانيين واهلنا الجنوبيين فلابد انه كان لهذا التفاعل الحضاري اثر في عموم واقع الحياة الاجتماعية السودانية .. وصحيح أن اليونانيين كانوا هم امراء الاقتصاد السوداني في وقت ما وان من يدير عجلة الاقتصاد غالبا ما يدير معها حركة الثقافة ، الا اننا لم نهتم بالتوثيق للجانب الثقافي كما الجانب الاقتصادي لهؤلاء .. ولعل مما دل على ارتباط الاثر الثقافي بالمحرك الاقتصادي ما ورد في كلام (الحاج) عن رجل الاقتصاد اليوناني الاول في السودان ( كونتا ميخالوس) واسهامه في تأسيس ما عرفت اليوم بجامعة الاحفاد حيث مازالت ملامحه معلقة هناك على جدرانها الاثرية وكما نحت اسمه على واجهة مبنى الجالية اليونانية في وسط الخرطوم ..
وفي المقابل .. تحدث (الحاج) بمرارة عن اغلاق مكتبة (سنترال بوكشب) والتي كانت في نفس تلك البناية المملوكة للجالية اليونانية على شارع الجمهورية ، لذلك لاقت نفس المصير الذي لاقته مكتبة (مروي بوكشب) والتي كانت تقع على الواجهة الاخرى من المبنى على شارع البرلمان العريق .. واذكر كيف كانت (سنترال بوكشب) من ابرز المكتبات الثقافية في الخرطوم وكانت تديرها سيدة يونانية طاعنة في السن ومعها زوجها حتى بدايات التسعينات من القرن الماضي ، وبعد وفاتهما آل امرها الى (الحاج) الذي حفظ هذا التراث الثقافي بنفس طابعه مع التوسع والتطوير .. فماذا ومن كان السبب وراء هذا المصير المؤلم لهذه المؤسسات الثقافية وغيرها والتي كانت جزءا من تراثنا (مكتبات السودان والخرطوم ومروي وسنترال ، سينما كوليزيوم ، مركز اتينيه التراثي .. وكثير من المطاعم والمقاهي) .. ان هناك من تسلط على تلك الاصول والعقارات والمحال وانتزعها من يد مستأجريها برفع قيمة الايجار الى الدرجة التي تتجاوز بعيدا حدود ما يطيقون .. لقد تسلط هذا الشخص السوداني والذي يبدو انه متزوج من يونانية حتى على مباني الجالية والقنصلية اليونانية لينشئ فيها مدرسة دولية باهظة التكاليف وبأغراض ربحية صرف .. ولكي يتمكن من فعل ذلك اخاف ابناء الجالية بشيء ذي قوة وبأس شديد ، حيث ان الشبهة في ذلك ان له ثمة علاقة وثيقة بجهاز امن النظام البائد ومعلوم ما كان من فساد هذا الجهاز .. لقد ترك اليونانيين ديارهم ومبنى جاليتهم وقنصليتهم بنحو اقرب الى الفرار وتركوا كل شيء فيها على حاله ورحلوا مع كثير من علامات الاستفهام .. ومن قبل ذلك امسك اليونانيين عن بناء برج استثماري كان مخطط له على احدى املاكهم في وسط الخرطوم خوفا من ضياع حقوقهم في ظل نظام لم يرعى حرمة قانونية للناس وممتلكاتهم .. لقد سرد (الحاج) كيف عشق كثير من هؤلاء اليونانيين وغيرهم السودان وضرب الحنين قلوبهم الينا الى درجة انه كان منهم من يحضرون من اثينا الى الخرطوم لإحياء احتفالاتهم برأس السنة الميلادية بنواديهم فيها .. وليس في الامر سر اذ ان كل الناس ينشدون المكان الذي يجدون فيه طيب المعشر والاخاء الانساني المفقود في كثير من مجتمعات الارض وبلدانها .. وليس غريبا ان بكى على يدينا الكابتن (بانو تريزيس) في وداعه الاخير لنا عندما اضطر للرحيل الى مهجره في بريطانيا بعدما بلغ من العمر عتيا عاش جله في السودان ثم مات في مهجره الجديد غريبا .. وان كان (بانو تريزيس) له فضل تربية على كثير من فتيان الكشافة السودانيين حتى اخريات الثمانينات بكونه من اعظم القادة الذين اسسوا للكشافة السودانية تشهد عليه اراضي التخييم ونيران المعسكرات ، فان (وليم الكسندر ميلر) الايرلندي كان له فضل علم غزير على اجيال من الطلاب بجامعة الخرطوم منذ الستينات وحتى اوان رحيله مكرها عن السودان في النصف الاخير من العقد الاول للألفية الراهنة ، وهو ايضا ودع السودان ورحل باكيا ، وكثيرون امثالهم .. فترى كم بعدهم وقبلهم من رحلوا بحزة النفس والاسى لتركهم ذكريات اعمارهم على تراب هذا الوطن .. وترى هل من راد في عهدنا الجديد هذا لحقوقهم الادبية والمادية .. وقبل ذلك هل من موثق لتاريخهم وتاريخ بلادنا معهم ويجمع من صدور الرجال علومهم واخبارهم .. ان استاذنا (الحاج محمد الامين) حفظه الله ، هو بذاته وثيقة تاريخية بما حمل في عقله وبما حملته جدران مكتباته من شهادة على حياتنا الثقافية وحياة أولئك الذين عاشوا بيننا .. وكم هم كثيرون مثله ولكن صحافتنا ومصادر معلوماتنا جهلت عنهم .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)