الأربعاء، 21 فبراير 2018

الرواق الجديد في بلاد الحرمين


~~~~~~~~~~~

الرواق الجديد ، في بلاد الحرمين ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

أسس (زينون) Zeno الاغريقي في أعوام ميلاد المسيح الأولى مدرسة أخلاقية كانت على رواق يعبر فيه المشاؤون من الطلاب مع معلميهم .. وأثناء المسير كان علم المنطق يختلط بالقيم النبيلة وبالغايات السامية للإدراك وبالعلوم وبالفن ثم بمقامات الزهد التربوي .. هكذا كانت مدرسة الرواق قديماً ، يأكلون فيها الخبز مع المحبة بالعلم ومن حولهم الأخلاق وسواء النفوس وحقول الالهام .. لكأنما هذًا المعلم (زينون) قد عرف في زمانه أن العلم في الدنيا لا يرثه بحقه إلا من كان قلبه منذ نعومة الأظافر وبراءة الطرف مهبطاً للسمو الروحاني ومحلاً للسكينة والوقار ..
ولكن جاء علينا زمان كنا نحن فيه صغاراً قبل عقود وسنوات .. كنا نرى عصا الاستاذ قائمة خلف الأسطر والكلمات .. ويلوح لنا في الخيال شبح زملائنا في الصف وهم يهزئون على حالنا لحظة أن يوبخنا المعلم علناً على ذنب سقط من جوارحنا سهواً ولم تستوعبه عقولنا الصغيرة تلك حينها ، يهزئون بأفواههم وابتساماتهم المرسومة اصطناعاً لتخفي من دونها انتفاضة في الصدر زعراً وهلعاً وأسفاً على حالهم مثل حالنا عندما يأتي الغد ويسقط الذنب من جوارهم سهواً كما سقط منا وهم لا يدرون ، فينزل بهم العقاب وليس على صوم او صلاة .. حقاً لقد كان التعليم للمعلومات في المدارس قوياً شامخاً متين الجنبات والبنيان .. ولكن .. أين كان الإنسان وقتذاك بين صفحات الكتب وكراسات الدروس وأسنة الأقلام ؟ .. وها قد عادت الطفولة في البلاد اليوم كما كانت في ماضينا تشتهي أن تأكل الحلوى مع كل رفع ونصب وجمع وطرح واعراب وما نحو ذاك ، ولكن هيهات .. وبعد أن كبرنا ، كبرت معنا مخاوفنا على أبنائنا من عصا الأستاذ ومن سوء المنقلب لهم إذا ما يوماً اختلطت في حقائبهم المثقلة أوراق الإملاء برهبة الامتحان وسرعة دقات القلوب الواجفة في الصدور الصغيرة وتدافع الزفرات والعبرات في أنبوب الهواء عند انقطاع الحبر من المحبرة أو كسر سنة القلم الرصاص وقد محى الأستاذ كل المكتوب على السبورة بين غفلة الحلم منهم وانتباههم .. فيضيع منهم الحفظ ويعز الكلام عن الخروج ، فماذا يفيد العلم والنفوس منكسرة والهناءة مفقودة .. ولكن كل ذاك الخوف مني على أبنائي تساقط كأوراق الأشجار اليابسة عندما الحقتهم برواق جديد في بلاد الحرمين الأكرمين .. لم اكن أنظر حينها إلى حشو الرؤوس بالعلوم والوجدان خاوِ ، ولكن الاعتبار عندي كان لمليء النفوس بالثقة والمحبة والأمان والأمل .. هنا إذا تعلم الابن حرفاً بحب واعزاز نفع به وانتفع بطول حياته ، وإن تلقى الابن درسه بكره طارت كل اسفار العلوم من رأسه كأن لم تجاوز حلقه المسدود بالخوف إلى صدره يوماً .. لقد وجدت هناك في السعودية المعلم والمعلمة في مدارس الأولاد والبنات وذاك الخلق الكريم بعينه يسعى بين فلذات الأكباد يسبغون عليهم الأدب والنفس السوية وكرامة الانسان منذ المهد .. وكم حلقت أرواح أبنائي سعادة بفضل المعلم السعودي والمعلمة ، وحلقت معهم ، عندما ارتاحت نفوسهم لمدارسهم وتصالحت عقولهم مع قلوبهم فصار الدرس أشهى والرواح للمدرسة نزهة وشغف .. إن أهم ما قد غرسه المعلم السعودي في الأبناء التلاميذ ثقتهم بأنفسهم وانطلاق قدراتهم ومواهبهم من طي أعماقهم ، فأثمر العلم بهذا سعة للأفق لديهم وخبرة ليست باليسيرة .. وكم ترقرق الدمع في المقل من روعة مواقف ذاك المعلم معهم في العدل ورد الحقوق وطيب الكلام وعاطر العبارات وشكر العمل الطيب إن جادوا به ولو قل والرحمة والعفو منه فيما أخطأوا .. كيف لا واوراق ابنتي شاهدة على ما دونته المعلمات لها من شكر وشكر جزيل ممهوراً بالتواقيع عندما تصيب في الحلول والأجوبة ، وكم لهذا الشكر الكريم من المربي على الغض الصغير من وقع وأثر .. إنها أخلاق دين الله التي تتحدث فيهم ، فحين قال الأخرون من الجفاة (لا شكر على واجب) أبى الله إلا أن يتم نوره بأن لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى وأن كل فعل واجب كان أو نافلة يجزى عليه المرء بعشرة أمثاله ثواباً من عند الله ويضاعفه لمن يشاء .. ذلكم هو الرواق الجديد بروح ذاك الرواق القديم وتعاليم رب السماء .. فلله دركم أيها المعلم والمعلمة في أرض الحرمين وبلاد الرسول الأمين ..

بعد التحية والاحترام


~~~~~~~~~~~~~~

بعد التحية والاحترام ..

د. وائل أحمد خليل الكردي   
wailahkhkordi@gmail.com

في الأمس القريب .. قدر لي حضور محاضرة كانت تحمل عنوان (علمانية الدولة .. أم دينية الدولة) .. ووسط جمع غفير من الشباب المتحمس ضد المألوف والتواق للمخالفة والخروج على المعتاد ، جلست .. واستمعت لأولئك الأساتذة الأفاضل وهم يحللون أزمة الدولة وكيف اسقطها التوجه ذا الصبغة الدينية في مأزق تاريخي حالك .. وانبرا تلكم الأساتذة جميعاً  للدفاع عن علمانية الدولة ، فتحدثوا عنها تفصيلاً واسهاباً وكيف أن العلمانية تمتد بأصولها إلى الأديب والروائي الإيطالي النهضوي (بلزاك) Balzac وأنها لا تعارض الدين ابتداء ولكنها فقط لا تسمح له بالخروج عن مضمونه الحقيقي في التعبد والنسك الشخصي بين الانسان وربه ليمارس سلطة ليست من شأنه على شؤون الحياة المجتمعية الإنسانية الحرة ومظاهرها ، فالحرية لديهم تقضي بإعطاء كل مشرب واتجاه حريته في الحياة والممارسة ، وأن الدين إن خاض السياسة والمجتمع صار بديلاً للأيديولوجيا الشمولية يرفعها ويقعد محلها ، فلا نكون إذن قد فعلنا شيئاً في تحرير الانسان واطلاق قدراته أياً كانت معتقداته فناً وسياسة وثقافة وفكراً .. كان الدفاع عن العلمانية محتدماً ذلك اليوم ، وقيل فيها كل ما يمكن أن يقال بل وسيقت في معرض التبرير لها بعضاً يسيراً من قصص ومواقف في التاريخ الإسلامي القديم .. والحق أنهم جعلوا العلمانية تتحدث عن نفسها بكل حرية وبما يكفي .. ولكنهم لم يتركوا للدين فرصة للحديث عن نفسه بدعوى أنه لا دين يتحدث عن نفسه ولكن نحن من نتحدث عنه .. بل نحو في ذلك نحواً أبعد بقولهم أننا حتى لم نعد نفهم نصوص الدين من كتاب وسنة ، بالتالي يحل لهم رسم البدائل واللجوء الى المواضعة البشرية في كل حال وأمر ..
ولكن بعد التحية والاحترام لهؤلاء الأساتذة ، نسألهم .. كيف بربهم لا يتحدث الدين عن نفسه وهو مدون في نصوص مكتوبة بلغتهم العربية التي ولدتهم عليها امهاتهم وربتهم صغارا ، وقرأوا بها وبحثوا وكتبوا المقالات الطوال بها كباراً ثم هم يلقون بها في ذاك الحين محاضرتهم تلك .. وكيف بربهم يجعلون العلمانية تتحدث عن نفسها وهي أيضاً في نصوص ولغة ، بل وفيها بلغتها اللاتينية المندثرة الشيء غير القليل من الاصطلاح والتعقيد بما لم تألفه أي لغة أم ، فإن كان الدين إذن لا يتحدث عن نفسه ولا يفهم فكذلك العلمانية لا تتحدث عن نفسها ولا تفهم سواء بسواء .. ثم كيف بربهم يأخذون اقتباساً معضدا لدفاعهم عن العلمانية من الممارسة الإسلامية التاريخية ما هو دون المشهور فيها أو مواقف فاصلة .. ولعل المشهور في تاريخ الاسلام إذا ما تم ايراده على حقيقته دون زيغ أو هوىً إذن لوقف شاهداً ضدهم لا معهم .. ثم كيف بربهم يحشدون في كل كلامهم كلمات ومقولات رنانة وقعها في أذن العامة بنحو (الانسانية) و(الحرية) كأسس تقوم عليها دعواهم وهم يعتبرونها مسلمات بديهية لا اختلاف للناس في دلالاتها .. وحق لنا أن نتسأل ونحن نرى أمامنا أن الانسان عبر تاريخه لم يختلف فكرياً إلى حد الصراع والحرب بقدر ما اختلف حول هاتين المقولتين .. لقد تنازع الانسان في تفسير الإنسانية أهي حيوانية في طابعها وجذرها أم هي روحانية أم مادية .. وقامت الحروب على أعقاب بعضها بالمدفع والكلمة على حد سواء لنصرة الحرية . ولكن هل الحرية هي وجودية فردانية أم ذرائعية تبريرية أم مجتمعانية اشتراكية أم هي محض ماء مسكوب على الأرض لا حدود لها أم هي شيء للتنازل عنها لمرشد أعلى .. والجدال لا ينتهي .. فكيف لنا ولهم بربنا أن نبني بنياناً شاهقاً ثابتاً على قوائم تتحرك ورمال لا تستقر حباتها على بعضها برهة .. أولسنا إذن نحتاج بذلك إلى حكم عدل وهو الصانع ليس سواه .. كتب (وليام بيلي) W. Paley في كتابه المشهور (اللاهوت الطبيعي) Natural Theology في الفصلين الأول والثاني منه أنه في أثناء سيره في الطريق الخلوي تعثرت قدمه بحجر ولم يكن من المستغرب وجود هذا الحجر في هذا المكان فهو ضمن السياق الفطري للطبيعة ، ولكن عندما اصطدمت قدمه في ذات الطريق بساعة كانت ملقاة .. هنا يثور العجب والدهشة والسؤال فالساعة بما فيها من عقارب وتروس ليست من قبيل الحجر ولا شيء من أشياء الفطرة في الطبيعة الحرة فهي صنعة لها صانع هو من له الفصل في أمرها وسميت تلك بحجة الساعة .. فللوجود صانع عنده الحل والعقد في أمره ، أم نعود فنقول أن الحل هو أن يضرب كل انسان في مرماه بهواه ولكل أن يعتقد فيما يشاء ويمضيه على الحياة بأسرها في كل ما يلحق بها من قيم وأخلاق وسلوك .. فكيف من ثم سنقيم دولة ذات نظم وقوانين عامة فوق اختلافات البشر ، ففي حين يتعدد أفراد الرعية بمذاهبهم لا يكون مناص للدولة إلا أن تلزم نفسها بمذهب واحد لأجل تجرد القوانين والنظم الموحدة الحاكمة ، هذا وإلا ضاعت الدولة .. هنا نقولها كلمة أخيرة ، أن خالق الإنسانية والحرية هو من له الحق في حسم معناها ومقصدها .. وقد كان .. فلعل الأساتذة لم يمنحوا أنفسهم الفرصة الوجيزة لينظروا نظرة في القرآن العظيم ليعرفوا أنفسهم أهم أصلاً من المتدبرين أم أنهم ممن على قلوبهم أقفالها .. فغاية الأمر أن حق لنا جميعاً أن نعتقد فيما نشاء وأن عليه نقضي ما نحن به قاضون .. لكن لا يحق لنا أن ندعي لأنفسنا ملكة وقوامة وضع مكاناً للدين في الحياة بإرادتنا نحن وحسبما نظن ، فإن الدين لا محالة هو ما يضع لنا أماكننا في الحياة ويضعنا على مواضعنا ..