الأربعاء، 2 أكتوبر 2019

ثم ماذا بعد

ثم ماذا بعد..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
لقد صدق (ميخائيل نعيمة) فيما قال (لو أن (كولومبوس) اكتشف اليوم عالماً جديداً لطار الخبر في لمحة الطرف من القطب إلى القطب ومن المشارق إلى المغارب. أما منذ أربعة قرون ونصف فاكتشاف أمريكا لم يدر به سكان أمريكا إلا بعد أعوام وأعوام. ناهيكم بسكان الهند والصين والجزر المنتشرة في عرض البحار.. لقد كانت الحوادث الجسام تمر باﻷرض من غير أن ندري بها في وقتها إلا القليل من ابناء اﻷرض، ولولا التاريخ الذي يدأب أبداً في وصل ماضينا بحاضرنا لما استطعنا أن نصور اﻹنسانية الماضية إلا أعضاء مفككة لا تربطها أعصاب واحدة في جسم واحد. ولكن التاريخ بربطه ما كان منا بما هو كائن يسهل علينا أن نرى الانسانية وفرة شعوبها وتعدد مساكنها قافلة واحدة تسير في طريق واحد إلى هدف واحد).. صدق (ميخائيل نعيمة) عندما قال (ما شهد العالم في كل ما شهد سيلاً جارفاً من الكلام كالذي يشهده اليوم... ما ذاك ﻷن العالم صام زماناً عن الكلام فراح يعوض عن صيامه بالثرثرة. فالعالم ما عرف الصمت يوماً من أيام حياته، ولكنه ما عرف كذلك مرحلة كثرت فيها الوسائل لنقل الكلام كالمرحلة التي هو فيها اليوم)..
ثم ماذا بعد أن كثر الكلام.. لم يعد اﻵن أوان البقاء على التاريخ بما أنجز في عمر البشرية، ولكن الان أوان أن يثمر التاريخ مستقبلاً.. وكما أن التاريخ هو رصد حقيقي لما كان، فللمستقبل ودراساته أن يكون رصداً حقيقياً لما يمكن أن يكون بإذن الله. وهذا رهين بفتح بوابات المعلومات على مصرعيها. ويبدو أن ما يتداوله الناس في واقع حياتهم بكل ما لها وما عليها هو أوسع حقل لصيد المعلومات في زرع الراهن من أجل ثمر المستقبل.. ولذلك ظهر ما نراه اليوم من اتجاه عقول العالم نحو تأسيس ما عرف بالدراسات المستقبلية حيث أن الاوان قد آن أن نستنطق التاريخ ليس من أجل معرفة الماضي فحسب بل لجعل الماضي زرع الحاضر وحصاد المستقبل.. وما يلزم في ذلك من ربط هذا المجال للدراسات بحقول المعلومات التي تمثلت في اتجاهات (الرأي العام) وضرورة استطلاع هذا الرأي العام لأجل رسم الطريق السليم لبناء وتوجيه الخطط المستقبلية. ولأن أصحاب هذا الرأي العام من أفراد وجماعات هم من سيكون بناء المستقبل ﻷجلهم. 
ولما كان لكل علم محاوره وقوالبه التي يصب فيها، فإن لعلم المستقبليات على ذات النحو محاور وقوالب، فهي على ما يلي:
أولاً – الاستطلاع – وهو جمع المعلومات من أجل الانطلاق من الحاضر المتعلق بأي حالة مجتمعية اقتصاديه أو سياسية أو ثقافية بإعطاء مؤشرات لما يمكن أن تصير إليه تلك الحالة في المستقبل القريب ومن ثم رصد التوقعات على ذلك ورسم التدابير العملية والاجراءات والوسائل والخطط الاستراتيجية المناسبة لتحقيق اﻷهداف المسقبلية المطلوبة.
ثانياً – الادارة والسيطرة – وهو ليس الاكتفاء بالعلم بالشيء والتحسب لما يمكن وقوعه سلباً أو ايجاباً، وإنما التوجيه نحو اعادة الصياغة أو الضبط التحكمي للواقع المستقبلي ما أمكن بنوع من الادارة للموارد والفرص والمصادر المتاحة بما من شأنه أن يحقق أعلى درجة من الاستثمار والفائدة العامة، وهذا ما يعرف (بإدارة المستقبل) والاعتماد في ذلك على العناصر التالية:
أ/ تحري وتحليل الرأي العام – القيام بذلك على الوضع الراهن مقروناً بالوضع في الماضي القريب.
ب/ التخطيط الاستراتيجي – باعتباره اﻵلية اﻷساسية في الضبط والادارة التحكمية.
ج/ البحث العلمي – بغرض التوثيق المعرفي للتطور في النظم والادارة من جهة، واستدعاء وحفظ المعلومات العلمية من جهة أخرى.
ثالثاً – التدريب – تكوين وتحفيز القدرات البشرية من أجل الاستغلال اﻷمثل لها بصدد استطلاع وإدارة أي واقع مستقبلي.
وفي اﻷخير، مازلنا منذ أن نلنا الحكم الذاتي في بلادنا نسأل لماذا نحن اﻵن دولة فقيرة نامية بينما اﻷرض من تحتنا تدفقت بالخيرات من كل نوع وتزاحمت ثرواتها.. لماذا نهضت دولة مثل ألمانيا بعد دمارها كاملة بنهاية الحرب وصارت الان برغم هذا دولة عظمى في الاقتصاد والرفاه الإنساني وهي موطن بلا موارد إلا البشر.. هذا لأن علماء المانيا وحكامها عبر التاريخ قد استثمروا بصورة أساسية في الانسان فلم يعد من الغريب أن أدارت النساء عجلات المصانع بلا مقابل أو حوافز حينما عز الرجال بموتهم في الحرب، ولذلك صنعوا مستقبلهم آنذاك الذي صار حاضرهم اليوم، والغد عندهم ينتظر المزيد..
أما نحن فقد اتجهنا نحو اﻷرض قبل الإنسان وجمدنا الحاضر والمستقبل لحساب الماضي وكتفينا باﻷحلام والوعود وحكمنا أنفسنا بمنطق المصالح الذاتية وليس مصالح الشعب الذي نحن منه.. فلن يجدي أن نثور على حكامنا دون أن نثور على أنفسنا.. ولم يعد يكفي أن نزيح الباطل عن كرسيه دون أن نزيل مدمرات عزائمنا في اﻷساس.. وليكن أمام كل كلمة حق معول تدق به يد إنسان قوي على ظهر اﻷرض الخيرة، فالمعول لوحده لن يدق ولو تراكمت عليه السنين تلو السنين.. ولنبقى معاً على العهد.

(براجماتيزم) السياسة الجديدة ..

(براجماتيزم) السياسة الجديدة..
   
د. وائل أحمد خليل الكردي
 wailahkhkordi@gmail.com
في البدء.. استغلت طائفة المعلمين السفسطائيين إغراق المجتمع الأثيني القديم في التجريدات والتمييز بين النظر الفكري والتأمل العقلي المجرد كسمة لازمة للسادة، وجعل النشاطات العملية اليدوية والأداتية  لمن هم دون السادة.. فعمدوا والحال هكذا إلى خلق الصراع الوجودي بين الانسان ومجتمعه وكل ما حوله من ثوابت ومتغيرات من خلال ادارتهم للسياقات اللفظية المحضة وتأليف المفارقات والمغالطات المنطقية التجريدية البعيدة عن حسم الواقع العملي لها بشكل نهائي.. فبالله، أي برنامج للعمل الايجابي يمكن أن يُبنى على مثل مقولتهم المشهورة (الإنسان هو مقياس كل شيء، الوجود واللاوجود.. وبالتالي فإننا لا يمكن أن نعرف شيئاً على حقيقته، وحتى إذا صار وعرفنا شيئاً فإنه سيستحيل علينا نقله إلى غيرنا)؟.. ثم تلت العصور عصرهم ذاك، وفرضت الحاجات العملية نفسها على المجتمعات، فعرفنا اليوم أن فائدة ما فعل السفسطائيون جعْلنا ندرك قيمة أن يفضي القول إلى عمل وإلا فيكون قول معلق في الهواء بلا قيمة..
وعلى ذلك جاءت كلمة رئيس الحكومة الجديدة في السودان بأن الاقتصاد في العالم لم يعد يدار بفواصل أيديولوجية حاسمة وإنما برؤى برجماتية Pragmatism نوعاً ما.. ولعله كان المقصود ليس هو التبني الحرفي لتلك البراجماتية المذهبية التي صاغتها المدرسة اﻷمريكية في الفلسفة المعاصرة على يد (تشارلز ساندرس بيرس) و(وليام جيمس) و(جون ديوي).. وإنما المقصود هو الدلالة اﻷصلية لمصطلح Pragma في تحويل كل ما هو نظري تأملي إلى عمل فعلي ومشاريع للتنفيذ.. ولعل تلك الدلالة اﻷولية للمصطلح هي ما أخذ منها فعل التداول (براجماتكس) Pragmatics في مجال (علم العلامات) Semiotics وهو اﻷخذ والرد والتفاعل بين مرسل لرسالة ومستقبل لها داخل أي مجال من مجالات النشاط اﻹنساني.. ويمكن أن يتحقق فهم نوع البراجماتية هذا من خلال المحاور التالية:
قال الله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)  وقال (أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض).
1/  النظم الفكرية (الايديولوجيات) قديما وحديثا كانت تضع تصورات كلية عامة تجاه كل شيء بغض النظر عن حاجة الناس لها.. فصارت البراجماتية وضع التصورات في حدود ما يحتاجه الناس في مجتمع معين .
2/ النظم الفكرية المختلفة كانت تفصل دائما بين ما هو نظري وما هو عملي، وأن نجاح ما هو نظري ليس بالضرورة مرتبطاً بنجاح ما هو عملي، وأن الفكرة قد تكون صحيحة جدا ولكن برامج العمل والتنفيذ الناتجة او المتولدة عنها قد تكون فاشلة  ولا يؤثر هذا الفشل على كون الفكرة على المستوى النظري صحيحة .. فهنا تقول البراجماتية بانه لا قيمة لأي فكرة نظرية اذا لم تثمر عملا أو أن تكون قابلة لأن تثمر عملاً، وبالتالي فالتأملات التجريدية لا معنى لها ما لم تتحقق في تطبيقات عملية، فكل فكرة يجب أن تكون مشروع عمل .
3/ فكرة البراجماتية تقول أن قيمة أي عمل هو ما يحققه من نتائج نافعة مثمرة، واي عمل لا يحقق فائدة ونجاح لأهدافه فهو عمل بلا قيمة أو مغذى ولا داعي له.
4/ معيار العمل الناجح في النظم الفكرية الفردانية مثل (الوجودية) هو تحقيق المنفعة الذاتية للفرد، ومعيار العمل الناجح في النظم الفكرية الجمعية مثل (الماركسية) هو تحقيق المنفعة للمجتمع الكبير بغض النظر عن منفعة الأفراد .. فجاءت البراجماتية لتوازن في نجاح أي عمل بين  المنفعة والفائدة الذاتية للأفراد والمنفعة العامة للمجتمع، وذلك بدراسة العوامل المشتركة بين كافة الأفراد في مجتمع معين بما يحدد الحاجات المشتركة بين الافراد لتشكل في مجموعها حاجات المجتمع.. ويختلف كل مجتمع عن الاخر في حاجاته بنحو ما يختلف في نوع وخصوصية العوامل المشتركة بين افراده عن غيره من المجتمعات.
5/ في البراجماتية لا يكون نجاح العمل مرهونا بالفوائد المادية فقط ، بل وايضا الفوائد المعنوية النفسية سواء بسواء.
6/ البراجماتية كمنهج أو طريقة للرؤية هي ..
فكرة = عمل
عمل = نتائج ناجحة
نتائج ناجحة = جلب مصلحة أو درء مفسدة
جلب مصلحة او درء مفسدة = ماديا ومعنويا ، فرديا واجتماعيا . 
بناء على كل ما تقدم فإن العالم المعاصر بحكم تطور الاكتشاف العلمي ومتغيرات الرؤية العلمية المعاصرة لم يعد يبحث عن تأسيس نظم مغلقة ﻹدارة مستقلة لمجالات الحياة على النحو الذي يجعل كل نظام ذا تحديد صارم يفصله عن النظم اﻷخرى، ولم يعد كل نظام يستمد مشروعيته فقط من خصوصية المجال الذي صمم لأجله هذا النظام.. فمثلاً عندما أتحدث عن التدريب العسكري ونظام الخدمة العسكرية وقوانينها، ينبغي علي أن أتخلص تماماً من كل ما يتعلق بالحياة المدنية ونظم الخدمة المدنية وقوانينها، بل ويأتي التمييز هنا حتى على مستوى التفاعل الاجتماعي، فهذا المثال يمكن أن تقاس عليه تلك النظرة القديمة.. أما اليوم، فلم تعد صورة العالم في أذهان العلماء والمفكرين وحتى اﻷدباء كما كانت في السابق، وأن فكرة النظم المستقلة لم تعد تلائم حقيقة الواقع الجديد، ولذلك اتجه البحث نحو مبدأ (تداخل النظم) وإزالة الجدر الثلجية بين نظام وآخر طالما أن العامل المشترك في اﻷخير هو اﻹنسان.. وطالما أيضاً أن الهوة الكبيرة بين اﻹنسان والكون باتت قريبة جداً، وعلى ذلك انطلقت دعاوى التكامل المعرفي بين العلوم وبعضها من جهة وبين العلوم وتطبيقاتها العملية من جهة أخرى..
اﻷمر على هذا النحو يجعل الفشل الاقتصادي والسياسي لدولة غنية بثرواتها مثل السودان أمراً مبرراً فقد كان التعامل الاقتصادي فيها قبل ثورة الشعب في ديسمبر قائم باختيار البدائل بين النظم المدرسية للاقتصاد، فإذا تم تبني نظام ما يتم في نفس الوقت إسقاط البدائل اﻷخرى وهو ما جعل الساسة دائمي الارتطام بالواقع المتفاقم بأزمته، ومن ثم تحويل الشعب إلى حقل للتجارب الاقتصادية والسياسية.
أما اﻵن.. وللمستقبل.. ومن الانتقال من مرحلة اﻷزمة إلى مرحلة البناء والتطوير، يكون المطلوب هو الانتقال من حالة الانتماء للنظم إلى حالة اعتماد عامل (التخطيط) الذي هو مفهوم اكثر مرونة، وإحلال مصطلح (خطة) أو (برنامج) محل (نظام) System .. فالاعتماد على الخطة أو البرنامج بحسب مقتضيات الظرف المحلي يراعي تماماً مبدأ تداخل النظم أو اﻷنساق بمراعاة عوامل التميز والاختلاف بينهم.. هذا هو براجماتزم السياسة الجديدة.. ولعل اﻷمر يكون حميداً ويفتح الباب لمستقبل أفضل.   


الدفعة صفر ..

الدفعة صفر ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
علمنا يوماً أن الثعلب الجائع قد احتال على الغراب قبيح الصوت كي يغني لتسقط  من منقاره المفتوح قطعة الجبن الصغيرة المسروقة فيلتقمها .. فلا الغراب بغنائه أطرب ، ولا الثعلب بأكله الجبن قد شبع .. وكلاهما يعلم حقيقة نفسه من قبل أن يشرع فيما فعل .. وهناك طائر النعام يدفن رأسه في الرمال ليقنع نفسه أنه في أمان فلا ضير إن أكل الذئب كل الجسد ما دام قد أبقى الرأس في الرمال ..
الدفعة صفر .. هم الذين أوهموا أنفسهم بأن التمكين لمن أتى بهم سوف يجعل صوت الغراب عذباً في اذان سامعيه .. وأن سادتهم الكبار هم الذين منوا النفس بحظوة مشبعة من المال إذا ما احتالوا على الدفعة صفر واحتالوا بهم ..
وتبدأ القصة في الماضي ، بأن قال ، فيما يحكى ، أحد قادة الحقبة المظلمة عند تخريج ضباط الدفعة صفر (من هاهنا تبدأ الشرطة) .. فكان ذلك العدد صفر الذي يؤسس لما تلاه من عهد جديد في الشرطة أطفئ فيه النور على مجد تليد ، ولكأنما الشرطة قبل هذا الصفر لم يكن لها تاريخ عريق ولكأنما قد ضاع ما صار بها على ذروة الريادة للشرطة في أفريقيا وبلاد العرب بما كان لها من أعراف وتقاليد راسخة وعقيدة مهنية لدى رجالها لا تلين في منع ومكافحة الجريمة وتنظيم شؤون الوطن والمواطنين (حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحياتهم) قسماً أدوه لله تعالى وعهداً قاطعاً على ضمائرهم ، فكانوا بذلك ما كانوا دفعة تلو دفعة تتخرج من كلية الشرطة، وكذلك من كلية السجون تلك النجمة البارزة في سماء أفريقيا والعالم العربي .. وبعد الدفعة صفر ، لم يعد قسم الولاء لله في العمل بقانون الشرطة وواجباتها خالصاً لله ثم الوطن كما كان بلا تمكين لحزب وبلا حماية لنظام وبلا دفاع عن رئيس .. ولم يعد العهد المهني للشرطة في منع الجريمة وخدمة الناس هو أولى اﻷولويات وهو أوجب الواجبات ، إلا أن صار اﻷمر بعدهم هو الدعم السياسي للنظام الحاكم للدولة ، وليصبح الهم اﻷساسي هو جباية المال من المواطن والدفع به إلى ما ليس من الشرطة ورسالتها في شيء ، فدارت حولها أسئلة قاسية إجاباتها إن صحت ، ولتصبح الدفعة صفر هي العنوان واللافتة البارزة لحقبة الثلاثين سنة من ضياع الشرطة وقهر رجالها ..
فهل كان أن صارت أقسام الشرطة رغم مال الشرطة الوفير جحوراً ضيقة لا طائل معها في منع كثير من الجرائم وهي الوحدات اﻷساسية في ذلك ؟ .. هل صار رجال الشرطة ضباطاً وأفراداً هم أفقر عناصر العمل الرسمي في الدولة واضعف حلقاتها وارثاهم حالاً بعدما اختزلت أسباب رفاهيتهم وعزة نفسهم ونقاء سريرتهم ويدهم في حزمة من المباني المترفة والعالية لا يسكنها إلا من نفض يده من شدائد المهنة من أصحاب الرتب العليا والذين تباعدت الشقة بينهم وبين جنودهم فأفقدت أولئك الجنود كل ولاء وبراء .. ثم لانزال نعود نتساءل عن أسباب الرشوة والفساد ؟ .. هل صار مبدأ التمكين بجهاد كاذب ذا الصفة الحزبية الصارخة هو الهم اﻷكبر ﻷصحاب الدفعة صفر فباتو يكتسحون بطغيان وكيد كل ما أمامهم وصولاً إلى مفاصل السلطة واﻹدارة والمال في الشرطة ، فصارت الادارة ظلماً وصار المال إلى الجيوب الخاصة واﻷملاك العريضة ؟ .. هل بلغت معدلات الفصل التعسفي تحت مادة بقاء أطول فترة في الرتبة درجة وبائية لكل من لم يثبت ولائه للتنظيم الحاكم والتشريد لهم باسم الصالح العام ، أليس كان هذا مصير كل من علا صوته بكلمة الحق فصدح به أمام سلطان قائده الجائر أو حتى انصرف تماماً إلى أداء واجبه المهني الصرف بحق القسم الذي لله في عنقه ؟ .. هل كان من الحق والعدل والوطنية أن يأتي التنظيم الحاكم بوزير داخلية وهو يحمل جنسية وانتماءً وأصلاً لبلد آخر ، برغم ما هو من المعلوم بالضرورة أن وزارة الداخلية هي مستودع لهوية الوطن ولخصوصية كل مواطن في البلاد وكل أسرار المجتمع ، فكيف وضعت في يد من حامت حوله الشبهات بأنه ليس من عين أهل البلاد ، وكيف له هو أن يكون أميناً على وطن ليس وطنه ؟ .. هل حرص النظام الحاكم أن يوسد أمر الشرطة إلى من هو أقل خبرة في المهنة ومقتضياتها من أدنى ضابط فيها أو ضابط صف ليكون مديراً عاماً عليها . وهل كان هذا التولي لمن لا يستحق مسوغاً منطقياً كافياً له أن ينصرف إلى جباية كل موارد الشرطة وصبها بالمليارات الممليرة في أبراج عالية من حجارة وأسمنت ، ولكأنما أدخل يده في جيب كل فرد في الشرطة حتى أبسط جندي فيها وأخرج من قوت يومه ليطلي به جدران مبانيه الاسمنتية وترك أولئك المساكين يعاني الواحد منهم قسوة الفقر وانكشاف عورات بيته ؟ أفبعد هذا نطالب رجال الشرطة بأن لا تغلي قدور الغبن بدمائهم في صدورهم إلى درجة أن يقع الكثيرون منهم طي الظلم فيخرجوا مضربين عن العمل ، وما أدراك بخراب الديار إن أضرب الشرطة يوماً أو حتى بعض يوم ؟ .. هل اختلط الحابل بالنابل بكثرة المليشيات التي باتت تعمل عمل الشرطة وتغولت على مهامها بصنع النظام لها امام مرأى ومسمع قيادات الشرطة..
لقد كان في الشرطة قبيل الدفعة صفر رجال عشقوا رسالتها تجرداً عن كل هوىً ودون سؤال عن كم وكيف ومتى ، فدققوا في كل شيء بحنكة ومهارة ونكران ذات بدأً من فتح دفتر البلاغات والتحري فيها وانتهاءً باستقبال الموت في كل لحظة فداء للوطن وحماية لروح المواطن الغالية ، فانعكس ذلك حتى على ضبط الهندام الكاكي أخضر اللون الداكن بعلاماته وشد (القاش) الغليظ على الوسط والالتزام بحذاء الخمسة رباط اللامع أو (البوت) العسكري المهيب ، والضبط والربط والانضباط العالي في ميدان التدريب وميدان العمل سواء ، وعدم خفض التحية للقادة إلا مع الخطوة السادسة في السير ..
فهذه إذن دعوة جادة لفتح الملفات وإعداد فرق المراجعة المالية والعقارية والتفتيش القانوني العام على كل المخالفات الادارية والاجرائية ، وتنزيل قانون محاسبة الثراء الحرام على كل إدارات ووحدات وهيئات الشرطة .. ولكي تتم الاجابة عن اﻷسئلة إما بإثبات وإما بنفي ، حتى يُنصف الشرفاء من رجال الشرطة الذين قبضوا على الجمر طويلاً ومازالوا قابضين ، وحتى يجازى كل من أكتسب فيها بظلم .. والقول هنا هو فحسب قطرة في أول الغيث ، ثم لا يبقى إلا أن ينهمر .