الخميس، 2 ديسمبر 2021

في صفوف الخبز

في صفوف الخبز.. وائل الكردي في الشارع، تدور الحوارات.. ويتنفس الناس عبر الكلمات والصيحات والاحتجاجات.. في الشارع، يجد الإنسان أصناف وألوان شتى من الآراء والأفهام والانطباعات.. في الشارع، يرضى الناس ويسخطون، وفي كل حال يشعرون بأنفسهم لا يزالون على قيد الحياة.. وكل هذا الذي يدور على قارعات الطرقات يظهر أن القيم في حياة الانسان هي أمر مطلق وواجب وموضوعي فيظن الكثيرون أنها معلومة لدى كل الناس بالضرورة، وأنه بمجرد النطق باسم قيمة ما يقفز إلى الذهن معنى محدد هو نفس المعنى الذي يقفز لديك أنت ولديه هو ولديها هي.. لكن هل هذا هو ما نراه واقعاً في تداول المفاهيم في المجتمعات، وهل معاني ودلالات القيم متفق عليها لدى جميع الناس؟.. يبدو أننا يجب أن نستصحب قول شاعرنا (المعري): (لا تقيد على لفظي فإني .. مثل غيري تكلمي بالمجاز) لقد كشفت مدرسة التحليل اللغوي الفلسفية عن تمييز بين (معنى) أي كلمة وهو ما نتصوره نحن ذهنياً عنها، و(دلالتها) التي هي ما تشير إليه الكلمة في الواقع الخارجي، فليست الكلمات إذاً سوى بطاقات توضع على أشياء، وليست التسميات تنبع من جوهر المسميات.. فلنا أن ننزع البطاقات التي وضعناها على الأشياء ونغير في رسمها ونغمها ثم نعيد الصاقها من جديد على نفس الأشياء، فاستخدام اللغة – أي لغة – هو تماماً كما اللعبة نحن من نصطلح على قواعدها فنتفق فيها ونختلف. وهذا يعني أن اطلاقنا للأحكام والمعاني والدلالات رهيناً بلغة منطقية مثالية كما لغة الرياضيات معلقة فوق رؤوسنا يكفي فقط أن ننظر إليها ونأخذ منها، وإنما اللغة هي محض تفاعل وانفعال وتداول وانطباعات كثيرة، فكل جماعة تغني ليلاها وكل جماعة تتكلم بمجازها.. ولهذا نقول أنه ينبغي بشدة أن نميز بين (مسميات) القيم التي نعتنقها و(مضامين) هذه القيم.. فالحرية والسلام والعدالة هي أسماء لقيم وهي بمثابة بطاقات نتفق على رسمها ونغمها، ولكن عندما نأتي لوضعها على مضامينها والأشياء الي تجسدها فإننا نرى اختلافاً كثيراً، بمعنى أننا نتفق على أن هناك قيم اسمها (الحرية) و(السلام) و(العدالة) و(الهوية) ونتفق على أنها مسميات لأشياء رائعة ومهمة لحياتنا، ولكن إذا سألنا كل إنسان على حده عن معنى أي واحدة منها وما تدل عليه لنحى بنا نحواً مختلفاً عن الأخرين.. نحن يا سادتي من نلون البطاقات اللغوية ونزخرفها ونشكل أطرافها واحجامها وما هو مكتوب عليها، لأننا نحن ولا أحد سوانا كبشر ننتمي إلى شعوب ومجتمعات وحواضر وقرى وبوادي، هكذا (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا).. فإذا قلنا (الحرية) فكما يضع الكريم ذو الأخلاق والدين عليها بطاقته من فضائل الأعمال، كذلك يضع صاحب الرقيق بطاقته عليها بأنها حظوة السادة وخاصتهم دون العبيد، وكذلك يضع المجرمون السفلة بطاقتهم عليها فيقتلون وينهبون ويعثون في الأرض فساداً باسم الحرية، وأيضاً كل ديكتاتور جبار من أمثال (هتلر) و(موسوليني) (ماوتسي تونج) ممن يرون أن الحرية لا تكون للأفراد وانما تكون فقط للجماعات حيث يصبح كل الأفراد رؤوساً في قطعان كما الأنعام.. فبأي بطاقة تصاغ القوانين والتشريعات المقررة والمفسرة للحرية.. وأيضاً هناك من يظنون أن (السلام) لا يأتي إلا بالسلاح، وأخرون يظنون أنه لا يأتي أصلاً بسبب السلاح، وغيرهم يرون أن السلام لا يتحقق إلا باعتلائهم السلطة دون غيرهم.. وكذا الحال مع مفهوم (العدالة) حيث يضع البعض بطاقتها على مبدأ المساواة بين جميع البشر تحت كل الأحوال والظروف، ومنهم من يضعها على ضرورة التمييز الطبقي أو العرقي أو النوعي وهكذا، تحتاج القيم دوماً إلى معايير حتى لا تكون لصالح فئة من الناس دون فئة ولكي تتحقق فرضاً وليس هوىً فيحفظ هذا الميزان الاجتماعي.. ولعل هذه تكون الوظيفة الأساسية للمفكر والمثقف العميق تجاه مجتمعه، ليس بأن يعطي الناس المعاني والدلالات الحقيقية بصورة جاهزة لمسميات القيم لديهم، ولكن لكي يهديهم إلى ما يمكن لهم به أن يستنبطونها بأنفسهم، فتنشأ بذلك قاعدة منطقية مشتركة بينهم ووجدان واحد وهم يطالبون بالحرية والسلام والعدالة.. وحينها تسقط الرموز من الساسة التي لطالما قدسها طوائف من الناس وجعلوهم كأنصاف الهة بحيرتهم وضعف الوعي والثقة وكان ذلك بسبب ما يمنحه أولئك الرموز من دلالات ومعان جاهزة براقة على تلكم القيم.. ولذلك فكما يقاس قدر كبير من الرأي العام في صفوف الخبز كذلك يمكن أن تكون هي محلا لتحقيق قدر كبير من رسالة المثقفين، إذ ليس الأمر رهيناً فحسب بالقرطاس والقلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق