مركز الدكتور وائل أحمد خليل الكردي للدراسات الإنسانية هو مركز يعنى بالنشر العلمي والفكري ومعاونة الباحثين الأكاديميين (وغيرهم) في العلوم الإنسانية والاجتماعية . ويقوم على تقديم الخدمات الاستشاريه ، والتدريبية ، وتكوين قاعات البحث الافتراضية ، ومهام الارشاد والتوجيه في التخطيط والتأليف العلمي ، والمراجعات التحليلية على الأفكار الأساسية لدى الباحثين وكتاب البحوث والأوراق العلمية. كل ذلك باستهداف مناهج وأساليب وأنماط البحث العلمي وبناء الخلفيات المنطقية في تصميم الأبحاث والأوراق العلمية.
الخميس، 2 ديسمبر 2021
الجبارون يحكمهم الضعفاء
الجبارون يحكمهم الضعفاء ..
وائل الكردي
(الشفقة معناها انفاق مبالغ طائلة من النقود على أناس ضارين وعاملين.. أن المستشفيات والسجون وبيوت المجانين تزخر بأقوى الرجال الذين لا يريدون استعمال قوته، بل يريدون أن يساعدهم أحد على الحياة دون أن يرهقوا انفسهم . لكن لا.. نحن ننصر الضعيف، فإذا جعلنا الضعيف قويا فإن الأقوياء سيفقدون قوتهم، فيركبهم الضعفاء. هذه هي المشكلة، هناك أشياء كثيرة تحتاج إلى التفكير قبل العمل. كان لابد لنا أن نحصل عليها بعقولنا..)،(مكسيم جوركي) في (جامعياتي أو مع الفلاحين) ..
هكذا الضعفاء يسيطرون بافكارهم فكثيرا ما تصدر أفكار القوة والعنف التي كانت اكثر شهرة وتأثيرا على الأقوياء الجبارين عن أناس هم الاشد هشاشة نفسية وضعف في الشخصية والبدن .. وكثيرا ما اغرق مشاهير المصارعة ورياضات القوة الجسدية انفسهم في بناء كتل العضلات بصورة مفرطة وربما هستيرية ليخفوا وراء صورتهم الخارجية ضعف قواهم النفسية ..وكثيرا ما تصدر أفكار ودعوات التعالي على المجتمع وتجاوز الآخرين عن أشخاص غير قادرين أصلا على الاجتماع مع أصناف البشر المختلفين وتعامل الند السوي معهم .. وكثيرا ما يتشبث الغريق
بالقشة المنقذة من هو لا يخاف من الموت فقط بل من مجرد فكرة الموت، وهذا منتهى الضعف .. وكم شهدنا في التاريخ اقوى الملوك
والاباطرة كيف قادتهم نسائهم الوديعات من وراء الاستار الى هلاك انفسهم وممالكهم..
كان ذلك مثل الفيلسوف( فريدريش نيتشه) الذي الهم (هتلر) اعظم قاتل في التاريخ المعاصر بأفكار القوة والسيادة المطلقة والبطش البالغ فاباد بها
ملايين البشر، كان هو - أي(نيتشه) - أضعف الرجال شخصية ووهنا في بنيته النفسية والجسدية حتى أن ضعفه هذا بلغ به إلى الجنون حتى مات .. وفي عهد قريب حدث هذا ايضا للزعيم القائد (جعفر نميري) الذي شهد له الجميع انه كان من اقوى الرجال واشدهم سطوة وباسا ممسكا لزمام الامور ، فكان أن تسلل الاخوان المسلمين بينه وبين عبائته بدس السم الزعاف في دسم الدين والعقيدة السمحة تماما كما يتلبس الجني الضعيف جسد شيخه القوي عندما عاذ به فيراه الناس قويا في حين أنه يتخبطه الجن ويفتنه عن دينه ودنياه، فبطشوا بالشعب بيدي (النميري) وعقدوا حال البلاد حتى استحالت الحياة الكريمة فكرهه الناس وثاروا عليه ..
وليس هذا الضعف مقتصر على الأفراد وحدهم ، فهناك مجتمعات باكملها تستتر بضعفها وراء مجتمعات قوية .. وهناك ايضا الصورة مقلوبة لحكومات دول تحاول ان تدعي القوة لنفسها ولكن بداخلها ياكلها الضعف المرير .. فعندما لا تستطيع حكومة ان تضع خطة استراتيجية واضحة لسياساتها ، وعندما تجتهد الحكومة في اسباغ الترضيات والمحاصصات على الفرقاء
والخصوم ، وعندما لا يستطيع رأس الأمر أن يحكم إدارته الصارمة على أعضاء حكومته فكل هذا يعني الضعف المنذر بالضياع حيث إن هناك من رجال الحكومة من سيرسم بضعف رئيسه للمجرم سبل الخلاص.. ولم يكن قول الله تعالى (إن خير من استأجرت القوي الامين) قولا بعيدا عن قوة الإدارة والإرادة والعقل فالقوي بحق لا يحتاج الى افكار القسوة والبطش والجبروت التي يرسمها الضعفاء ..
فلنحذر اذاً .. أن أخطر البشر هم الضعفاء، سواء الذين يغرقون انفسهم في الضياع بضعفهم او الذين يغرقون مجتمعاتهم معهم بافكارهم عن القوة الزائفة، فوراء كل جبار في الارض بطاش سافك هاتك رجل ضعيف يخط له ما افكت يداه أو انه يفتح له الباب بضعفه ليمر على جثث الأحياء الموتى.. او هكذا يكاد أن يكون الحال .
في صفوف الخبز
في صفوف الخبز..
وائل الكردي
في الشارع، تدور الحوارات.. ويتنفس الناس عبر الكلمات والصيحات والاحتجاجات.. في الشارع، يجد الإنسان أصناف وألوان شتى من الآراء والأفهام والانطباعات.. في الشارع، يرضى الناس ويسخطون، وفي كل حال يشعرون بأنفسهم لا يزالون على قيد الحياة..
وكل هذا الذي يدور على قارعات الطرقات يظهر أن القيم في حياة الانسان هي أمر مطلق وواجب وموضوعي فيظن الكثيرون أنها معلومة لدى كل الناس بالضرورة، وأنه بمجرد النطق باسم قيمة ما يقفز إلى الذهن معنى محدد هو نفس المعنى الذي يقفز لديك أنت ولديه هو ولديها هي.. لكن هل هذا هو ما نراه واقعاً في تداول المفاهيم في المجتمعات، وهل معاني ودلالات القيم متفق عليها لدى جميع الناس؟..
يبدو أننا يجب أن نستصحب قول شاعرنا (المعري):
(لا تقيد على لفظي فإني .. مثل غيري تكلمي بالمجاز)
لقد كشفت مدرسة التحليل اللغوي الفلسفية عن تمييز بين (معنى) أي كلمة وهو ما نتصوره نحن ذهنياً عنها، و(دلالتها) التي هي ما تشير إليه الكلمة في الواقع الخارجي، فليست الكلمات إذاً سوى بطاقات توضع على أشياء، وليست التسميات تنبع من جوهر المسميات.. فلنا أن ننزع البطاقات التي وضعناها على الأشياء ونغير في رسمها ونغمها ثم نعيد الصاقها من جديد على نفس الأشياء، فاستخدام اللغة – أي لغة – هو تماماً كما اللعبة نحن من نصطلح على قواعدها فنتفق فيها ونختلف. وهذا يعني أن اطلاقنا للأحكام والمعاني والدلالات رهيناً بلغة منطقية مثالية كما لغة الرياضيات معلقة فوق رؤوسنا يكفي فقط أن ننظر إليها ونأخذ منها، وإنما اللغة هي محض تفاعل وانفعال وتداول وانطباعات كثيرة، فكل جماعة تغني ليلاها وكل جماعة تتكلم بمجازها..
ولهذا نقول أنه ينبغي بشدة أن نميز بين (مسميات) القيم التي نعتنقها و(مضامين) هذه القيم.. فالحرية والسلام والعدالة هي أسماء لقيم وهي بمثابة بطاقات نتفق على رسمها ونغمها، ولكن عندما نأتي لوضعها على مضامينها والأشياء الي تجسدها فإننا نرى اختلافاً كثيراً، بمعنى أننا نتفق على أن هناك قيم اسمها (الحرية) و(السلام) و(العدالة) و(الهوية) ونتفق على أنها مسميات لأشياء رائعة ومهمة لحياتنا، ولكن إذا سألنا كل إنسان على حده عن معنى أي واحدة منها وما تدل عليه لنحى بنا نحواً مختلفاً عن الأخرين.. نحن يا سادتي من نلون البطاقات اللغوية ونزخرفها ونشكل أطرافها واحجامها وما هو مكتوب عليها، لأننا نحن ولا أحد سوانا كبشر ننتمي إلى شعوب ومجتمعات وحواضر وقرى وبوادي، هكذا (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا).. فإذا قلنا (الحرية) فكما يضع الكريم ذو الأخلاق والدين عليها بطاقته من فضائل الأعمال، كذلك يضع صاحب الرقيق بطاقته عليها بأنها حظوة السادة وخاصتهم دون العبيد، وكذلك يضع المجرمون السفلة بطاقتهم عليها فيقتلون وينهبون ويعثون في الأرض فساداً باسم الحرية، وأيضاً كل ديكتاتور جبار من أمثال (هتلر) و(موسوليني) (ماوتسي تونج) ممن يرون أن الحرية لا تكون للأفراد وانما تكون فقط للجماعات حيث يصبح كل الأفراد رؤوساً في قطعان كما الأنعام.. فبأي بطاقة تصاغ القوانين والتشريعات المقررة والمفسرة للحرية.. وأيضاً هناك من يظنون أن (السلام) لا يأتي إلا بالسلاح، وأخرون يظنون أنه لا يأتي أصلاً بسبب السلاح، وغيرهم يرون أن السلام لا يتحقق إلا باعتلائهم السلطة دون غيرهم.. وكذا الحال مع مفهوم (العدالة) حيث يضع البعض بطاقتها على مبدأ المساواة بين جميع البشر تحت كل الأحوال والظروف، ومنهم من يضعها على ضرورة التمييز الطبقي أو العرقي أو النوعي وهكذا، تحتاج القيم دوماً إلى معايير حتى لا تكون لصالح فئة من الناس دون فئة ولكي تتحقق فرضاً وليس هوىً فيحفظ هذا الميزان الاجتماعي..
ولعل هذه تكون الوظيفة الأساسية للمفكر والمثقف العميق تجاه مجتمعه، ليس بأن يعطي الناس المعاني والدلالات الحقيقية بصورة جاهزة لمسميات القيم لديهم، ولكن لكي يهديهم إلى ما يمكن لهم به أن يستنبطونها بأنفسهم، فتنشأ بذلك قاعدة منطقية مشتركة بينهم ووجدان واحد وهم يطالبون بالحرية والسلام والعدالة.. وحينها تسقط الرموز من الساسة التي لطالما قدسها طوائف من الناس وجعلوهم كأنصاف الهة بحيرتهم وضعف الوعي والثقة وكان ذلك بسبب ما يمنحه أولئك الرموز من دلالات ومعان جاهزة براقة على تلكم القيم.. ولذلك فكما يقاس قدر كبير من الرأي العام في صفوف الخبز كذلك يمكن أن تكون هي محلا لتحقيق قدر كبير من رسالة المثقفين، إذ ليس الأمر رهيناً فحسب بالقرطاس والقلم.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)