مركز الدكتور وائل أحمد خليل الكردي للدراسات الإنسانية هو مركز يعنى بالنشر العلمي والفكري ومعاونة الباحثين الأكاديميين (وغيرهم) في العلوم الإنسانية والاجتماعية . ويقوم على تقديم الخدمات الاستشاريه ، والتدريبية ، وتكوين قاعات البحث الافتراضية ، ومهام الارشاد والتوجيه في التخطيط والتأليف العلمي ، والمراجعات التحليلية على الأفكار الأساسية لدى الباحثين وكتاب البحوث والأوراق العلمية. كل ذلك باستهداف مناهج وأساليب وأنماط البحث العلمي وبناء الخلفيات المنطقية في تصميم الأبحاث والأوراق العلمية.
الخميس، 2 فبراير 2023
القيم المتجذرة.. كيف لها أن تبقى
القيم المتجذرة.. كيف لها أن تبقى د. وائل أحمد خليل الكردي قد نعبر سريعاً وبلا مبالاة من أمام لوحة (الحذاء) التي صور فيها الرسام العالمي (فان جوخ) حذاءً ضخماً ملقىً في أرض فلاة ولا يحيط به شيء ولا يبدو خلفه أي طريق أو أي معلم من المعالم.. ولكننا إذا تمهلنا قليلاً وأمعنا النظر إلى الجزء الداخلي من هذا الحذاء لأمكننا أن نلحظ آثار الاعياء مرسومة عليه ولو أننا نظرنا إلى ثقل الحذاء وصلابته لتوقعنا أنه حذاء لفلاح يشق به طريقه نحو الحقول كل يوم، كما أن النعل الملطخ يدل على مدى معاناة هذا الفلاح فيما يعمل.. ورغم كل ذلك وكل تلك الالام والمعاناة والأوحال ومهما طرأت عليه من متغيرات الظروف والأحوال لم يتخلى الحذاء عن مهمته الاصيلة في حماية أقدام الرجل حتى يهلك دونها.. تلك هي صفة القيم المتجذرة، هي قيم وأحوال فطرية إيجابية خيرة. وطالما أنها متجذرة في قلب ووجدان كل فرد فهي بطبيعة الحال تكون عامة مشاعة لدى كل الأمم والشعوب لأنها من أصل التكوين الفطري للإنسان، جاء ذلك في قول الله تعالى (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله - الروم (30. علينا إذاً والحال هكذا، أن ننبه العقول الى وجود وحقيقة هذه القيم، فإن جزءاً كبيراً من مشكلاتنا الإنسانية يكمن فيما يمكن تسميته (التضليل النفسي) والذي يقع بفعل طريقة استخدامنا للمفاهيم والعبارات التي نتداولها. فيكون التضليل النفسي – على سبيل المثال - برسم صورة مأساوية اكبر من حقيقة الواقع بفعل الكلمات والاشارات والأوصاف التي نستخدمها فنضع لها دلالات معينة تستجيب لها امزجتنا النفسية فنتفاعل معها على نحو ما إما إيجاباً أو سلباً، فالتضليل النفسي لا يقتصر على السلبي فقط. ومن هذا القبيل، جملة مفاهيم القيمة التي نحملها في أذهاننا ونتعامل معها ونتفاعل بها، في حين قد تكون هذه المفاهيم ذات دلالات غير حقيقية في واقع الأمر؛ تماماً كما لو قلنا كلمة (وجود) ووضعنا في مقابلها كلمة (عدم) فإننا نضل نفسياً وعقلياً إذا تعاملنا مع كليهما بأن لهما نفس التجسد الواقعي العيني المشخص، فكلمة (وجود) هي فقط ما لها هذا التجسد الذي نشير إليه في الموجودات والكائنات، أما كلمة (عدم) فليس ثمة شيء هناك في العالم لكي نشير إليه بدلالة الماهية أو الكينونة، إذ العدم هو محض سلب للوجود الذي هو صفة للأشياء العينية. فعلى نفس هذا المثال نجد أن قيم الخير هي ما له وجود حقيقي أما ما يسمى بقيم الشر فليست بقيم أصلاً وإنما هي محص سلب للقيم الحقيقية. وهذا يحيلنا إلى ما هو (فطري غريزي) وما هو (ثقافي مكتسب) في مجال القيم. لما قال الرسول صل الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم صالح – وفي قول مكارم - الأخلاق) فإن ذلك مما يعطي دلالة أن هنالك أصل فطري للقيم بحكم أن الكائن الإنساني يحمل الغريزة الفطرية في قبول ورفض الأشياء كما باقي الكائنات ولكنه يتميز عنها بالتكليف بعمران الدنيا والذي يتطلب قدراً ضرورياً من حرية الاختيار، فالإنسان يتمم ما هو فطري غريزي بما هو ثقافي مكتسب من خلال الاختيار الحر لمزيد من القيم المركبة التي تمنحه إياها تفاعلاته المعرفية مع الطبيعة والمجتمعات ومن ذلك تلك القيم التي جاء بها الدين متمماً بها فطرة الله تعالى في خلقه. فهناك إذاً دور كبير لهذه القيم المتممة في عمران العالم وصلاح البشرية. ويبدو من هذا أن هناك قيم متممة سليمة وصالحة وهناك أخرى غير ذلك، فما الذي يمكن أن يحدث إذا لم يأخذ الانسان بالقيم المتممة الصالحة؟.. هنا يظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولنا أن نتوقف عند هذه النقطة لنضع ملاحظة قد تبدو مهمة؛ أن الاحتفاظ بالقيم المتجذرة – والتي هي الأساس – ثم الاكتساب للقيم المتممة يحتاج إلى نوع من (الإدارة) تماماً كما هي إدارة المؤسسات والهيئات. ولكي نحقق منظومة إدارية ناجحة للقيم المتجذرة تبنى عليها القيم المتممة الصالحة فلابد أن نميز بين مفهومي (تغيير القيم) و(تطوير القيم)؛ فتغيير القيم هو ازالتها وتحويل الإنسان عن فطرته القيمية فيفقد ما هو متجذر لديه منها بفعل التبعية غير الرشيدة وغير الواعية لقيم متممة وافدة من حقول ثقافية منقصة أو منافية للأصول الأخلاقية فيضل الإنسان بهذا عن فطرته قبل أن يضل عن قيمه. أما تطوير القيم، فهو اختيار الإنسان لمجموعة القيم المتممة التي تتوافق مع مبادئ الفطرة الإنسانية وما بها من قيم متجذرة فيسير بها تراكمياً في خط رأسي للتطور والتركيب والتكثيف مع كل مرحلة من مراحل الاستحداث والتقدم الثقافي والعلمي والتقني للمجتمعات الإنسانية وبشرط عدم تناقض المتطور مع ما هو متجذر في الأصل. وزبدة القول أن هذه القيم المتممة الصالحة هي ما جاءت به الأديان بعد حيرة البشر (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا - يونس19). لذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. إذاً، وباعتبار أن القيم المتجذرة هي قيم فطرية عامة مشاعة بين جميع البشر وأن الانسان ينحرف عنها عند تبنيه لقيم متممة غير صالحة، فإن القيم المتجذرة لها القوة في الأخير لأنها تظل باقية في الإنسان على هيئة ضمير حي وإلا فقول ربنا تعالى (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون – الأنعام1) هو دلالة على ذلك، وما قال الرسول صل الله عليه وسلم (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) هو حديث عن ذلك الضمير الحي بما تجذر فيه من قيم مثل قيم الحياء والشرف وهذا لكل الناس. ولذلك حينما دعا الفيلسوف البارز (فريدريش نيتشه) للتمرد على هذا الضمير الانساني العالمي بقلب القيم رأساً على عقب واعلاء قيم القوة والبطش التي يتصف بها عنده الإنسان الأعلى (السوبرمان) واعتباره قيم التسامح والإيثار قيم ضعف يتصف بها العاجزين، فإن دعوته هذه وإن كانت قد طبقت في بعض حقب التاريخ بقدر ما إلا أنها لم تعش طويلاً وكانت القيم المتجذرة تعلو في كل مرة من جديد. ولأجل تعزيز هذه القيم في بلادنا العربية والإسلامية فليس علينا محاربة الثقافات الوافدة ذات قيم غريبة وشاذة بقدر ما علينا واجب المبادرة بتقوية وعينا الشعبي لأمتنا بحقيقة تلك القيم المتجذرة فينا ليحقق ذلك واقياً تلقائياً تجاه كل وافد غير متوافق معها. وليست هذه التقوية فقط على المستوى الدفاعي لشعوبنا وإنما أيضاً على مستوى التأثير الإيجابي في الأمم الأخرى كافة، وهنا يكون هذا الدور منوطاً بالفنون البصرية والسمعية تأليفاً واخراجاً وأداءً ونقداً فنياُ بكونها رسائل جمالية تخترق وجدان الإنسان وعقله معاً بما تحمله من مضامين قيمية، وهو دور تفاعلي لا يقتصر على فهم المتلقي للرسالة القيمية فقط وإنما تفاعله معها من خلال انفعاله الوجداني وهو ما ينتج في الأخير وعياً متكاملاً. فإذا اتفقنا مع ما ذهبت إليه الفيلسوفة (سوزان لانجر) في تعيين الوظيفة الأولى للفن (إنما هي إحالة الوجدان إلى حقيقة موضوعية) فأن هذه الحقيقة الموضوعية تجد حتماً أرضاً مشتركة لها عند كل أبناء آدم. وخلاصة قولنا في هذا، أن تقوية الوعي الشعبي بالقيم المتجذرة ابتداءً وبالقيم المتممة الصالحة هو ما يحفظ لنا بقاء هوياتنا المجتمعية تماماً كما حفظ حذاء (فان جوخ) قدم الفلاح القديم في أشد وأحلك الظروف.
قسم الأطباء
قسم الأطباء..
د. وائل أحمد خليل الكردي
لعل قسم الحكيم الاغريقي (أبقراط) بما تضمنه من قيم أخلاقية في صون الحياة وحفظ كرامة الناس وعدم التمييز بينهم إنسانياً في المعاملة الطبية، لم يكن فقط نموذجاً للأخلاقيات الإنسانية المتجذرة التي يجدها كل انسان سوي في نفسه بحكم الفطرة بغض النظر عن معتقده الديني.. وإنما أيضاً هو قطعة أدبية فريدة بقوة تعابيرها وجمال تراكيبها.. فهكذا ربط (ابقراط) الحكيم بين الواجب الأخلاقي والنفاذ الأدبي ليصير قسمه دستوراً في الآداب الخلقية التي يتحلى بها كل طبيب كما ينبغي.. فمسوغ هذا القسم عند الناس أن الإنسان يصون كرامة الآخرين صوناً لكرامته هو ويحافظ على حياتهم لحفاظه على حياته هو ولا يميز بينهم لغرض أن لا يميزونه إنسانياً، وهذه ليست أنانية لأن الأنانية تعني أن تعطي الخير لنفسك فقط ولا تعطيه لغيرك. وإنما أراد (أبقراط) أن يجعل هذه الآداب الخلقية قسماً حتى يحرص بها كل طبيب أن لا ينحرف عنها بحرية إرادته فيكون غير إنسان سوي فلا يحق له حينها أن يلامس حياة الناس وقت حاجتهم إليه (إذ كيف يعطي الناس الحياة السليمة من يفقدها هو في نفسه) ولأجل هذا قال الله تعالى على قتل أحد ابني (آدم) أخاه بدافع الغيرة غير السوية (ومن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً - المائدة 33).
فغذا كانت الأخلاق على العموم هي منظومة القيم التي تدفع الإنسان بوازع من داخله الى السلوك والتصرف نحو الأخرين بمعاملة إيجابية خيرة، فيمكن إذاً القول أن هناك اخلاق متجذرة فطرية في الإنسان وهناك آداب أخلاقية مكتسبة متممة لتلك الفطرية. فلما قال الرسول صل الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم صالح – وفي رواية مكارم - الأخلاق). فإن ذلك مما يعطي دلالة أن هنالك أصل فطري للقيم مشاع عند كل الناس بحكم أن الكائن الإنساني يحمل الغريزة الفطرية في قبول ورفض الأشياء كما باقي الكائنات ولكنه يتميز عنها بالتكليف بعمران الدنيا والذي يتطلب قدراً ضرورياً من حرية الاختيار، فالإنسان يتمم ما هو فطري غريزي بما هو ثقافي مكتسب من خلال الاختيار الحر لمزيد من القيم المركبة التي تمنحه إياها تفاعلاته المعرفية مع الطبيعة والمجتمعات ومن ذلك تلك القيم التي جاء بها الدين متمماً بها فطرة الله تعالى في خلقه. فهناك إذاً دور كبير لهذه القيم المتممة في عمران العالم وصلاح البشرية، ومن ذلك صلاح المهن والأعمال، وهي تلك الأخلاقيات المضافة التي اقتضتها تعقيدات الحياة الاجتماعية الانسانية واختلف الناس في أخذها وردها، فهي من دلالة قول الله تعالى (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا - يونس19)، لذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ومن هذا القبيل فإن الحد الأدنى البسيط من الآداب الأخلاقية المتممة للطبيب قد تكون بنحو ما يلي:
عدم المباهاة بالعالمية:
فمن تأخذه العزة الزائدة بنفسه وما كسب وحقق فقد وقع في عهد الكبر كما هو لدى (قارون) (قال إنما أوتيته على علم عندي – القصص 78) ووقع من قبله في عهد الغرور لدى (ابليس) بقوله (أنا خير منه – ص 76)، ولعل الأطباء هم أكثر الناس عرضة للوقوع في عهود الكبر والغرور بأنفسهم وما يملكون من علم إلا من جاهد نفسه وقاوم هواها، وهذا أمر وارد تماماً فالطبيب يرى عجز وضعف الناس بين يديه ويرى نفسه يهبهم أسباب الصحة بما يمنحهم إياه من دواء قد علمه بعد درس عميق وتعلم شاق ومعرفة غزيرة تكسبها دون غيره من الناس عن الحياة والصحة. ولكن الوقوع في المباهاة هذه بالعالمية والتعالي بالعلم على الآخرين ربما ينذر بصدمة كارثية شديدة تحيق بالطبيب إذا تمادى إذ الله تعالى يستدرج مثل ذاك ويمد له في الطغيان حتى إذا عماه الكبر أخذه فلم يفلته فالكبر والغرور ظلم. وكذلك يورثه كراهية الناس على حاجتهم إليه (فما بال طبيب يأخذ الناس عنه وهم كارهون ناقمون ولا يدعون له، وآخر يأخذ الناس عنه وهم راضون محبون شاكرون.. هل يستويان).
تقليل الأخطاء:
إن كل ابن (آدم) خطاء.. هكذا قال النبي. ولكن الواجب اللازم على الطبيب أن يحرص ويسعى بكل ما لديه من عقل وفن إلى تقليل احتمالية وقوعه في الخطأ الطبي فالخطأ الطبي حتى لو بدى بسيطاً قد يكلف الإنسان حياته أو يجعله معاقاً باقي عمره. ولذلك لا يجدر بالطبيب خوض المغامرات والمجازفة في علاج مريضه إلا إذا كانت تلك هي الضرورة القصوى وعندما تصبح نسبة احتمال موت المريض في حال العلاج أو عدم العلاج على السواء هي الأغلب، والله تعالى بذلك أعلم.
أدب المقابلة الطبية:
الإنسان كائن انطباعي.. واللحظة الأولى عادة هي اللحظة الحاسمة عنده. واللحظة الأولى في مقابلة المريض لطبيبه تحدد عنده إما الارتياح والقبول وإما الانقباض والرفض. ولذلك فإن المقابلة الطبية هي من أبرز المواطن التي يتجلى فيها خلق الطبيب. وهي تشتمل على عدد من المبادئ:
أ- التعاطف/ فإذا كان قادة أجهزة المخابرات العسكرية في العالم يعلمون عناصرهم أول ما يعلمونهم أنه (لا دخل للعواطف في العمل) فإن القاعدة الأخلاقية في الطب تكون عكس ذلك تماماً (فينبغي إدخال العواطف في العمل) وهو نوع التعاطف السلوكي الإيجابي تجاه الأخرين (المرضى) وليس نوع العواطف الناجمة عن الأحوال الذاتية والمزاجية جراء الظروف الشخصية التي يمر بها الطبيب. ولعل أبرز صور التعاطف التي قررها النبي صل الله عليه وسلم في معاملة الناس قوله (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طلق) وقوله (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) وخير دلالة لهذا القول ما فسره به (ابن عيينة) حيث قال (البشاشة مصيدة المودة، والبر شيء هين، وجه طليق، وكلام لين) وبخاصة لما يكون الإنسان مريضاً ضعيفاً لاجئاً لطبيبه بالعشم ورجاء الشفاء بإذن الله.
ب- الصراحة مع اللين/ وذلك سواء في التصريح بوضع الحالة أو في أخذ الموافقة بالعلم على العلاج من لدن المريض.. فإن ربنا قد قضى أنه (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك – آل عمران 159)، وأقر رسوله (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه). والصراحة مع المريض عن حقيقة مرضه وطبيعة علاجه لا تنافي اللين والرفق، بل إن الصراحة برفق ولين مما يعطي الأمل للمريض ويريحه نفسياً ويجعله متهيئا برحابة صدر لقبول أمر الله بغير جزع، فمن أدب الرفق أن يبث الطبيب في روع مريضه أنه يتخذ كل ما يمكن من أسباب للعلاج وإنما الشفاء من عند الله، وإن دس الحقيقة عن المريض قد يجعله يواجه الواقع بالتجربة المباشرة بغير تهيئة وهو ما قد يصيبه بحالة يأس واكتئاب بأن الطبيب يقول شيئاً وما يجري على الواقع شيء آخر فهذا هو التطمين الكاذب.. ولكن أيضاً قول الصراحة بنحو صادم جاف قد يضر المريض بما يصيب نفسيته بضرر بالغ ربما إلى الدرجة التي تحول بينه وبين الاستجابة للعلاج. فلا مناص إذاً من قول الصراحة مع اللين والهون والرحمة والرأفة والطرق المستمر على منح الأمل بالله. وبطبيعة الحال أن لكل قاعدة استثناء، فهناك أحوال يقدرها الطبيب قد لا ينفع فيها كثيراً قول الصراحة الكاملة حتى ولو كانت بلين، فهذا يتحدد بحسب دراسة وفهم البناء النفسي للمريض.
الإدارة الطبية الناجحة:
أنه كما أمر الله تعالى نبيه (يحيى) أن يأخذ الكتاب بقوة، فكذلك الطبيب إذا صار مديراً على مرفق طبي أن يأخذ هذه الإدارة بقوة أي بحقها وهذا أخذ أخلاقي في المقام الأول، إذ عليه أن يتبين القدرة على الإدارة هذه في نفسه فهي أمانة تخذي حاملها إلا من أداها بحقها، فإن لم يجد فلا يأخذ التكليف بالمنصب وكل إنسان على نفسه بصيرة. والقاعدة الذهبية في الإدارة الطبية هي قول الرسول صل الله عليه وسلم (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فرعاية الطبيب المدير في إدارته أن يعامل كل من يليه بالعدل بحسب ما يستحق، وأن لا يولي بالتكاليف إلا من هو أهل له ويشرف عليه اشراف مباشر، وأن يتخذ البطانة الصالحة لنفسه، والأهم أن يعين في إدارته الكادر الطبي الكفء ذا الخلق النبيل الذين يقومون بالأعمال الحيوية، وفي الأخير أن يكون كما كان الراشدين العظماء من قبل لا يغلقون بابهم دون أحد أياً من كان. هذا والله تعالى أعلم.
البيت الطائر.. قصة الغرام السامي
البيت الطائر.. قصة الغرام السامي
د. وائل أحمد خليل الكردي
مشكلتنا.. أننا لا نحيا كما الجمادات.. فقصة البيت الطائر ليست مجرد فيلم كارتون للفتية.. وليست مجرد قصة خرافية، وانما كان وضع الحكاية في هذا القالب الخرافي لجذب العقول والأفئدة والمشاعر نحو المغذى الحقيقي للعرض لدى من يشاهدون ولكي يلمسوا ما وراء الحكاية من معان وقيم إنسانية نبيلة.. فليس المقصد الأعلى والأعمق لقصة فيلم البيت الطائر هو ما يتبادر من ظاهر الفيلم أن بيتاً قد طار بصاحبه الآلاف الأميال بواسطة عدد كبير من البالونات المملوءة بالغاز.. وليس المقصد كذلك هو حكاية الطائر الخرافي النادر الذي صرف أكثر من منتصف الفيلم للدفاع عنه ضد المغامر القديم الشهير صاحب المنطاد الطائر والذي فقد رشده عندما انكر عليه الناس ادعاؤه بوجود هذا الطائر على الحقيقة، فعزفوا عنه وفقد هو شعبيته فعزم على اصطياد الطائر واحضاره عياناً للناس كي يعود له صيته مرة أخرى حتى ولو أضاع الشطر الأكبر من عمره في سبيل ذلك.. وقد اضاعه. وهذا ربما أحد الدلالات البارزة المستفادة من هذا الفيلم، أن فقد الشهرة بعد اكتسابها من أشق الأمور وأصعبها على النفس الإنسانية وربما لا يحتمل هذا الفقد للشهرة والجماهيرية إلا من كان قوياً في وجدانه وإيمانه، وإلا فإننا نرى كثيرين من هؤلاء إما أنهم يضعون حداً لحياتهم بالانتحار أو يفقدون عقولهم أو يتحولون إلى مجرمين ساديين أو يتوارون بقية حياتهم بحالة حادة من الاكتئاب النفسي.. ولكن المقصد الأكبر من وراء كل أحداث الفيلم هو تجسيد أروع الأمثلة لأعلى ما يمكن أن يصل إليه أنسان في محبة انسان ومنها إلى محبة الوجود.. فكل ما هنالك أن ذلك الرجل الطاعن في السن (بطل الحكاية) قد فقد زوجته.. ولكنها لم تكن بالنسبة إليه مجرد زوجة أو شريكة حياة بل كانت هي الحياة نفسها، فمنذ براءة الطفولة الأولى وهما يمضيان الطرقات سوياً ويخوضان تجارب الحياة مع بعضهما ويحلمان سوياً، وفي كل عام ينمو معهما ارتباطهما الوجداني ويزداد قوة في الشد.. لقد كانا واحداً وكنا نراهما وهماً اثنين.. وعندما بلغا أوائل عتبات الرشد تزوجا بعضهما لا محالة.. لم ينجبا اطفلا، ولكنهما اكتفيا ببعضهما البعض ليعيشا كل ذرات الحياة.. لقد كان صانع الفيلم بارعاً عندما ركز على اللمحات الصغيرة ذات الدلالات العظيمة كأن تلتحم ايديهما معاً عندما يجلسان يقرأن في الكتب والصحف كأنما ارادا أن تمتزج افكارهما وانفعالاتهما بما يقرأن.. ثم كان لديهم حلم كبير، أن يهجرا هذا العالم الصاخب ويذهبا إلى حيث أقاصي الأرض بعيدا ويبنيا بيتهما الصغير على قمة جبل ينبع منه الشلال لتكون تلك أرض احلامهم و(اليوتوبيا) التي يعيش فيها السعادة المطلقة ذلك الشعب المؤلف من زوجين فقط.. وفي سبيل ذلك كانا يدخران ما تيسر من العملات المعدنية في كل يوم، ولكن كانت دائماً تضطرهما ضرورات الحياة إلى كسر حصالة الادخار.. ولكن يبقى الحلم قائما هناك بلا يأس فيعود الادخار من جديد وفي نفس الوقت بلا توقف عن التفاعل معاً بكل لحظات الحياة.
.
ثم أتي يوم.. ومرضت الزوجة مرضاً لم يبدو له شفاء، وبدأت الرحلة نحو النهاية تقطعت فيها القلوب بتخيل كيف سيكون الفراق، حتى وارها الموت الحتمي.. عاش بعدها العاشق المسن لسنوات مشقوق الوجدان يكلمها ساعة بساعة وعن كل شيء كأن لم ترحل يوما، فلقد كان قبرها داخله، وكان يوقن أنها ليس فقط تسمعه وانما أيضا تنفعل وتتفاعل بكلماته.. وفي كل صباح بعد الافطار والقيام بأعمال النظافة المعتادة وتلميع التذكارات كان يجلس على الكرسي المعتاد والى جواره كرسيها خالياً ليتصفح بشيء من الغصة الحارقة الألبوم الذي حوى رسوماتها منذ الطفولة وعبارتها العذبة المكتوبة إليه، ثم يتوقف متأملاً صورة بيت الحلم التي رسمتها وهو قائم على قمة جبل الشلال وحيداً.. من هنا تبدأ القصة حقيقة، فقد عزم الرجل أن يحقق حلمها الكبير وإقامة البيت على جبل الشلال، ولكن لم يكن يصلح بعد أن ماتت أن يتحقق الحلم بأي بيت يبنيه هناك، لم يكن يصلح إلا البيت الذي عاشت فيه هي وضم حياتهما معاً.. فكان أن صنع العدد الضخم من البالونات في ليلة وطار بالبيت بكل ما فيه. ثم كانت المغامرات التي خاضها عبر وقائع الفيلم مع صديقه شبل الكشافة الصغير.. وفي اخريات الفيلم انفلت البيت من الرجل وطار لوحده بعيداً.. وربما كان ذلك قصداً، إذ لعل البيت الصامت قد استشعر الضرورة من فعل ذلك تماماً كما البشر أو حتى كما تلك الحجارة التي تهبط من خشية الله.. لم يعلم الزوج المتيم ابداً أن البيت استقر من تلقاء نفسه على نفس الموضع الذي رسمته زوجته الراحلة على جبل الشلال.. وكانت الرسالة وراء ذلك:
أولاً- أن الرجل كان لا يمكن أن يعيش في ذاك المكان بمفرده وحيداً دون وجود حقيقي لشريكة حياته، وهذا من باب أن الإنسان حتماً هو كائن اجتماعي.
ثانياً- أن الأحلام تنتهي بتحققها، فلو بقي الرجل مع بينه أو حتى علم بأنه قد بلغ واستقر في المكان المعلوم لتوقف الحلم ولم يبقى ثمة دافع نفسي نحو ما يمكن للرجل أن يهب له الرغبة في الحياة بالتفاعل معه، فقد كان ذاك الحلم هو الخيط الذي مازال حياً يربطه بزوجته وما يمكن أن يقدمه لها بعد موتها فسيستمر بهذا شاعراً بقيمة حياته. ولذلك فبرحيل البيت بمفرده ودون علم صاحبه بمصيره سيظل دائماً هناك شيء من الحلم قائماً في وجدانه.
ثالثاً- برحيل البيت فإنه يتيح بذلك فرصة للرجل أن يكمل حياته بروح جديدة في بيت جديد غير بيته القديم، وبهذه الروح الجديدة المختلطة بروح وذكرى زوجته الراحلة يمكنه أن يقدم السعادة لمن بجواره من أطفال الحي الذي تمنى هو وهي يوماً في الماضي أن يكون لديهما مثلهم.
رابعاً- لعلنا نحسب دائماً خاطئين أن أقلامنا للكتابة والمقاعد التي نرتاح عليها وأرصفة الطرقات التي نمر بها والمنازل الأسمنتية التي نقطنها إن هي إلا جمادات صماء صرف وأنها لا تحس ولا تشعر ولا تفرح ولا تحزن تماماً كما نفعل نحن، وربما أكثر.. ولكن البيت الطائر يؤكد لنا غير ذلك، فقد فهم البيت العتيق الرسالة وأحس بها، فرحل ولم يستقر إلا على جبل الشلال ليحقق بإيثار بالغ حلم العمر لمن كانوا يعيشون فيه والذي ربما صار مع الوقت والحنين والأشواق حلماً له هو أيضاً..
وليس كل ذاك محض خيال لكاتب دراما، ففي العالم الحقيقي توفي في زمن قريب (أحمد الكردي) وهو في أخريات الثمانين من عمره ولم يكن قد شاهد قط فيلم البيت الطائر وحكاية الغرام السامي تلك.. ولكن بعد أربعين عاماً من العيش الجميل معاً رحلت شريكة عمره (وداد) إلى جنات الخلد بإذن الله، فعاش هو بعدها ذات تلك الروح لصاحب قصة البيت الطائر.. حيث عكف لعقد ونصف من الزمان منذ رحيلها يكلمها بكل شيء شعراً ونثراً ومناجاة بنهار وليل والبكاء سراً والضحكات، هو أيضاً كان قبرها داخله، حتى أتى يومه المكتوب ورقد في قبره الحقيقي إلى جوراها..
كل هذا لنعلم أن الإنسان عندما يكون ذا قلب سليم فهو كائن عظيم مكرم في أخلاقه وعشقه وتفاعله مع كل من وما حوله، فيحبه الله ويباهي به الملائكة عنده.. ولنعلم أن العشق النقي والغرام السامي بين الزوجين ليس ضرباً من خيال وأوهام بل هو إمكان واقع حقاً لدى البشر من أصحاب القلوب السليمة تزدان به الحياة.. وهذا ما ينبغي أن يكون.
اثنا عشر رجلا غاضبون
اثنا عشر رجلاً غاضبون..
د. وائل أحمد خليل الكردي
د. وائل أحمد خليل الكردي
في زمان الأبيض والأسود.. فيلم سينمائي أمريكي من مشهد واحد وداخل حجرة واحدة.. اثنا عشر رجلاً هم هيئة من المحلفين في محكمة الجنايات الأمريكية، منوط بهم الوصول الى قرار حاسم بإجماعهم في الحكم بالإدانة على فتى لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره اتهم بأنه قتل والده بطعنه في صدره بمطواة، فإما أنه مذنب أو غير مذنب ولا شيء آخر. وقد بنى الاتهام في القضية حكمه على شهادة سماع من رجل مسن وشهادة رؤية وسماع من امرأة تبدو في منتصف الأربعين من عمرها، ثم أيضاً المطواة الخاصة بالفتى والتي هي أداة الجريمة برغم أنه لم يكن عليها بصماته..
أغلق باب الحجرة على المحلفين الاثنا عشر من الخارج بالمفتاح لأجل أن لا يغادر أحد منهم الحجرة دون وصولهم جميعا إلى قرار موحد، مذنب أم غير مذنب، فإن كان قرارهم بأنه مذنب فسيتم إعدامه على الكرسي الكهربائي وإلا فسيطلق صراحه.. دخل المحلفون إلى الحجرة وهم جازمون بأنهم لن يمكثوا سوى دقائق قليلة هي تلك المدة التي يستغرقها التصويت بأن الفتى مذنب، فكان مما يبدو لأول وهلة أن الجميع مسلمون بذلك دون أدنى شك.. فعزموا على انهاء الأمر سريعاً بكونه مجرد اجراء روتيني محسوم سلفاً خاصة وأن الجو كان شديد الحرارة، وحرارة الحجرة أشد.. ثم كان التصويت كتابة، فجاءت كل الأوراق تحمل كلمة (مذنب) ما عدا ورقة واحدة (غير مذنب).. تصبب الجميع عرقاً للحرارة وبلغ بهم التعجب والاستياء مبلغاً من ذلك الرجل الوحيد الذي خالف الجميع في أمر بدى لهم بديهياً جداً وأن هذا الاعتراض ربما سيستغرق منهم زمناً أطول داخل هذه الحجرة في الشرح والتوضيح.. ثم دارت حول المائدة أسئلة وأجوبة بجدل منطقي حاد. وأظهرت المناقشة أن الرجل صاحب الصوت المخالف لم يقر أنه مقتنع ببراءة الفتى كما لم يكن أيضاً مقتنع بعدم براءته ولم يحاول أن يثبت اهتماماً شخصياً أو عاطفياً تجاه الفتى وانما كان محايداً تماماً في موقفه بأن كل ما هنالك فقط أن أدلة الإدانة لم تكن بعيدة عن (الشك المعقول) فيها، فهو إذن –بعكس موقف الآخرين- لم يعنيه أن يكون الفتى مذنباً أو غير مذنب وإنما فقط كانت تعنية البينة أو الأدلة التي استند عليها القضاة في اثبات الجرم على الفتى، وكان هذا مصدر القوة في موقفه.. وبعد كل جولة من النقاش كان يتم إعادة التصويت وفي كل مرة كان الرجل صاحب الصوت المخالف يكسب واحداً من الاثنا عشر رجلاً إلى صفه بالإقناع العقلي ليغير صوته إلى (غير مذنب). وهكذا أخذ عدد المخالفين يتزايد في كل مرة يصوتون فيها حتى انتهى الفيلم بإقرار الجميع أن الفتى غير مذنب بما فيهم من كان أشدهم تعصباً لموقفه الأول، فتضمن ذلك عدداً من الدلالات التي جعلت من الفيلم (نصاً واخراجاً وتمثيلاً وتصميماً درامياً) عملاً ابداعياً بامتياز..
أولاً- في مواقفنا في الحياة، كثيراً ما نسلم تسليماً قاطعاً بأمر معين ربما لدرجة أن نعتبره أمراً بديهياً معلوم بالضرورة ومعروف بمحض الفطرة فلا يحتاج إلى تفكير. ولكن ما أن نستدعيه من مؤخرة دماغنا لنضعه أمام وعينا المباشر كأنما نراه بأعيننا ونتأمل فيه مرات ومرات حتى نرى أنه طوال تلك المدة الماضية التي عرفناه فيها لم يكن بالفعل أمراً بديهياً، وأننا كنا نتعامل معه من زاوية ظهرت لنا وخفيت عنا منه زوايا.. وهذا تماماً ما فعله الرجل صاحب الصوت المخالف مؤكداً من خلال تساؤلاته المنطقية بأننا لا ينبغي مطلقاً عندما نكون بصدد ازهاق حياة إنسان أو حرمانه من حريته الطبيعية إلى الأبد أن نحكم بما نعتقد –أو نظن أننا نعتقد- أنه حكم مسلم به بداهة لدى جميع الناس ولا يحتاج بذاته إلى برهان قوي. خطورة هذا الأمر أننا كما لو كنا نبني احكامنا على قواعد من الرمال فتنهار قريباً بأن نكتشف -وكثيراً بعد فوات الأوان- أننا كنا مخطئون. وفي قضية مثل تلك ربما دفع ثمن هذا الخطأ إنسان بفقد روحه، فماذا يفيد الشعور بتأنيب الضمير بعد وقوع المقاصل على الرقاب.. لذلك تكلم أعمق الفلاسفة في هذا الشأن خصوصاً (فلسفة الظاهرات) التي أسسها (ادموند هوسرل) وقال فيها بضرورة أن يضع الإنسان خبراته وتجاربه ونتائج معاملاته كلها بين قوسين ليعزلها عن خلفياتها وكل ما يحيط بها من مؤثرات ومن آراء سابقة وانطباعات عند الآخرين، ثم النظر إليها بتفاعل شعوري خالص ومباشر في التو واللحظة، فيكسر الأقواس بعد أن يكون قد أعاد الحكم عليها على هذا النحو الجديد. وقديماً قال (فرانسيس بيكون) أن الإنسان لابد أن يتخلص في أفكاره وأحكامه مما أسماه (أوهام القبيلة) وهي ما يغذى به عقل الإنسان دون تفكير منه نتيجة انتمائه إلى مجتمع معين بما له من مفاهيم ومبادئ وتصورات عن الأشياء والحياة تمت تنشئته تربوياً على قبولها والتصرف على أساسها دون نقاش أو تمحيص أو نقد.
ثانياً- لقد استعمل الرجل صاحب الصوت المخالف أسلوب الفيلسوف (سقراط) في التهكم والتوليد بالتساؤل، حيث أقر أمامهم منذ البداية أنه لا يدافع عن المتهم وأنه لا يعتقد أبداً أنه غير مذنب، هو فقط قال (لا أدري) إن كان مذنباً أم لا لأن الأدلة المساقة لا تجزم بتجريمه.. فهكذا هدم أول درجة في سلم اعتقادهم البديهي فعندما يكون الحكم متعلقاً بحياة إنسان فلا ينبغي أن تقبل أدلة الاتهام أدنى نسبة من الشك المعقول.. على هذا الأساس صار يتساءل ويولد السؤال من السؤال، والقوم يجتهدون في التفكير والرد ليكتشفوا مع كل سؤال جديد يتولد من ردودهم ما في موقفهم من مواطن شك واحتمال المخالفة لم تكن في وعيهم وانتباههم، وهذا يؤكد أنه من تمام الوعي السليم والفطنة في كل الأمور التوقف دائماً والسؤال، وليكن السؤال للذات قبل الآخرين عما هي الأوجه التي يحتملها أي حكم من احكامنا التي نصدرها على الآخرين.. ولذلك كانت كلمة (الشك المعقول) هي المحور الذي دارت حوله دائرة توليد التساؤلات والإجابات مما يعني إما التساوي في احتمالية الحكم المؤيد والحكم المناقض وإما الكسر في بنية الحكم الواحد. ولعل هذا ما جرى عليه المبدأ الفقهي (درء الحدود بالشبهات) والمبدأ القضائي (الشك هو في مصلحة المتهم).. وفلسفياً –لمزيد من الإيضاح- يوضع (الشك المعقول) الذي هو يفرض نفسه على عقل الإنسان بفعل الملاحظة والتجربة بصدد ما كان يظنه يقينياً، في مقابل، (الشك المنهجي) الذي يقصد إليه الإنسان قصداً ويصطنعه اصطناعاً من أجل أن يبرر أحكامه ونتائجه التي توصل إليها بالفعل أو لكي يجعلها يقينية.
ثالثاً- الكثير من أبناء آدم في هذه الحياة يغلفون نوازعهم النفسية الذاتية الخاصة في أحكامهم على الآخرين بغلاف من البينات والأدلة الموضوعية.. فكان من بين الاثنا عشر رجلاً من تطرفوا في التمسك بالحكم على الفتى بأنه مذنب لا محالة، بل ولابد من إعدامه على الكرسي الكهربائي إمعاناً في تعذيبه، كل هذا وهم لا يعرفون الفتى مسبقاً ولم يروه قبل ذلك قط مما يثبت أن حرصهم على تحقيق العدالة والحق والقانون هو محض أمر ظاهري فقط بينما كان هدفهم الحقيقي الكامن في أعماقهم هو الرغبة في إشفاء غليل أنفسهم من أبناء هذا الجيل كله بأنهم جاحدون لآبائهم عاقون لهم، دون أن يفطنوا إلى أن هذا العقوق والجحود كانوا هم الذين أورثوه في نفوس أبنائهم بقسوتهم عليهم.. فيسقطون ما بدخيلة أنفسهم على القضية الموضوعية بلا حياد موضوعي.. وهكذا، إن أكبر الظلم في القضاء وفي معاملات الناس يقع بنحو هذا الإسقاط النفسي تماماً كما أثبت الفيلم.. وأن السؤال النقدي الصادق عن حقيقة مواقف الذين يحكمون يجعلهم يفطنون أن مشاعرهم هي التي كانت تحكم وليس عقولهم.
حتى (سقراط) الحكيم نفسه حكم عليه بالإعدام لاتهامه أنه كان يفسد أخلاق الناس في حين أن ما كان يقوم به هو فعل تنويري توعوي، ومن يحكمون لا يريدون ذلك فأسقطوا في حكمهم عليه بالإدانة والإعدام رغباتهم الذاتية وغلفوها بغلاف العدل والحق وأن هذا ما تريده الآلهة ليسوغوا لأنفسهم وغيرهم ما أفكت يداهم.. وهكذا كثيراً ما نفعل نحن..
تم انتاج فيلم (اثنا عشر رجل غاضبون) في العام 1957م.
قطع الأنسال.. (تاجر البندقية) يعود من جديد
قطع الأنسال.. (تاجر البندقية) يعود من جديد
د. وائل أحمد خليل الكردي
كنت اتحاور مع صديقي الدكتور (شمس الدين يونس) حول ذلك التاجر اليهودي المرابي في مسرحية (شكسبير) الذي أقرض التاجر النبيل مالاً لأجل، وحينما حان الأجل ولم يسدد كان العقد بينهما أن يأخذ اليهودي مقداراً معتبراً من لحم صدره، فأي حياة تبقى له بعد ذلك.. ولكن القاضي أمر بإنفاذ العقد فقط في حدود ما نص عليه بأن يأخذ مقدار اللحم ولكن دون إراقة نقطة دم واحدة.. هكذا كان العقد منذ أوله ومبتدئه فاسداً غير صالح فلا يمكن أن يكون مقابل حفنة من المال إلا حفنة من المال مثلها وليس حياة إنسان..
قفز حينها إلى ذهني أن تاجر البندقية اليهودي هذا يعود دائما من جديد في كل زمان ومكان.. وكان دوماً هناك هدف واحد وراءه يخفى على عموم الناس، وربما أن (شكسبير) قد أراد من وراء مسرحيته هذه أن يكشف عن محاولات فئة من البشر الحد من حياة بشر آخرين لتخلو لهم الدنيا، فلو أن التاجر اليهودي نفذ عهده لمات التاجر النبيل حتف أنفه ثم ينقطع أثره ونسله.. فهناك دائماً أقوام يعملون على إزاحة الآخرين عن الحياة فيلجئون من ضمن ما يلجئون إلى الإبادة البشرية بقطع اسباب النسل سواء كان ذلك بغرض التطهير العرقي بدعوى البقاء للأصلح أو بالأحرى (الأقوى) وهو ما درج عليه غالب التاريخ الإنساني القديم والوسيط.. أو بدافع ما نشهده في عهدنا المعاصر من احتكار وإدارة الثروات الطبيعية لصالحهم دون غيرهم، فما فتئوا يصنعون لذلك شتى الصنائع والتفانين والصيحات العصرية التي توجه انتباه الناس وعقولهم نحو مغذى وهدف معين ظاهر وهم في الحقيقة يريدون بها هدف آخر تماماً محجوب عن الظهور، وهذا ما عجن السياسة بالاقتصاد فيما عرف (بالاقتصاد السياسي) الذي هو التزاوج بين لعبة الأهداف الإنسانية المخفية وسياسة تحويل الثروات إلى أوراق مالية.. فصارت الأرض ملعباً كبيراً يتجاذب أطرافه معسكر رأسمالي أثبت نفسه منذ التاريخ القديم ومعسكر اشتراكي ولد حديثاً نوعاً ما وكان هو دائما ردة فعل معاكسة في الاتجاه على ما يقوله الرأسماليون.. لذلك كانت الرأسمالية تغلب دائماً برغم صعود نجم الاشتراكية بشكل يثير الإعجاب في فترات من التاريخ. حتى أنه يمكن القول أن من يتحكم في عالم الاقتصاد السياسي منذ ظهور نظرية (مالتوس) في السكان في العام 1798م هو ظل (مالتوس) نفسه وما تمت عليه من شروح وتفسيرات وتأويلات تلوح جميعها بما يسمى بالكارثة المالتوسية أو المأزق المالتوسي بأن النمو السكاني يمضي رأسياً في حين تنمو الموارد الغذائية خطياً وهو ما يؤدي في المحصلة إلى تدني مستويات المعيشة إلى حد الأزمات التي يتولد عنها المجاعات والحروب والهجرات الثقيلة، فكان الحل لديه فيما يسمى (النمو السكاني المتأثر بالضوابط الوقائية) أي اتخاذ الإجراءات الجبرية التي تحقق التوازن بين ما هو رأسي وما هو خطي بالتحكم في النمو السكاني.. أي باختصار وبلغة أخرى، قطع النسل بما وسع القاطعون من سبل.. منع الحمل القانوني.. عقاقير منع الحمل.. إضعاف الخصوبة التناسلية.. الإبادة المباشرة.. اجراء التجارب القاتلة على البشر.. تجارة السلاح ونشر الأسلحة البيولوجية.. تأجيج الصراعات العرقية والقبلية.. المهم هو إيقاف التزايد البشري حتى لا يطغى على الثروة والموارد التي يديرها لمصلحتهم أصحاب رؤوس الأموال الذين أرادوها أن تكون دولة بين الأغنياء، والغاية في هذا تبرر الوسيلة تماماً عندهم..
ولطالما كنت أتساءل عن تلك الدعاوى الجديدة في أيامنا هذه والتي يجمع بينها كلها هدف خفي وحيد هو (الحد من تزايد نمو النسل البشري في العالم)، ولماذا تم تغليف هذه الدعاوى بأغطية زاهية من الشعارات السياسية والحقوقية الإنسانية.. فوجدت الإجابة في خبر تخطي العالم اليوم لحاجز الثمانية مليار نسمة والتصور المصاحب لذلك عما سيعانيه كل هؤلاء البشر من صعوبات بالغة في العيش.. وأنه لما كان عالمنا الراهن لا يقبل إلا ما كان سائغاً من ناحية الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية والديمقراطية السياسية، لذلك ابيحت مشروعية الإجهاض القصدي تحت غطاء النسوية وحقوق النساء.. وتعميق المساواة الكاملة بغير عدالة حقيقية وطبيعية تحت غطاء (الجندر) أو الدفاع عن حقوق النوع المستضعف من البشر وهم النساء في مقابل اضطهاد الرجال لهم.. إلى أن بلغ بنا الحال في تفانين قطع الأنسال إلى الجهر عالياً وفي جميع المحافل بشتى وسائل الدعاية بمشروعية المثلية والتزاوج من نفس النوع باسم حقوق الأقليات وإطلاق الحرية البيولوجية للإنسان، فكان ما خفي هو أن زواج الرجل من الرجل لا ينجب وزواج المرأة من المرأة أيضاً غير منتج، فهذا حتماً إذا تفشى سيحد كثيراً من تزايد اعداد البشر بشكل تلقائي وغير مكلف.. وعاد (تاجر البندقية) من جديد ليؤكد أن المثليين هم جسم طبيعي تماماً في المجتمع، وربما تم تجنيد عدد من مشاهير الأطباء النفسانيين ليعلنوا أمامنا وهم يلوون عنق الحقيقة أن هؤلاء المثليين أناس أسوياء تماماً وانما هي كلها أنواع من الحاجات البيولوجية موجودة في الانسان، ولا عزاء في هذا لضمائرهم العلمية فالمال المدفوع كثير ومعه الحظوة.. وفي سبيل هذا حتى الدين طالبوا بإبعاده عن الحياة العامة للناس بزعمهم أن الله لا ينبغي أن يتدخل في حياة البشر وكيفما يكونون (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً) وأن كثير من الحقوق والحريات تضيع وتهدر لأن أصحاب الدين يكبلون أيدي وأرجل الناس من خلاف بتعاليم السماء.. وهكذا، وبالتأثير المتصاعد لهذه الدعاية انخرط كثير من الشباب بل ومن الناضجين ممن يمنون أنفسهم باكتساب قيمة للذات أو حتى لملء الفراغ الوجداني بمخالفة الشرائع واتباع الشاذ الغريب بدفاعهم عن الحق والحرية في أفعال كأفعال قوم (لوط).. وربما هؤلاء لا يعلمون إلا ظاهر من الأمر ولا يقفون إلا على هامش المفاهيم الجادة والحقائق العميقة، فأصبحوا بذلك كروتاً في لعبة ورق كبرى يلعبها اتباع (مالتوس) ممن يديرون رؤوس الأموال العالمية لقطع أكبر قدر من نسل البشر، ولو أنهم آمنو من قريب أن الله قدر لكل نفس رزقها وبقوله (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) لأخرجوا أنفسهم تواً من لعبة الورق تلك ومن دائرة الاستغلال، فإن الإنسان عندما يكون غراً غافلاً يكون مطية سائغة للاعبين الكبار الممسكين بأوراق اللعب..
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)