الاثنين، 20 يناير 2020

بذور الفناء

(صحيفة اليوم التالي ، السبت ، 28 ديسمبر 2019م)

بذرور الفناء ..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي

(.. ولكن امثال هذه الماسي الانسانية لم تكن صالحة كل الصلاحية للبحث العلمي ، لان ضبطها ضبطا علميا دقيقا لم يكن من الميسور . فبعضها مثلا كان نتيجة لأخطاء المصابين انفسهم ، وبعضها كان يقبل اكثر من احتمال واحد . اما انهيار الجسر فانه تدبير الهي محض يقدم للباحث حقلا مثاليا للتجربة يمكنه من ان يكشف عن ارادة الله في صورتها الخالصة) (من رواية ، جسر سان لويس ري) .. هكذا كان الراهب (جونبر) بطل المأساة السردية مؤمنا في كل الاحوال ، فقد بحث ليكشف عن ارادة الله الخالصة في ان الموت والحياة تمضيان حسب ارادة الاهية  ولأننا لم نفسرها فنظن انها مصادفات ، او لكي يثبت ان الله قد اودع قوانين حياة وفناء جميع الكائنات في دواخلها على هيئة قانون طبيعي حتمي كل في زمانه ومكانه ، ولكنها على اية حال ارادة الله الخالصة ..
اما الانسان فقد شهد له التاريخ انه برع دوما في غرس بذرة الفناء في داخل اي منظومة ينشئها بيده وارادته ولكنه لم يفلح ان يغرس فيها حتمية الحياة (حتى اذا اخذت الارض زخرفها وازينت وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا او نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) . وهذه البذرة للفناء في افعال الانسان تلخصت في عبارة واحدة (انه مغرور بثقته الزائدة والاطمئنان) .. فاذا كان هذا هو حال الانسان مع دنياه افلا يكون هكذا حاله من بعض من كل فيها .. لقد مات الفرعون جراء (الثقة الزائدة في انه الرب) وان له ملك مصر وان الانهار تجري من تحته ، فظن انه خائض البحر برجالة فادركه الغرق .. ولقد وثق اغريق اثينا القديمة في عهد الفلاسفة بانهم بلغوا عنان الفكر الانساني والحضارة العليا بفصلهم بين طبقات مجتمعهم فظل الفكر لديهم معلقا في طبقة الصفوة من الناس لا يطالهم شأن العبيد ، وحسبوا بذلك انهم يحافظون على مجدهم خالدا على الدهر ، فاغتروا بما وثقوا وكانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في الفكر) فراح في لحظة كل مجد اثينا وعظمتها وقبعوا منذ عهد المسيح الى وقتنا هذا في درك منظومة بلاد اوروبا الحديثة ولم تشفع لهم ان كانت مخطوطات (الانجيل) الاولى مدونة بلغتهم ..
وفي اوروبا العصور الوسطى المظلمة ، حين ظن اباطرة فرنسا وانجلترا وعموم اوروبا ان العهد باق ليس في الدين نفسه بل في المؤسسة الدينية هناك وبما احكمت به القبضة على القارة الشقراء ، فلا صوت للناس يعلو ولا فكر ولا فن فوق ارادة سلطة الكهنوت ، فكانت بذرة الفناء لسلطان هذه الارادة في (الثقة الزائدة في المؤسسة الكهنوتية) وغرورهم بان هذه الارادة هي منحة السماء خاصة لأصحابها المفوضين بالحق الالهي المطلق على العباد حتى اتاهم حتفهم من مأمنهم باشتعال الثورة الفرنسية فاتحة لعصر جديد تغيرت فيه كل عناصر التاريخ القديم .. وفي موسكو العظمى وثق الماركسيون السوفييت الثقة القاطعة في الطبيعة وان ما يجري فيها من حركة حتمية هي نفسها الصورة المثلى لما يلزم ان تجري عليه حتما حركة المجتمع فيأمنوا من غدر التحولات الاجتماعية العشوائية وانهم لا ريب سيبلغون الحقبة الشيوعية الى عهد لا نهائي ما دام المجتمع في عصمة الطبيعة ، فخزلتهم تلك العصمة وكانت بذرة فناء منظومتهم في (الثقة الزائدة في الطبيعة) حيث التفت عليهم بأسرارها وبما عبثت ايدي البشر فيها وبثورة الروح العارمة ضد فروض الطبيعة على قلوب الجماهير هناك فكانت النهاية بإسقاط العلم الاحمر وتحطيم تماثيل (لينين) و(ستالين) وبفك سور برلين الشهير الذي عزل انسان الشرق عن اخيه انسان الغرب في كل شيء .. ومن قبل ذلك كانت بذرة فناء النازية التي حكمت بالحديد والنار والابادة العرقية ، ولربما كنا الان في عهد الالف عام من النازية لولا ان (هتلر) وثق ثقة عمياء في دعايته العنصرية وقدرتها على غسيل ادمغة الالمان بان الجنس الاري لا يهزم ، فكانت بذرة فناء النازية في (الثقة الزائدة في الدعاية) وانها كفيلة بخلق الانسان السوبرمان في نفس الجندي الالماني الذي يتحرك بإرادة (هتلر) فانهارت كل هذه الدعاية امام جليد روسيا العاصف وتعليمات (هتلر) المترددة ..
والان ايضا ، كان انفراط احدى اكبر التنظيمات السياسية في العالم ، تنظيمات ما يسمى بالحركة الاسلامية او الاسلاميين ومنهم الاخوان المسلمين والجبهة الاسلامية القومية والمؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي في السودان .. وهكذا ، وأيا كانت الاشكال والصور التي اتخذوها لأنفسهم ، فلقد كانت بذرة فنائهم في (الثقة الزائدة في المرشد) إذ كانت شخصية (المرشد) هي العامل الحاسم وعمود الاساس في بناء التنظيم وتماسكه ، وان تربية اجيالهم الناشئة على يديه هي خير ضمان لحكمهم الارض بمن عليها وبما يتصورون انه حكم الى ما لا نهاية من الزمان فتوسعوا كثيرا وتمددوا كثيرا تحت شعارات الدين والعقيدة والولاء والبراء المطلق لحكم الله المتجسد في ارادة مرشدهم ورؤيته ومن حوله من رجال دولتهم ، وفي خضم التمكين السياسي لهم – كما في السودان - لم يحسبوا حسابا لمكر الله تعالى وظنوا انهم بشعاراتهم هذه قد امنوا جانبه وانه حتما معهم وناصرهم بيد فوق ايديهم فما ضرهم ما يفعلون من بعد ذلك ، فكان هذا هو الشراك الذي اوقعوا فيه انفسهم بحظ هذه النفس الانسانية من الامر بالسوء وحب المال والجاه ومتاع الدنيا ، فلما تملكوا المقاليد وانفتحت عليهم ابواب الدنيا بزينتها صاروا يسوغون كل افعالهم للباطل بغطاء من الدين بسوق الآيات والنصوص وفق مطالب السياسة والادارة وصناعة الفتوى اصطناعا لصالحهم ولو بكسر عنق الحقائق وانهم ما دام المرشد المربي فيهم وهم تحت غطائه فهم اذن امنون من تقلبات الاحوال وثورة الشعوب وغلبتهم عليهم وانهم الفيلة التي تطحن بتدافعها ارادة الشعوب تحت اقدامها فلا تقوم لهم بغيرهم قائمة ، ولكنهم لم يفطنوا – او انهم قد فطنوا ولكنهم استغشوا ثيابهم - الى ما دق بينهم من مسامير المصالح الشخصية والتطلعات للثراء تحت اي تبرير حتى استشرى الباطل بينهم كما السرطان في الجسد فهانت لديهم حرمات الدماء والاموال حتى دارت عليهم الدوائر فانهارت المنظومة بسقوط مرشديهم بعد ثلاثين عاما من الحكم المطلق ، وتصدعت اركان (البناؤون الاسلاميين الاحرار) حين لم يحتمل الشعب فسادهم البين تحت (العين والفرجار والمثلث) فكانت الثورة امرا حتميا والا لمات الجميع ..
لقد ضاع (المرشد) وبضياعه انفرط عقد التنظيم وأجياله العديدة .. فليبقى اذن المرشد ضائعا وليبقى دين الله في قلوب الجماهير عزيزا مقدسا عن اباطيل نفر من الناس بتجارتهم وعبث اهوائهم .

بوليس السودان .. (عمودي سلاح)

(صحيفة اليوم التالي ، يناير 2020)
بوليس السودان .. (عمودي سلاح)
د. وائل أحمد خليل صالح الكرديwailahkhkordi@gmail.com

 (وكانت المرحومة امي تعجز عن ايقافي عند حد الرصانة التي تتمناها لغزالها ..فأخذت تخوفني بالعسكري ، اذا تجاوزت الحد في لعبي قالت : اهدأ يا (مارون) اقول للعسكري يأخذك . وان اعتديت على احد رفاقي ادبتني بقضيب دقيق وقالت : الحبس قدامك ، غدا يجيء العسكري .. كان رحمة الله عليها تصور لي العسكري وحشا ضاريا يفعل بالناس الأفاعيل ) ولكن بالحق .. هكذا عبر (مارون عبود) في روايته (فارس آغا) عن مكنون معنى الشرطي في انفسنا مذ كنا صغارا .. كان العسكري مهيبا لدى العامة .. خوفت به الامهات ابنائهن قديما ان جاءوا بخطأ او خرقوا حقا لغيرهم ، فالعسكري عندهم رمز الحماية للحقوق ورمز الردع والعقاب لكل من يخرج عن السلوك القويم ..وهنا ، لن اتحدث عمن يسيئون الي الشرطة في وطني السودان ، ولن اتحدث عمن يدافعون عنها ،ولن اتحدث عن ريادة شرطة السودان وتاريخها الطويل .. ولكن اجدني اتحدث عن قيم ومبادئ وواقع راهن لا مفر منه ولا نكران .. فمن ذا الذي للموت والفداء بقسم طوق به عنقه بيديه وبمحض ارادته .. من ذا الذي اوقع نفسه في حزمة من التقاليد العسكرية وسلسلة من الاوامر المستديمة كبل بها رجليه فصارت حركته الا بحساب محسوب عليه وخطو منتظم .. من ذا الذي القى بزهرة عمره منذ شبابه البكر وحتى الممات في المهنة الوحيدة التي يكون فيها قيد الخدمة لأربع وعشرين ساعة في الاربع وعشرين ساعة وكل ايام السنة الا استثناء .. من ذا الذي يظل يضرب الارض بقدمه حتى تهتز وهو لا ينطق بل كل حديثه انما بيان بالعمل .. من ذا الذي دعك بوجهه حصي وتراب ساحات التدريب مع دفعة له صاروا بسبب هذا الالم الجسيم اشد ربطا معا من اخوة اشقاء فتلك اخوة الكفاح والسلاح والتراب .. ان من يفعل بنفسه هذا اما مجنون فاقد للعقل والأهل ، واما انه صاحب رسالة عظمي تسيره على الاشواك والجمر الملتهب في سبيل الانسان وبعين يسحقها الغبار من طول السهر ومفاصل نخرها التعب من طول المكث واقفا لأجل راحة انسان البلد.. كل هذا ولا شكر له على واجبه الا بكلمة (مبروك) كلمة غالية لدى من جرت العسكرية في دمائه ، او بورقة صغيرة تحمل طيها ثناء مدير ، فأي قناعة تلك ..والسؤال الان ، ما الذي جعل الناس يحملون على شرطتهم ابان ثورة الشعب فيما بين صاد وراد ، بل وجعل الشرطة ينقمون يوما على انفسهم ؟ .. وليكن ما يلي شيء من الرد .. اولا/ جهاز الشرطة هو جهاز وطني بحت ملك للشعب وليس ملك لحكومة أيا ما كانت وأيا ما راحت الحكومات او جاءت ..  فهكذا الشرطة ما تكون الا فقط في مهنتها امام المواطنين ولأجلهم  حماية للناس وللحق العام وتنفيذا لإجراءات المواطنة السليمة وقياما على هيئات الخدمة التي تضمن للمواطن اخص حقوقه ، فالشرطة بذاك لا تكون فقط لأصحاب الطبنجة والمكافحة والقبض والتفتيش بل هي جهاز خدمي متكامل قائم بدوره سواء في السلم اوفي الحرابة بل وفي ايام الناس العادية له شأن بارز .. ولهذا لا يكن الشرطي سياسيا ولا داعية لنظام حزبي دون نظام ومن فعل فقد خان العهد والقانون . ثانيا/ الشرطة تتكون من بشر رجال ونساء هم في المبتدئ والمنتهى مواطنين شرفاء وبقدر عال في المواطنة المثالية والا لما سمح له في الالتحاق بالشرطة اصلا .. وبالتالي ، فان ضرب الفساد والتخريب جميع مكونات الوطن وتأثر به كل من القى السمع وهو شهيد تحت سماء الوطن ، فلا نتوقع ان تبقى الشرطة على طوق نجاة عن هذا اذ من المنطقي جدا ان يطالها عبث المفسدين .. ولكن تماما كما ان اكثر الناس في مؤسسات الشعب هم الشرفاء الانقياء فكذلك اكثر رجال الشرطة هم من الشرفاء المخلصين لواجب قسمهم ولكنهم فقط كنبي الله (موسى) الذي تربى في بيت الفرعون، ولا غرابة فالله تعالى قد قرر لنا سنته في خلقه ان الزبد هو ما يعلق ظاهرا ويطفوا امام النظار وان ما ينفع الناس فماكث في الارض ثابت اصله تحتها فلا يراه الا من تحرى ان يراه بقصد وفطنة ، فمن لم يرى غير الزبد في الشرطة فذلك لأنه لم يعتد ان يجاوز سطح البحر ليرى الدر في اعماقه كامن ولم يسائل الغواص عن صدفاته .. لذا يجب عندما ننتقد او ننحى باللوم على الشرطة ان نميز في هذا بين مؤسسة الشرطة وبين رجال الشرطة ، فالمؤسسة تظل ثابتة بتقاليدها وقوانينها واعرافها يتعاقب عليها المتعاقبون بينما رجالها متغيرون بين محسن ومسيء وقابض على الجمر ومفرط ، وليعلم كل من ادخل الى هذه المؤسسة من باب السياسة الحزبية ليمسك بعصا السلطة على رقاب العباد بظلم ويزرع الفتن فيهم انهم حتما ستلفظهم المؤسسة التي لا تقبل الا الولاء للوطن ان عاجلا او اجلا .ثالثا/ كل ما سلف في المقالة كان قولا موجها نحو المواطنين من غير الشرطة .. والقول الان هو للشرطة .. ان اكبر برهان على أهمية وظيفة الشرطة في المجتمع كضرورة لازمة بلزوم بقاء المجتمع نفسه هو ما هاجم به المواطنين الشرطة بانهم قد اخلوا مواقعهم وقت ان سفكت دماء الأبرياء ولو لم يكن المواطن يستشعر حقا دور الشرطة لمن نقم عليهم تقصيرا .. اذن ، ففي النقد اعتراف بالقيمة  ، وفي الاعتراض على الشرطة كأشخاص اعتراف بالشرطة كمعنى وضرورة .. فلا يهن ولا يحزن شرفاء الشرطة السودانية فان في هذا الكبد حافز معنوي كبير لمزيد من القبض على جمر اشغال الشرطة العظمى وان ادى ذلك الى التضحية بالحياة ، ويالها من سعادة ومتعة ان يقف صاحب القسم موقف التضحية بالنفس والحياة في سبيل الرسالة السامية .. ولا يجب ان ينسى رجل الشرطة انه من دخل الشرطة آكلا لعيش او لحظ من جاه وسلطان ومال وفير يصيبه فلينحسب الى مكان غيرها فليس في الشرطة هذا الذي يرجو ، بل ما ان فيها تعب وعين ساهرة لأجل ان يرتاح اخرون لا لأجل ان يرتاح هو .رابعا/ (كنداكة جات .. بوليس جرى)  وهذه بدورها حقيقة جازمة ، فالكنداكة حين تجيئ فان البوليس يجري ولكنه يجري نحوها ولأجلها نجدة وليس يجري عنها او منها نئيا .. وذاك الذي جرى عنها فقطعا هو ليس بوليس .. وكيف لا ، اولم نسمي الشرطة منذ ماضينا البعيد (بوليس النجدة) اي الذي يجري نحو الهدف بقوة وجسارة وليس يجري عنه .. هكذا تورد المفاهيم والمقولات الحق مواردها .لأجل كل هذا وزيادة .. لم ينكس سلاح الشرطة يوما ولن ينكس .. ولن يصدر الامر طويلا (جنبا سلاح) فسرعان من يبرز ليصيح (عمودي سلاح) .. والان ، خير للشعب برغم كل تحفظاته ومآخذه على الشرطة في موقف ما ان يلتف على الشرطة بقوة وعزم بدلا من ان يلتف عليه هو – اي الشعب – فصيل يذيقهم باس النار ومر العذاب ، فان الشرطة لها ان تسد مواقع غيرها ولا يسد موقعها غيرها .. ولسوف تتطهر في يوم قريب ..اخيرا، فان الشرطي يظل شرطيا سواء كان في الخدمة او خارجها ، فقسم الشرطي باق لا ينتهي بتاريخ صلاحية ، وقسم الشرطي حق لا يسقط بالتقادم ، فكن شرطيا يوما تكن شرطيا دوما . ولله الحمد .