الثلاثاء، 5 مايو 2020

صكوك التوبة ..


صكوك التوبة ..

 وائل أحمد خليل الكردي

هل كان (صك الغفران) ممنوحاً فقط في العالم المسيحي زمان العصور الوسطى بأوروبا؟ .. هل أعاد التاريخ نفسه في زماننا فمنحنا بدورنا صكوك غفران جديدة باسم دين الإسلام؟..
(لويس عوض) ناقد مبدع ومحلل للأدب اكثر ابداعاً .. في تدوينه لهوامش على (رسالة الغفران) لمؤلفها (أبي العلاء المعري) عثر في ثناياها على مقولة (صكوك التوبة) التي تم استحداثها في تاريخ الفكر الإسلامي في عهد الفاطميين .. ففي الوقت الذي كان فيه رجال الدين المسيحي الكاثوليك يمنحون التوبة لعوام الناس عن ذنوبهم بصكوك الغفران بعد أن يقدم الشخص المذنب اعترافاً بكل ذنوبه علناً أمام كاهن الاعتراف في الكنيسة، كانت هناك واحدة من البدع الكثيرة التي استحدثها الفاطميون في العالم الإسلامي تسمى (صكوك التوبة) .. وربما كان ذلك نتيجة لاحتكاكهم بالعالم المسيحي قبل مجيئهم إلى مصر، فبهذا قد عرف العالم الإسلامي في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي ما كان قد عرفه العالم المسيحي في تلك الفترة وما قبلها .. وهذا ما تحدث عنه (المعري) في (رسالة الغفران) بسرده لحكاية (إبن القارح) الذي حمل صك للتوبة منحه إياه قاضي القضاة، ثم يضيع منه في الدار الآخرة فيسبب له ذلك متاعب كثيرة، حيث أن الانسان يدخل الجنة لديهم بصك يصدره في الدنيا قاضي القضاة. وهكذا كان (بن القارح) عند (المعري) يريد أن يدخل الجنة على طريقة مسيحيي أوروبا في العصور الوسطى يعطيهم البابا صكوكاً يدخلون بها الجنة ..
وهكذا تثبت الآداب الخالدة نفسها كشاهد على التاريخ الإنساني كله، وتثبت أيضاً أن التاريخ يعيد نفسه من جديد في كل عصر .. فقد أعادت جماعات باسم دين لإسلام في زماننا هذا بفعل السياسة ما كان من بدعة (صكوك التوبة) في عهد الفاطميين القديم ولكن على ثوب جديد معاصر .. فلقد ظلوا يقذفون في روع اتباعهم أن هنالك درجة في التدين أعلى من الدرجة العادية يحصلها فقط من انتمي لحزبهم، فهم الأعلون  أصحاب اليد العليا وبقية الناس هم اليد السفلى .. ولذلك وزعوا المناصب والوظائف وثروات البلاد احتكاراً بين أنفسهم كأنما هي حق خالص لهم، فكانت النتيجة أنهم مهما أفسدوا في الأرض وأياً كان ما اجرموا في حق العباد كانوا يمنحون صكوكاً خفية من رأس تنظيمهم بغفران ذنوبهم وبميلاد جديد لهم في كل مرة وكأنهم صفحة بيضاء لم ينقش عليها إثم قط من قبل .. ولكن صكوك الغفران في هذا العهد جاءت على تطور جديد، فلم تكن فقط بمحو الذنوب والاَثام وإنما فوق ذلك بمنح مكافأة مجزية بأن يرفع من منصبه الذي كان فيه وحكم بظلم ويوضع في منصب جديد أكبر وأعظم شأناً فانطبق عليهم تماماً قول رسولنا العظيم (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)  ..  مثال ذلك الذي اختلس المال العام وهو من رجال القضاء فمنحوه صك توبة ومعه مكافأة بان توجوه عضواً كبيراً بهيئة التدريس بإحدى الجامعات العريقة ثم ولوه فيها مناصب حتى إذا ما بلغ ذروة عالية ولغ بجرم أيضأ في مالها العام ،فمنحوه صكاً آخر للتوبة وفتحوا له الباب ليجد فرصة مثالية خارج البلاد .. ومثال آخر لرجل فقط بحظوة قرابته للرئيس وبانتمائة لحزب المتاجرين باسم الاسلام وهو على غير شيء من كفاءة تذكر اعتلى منصب وزير الداخلية فانهار على يدية بنيان كبير مهم نتيجة الغش الكبير في المواصفات، فلم يراعي أولي الأمر أن ماذا لو كان قد ازهقت روح مئات الأبرياء تحت انقاضه ولكنهم بدلاً من ذلك منحوه صك توبة ومكافأة عظمى بأن نصبوه وزيراً للدفاع ليبني فيها عشرات المباني الفارهة بإنفاق مال لا حصر له مفروض فيه أنه مخصص في الأساس لدعم القوات المسلحة واكنه اهدره بظلم في حفنة طوب واسمنت، ويعلم الله متى ستنهار تلك المباني .. وأيضاً مثال ثالث لرجال ذهبوا خلف الرجال بجلباب أبيض إلى ساحات القتال وعادوا بذات الجلباب الأبيض دون أثر لغبار عليه فمنحوا الارضي والعطايا والثروات بصك توبة أسمه (شهادة عمليات) بينما كان نصيب من كان في مقدمة الرجال واستشهد صادقاً (عرس شهيد) يضحكون به على أنفسهم وعلى ذويه وأهله ظناً منهم أن ذلك يكمم الأفواه ويزيل غصة القلب المحروق .. ومثال رابع وخامس وسادس وسابع ، وقائمة طويلة بطول سنوات الظلم والالم الثلاثون ..
ان أعظم فساد للإنسان عندما يضع لنفسه مرتبة قدسية وينصب منها ظلاَ لله في الأرض، وتعالى الله أن يجعل من خلقة أحداً ظلاَ له في الأرض .. جماعات التكفير والهجرة فعلوا ذلك، وجماعة القاعدة الإسلامية فعلوا ذلك، وجماعة داعش فعلوا ذلك ، وفعله جماعة الإسلام السياسي عندما حكموا .. فأي عبث بالدين هذا ..
إن الشاهد في كل هذا، اننا نحن الشعوب من سمحنا للطاغية أن يكون طاغيًة، ونحن من سمحنا للفرعون أن يكون فرعوناً ، مادام فينا لم يزل يقدس بشراً مثله ويمنحه السيادة عليه لمجرد أنه سليل شيخ على طريقته أو عالم مسموم لحمه .. لقد ظل الكثيرون منا يمجدون أولئك الناطقين باسمه كذبا ولم يسمعوا إلى قول الله تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) ..فهل بعد ذلك سنعيد التاريخ المظلم فينا بتكرار أخطاء الماضي وجهالاته عندما تلوح أمامنا صناديق الاقتراع في يوم قريب ويكون الواجب أن نختار من نوليه علينا أميراً ..أما آن اليوم أن نسقط كل من رهن دين الله لمصلحته فجعل نفسه مفوضاً بالحق الالهي في الأرض وكذلك كل من أدعى أن له حق تاريخي مقدس في سيادة البلاد وحكمها من دون الناس والشعب..
لقد تهكم (المعري) في رسالته قديماً من توبة هؤلاء  الذين منحوا صكوك التوبة الزائفة،  فلا هي توبة من القلب تلازم صاحبها فتدخله الجنة بإذن الله، ولا هي ورقة تشفع لصاحبها في الدنيا عندما تقوم علبهم ثورة الشعب .

(بينة الخبير) في عمران البلدان ..

(بينة الخبير) .. في عمران البلدان

           وائل الكردي
wailahkhkordi@gmail.com
كانت طوابير العملاء في السوبرماركت دائماً ما يكدسون مئات المشتروات على الطاولة امامه وكل يريد حسم حسابه على عجل ليمضي، وكان هو يجري كل عمليات الضرب والجمع والطرح المطولة والصعبة بقلمه الرصاص المجرد دون خطأ واحد في الحساب لكل شخص ورغم كثرة الزبائن وكثرة طلباتهم، فلقد كان عاشقاً لحركة البيع والشراء الحية مع الجمهور بشتى امزجتهم وطبائعهم حتى حذقها تماماً، ولهذا فبمجرد أن تخرج في كلية التجارة قسم المحاسبة اغرق نفسه في مجتمع المهنة دون التفات إلى اناس اخرين من اقرانه استهوتهم الشهادات العليا فوق درجة البكالوريوس فاغرقوا انفسهم أيضا في حياة البحث الاكاديمي حتى شاب منهم الشعر فصاروا اساتذة كبارا في علم المحاسبة بالجامعات، ولكن احدهم  لو أنه جلس يوما خلف طاولة البيع والشراء في سوبرماركت لعجز عن حساب طوابير الزبائن سريعاً إلا أن يؤدي ذلك بالآلة الحاسبة لا محالة نفس ما كان يؤديه ذاك بقلمه الرصاص .. فكلاهما اذن عالم، ونفهم خطأ إذا ظننا أن العلماء هم فقط استاذة الجامعات، وإنما العالم هو كل من فهم بعمق حقيقة ما يعمل وأداره بمهارة وابدع فيه ..
وعطفاً على ذلك، فأن تأذن المحكمة في قضية ما بسماع تقرير خبير فني متخصص مكلف به منها على شروط قانون الاثبات، بحيث تكون خبرته هذه هي حجية السماع لشهادته، فتلك هي بينة الخبير .. فالخبير هو شخص ذو دراية عالية بموضوع فني أو علمي أو عملي، ويستعان به في القضاء لأمور تدخل في اختصاصه، ولا يجوز للخبير أن يتجاوز المهمة المعهود له بها، ويشترط فيه أن يكون إنسانياً واجتماعياً.
في بلادنا النامية، مازالت تبهر اﻷلقاب العلمية والرتب الأكاديمية أعين العامة كفلاشات الكاميرات البراقة وأفيشات اللافتات الباهرة في المسارح والسينمات .. ولكن الذهب رغم نفاسته يستحيل أكله ..
قضت القاعدة الذهبية للقبول في اﻷرض أن يكون اسم الرجل أعظم عند الناس من أي ألقاب أو شهادات، وأن يكون انتاجه فيهم وقوله وعمله بينهم هو الحكم الصحيح عليه .. إذ هناك من يستترون بضعفهم وراء سلطة اﻷلقاب يجعلونها بوابتهم الوحيدة لكسب الاحترام، فتكون الألقاب لهم كقشة النجاة هي تحملهم بدلاً من أن يحملوها هم، وسرعان ما تنكسر القشة فإذا هم بكسرها مغرقون، فالزيف الكاذب يفضحه قصر اﻷمد، وهؤلاء قد رغمت أنوفهم والتصقت أياديهم بالتراب وبصق التاريخ على جباههم ..
وبعيداً عن هؤلاء، كان هناك دائماً الصادقون المفكرون المثقفون الحاذقون لعلومهم وفنونهم وأخذوا علي هذا ألقابهم ومراتبهم بحق وشرف، فصارت هي تبعاً ﻷسمائهم وليس هم التابعين لها .. هؤلاء تحتاج إليهم منصات الشرح العلمي والمحاضرات اﻷكاديمية وساحات الجامعات وقاعاتها، وتحتاج إليهم مراكز التدريب ومعاهد البحث العلمي .. ولكن إذا كان الحديث عن حاجة المجتمع العام وأوساطه البسيطة والمركبة وأزماته الحيوية المعتادة فإن الله تعالى قد قال (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) فمن يعلمون هؤلاء ليس شرطاً لازماً فيهم حيازة الشهادات بل حيازة الخبرة باعتبار أن الحال هنا يستوجب سلطة أخرى غير سلطة الألقاب العلمية والرتب اﻷكاديمية ، يستوجب سلطة الثقافة المجتمعية والكفاءة المهنية .. إذن، فعمران البلدان النامية يتطلب أن يكون في قمة هرم الحكومة فقط منصة الوزراء وليس فوقها مجالس للسيادة، فرئاسة الدولة هي رئاسة مجلس الوزراء .. ثم أن لا تتألف حكومة الوزراء هذه من ذوي اﻷلقاب العلمية وحملة الرتب اﻷكاديمية سواء حملوها بحقها أو كذب، فهؤلاء العلماء دورهم أن يخرجوا المهنيين ثم على المهنيين أن يديروا المجتمع، وليمكث العلماء في جامعاتهم ومعاهدهم .. فالأفضل للحكومة أن تتألف من خبراء هم (مهنيين - مثقفين) .. وأطرق على ذلك مرة أخرى (مهنيين - مثقفين) .. فلو أننا أتينا ربما بأعظم حامل للقب علمي في مجال معين قد غرق جل عمره في خط تخصصه الدقيق وكان لزماً عليه توفير غالب وقته وجهده وخبرته في التزام هذا الخط من أجل بلوغ أعلى درجات العلم فيه، فلن تكون لديه فرصة واسعة لعجن خبرته بثقافة معيشية غزيرة لعمق المجتمعات المحلية وسريان الحال فيها شعوباً وقبائل، وبالتالي فإنه على اﻷرجح لن ينجح في إدارة اقتصاد هذا البلد النامي وإدارة اﻷزمة فيه بوعي كلي يستصحب في إدارتها كل العناصر الدقيقة في بناء المجتمعات المحلية التي لم يكن ليتاح له التعرف عليها واستخدامها لو لم يكن مهنياً ذو خبرة عملية معيشية قد يفتقدها كثير ممن أغلقوا على أنفسهم  جدران المؤسسات الأكاديمية الصرف، ولو لم يكن كذلك ذو ثقافة حرة تمكنه من رؤية المشكلات بكل جوانبها الخفية وكل ما يتعلق بها من مجالات أخرى أو من عناصر قد تبدو ﻷول وهلة غير وثيقة الصلة بها، ولكن هذا لا يمنع أن يكون الأكاديمي هو نفسه المهني المثقف في بعض الحالات إذا أراد هو لنفسه أن يكون كذلك. قس على ذلك كل الخطط الاستراتيجية والخطب التنويرية المجدية لمهام الوزارات المختلفة في مجالات العمل الاقتصادي الاجتماعي والسياسي والزراعي والعدلي والتجاري والاعلامي والرياضي، هنا يكون صاحب الخبرة المهنية الثقافية هو المطلوب الحقيقي للموقع التنفيذي المعين .. وحيث أن القاعدة الذهبية تقول (لا يكفي الفهم العلمي الدقيق للمشكلات من أجل حلها بلا معايشة لواقعها، ولا يجدي معرفة طبيعة اﻷشياء واﻷفعال واﻷقوال بغير فهم للمجتمعات التي تكون فيها) .. هكذا وعندما لا نرى فراغاً بين المعرفة والواقع يظهر أمامنا خير الكتاب، وخير الكتاب من كان حراً في بناء خبرته، تماماً كما (العقاد) و(محمد أبو القاسم حاج حمد) و(ونستون تشرشل) و(باولو كويلو) و(وعبد القادر دقاش) و(بيل جيتس) و(توماس أديسون) وكثيرون في هذه القائمة من الخبراء المثقفون الذين أثروا مجتمعاتهم وغيروها ومنهم من أصبح بكفاءته هو محل الدراسة ومادتها عند طالبي الشهادات العلمية العليا والترقي في الرتب اﻷكاديمية. وكل هذا لا يقدح في أصحاب الألقاب والمراتب وإنما يضع لكل مقام مقال ..   فإذا كان المقام اﻵن في بلادنا مقام الثورة والتغيير والانتشال من هوة الفقر والضياع، فإن قسماً كبيراً من نجاحها يعتمد على اختيار المهني المثقف المناسب في كل مجال بحيث يكون العقد الناظم من وزراء السلطة التنفيذية يتمايزون في تخصصاتهم ولكنهم يشتركون في ثقافتهم المجتمعية.