الجمعة، 31 مارس 2023

هكذا ضاع الموتى.. في مجتمعات العزاء

 هكذا ضاع الموتى.. في مجتمعات العزاء

د. وائل أحمد خليل الكردي


(مات جاري أمس من الجوع.. وفي عزاءه ذبحوا كل الخراف)..

طالعنا (علي شريعتي) بهذا القول المخيف.. فكلنا جائع لحظة موته، ولكنه جوع إلى الدعاء بالرحمة.. إذ لا توجد لحظة يحتاج فيها الانسان إلى غيره بقدر وقت موته وانتقاله إلى حياة القبور بعد أن كان مستغنياً عن الناس منفرداً قائماً بنفسه وحدها.. ولكنه عند المبيت في القبر كأننا نسمعه يرجو من يقفون على حافته أن يقدموا له ما لم يعد يقدر أن يقدمه هو لذاته.. هي كلمات معدودات يدعون بها له بالمغفرة والرحمة ورضى الرب وهو الذي انقطع عمله إلا ما سلف عنده من صدقة أو علم أو ولد..

لن نعرف أبداً كيف تضيق اللحود بساكنيها إلا أن نسكنها.. لذلك ونحن ندفن ميتاً لا نعرف كيف هو لحده، كل ما نعرفه أنه الان قد مات وأن لي لنا وله إلا الدعاء وما يليه.. هذا هو حال من يموت، فكيف هو حال من الناس مع موته.. بكاء ثم سرد ذكرى ثم دق شادر وافتتاح ناد واضرام نيران وذبح ذبائح .. جميعنا يرى أن من طبائع الحياة الإنسانية أن يجتمع الناس ليسعدوا ويفرحوا بزفاف واحد منهم يتزوج، فكأنما هم بفرحهم هذا يدخلون المحتفى به إلى حياة جديدة أعلى وأرفع من حياته فرداً بل هو يذوق الأن معنى الحياة الحقيقية والتي فيها الأمل أن تمتد إلى عمر طويل، ولهذا فهم يفرحون ويطربون ويولمون بالذبائح وصنوف الطعام.. فما بالهم وهم يشيعون ميتاً خرج عندهم من الدنيا أيضاً بنصب الشوادر وذبح الذبائح، أتراهم فرحون بموته ويزفونه للخروج من الدنيا، أم تراهم يجدونها الفرصة لإثبات وجودهم وحضورهم لكونها محض عادات وتقاليد، أم تراهم لا يعلمون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.. وأياً كان الحال، فعقب مواراة الفقيد الثرى يرجع القوم إلى شادرهم للعزاء فيتحول المجلس ريعاً إلى ناد ومنتدى لتداول كل شيء إلا الدعاء للميت فلا يذكرونه في ذاك الخضم حينها إلا قليلا، هناك حيث تدور الأحاديث عن الدنيا والسياسة واحوال المجتمع واخبار الرياضة وأفعال الفاعلين وضرب الضاربين في الأرض.. ثم من بعد عناء النساء من خلف الأستار تأتيهم موائد الإفطار والغداء والعشاء مكدسة يأكلها القوم في مرهم هذا وهم المتخمين شبعاً في واقع معاشهم وبيوتهم، وإذا تسلل صبي من أبناء الشمس والشوارع جائعاً إلى شادرهم جذبته اليهم رائحة الطعام فربما اعطوه اليسير أو منعوه ومنهم من يحسبون أن أجر الله لهم بعد كل هذا، فأي أجر في هذا وأي فائدة يرجوها ميتهم الذي اجتمعوا لأجله.. أما كان الأجر في أن يدفعوا بكل هذه الطعوم والأموال التي انفقوها في إقامة العزاء لليال إلى فقراء ومساكين يرجون فقط ما يسد جوع يومهم فتكون لهم بذلك صدقة وعن ميتهم زكاة باسمه ينتفع بها بعد ان انقطع عمله.. لقد أرشد الرسول صحابته أن يصنعوا طعاما لآل الميت إذ جاءهم ما يشغلهم وليس أن يصنعوه لجمهور المعزي.. أما كان الأصح أن يصلي الناس على الميت ويدفنوه ثم يلبون حاجة أهله ثم يرحلون من فورهم ولا يكون في قلوبهم وعلى لسانهم إلا الدعاء للميت وليس الشغل بهٌم الدنيا وانتظار الطعام.. فالشاهد في واقعنا أن مجتمعات العزاء هذه ما هي إلا واجهات اجتماعية ومضارب للمظاهر، فغلمان يلعبون ونساء يصطنعن البكاء مع كل وافدة إليهم للعزاء ثم سرعان ما تعلو أحاديث وضحكات، وكثيرون يدفعهم الإتيان إلى مجتمعات العزاء في المقام الأول هو ظهورهم أمام الناس فيها فيثبتون له الواجب ويشكرون له الحضور ويقيسون عليه غياب من لم يحضرون.. 

هكذا تصير غالب مجتمعاتنا للعزاء في الموتى هماً اجتماعياً مظهرياً لمن هم أحياء وليس هماً إنسانياً وجدانياً خالصاً للميت، ولو أن الميت حبيب حقاً لذهلوا بموته عن الدنيا حين يأتي الخبر، فرثاء وبكاء حار وكثير كثير من الدعوات لله غفراناً ورحمة، ولا تخطر رغبة في طعام أو شراب واهتمام بمن جاء ومن لم يجيء.. ولكن هيهات، وللأسف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق