الأربعاء، 16 مارس 2016

تقرير أداء مركزالدراسات الاستراتيجية والأمنية بجامعة الرباط الوطني سبتمبر 2012م - د. وائل أحمد خليل الكردي


سبتمبر 2012م
تقرير أداء مركز الدراسات الاستراتيجية والأمنية
 بجامعة الرباط الوطني
1 – تم استلام الإدارة الجديدة للمركز في 18/3/2012م بتكليف من السيد رئيس الجامعة.
2 – وجدنا مما هو مثبت في تقارير المركز أنه ظل يعمل على مناقشة قضايا حيوية للدولة والمجتمع من الوجهة الاستراتيجية وذلك على هيئة محاضرات دورية. هذا اضافة إلى إقامة دورات تدريبية (بحسب الغرض) من حين إلى آخر.
3 – منذ تولينا إدارة المركز وضعنا خطة عمل جديدة للمرحلة القادمة تشتمل على ما يلي:
    أ/ خدمة الرسالة الأساسية للجامعة وهي التعليم الأكاديمي والبحث العلمي – فكان ذلك باجراء فوري من جانبنا بفتح باب التسجيل للدراسات العليا لدرجتي الماجستير والدكتوراه بالبحث في مجال الدراسات الاستراتيجية تحديداً وأن يقبل في ذلك أي تخصص علمي للطالب، وتم ذلك باعتماد وموافقة كلية الدراسات العليا ومن ثم الإعلان في الصحف. ونشير في ذلك إلى الإقبال الكبير الذي فاق التوقع للتسجيل للدراسات العليا في هذا المجال. وبلغ عدد الذين أتموا اجراءات تسجيلهم بصورة مكتملة حتى الان (10) طلاب لدرجة الدكتوراه في الدراسات الاستراتيجية وشرعوا في دراستهم فعليا مع مشرفيهم، وهناك أكثر من هذا العدد ممن هم قيد إعداد خطط بحثهم، وأكثر منهم على مستوى الماجستير أيضا  قيد إعداد خطط بحثهم وتكملة إجراءاتهم. لقد كان من ضمن الأهداف الأساسية لفتح مجال الدراسات العليا بالمركز هو خلق قاعدة علمية من حملة الماجستير والدكتوراة في الدراسات الاستراتيجية وفق خلفيات علمية مختلفة لتمثل هذه القاعدة مراجعاً أساسية في تطوير هذا المركز وانتقاله إلى مراتب أعلى.
    ب/ تمشيا مع حمل الجامعة لإسم وزارة الداخلية وارتباطها برئاسة قوات الشرطة يتم الأن إعداد مشروع متكامل – بعد نجاح تجربة الدراسات العليا بالمركز – لرفع المركز إلى مرتبة مدرسة أو كلية للدراسات الاستراتيجية بدءاً باعداد مناهج متكاملة لدرجتي الدبلوم العالي في الدراسات الاستراتيجية العامة والدراسات الاستراتيجية المتخصصة بما يعادل الماجستير بجمع الدبلومين، ثم اعداد مناهج متكاملة لدرجة البكلوريوس في الدراسات الاستراتيجية وفق تعيين أقسام علمية داخلية تستوعب وتعتمد التخصص في الفكر والتحطيط والدراسة الاستراتيجية  ضمن فرع معرفي وعلمي معين. ونشير في هذا الصدد إلى أن مجال الدراسات الاستراتيجية هو من المجالات العلمية الحديثة وذات الاقبال الكثيف من جانب الطلاب والدارسين نظراً لأهميتها الواقعية وملائمة مقرراتها لما يتجه إليه التطور العلمي المعاصر (سيتم بيمشيئة الله تعالى رفع المشروع بصورته المتكاملة والنهائية لسيادتكم للنظر والتوجيه والقرار) بعد فراغ اللجنة المؤلفة من عدد من الخبراء في هذا المجال في إعداد المشروع . نفيد سيادتكم بأن تشكيل هذه اللجنة تم بصورة داخلية من المركز واعضائها هم من ذوي الاختصاص في مجال الاستراتيجية ويدفعهم التجرد الكامل والهم العلمي الرسالي في تحقيق الغرض المنشود وهم يقدمون أعملهم بنحو أقرب إلى التطوع. لذا سيتم رفع المشروع إلى سيادتكم ممهوراً بأسماء هولاء.
    ج/ في إطار الدور الكبير للجامعة في الخدمة العامة فقد اعتمدنا بالمركز إقامة دورات تدريبية قصيرة راتبة ومنتظمة في مجال (الفكر والتحطيط الاستراتيجي) يقصد منها رفع الوعي الاستراتيجي وتمليك أدوات ووسائل التخطيط المنطقي السليم لكل ذو عمل أو مهنة. وتستهدف هذه الدورات على السواء الفئات النوعية المعينة من أصحاب الأعمال والإدارات والمصالح بالقطاع العام وأيضاً عناصر الفئات العامة على مستوى الجمهور أو مؤسسات القطاع الخاص (سيتم بمشيئة الله تعالى رفع التصور الكامل لسيادتكم بصورة منفصلة للنظر والتوجيه والقرار).
    د/ تأكيد دور المركز في العمل الاستشاري للجوانب الاسترايجية على صعيد الجامعة والدولة والمؤسسات. ومن ذلك ما تم اجراءه مؤخراً حسب مخاطبة المجلس الأعلى لتخطيط الاستراتيجي – ولاية الخرطوم بضرورة مدنا إياهم بتوجيهاتنا وملاحظاتنا التحليلية كمركز على تقرير أداء حكومة ولاية الخرطوم وفق الخطة الخمسية المنتهية في 2011م، فاعتمدنا في ذلك نظام البيانات التحليلية والنقدية للخبراء، فقمنا مباشرة بارسال تقرير أداء حكومة ولاية الخرطوم إلى عدد (3) خبراء في مجال التخطيط الاستراتيجي ثم رفعنا ما أفادنا به هؤلاء الخبراء من بيانات تحليلية ونقدية إلى الأمين العام للمجلس الأعلى للتخطيط الاستراتيجي بخطاب رسمي في  8/2012م (تم ارسال خطاب لسيادتكم من قبل بهذا المضمون).
4- في اطار النشر العلمي وترقية أداء الأساتذة والباحثين بالجامعة وغيرها نتجه الان إلى إعداد مشروع اصدار مجلة علمية محكمة نصف سنوية باسم (الفكر الاستراتيجي) تستقطب الجهود البحثية لكافة التخصصات من الوجهة الاستراتيجية.
5- نرجو من سيادتكم كريم تفضلكم بالنظر والتوجيه بما ترونه مناسبا لتحقيق ما هو في صالح نمو وتطور هذا المركز. وجزاكم الله خيرا.

رائد شرطة د/                
 وائل أحمد خليل صالح الكردي
مدير المركز                 
مرفقات:
1/ خطاب التكليف
2/ خطاب المركز للدراسات العليا
3/ صورة الاعلان بالصحف
4/ قائمة طلاب الدكتوراه
5/ صورة خطاب المجلس الاعلى للتحطيط الاستراتيجي
6/ صورة خطابنا للمجلس

            

اليهودى المظلوم وخلفيات أزمة واقعنا المعاصر د. وائل أحمد خليل الكردي





اليهودى المظلوم
وخلفيات أزمة واقعنا المعاصر

د. وائل أحمد خليل الكردي

عندما نتحدث عن منطق موضوع ما من الموضوعات فإنما نشير بذلك الى مجموعة القواعد والمبادىء المنظمة والمحددة لأقوال وأفعال وكيفيات الإستخدام لدى أى كيان أو فئة أو مجموعة . والكشف عن حصيلة تلك القواعد والمبادىء يكشف بدوره عن عقل ذلك الكيان أوالفئة أو المجموعة المعنية بها . وهنا يقوم الحديث عن العقل المحرك لأحداث اليوم والأمس ولربما الغد فى واقعنا المعاصر بما يشعل الحروب ويدير السياسات ويشكل المجتمعات ونعنى به عقل بنى اسرائيل .
    ولفهم هذا العقل لابد من ايضاح متعلقاته بما يلى :
أولاً / بنى اسرائيل من اليهود هم العبرانيين المنحدرين من ابراهيم عليه السلام والمعروفين بالأسباط وارسل فيهم موسى ليكون نبيا لهم . أما اليهودية كديانة فيبدو أنها منسوبة على الأرجح الى يهوذا احد أبناء يعقوب وعممها على الشعب على سبيل التغليب . ولذلك نقول بأن بنى اسرائيل ليسوا هم كل اليهود ، فبرغم من أن اليهودية ديانة اغلقت على أصحابها بعد وفاة موسى عليه السلام إلا أنها توزعت الى فرق هى : الفريسيون وهم يعتقدون بالبعث والملائكة وبالعالم الآخر ، والصدقيون وهم ينكرون التلمود والملائكة والمسيح المنتظر والمتعصبون ويتصفون بالعدوانية . والكتبة والنساخ وقد عرفوا الشريعة من خلال عملهم فى الكتابة ، والقراءون وهم لا يعترفون إلا بالعهد القديم ولا يخضعون للتلمود . والسامريون وهم طائفة من المتهودين من غير بنى اسرائيل ، والسبئية وهم أتباع بنى عبد الله بن سبأ الذى دخل الإسلام ليدمره من الداخل ولكن الذين سيطروا على ادارة كل طوائف اليهود هم بنى اسرائيل وفرضوا عليهم الاخذ بالعهد القديم بشقيه الأساسيين : التوراة وهى أسفار الأنبياء بانواعها والتلمود وهو روايات شفاهية جمعت فى كتاب إسمه المشنا أى الشريعة المكررة ، وقد شرحت المشنا فى كتاب إسمه جمارا .
    واساس تسلط وهيمنة بنى اسرائيل هو باعتبارهم الأصل الأول قبل موسى عليه السلام وهم مصدر التشريع اليهودى . وهذا ما يجعلنا نذهب الى فرضية أن يهود بنى اسرائيل الأصليين هم يهود منطقة موسى عليه السلام والمرجح أنها منطقة بلاد النوبة من خلال وقائع قصة سدنا موسى عليه السلام فى القرآن الكريم ، هذا مما يجعلنا نطرح تساؤلاً مهماً وهو أين اليهود النوبيين ( شمال السودان وجنوب مصر ) ؟ لعله كانت هنالك نوع من التصفية السرية لليهود النوبيين من جانب يهود اوروبا ( الاشكيناز ) لسحب صفة ( بنى اسرائيل ) والصاقها بيهود اوروبا حتى يحق لهم عرقيا حكم الدولة الاسرائيلية بإعتبارهم اليهود الأصليين ومن ورائهم يهود الشرق ( السافرديم ) ويهود أفريقيا ( الفلاشا ) .
ثانياً / الدولة اليهودية الاسرائيلية انما تقوم على من هم من بنى اسرائيل الذين نصبوا أنفسهم شعب الله المختار ؛ والمختار هنا تحمل معنى إصطفاء الله لهم ومعنى الإرادة الذاتية لديهم ، فهم بذلك يكونون الشعب الذى إختصه الله تعالى دون إرادة منه ليحملوا عنه فعل الإختيار والإرادة الحرة،  بل الى درجة احتلال مرتبة الألوهية فى إدارة الكون كله . والآخرة عندهم ليست انتقالا الى ملكوت آخر مغاير لعالمنا بل هى بعد ممتد للعالم الذى نعيش فيه دون واسطة كما عبر عن ذلك ارثر لفجوى فى كتابه ( سلسلة الوجود الكبرى ) .
ثالثاً / الدولة الاسرائيلية تقوم على الدعوة الصهيونية وهى حركة سياسية عنصرية متطرفة ترمي الى إقامة دولة يهود بنى اسرائيل فى فلسطين لتحكم من خلالها العالم كله .
واشتق اسمها من اسم ( جبل صهيون ) فى القدس حيث بنى داود عليه السلام قصره بعد انتقاله من حبرون ( الخليل ) الى بيت المقدس فى القرن الحادى عشر قبل الميلاد ، وهذا الاسم يرمز الى مملكة داود واعادة تشييد هيكل سليمان من جديد بحيث تكون القدس عاصمة لها . وقد ارتبطت الحركة الصهيونية الحديثة بشخصية اليهودى النمساوى (هرتزل) الذى يعد الداعية الأول للفكر الصهيونى الحديث والمعاصر . ومن ثم فالصهيونية هى الحركة الفكرية والسياسية التى تقوم على الدعوة الى سلطة بنى اسرائيل وأن باقى الطوائف من اليهود انما هم توابع اذلاء لا أصول ، بل هم أكباش فداء لنهضة بنى اسرائيل من اليهود خاصة ، وعليه فقد تم التمييز بين طائفة بنى اسرائيل وبين غيرها من الطوائف مثل اليهود الفلاشا          فى أفريقيا مثلا ، وأيضا التمييز بصورة عرقية عنصرية على نمط أفلاطون فى الجمهورية داخل طائفة بنى اسرائيل نفسهم بين من هم سادة واصحاب السلطة وهم فئة الأشكيناز يهود اوروبا والغرب ومن هم                               أشباه العبيد الذين يوضعون فى آخر قائمة بنى اسرائيل ويتم بهم تحديد الحد الفاصل بين بنى اسرائيل ومن دونهم من الطوائف اليهودية الأخرى .
رابعاً / هذه الدعوة الصهيونية تحقق أهدافها على ثلاث منطلقات ومسلمات. أول هذه المنطلقات هى أن العلاقة بين الإنسان من بنى اسرائيل والله تعالى هى علاقة الصراع الأول فى هذا الكون وذلك بوصفهم لله تعالى كما جاء فى سفر التكوين من العهد القديم أنه على صورة الإنسان وأنه لايعلم حقيقة ما يخلقه بيده إلا بعدما يكتمل هذا المخلوق ويتمتع بشخصية مستقلة ثم يأتى بافعال يكتشف منها الله بعد ذلك انه كائن صالح أو غير ذلك أى أن الله لا يعلم ما سيكون عليه الكائن قبل الفعل إلا أن يأتى هذا الكائن بالافعال بإرادة حرة غير موجهة ثم بعد ذلك يستحسن الله الكائن أو يستقبح تماماً كما خاطب الإنسان الإله جوبيتر فى أحد روايات جان بول سارتر عندما قال له جوبيتر ( أنا خلقتك ) فكان رد الإنسان ( نعم ، ولكن ماكان ينبغى عليك أن تخلقنى حراً ، فأنا الآن اقف معك بإرادتى على قدم المساواة ، فإن كنت انت تخلق من عدم فأنا احيل الى عدم ) . اذن فالإرادة فى نظر بنى اسرائيل انما هى للإنسان وانما يملك الله تعالى القوة فقط وليس الإرادة وليس العلم ـــ تعالى الله عما يصفوه علواً كبيراً ـــ وبهذا نشأ فى ظنهم أن هنالك حالة من الغيرة لدى الرب تجاه أبناء اسرائيل الذين شلكوا لأنفسهم بعد خطيئة آدم وخروجه من جنة عدن  مجتمعاً واحداً ولغة واحدة وعقلا واحداً بما يكفل لهم تحقيق القوة المطلقة والعلم المطلق  الذى حرمهم اياه الرب بمنع آدم فى الجنة من اكل ثمرة شجره معرفة الخير والشر وبالقدر الضئيل الذى أكله آدم حصلت له معرفة نوعية بالخير والشر ومفاهيم أخلاقية ومعرفية اخرى. فسرعان مابدت لهما هو وحواء سوائتهما والتى لم تكن بادية لهما من قبل فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة لستر عورتهما بدافع الحياء ، وهكذا أمر الرب باخراجهما حتى لا يكتمل لديهما العلم المطلق بجانب الإرادة فتحصل لهم لهم القوة العليا . ولكن في تفسيرهم أن الرب قد اطلع على توحدهم خارج جنة عدن فى صورة مجتمع واحد وعقل واحد وطريقة حياة واحدة وأن هذا التوحيد كفيل بتحقيق ما كان يمكن ان تحققه لهم ثمار الشجرة المحرمة نزل اليهم كما ورد فى سفر بابل من العهد القديم وبلبل السنتهم بقوته لكى لا يفهم بعضهم بعضاً ولا يحدث بينهم اهم مقومات التوحد وهو الإتصال فتفرقوا فى الأرض أشتاتاً فـكان هذا هو التطبيق الأول لقــانــون (فرق تسد ) وليصبح بنو اسرائيل من بعد ذلك شعوبا وقبائل والسنة مختلفة وغير متوحدة حيث ان ذلك التوحد هو المحقق للقوة لديهم بما يفوق قوة الله تعالى لأنهم يملكون فوقها العلم والارادة ولذلك وصفوا الله تعالى صراحة على نحو ماجاء ذكره فى القرآن الكريم بأنه الفقير وهم الاغنياء وأن يد الله مغلولة وأيديهم هى المبسوطة تعبيرا عن حرية الارادة وجاء تعبير ذلك فلسفياً على يد أرسطو طاليس (الفيلسوف اليوناني المعروف) بقوله ان الله مكتمل فى ذاته ومكتف بذاته ولا يحتاج الى علم الجزيئات الناقصة فى العالم لانه لا يغير به صفة نقص يدرك بها ماهو ناقص فهو لايعلم عن الإنسان ولكن الإنسان يعلم عنه .
      وثانى هذه المنطلقات ، وهو مكمل للأول وهو إيمانهم المطلق بما أنزله الله تعالى فى القرآن الكريم فى ذكر علو بنى اسرائيل  - بني اسرائيل على وجه التحديد وليس كل اليهود -  مرتين فى الأرض فجاء تفسيرهم لذلك أن العلو الثانى هو نهاية التاريخ أى نهاية التحولات التاريخية والثبات والإستقرار على الحالة التاريخية النهائية التى تبع لها شكل وصورة تطور العالم بعدها الى مالانهاية ، وهذا لن يتم إلا بعد أن يصير بنى اسرائيل تحت راية الدعوة الصهيونية جسداً واحداً ولغة واحدة فبذلك تحصل لهم القوة جميعا امام الله أولاً وأمام باقى البشر ثانياً . لهذا تطلب الأمر منهم تحقيق هذا عبر المقومات  الأساسية للدولة من أرض وشعب وسلطة . ولا نحسبن فى هذا أن تهجير اليهود من بنى اسرائيل وغيرهم من بلادهم الى فلسطين لتكون هى أرض الميعاد وهم الشعب المختار والسلطة هى الإدارة الصهيونية .
انه كان دائما تهجيرا طوعيا بل كان فى اكثره ، وهو ماخفى عن الناس لاول وهلة ، تهجيراً قصرياً واجبارياً . وهنا يكون المنطلق الثالث أن الاستراتيجية السياسية فى تحقيق بروتوكولات صهيون هى استخدام الطوائف والفئات الأخرى لليهود من غير بنى اسرائيل والذين لا يتمتعون بالعلم والإرادة والقوة كأكباش فداء ودروع بشرية وضحايا لعبور بنى اسرائيل ذو الهدف المنشود وربما اقتضى الأمر استخدام بعض قليل من قوم بنى اسرائيل أنفسهم عند الضرورة القصوى كضحايا ولكنهم فى هذه الحالة يعتبرون شهداء بعكس الضحايا فى اليهود من غير بنى اسرائيل  الذين لايمكن اعتبارهم شهداء لأنهم بحكم عرقهم وعنصرهم خلقوا ليكونوا ضحايا ومعابر بشرية فتلك هى وظيفتهم . أما من هم من غير اليهود اصلا فقد أسست لهم الصهيونية منظمات عالمية سميت بالماسونية والتى تعنى
 ( البناءون الأحرار ) وقد أقيمت لها العديد من المحافل فى جميع أنحاء العالم لسوق وتجنيد من هم من غير اليهود أصلا لخدمة وتحقيق بروتوكولات حكماء صهيون وهى دستور الحركة الصهيونية ، وذلك بطريقة غير مباشرة وفى نفس الوقت ذات تأثير بالغ فى الإستراتيجية الإجتماعية لاسرائيل وجل من انتمى من غير اليهود الى هذه المحافل الماسونية هم من مشاهير الشخصيات البارزة والمؤثرة فى العالم والذين جاء إنتمائهم اليها بدافع من الإغراءات الاقتصادية أو الإجتماعية أو الاعلامية أو السياسية . وقد علم القائمين على الماسونية العالمية أن تحقيق تجنيد هؤلاء الاشخاص من غير اليهود لخدمة بروتوكولات حكماء صهيون وتنفيذها انما لابد أن يأتى بأحذ طريقتين : أولهما هو اضعاف صله هؤلاء الاشخاص بدياناتهم الاصلية عن طريق الدعوات الفكرية التحررية وصولا الى الالحاد الكامل . وثانيهم هو غرس فى معتقداتهم مايدفعهم بأمر الدين أن يلبوا مطالب بنى اسرائيل طوعا أو كرها ومثل ذلك ما تم غرسه فى عقيدة اليمين المسيحى المتطرف - وهى العقيده التى ينتمى اليها الرئيس الامريكى جورج بوش - من اعتقاد مقدس بأن نزول المسيح الى العالم فى المستقبل مرهون تماما بقيام دولة بنى اسرائيل فى فلسطين .
       ولعلنا نرى من جهة أخرى فيما قد تظهره ملفات الاستخبارات العسكرية لدول الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية أن المحرقة اليهودية الشهيرة هى بالكلية صنيعة اسرائيلية وذلك أن القائمين على أمر الحركة الصهيونية قاموا بدفع العشرات من اليهود الى النازية فى المانيا بقيادة هتلر لابادتهم فى المحارق وذلك لهدفين : اولهما اكتساب التعاطف العالمى والاعانات والتدبير الكافى لاقامة دوله اسرائيل من جهة، ومن جهة ثانية تزكيه عقدة الذنب لدى اوروبا لتدفع لإسرائيل كل بضعة اعوام مليارات الدولارات تكفيرا عن تلك المحرقة . والهدف الثانى، وهو لايقل أهمية عن الاول، اجبار المواطنين والرعايا اليهود في اوروبا وغيرها الى الهجرة والتجمع قهرا فى ارض فلسطين . واصحاب الدعوة الصهيونية رغم انهم يؤمنون بما جاء فى القران الكريم من علوهم فى الارض الا انهم يحرفون الكلام عن مواضعه بجعل هذا العلو الاخير علوا نهائيا ومستمرا ودائما لامنتهى له بعد حصول القوة لهم بجانب العلم والارادة بفعل اجتماعهم وتوحدهم بما لايمكن الرب من بلبلتهم وتشتيتهم فى ارجاء الارض مرة اخرى .
خامساً / من هذا الاستقراء السريع للمنطق الصهيونى فإننا نخلص الى الاشارة الى بعض ما حدث فى الآونة الأخيرة . واعنى بذلك اولاً ماحدث كنتيجة للرسوم الكاريكاتورية على النبى محمد صلى الله عليه وسلم ، والملاحظ فى هذا الامر أنه قد جاء بعد دراسة وافية لطبيعة عقل المسلم العربي والشرقى على وجه التحديد . فبنوا اسرائيل قد علموا انه اذا صدرت   هذه الرسوم فى صحيفة مستقلة وليست فى بيان حكومى رسمى وفى بلد مسالم وبعيد عن اثارة المشكلات كالدنمارك في نفس الوقت الذى فيه يعتبر الشرق الأوسط من اكبر الأسواق للمنتجات الدنماركية ، نقول ان صدور هذه الرسوم تحت هذه العناصر ستؤدى حتماً الى اشتعال ثورة الإنفعال العربى والشرقى المسلم كما هى العادة لدى العرب والشرقيين ولكن بحساب أن هؤلاء العرب والشرقيون ليس لديهم من القوة العسكرية ولا السلطة القوية ما يمكنهم من محاربة بلد اوروبى لذلك فإنهم لامحالة سيلجاؤن الى مافى أيديهم وكل مافى وسعهم فعله وهو المقاطعة الإقتصادية بحماسة عاطفية غير متعقلة وهو بالضبط المطلوب من بنى اسرائيل ، ففى اللحظة التى يغيب فيها الإستهلاك الإقتصادى العربى والشرقى عن أوروبا ينفتح الباب على مصرعيه أمام أسواق ومصادر أخرى للتسويق والإستهلاك الإقتصادى وهى بالطبع مصادر يحركها الاسرائليون من تحت الغطاء وتعلن عن نفسها بأشكال بعيدة تماما عن اسرائيل ، وهذه خطوة مكملة لما قد بدأته اسرائيل من استثمارات ضخمة فى أفريقيا مستغلة بذلك غياب رأس المال العربى والشرقى فيها .                                                                                   
 والإشارة الثانية هى الى الحرب فى غزة ، فالربما كانت هذه الحرب فى هذا التوقيت تحديدا بنهاية رئاسة الحليف الأكبر لاسرائيل جورج بوش الابن للولايات المتحدة الأمريكية ، فذلك لأنهم يرون أن من سيأتى الى الرئاسة بعده هو من ذوى العرق الافريقى الأسمر والذى يحمل فى طى فطرته نوعاً من عاطفة الثأر العرقى القديم للسود المضطهدين ، وعلاقة ذلك باسرائيل هو ماقد حدث من ثورة لليهود الفلاشا فى اسرائيل قبيل حرب غزة بأيام مطالبين بادميتهم وحقوقهم فى المجتمع الاسرائيلى الذى هاجروا اليه قصرا  باتفاقات سياسية لا ناقة لهم فيها ولا جمل الأمر الذى فضح بصورة مشينة وساخرة أن اسرائيل هى الأكثر تعصباً وعنصرية وتفرقة بين العرق الأبيض والأصفر والأسود .                                                                              
ولعلنا نختم مقالتنا هذه بملاحظة أن اسرائيل تعتمد فى ادارتها لأهدافها على مبدأ نقل الصراع وما يتبع ذلك بالضرورة من نقل الرأى العام بالكلية نحو المنطقة المنقول اليها الصراع ، وماحدث فى أيام حرب غزة ماهو الا نقل للصراع كواحدة من أهداف هذه الحرب من باقى المناطق الاستراتيجية فى فلسطين وتركيز هذا الصراع فى منطقة غزة التى لا تخدم كثيراً فى الوقت الراهن على الأقل الاغراض الاستراتيجية لاسرائيل وتبعا لذلك تم نقل واختزال الرأى العام العالمى كله بصورة انفعالية وعاطفية نحو احداث غزة فحسب لعدد قليل من الايام ولكنها كافية تماماً لتحقيق ماستكشف عنه الأيام القادمة وربما السنوات القادمة من عمليات مهمة تجريها اسرائيل فى القطاعات الأخرى من فلسطين المحتلة تخدم بها الأغراض الصهيونية ، ولكن ما يخشى هو أن يأتى هذا الكشف بعد فوات الأوان .                                                          



منطق المشكلات الزائفة Pseudo- Problems د. وائل أحمد خليل الكردي


منطق المشكلات الزائفة
Pseudo- Problems
(دراسة في مسألة المنهجية العلمية للتفسير والتأويل)


د. وائل أحمد خليل الكردي


(أ‌) مقدمة:
إذا كانت دعوى الفلسفة التحليلية اللغوية بقيادة أقطابها (رسل)
B.Russel و(فيتجنشتاين) L. Wittgenstein، وفلاسفة مدرسة أكسفورد ومن قبلهم فلاسفة مدرسة الوضعية المنطقية Logical Positivism، أنهم قد ذهبوا إلى وصف الكثير من مشكلات الفلسفة في ماضيها وحاضرها بأنها مشكلات وهمية أو زائفة؛ أي أنها ليست من قبيل المشكلات أصلاً؛ فإنه قد كان في ذات الوقت ما يدعم الاتجاه نحو التحليل اللغوي المنطقي كمنهج وحيد للفلسفة في مستقبلها بحجة أن لم يترك لها (العلم) سوى رصد ومراجعة مفاهيمه وإعادة ربطها في سبيل تكوين رؤية كونية شاملة World- view.
عليه، يمكن أن يقوم الادعاء من هذا أن حجية هذا الأمر مرهونة بشاهد التاريخ شرقاً وغرباً والذي مثَّل تحقيقاً عملياً قائماً لهذه المشكلات ونتائجها من جهة، ومن جهة أخرى مثّلت سبباً منشئاً وتبريراً لمثل هذا المنهج التحليلي بحجته القوية، حتى أن الإشكال قد انسحب على كافة أوجه البحث المعاصرة بما في ذلك فلسفة العلم
Philosophy of Science.
(ب‌)مناهج التحليل المنطقي للغة وكشف المشكلات الزائفة:
بدأ منطق المشكلات الزائفة من الدعوى التي أقامها فلاسفة المنطق واللغة والعلم المعاصرين، وهي أن كثير من الأسئلة الفلسفية التي طُرحت على امتداد تاريخ الفكر الفلسفي هي من قبيل الأسئلة التي تقدّم مشكلات تستعصي على الحل الحاسم والنهائي، وهي تستعصى لا لأنها مشكلات صعبة ومعقّدة، بل لكونها ليست من قبيل المشكلات أصلاً، أي أنها مشكلات زائفة
Pseudo Problems. وقد نشأت أصلاً عن سوء استخدامنا وفهمنا لمنطق لغتنا أياً كانت هذه اللغة(1). فالشاهد أن أي نوع من اللغات المتداولة لها إطار ضابط يحكم كيفية استخدامها. وسواء كان هذا الإطار الضابط هو مقابلة واقعية مع مجريات العلم الطبيعي بما فيه من خروج على إرادة الإنسان واختياره، أو أنه كان سياقاً اجتماعياً يفرض مجموعة من القواعد للاستخدام والفهم للغة وفق طريقة أو نمط معيّن للحياة. نقول سواء كان الأمر على هذا النحو أو ذاك، إلا أن القاسم المشترك بينهما هو (علم المنطق) Logic في عموميته بما فيه من أنساق مختلفة نوعياً بما يلائم خصوصية كل حالة. ولعل علم المنطق هذا في تطوّره الأخير قد تعددت في داخله الأنساق مثل منطق القيم –الثنائية Two- Valued logic ومنطق القيم –المتعددة (2)Many- Valued Logic . ومنها ما يختص بالمسائل العلمية مثل منطق ميكانيكا الكم (3)Quantum Mechanics. ولكنها جميعاً تصب في نهاية الأمر في فحص وضبط وتنظيم السياقات اللغوية العامة في بناء العلامات Signs من جهة دلالاتها ومعانيها Semantics أو من جهة بنائها وتركيبها Syntax أو من جهة تداولها واستخدامها Pragmatics.
وبالإشارة إلى هذه الأنظمة المنطقية تم لدى فلاسفة التحليل اللغوي فحص مسألة المشكلات الزائفة على اتجاهين أساسيين:
أحدهما هو الاتجاه الصوري
Formalism والآخر هو الاتجاه اللاصوري informalism . تمثلت عناصر الاتجاه الأول بصورة أساسية لدى مدرستي (الذرية المنطقية) Logical Atomism مع (رسل) و(فيتجنشتاين)، و(الوضعية المنطقية) Logical Positivism مع (كارناب) R.Carnap و(اير) A. Ayer وغيرهم، إضافة إلى فلاسفة المنطق الرمزي/ الرياضي Mathematical / Symbolic logic المعاصر أمثال (هيلبرت) Hilbert و(كواين) Quine و(تارسكي) Tarski و(فريجه) Frege و(جودل) Giödel. وكان زبدة القول لدى هذا الاتجاه هو ضرورة إتباع ما عرف بمبدأ (الاقتصاد الأنطولوجي) Ontological Parsimony الذي تبناه بصفة خاصة (بيرتراند رسل) نقلاً عن (وليم أوكام) W.Ockham (1285- 1347)، فبالنسبة إلى هذا المصدر الأخير عُرف هذا المبدأ اصطلاحاً باسم (نصل أوكام) Ockham’s Razor ونصه:
" لا يجب مضاعفة الكائنات بغير ضرورة "
Entia non Sunt Multiplicanda Praetor necessitatem.(4)
ومن قبيل استخدام هذا المبدأ في سياق الكشف عن المشكلات الزائفة هو أن ما لا يعتمد كموضوع حقيقي في الخبرة – وهو الموضوع الخاضع للشروط التجريبية- لا يمكن أن يكون عضواً ذا اعتبار في الحقل الدلالي للذهن البشري. والذي تعمل وفقاً له قوانين المنطق وأغراضه بمقتضى أن ما له معنى هو ما كان تحليلياً
Analytic أو تركيبياً Synthetic مثل قضايا العلم الطبيعي والرياضي. أو بقول آخر، هي فئة القضايا التي تقبل الحكم بالصدق أو الكذب، وما عدا ذلك فهو خلو من المعنى Meaning less(5) .
وعلى هذا تم تأسيس الشكل القاعدي للتفكير على ما عُرف لديهم بمبحث (الميتا- منطق)
Meta- Logic وهو نظرية لدراسة الأنساق Systems والتصورات Concerts في المنطق الصوري المعاصر، ويتجه البحث فيه نحو المشكلات النظرية المتعلقة بالبراهين Proofs والتصورات القابلة للتعيين والصدق في اللغات الصورية، والعبارة Dnterr Privation والمعنى Sense وما إلى ذلك. وينقسم مبحث (الميتا- منطق) بدوره إلى جزئين: السنتاكس المنطقي Logical Syntax والسيمانتكس المنطقي Logical Semantics وهما متعلقين بدراسة البناء الرياضي والدلالة المنطقية على الوقائع Facts في اللغات الصورية Formalized Language(6) هذا ما اعتقده أصحاب الاتجاه الصوري في معرض بنائهم (للغة مثالية) Ideal Language خالية من الخلط والخطأ واللبس والغموض التي تتضمنها اللغات العادية، فطالما أن معاني الروابط المنطقية (السنتاكس) واضحة يستطيع المناطقة تقرير القضايا (السيمانتكس) بوضوح أيضاً، وتكون قيم صدقها محددة ومتحررة من المضامين الميتافيزيائية. ويكون في مقدورهم صياغة أنساق من العبارات وبيان اتساق بعضها مع بعض. والشيء الأساس الذي كان يطمح إليه أصحاب هذا الاتجاه هو بناء العلم على أسس ثابتة وواضحة طالما أن عبارات العلم يمكن التعبير عنها عن طريق هذه اللغة المثالية أو اللغة الكاملة منطقياً والتي من أهم سماتها أنها تميز بين ما هو شكل حقيقي واقع يحل عبر الوسائط المنطقية- التجريبية، وبين ما هو شكل جدلي زائف لا يدور إلا في فلك الأغاليط اللغوية الميتافيزيائية والتي لا حل لها(7).
أما الاتجاه الثاني، وهو الاتجاه اللاصوري، فقد أقيم كاتجاه مناقض للاتجاه الأول بتأسيسه على مناصرة اللغة العادية. حيث كان انطلاقهم من قاعدة طرحها فيلسوف مدرسة أكسفورد
Oxford (ستراوسن) Strawsan ونصها: " أن قواعد منطق (أرسطو) وقواعد (رسل) لا تعطيان المنطق الدقيق لأي تعبير في اللغة العادية، لأن اللغة العادية ليس لها منطق دقيق(8). وهذا يعني في تفسيره الصحيح ليس إلغاء المنطق بالجملة وإنما الانتقال إلى مستوى آخر من مستويات الرؤية المنطقية بما يمثل معياراً ضابطاً للفهم والاستخدام المعنوي والدلالي للعلامات ولكن من داخل السياق اللغوي المعيّن وليس مفروضاً عليه من خارجه. فإذا كان الصوريون يقيمون مطالبتهم الفلسفية باللغة المثالية على الفروض التالية:
1.المعيار الأساسي الذي نحكم به على كفاية اللغة هو قدرتها على الوفاء بحاجات العلم.
2.لا يمكن ضمان التعبير بوصفه معقولاً إلا إذا قدمنا له توضيحاً أو تحليلاً لمعناه.
3.لا بد من أن يأخذ كل توضيح للتعبير صورة التعريف الدقيق الذي يكون تقريراً عن تكافؤ منطقي.
ويرد اللاصوريون على هذه الفروض بقولهم: أن اللغة تؤدي أغراضاً كثيرة لا تقل في أهميتها عن أغراض البحث العلمي. ويمكن اكتساب معرفة تامة لما يعنيه التعبير، بل بالأحرى معرفة معقوليته من غير معرفة تحليلية. إضافة إلى ذلك أنه إذا كان من الحق أن الوسائل الصورية سهلة الانقياد إلى المعاملة النسقية من جانب المنطقي، فيبقى من الحق أيضاً أن هناك حججاً واستدلالات كثيرة يأتي التعبير عنها في اللغة الطبيعية وليس في حدود الأدوات الصورية، ومع ذلك تكون استدلالات صحيحة (9)
Valid.
ومن هذا الإطار ذهب رائد هذا الاتجاه (لدفيش فيتجنشتاين)
Wittgenstein L. في فلسفته المتأخرة إلى وضع المقولات المفتاحية لضبط الفهم على ما يقال وما يمكن أن يقال؛ على اعتبار أن منشأ المشكلات الزائفة –في وجهة نظره- هو الاقتصار على النظر إلى الألفاظ من حيث ارتباطاتها الشاذة وغير المألوفة، وأنه لا سبيل إلى تجنب الوقوع في أمثال هذه الألاعيب اللفظية إلا بمعاودة فحص اللغة في استعمالاتها العادية، بدلاً من الانسياق وراء تلك المفارقات اللفظية التي طالما حفلت بها كتابات الفلاسفة(10).
ويتحقق هذا المعيار في كشف القواعد التواضعية
Conventional Rules الحاكمة لكل حالة استخدام عادي للغة الطبيعية على نحو ما يتم في اللعبة Game. وهذه القواعد التواضعية إنما تستمد من أبسط أشكال الاستخدام التلقائي للغة وهو ما يعرف بلعبة –اللغة الأولية Primitive Language- Game، فأصبحت بذلك لعبة- اللغة نموذجاً Model ينتمي إليه كل استخدام تلقائي أو قصدي وفق الشرط الاجتماعي الذي يفرض وسيطاً تفاهمياً بين المتعاملين بهذه الطريقة في الاستخدام. وهذا بدوره يفترض وجود حقل دلالي واقعي يمثل سقفاً معرفياً يشترك فيه لزاماً هؤلاء المتعاملين(11) وهو ما أسماه (فيتجنشتاين) بالمشابهات العائلية Family Resemblances؛ أي أن فئات العلامات Sets of Signs تمثل عائلات طبيعية وكل منها تألف من تداخل وتقاطع التشابه. وعليه، فإذا كانت أسرة الأسماء –والتي تتصف بالتداخل والاشتقاق بعضها من بعض هي ليست من عائلات أو أسر طبيعية (تلقائية وأولية مثل اللغة المتعلمة في المهد) فسوف يكون النجاح في التعرف عليها ومعانيها ودلالاتها ومن ثم تسميتها هو دليلاً وإثباتاً لمجموعة من المميزات المشتركة التي تتطابق مع كل مجموعة أسماء نستخدمها.
وهذا من شأنه أن يساعد على مجاوزة المشكلات الزائفة التي يمكن الوقوع فيها نتيجة الاستخدام الشاذ لدلالات ومعاني العلامات بما يخرجها عن الإطار النهائي لحقلها الدلالي والذي توثقه المشابهات العائلية. كما أن في ذلك خدمة لما قد أسماه (كون)
Th. Kuhn بالنموذج Paradigm المحول لمرحلة (علم شاذ) أو خارق لما هو مألوف ومتفق عليه إلى مرحلة علم سوى Normal Science تستقر فيه الدلالات والمعاني في سياقات منتظمة(12) تتحوّل فيها الصفات الكلامية إلى إجراءات وظيفية تؤدي أفعلاً عملية بالنسبة لمختلف طرق وأنماط الحياة فيما يمكن الحديث عنه بالنسبة لكل طريقة أو نمط..
وعليه، فإن التفضيل هنا يجنح نحو استخدام ما ذهب إليه الاتجاه اللاصوري –بنحو من كونه أدوات للتحليل- بصدد مراجعة وإظهار المشكلات الزائفة في تأويل النص القرآني، وخلق هذا التأويل لعلاقات جدلية زائفة تتوسط ما بين النص القرآني في فهمه وبين حقيقة ما عليه الناس من أمر.
ج/ حجية فحص المشكلات الزائفة بصدد نماذج من العقائد والعلم:
إن (المنطق)
Logic بأنساقه التقليدية لم يعد هو إظهار صحيح الفكر من فاسده بنحو موضوعي مطلق ومحايد، بل هو الأداة Toole التي تستخدم بكيفية يمليها نسق فكري أو عقدي معيّن ليثبت بها ما يتسق معه في النظر إلى ما هو صحيح من الفكر وما هو فاسد.
وإشارة ذلك هي أن المشكلات
Problems والمشكلات الزائفة Pseudo- Problems يكون الداعم لكلاهما في إقامة الحجة هو خاصية الأداتية التي تمثل علم المنطق بكل ما فيه من قياس وحساب قضايا وحساب محمولات وعلاقات ودوال وثوابت ومتغيرات. إذن فالمنطق هو سلاح ذو حدين؛ ويمكن لنا الإفادة منه بالحد الذي يحقق لدينا صفة (الضبط الدلالي) الذي يضع حيزاً فارقاً بين دائرة ما هو مشكل ودائرة ما هو مشكل زائف. وذلك يقتضي إشراك الدلالة الوظيفية بصورة أساسية بالنسبة لكل مجال من مجالات الاستخدام المنطقي. وعلى هذا الأساس يتم التمييز للمشكلات الحقة بأنها تساؤلات بكيفية في الاستخدام بتعامل المنطق معها لوضع إجابات عنها يتوقف عندها التساؤل وينتهي أو على الأقل لا يستمر. أما المشكلات الزائفة فإن كيفية استخدام المنطق بصددها لا يؤدي إلى وقف التساؤل بتقديم إجابات وحلول حاسمة عنها، بل يستمر التساؤل أو على الأقل يظل قائماً برغم ما يقدم عليها من إجابات متعددة.
وأبرز ميدان لتمثيل حجية هذا الأمر هو ميدان التأويل للنصوص القرآنية بإعمال العقل فيها ومظاهر ذلك عبر تاريخ الفكر الإسلامي منذ عهد المتكلمين وإلى يومنا هذا. ويمكن في هذا الصدد تعيين عدد من المسائل العقدية والعلمية المتضمنة لمشكلات زائفة. من هذه المسائل ما أحدثه (المتكلمون) من قول في صفات الله تعالى والذات الإلهية، فانقسموا بين مجسم ومشبه ومعطل وغير ذلك(13) وكذلك مجادلاتهم في قضية الجبر والاختيار والتي أفضت إلى معضلات كبرى ومعقّدة على مستويات الفعل الإنساني لم تحسم حتى الآن.
ومن المشكلات الزائفة مشكلة العلاقة الجدلية بين العقل والنص أفضت إلى أزمات فكرية ومذهبية أظهرت اختلافاً كبيراً في قراءة وفهم الأصول النصية بل والاستنباط منها والقياس عليها.
وهنالك أيضاً مسألة قدم وحدوث العالم من المشكلات الزائفة التي حق بصددها القول أنها كما الاختلاف بين نظر الفيلسوف ورسالة النبي؛ فالنبي لا يدعي لنفسه فضلاً بل يبلِّغ رسالة أُوحي إليه بها من الله تعالى. أما الفلاسفة فما يزالون مختلفين في مبحث الوجود حول ما إذا كانت ماهية وكليات الكائنات مفارقة عنها أو مباطنة فيها، ولكل حجته ومنطقه.
كل ذلك مما فتح الباب للادعاء بالحق والتفويض الإلهي في الإمامة والخلافة انتهاءاً إلى التحزب والتكفير وإشعال الحروب. هذا على مستوى النص والعقل والاعتقاد.


أما على مستوى الإنسان كذات وماهية. فقد سمح سوء استخدام المنطق بإدخال تصورات تشكيكية على نحو ما حدث عند انتشار المد الوجودي Existentialism بتساؤلاته الإرتيابية نحو العالم الإسلامي نقلاً عن أوروبا المتأثرة بنتائج الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن العشرين. وكان من ضمن الأطروحات التشكيكية الوجودية تلك السؤال عن (العدم) Nothingness كماهية وجعله صفة للحياة والفعل بما يقود إلى السؤال الكبير عن حال الإنسان عند البعث وحياة العالم الأخروي. فالشاهد لديهم أن جوهر الإنسان هو حرية الاختيار بين البدائل، والدليل الوجودي على ذلك كون الإنسان يخطيء ويصيب؛ فمع كل صواب يحتمل الخطأ ومع كل خطأ يحتمل الصواب يتعاظم إحساس الإنسان بقيمة ومعنى وجوده. أما في العالم الأخروي وليكن (الجنة) بكل نعيمها إلا أنها تمثل منتهى عذاب الإنسان وألمه الوجودي، وذلك أن قيمة قدرة فعل (الشر) لديه وامتناعه عنه بمحض إرادته واختياره سوف تنتهي قصراً في ذلك العالم الآخر؛ إذ لا يمكن للإنسان في الجنة أن يأتي باختيار لفعل الشر؛ أي أنه مسيِّر ومقهور إلى فعل الخير وحسب. بينما في الدنيا التي يعيشها الإنسان هو مختار في أن يفعل أو لا يفعل، وهذا الاختيار هو الجوهر الأصيل للإنسان. فيدخلون الأمر بذلك في حيز البرهان المنطقي عبر قياس إحراجي مؤداه أن الاستدلال ينحصر في افتراضين كلاهما يؤدي بالضرورة إلى ذات النتيجة – فإما أن يموت الإنسان ثم يبعث على حاله وبشريته وحقيقة ماهيته المشروطة بالقدرة الحرة على إثبات الخير أو إثبات الشر، فلا يستطيع أن يوافق بفطرته هذه مقتضى الحياة الأخروية التي تفرض طريقاً أحادياً لا اختيار له أو فيه. فيكون الإنسان بذلك في أقصى العذاب وهو الألم الوجودي بالإحساس بفقدان قيمة الذات وجوهرها. كما أنه ليس من ثمة موت آخر في ذاك العالم ليرتاح به؛ إذ ليس لديه حق اختيار الانتحار وإنهاء الحياة بيديه وبمحض إرادته. بل ويفضل عنه بذلك الذي أدخل جهنم حيث ينشغل فيها بالألم الجسدي جراء حريق النار على جلده عن إحساسه بالألم النفسي بفقدانه قيمة ذاته.
وإما –وهو الافتراض الاستدلالي الآخر- أن يحدث تحول ماهوي في حقيقة الإنسان وفطرته حين البعث، ليكون بذلك من بعث بعد الموت للعالم الأخروي هو شخص آخر غير ذاك الذي عاش حياة الدنيا ومات، هو شخص ملائم بجوهره وماهيته وطبيعته لحياة العالم الأخروي، وأما ذاك الأول فيكون قد مات وفني إلى الأبد ولن يعود، وكلا الافتراضين في القياس نتيجته سالبة وتحث على الإغراق في الحياة الدنيا باعتبارها المجال الوحيد –في رأيهم- الضامن لإحساس الإنسان بقيمة ذاته.
وهنالك أيضاً المشكلات الزائفة في مستوى قضايا فلسفة العلم
Philosophy of Science ومنهجية البحث العلمي المتصلة بمصادر الوحي ونصوصه. ومن ذلك السؤال حول مدى الإسهام العلمي للنص القرآني، وهل القرآن كتاب علم أم كتاب هداية؟ ثم ما ترتب على ذلك من اتجاه نحو افتراض التأسيس المقاصدي – من المقاصد وفق (الشاطبي) أو (ابن عاشور) أو غيرهم- كإطار منهجي للبحث العلمي في إسلام العلوم.
وفي مجال الرد على تلك المشكلات الزائفة وإثبات زيفها وتجريدها من كونها مشكلة حقيقية يمكن اعتماد المباديء المنطقية أو القواعدية التالية:
أولاً: استخدام قواعد المنطق ليس في مستوى التجريد الصوري المطلق، وإنما مراعاة استخدامها على مستويات متعددة الدلالة للعلامات والثوابت والمتغيرات حسب مقتضى المجال موضوع البحث على نحو فكرة الألعاب – اللغوية التي قدمها (فيتجنشتاين).
ثانياً: اعتماد مستويات الدلالة لمجالات البحث وفق القياسات والحسابات القصوية
Propositional والمحمولات الكمية Quantificational المنطقية إلا باعتبارها مستويات وظيفية يترتب عليها إجراءات أدائية لتطوير المجال بكليته وفي اتساق مع باقي المجالات وفق رؤية كونية شاملة World- View أي تحقيق العمران.
ثالثاً: تحديد وحصر الرسم الواقعي للقضايا بحيث لا ينسحب مقتضى الشاهد على الغائب بإطلاق، إلا ما ورد استثناءاً بنص قاطع.
رابعاً: التعامل مع نصوص الغيبيات القاطعة مثل ذات الله تعالى ومشاهد العالم الأخروي باعتبارها ليست نصوصاً للتأويل والفهم، بل باعتبارها نصوصاً تؤدي دوراً وظيفياً في إكمال وإتمام النسق القرآني في جملة سياقاته وكليته وإعجازه دون أن يكون من شأنها فصلها عن هذا السياق الكلي وإفراد لها المعنى بذاتها أو ما يقابلها من عناصر مجال مغاير عنها وهو (الكون). فهنا يظهر الإشكال والتساؤل الذي لا ينتهي عن المعنى فيكون زيفاً وليس إشكالاً؛ أي أمر قابلاً للفض والحل والفصل فيه والإجابة عنه.
عليه؛
فإن ما يتعلق بمشكلة الجبر والاختيار –على سبيل المثال- هو إمكان كشف عدم كونها مشكلة أصلاً؛ أي مشكلة زائفة. وذلك بتحويلها إلى الإجراء الوظيفي الخالي من السؤال عن هذه المسألة، فنجد أن من يصاب بحالة من الجوع الشديد إنما يسعى تلقائياً بشتى الطرق للحصول على طعام، وعندما يجده لا يتردد في تناوله دون التوقف ليسأل ماذا كان هو مسيَّر في ذلك أم مخيَّر. إذن فذلك الأمر يترك لحدود ما اخبرنا به الله تعالى عنه أن الإنسان مسئول عن فعله، ليحل بذلك مصطلح المسائلة والمسئولية بدلاً عن الجبر والاختيار. وشاهد ذلك ان حيز استخدام اصطلاح الجبر والاختيار إنما هو في حدود الإنسان للإنسان. وفي ذلك الجدل حول أنظمة الحكم والأداة وتقسيم الحقوق والواجبات والثروات إلى غير ذلك.
بينما لا يصبح السؤال مشكل عن جبر واختيار أصلاً فيما بين الله تعالى والإنسان. وحجة ذلك أن الحد الأول معلوم للإنسان، اما الحد الثاني فمعلوم طرف الإنسان فيه، أما الطرف الآخر وهو الله تعالى فليس كمثله شيء لتعرف به ذاته. لذا فالسؤال في الحد الثاني هو من قبيل إخراج العلامة
Sign وعلاقاتها عن حقلها الدلالي؛ أي السقف الذي يحدها وتنتهي عنده مما يحدث بعد ذلك استمرارية السؤال دون أمل في إجابة قاطعة.
أما فيما ورد عن علاقة العقل بالنص ومدى حاكمية أحدهما على الآخر؛ فإن الجدل في هذا لن ينتهي إلا بإحداث الضبط المعنوي والدلالي لكل علامة منهما من خلال الخاصية الوظيفية لكلٍ. وبيان ذلك أن (العقل) هو ليس نسقاً
System يوضع بجانب أنساقٍ أخرى ومنها (النص)، وإنما هو حصيلة من الأدوات Tools ؛ أي أنه محض فاعليه Activity. فلا مجال، إذن، للاشتراك الدلالي بين مفهوم (العقل) كفاعلية وأداة، وبين مفهوم (النص) كنسق وسياق Context(14) إذ أن تصوّر الاشتراك الدلالي هو أحد مسببات طرح السؤال الزائف حول حاكمية بل هو أمر تفاعل واتصال ومعياره صحة الفهم أو سوء الفهم.
أما عن الحجة الوجودية، فيمكن الرد عليها بذات الحجة الوجودية. فأولاً لا يكون (العدم) إلا مردوداً لغوياً لكلمة (الوجود) وليس له ماهية بذاته إلا بكونه سلباً للوجود. (فالوجود) هو فقط ما يمكن أن أشير إليه كعيان محقق مدلولاً عليه بلفظة (يكون)
To be، أما (العدم) فلا يمكن الإشارة إليه أصلاً ناهيك عن التناقض المنطقي عند الإشارة إليه (بالعدم يكون ...). إذن فالعدم مجرد سحب لصفة وخاصة الكينونة لدى الكائنات To be nothing ولا يكون بذاته كائناً.
وثانياً، فمن الثابت حتى على مستوى المشاهدة العادية اليومية أن الإنسان يكتشف في ذاته مع كل حدث جديد يتعرّض له ما لم يكن يعلم عنها. وهكذا تنمو خبرة الإنسان بذاته مع نمو خبرته بالعالم من حوله. والإنسان لا يدري ولا يمكنه التنبؤ بمدى ما يمكن أن تبلغه قدراته مع حالة الخوف الشديد أو الغضب الشديد، أو إلى ما يمكن أن يصير إليه حاله بعد خضوعه لتمارين رياضية مكثّفة لعدد من السنوات سواء كانت رياضات روحية مثل (اليوجا) أو رياضات بدنية مثل (الجمباز) أو (رفع الأثقال). وعليه فإن ذلك المجهول الذي ما زال مخذوناً داخل الإنسان ولا يعلم هو عنه مداه، هو ما حدا بأشهر فلاسفة الفكر الوجودي الأكاديميين (مارتن هايدجر)
Heidgger M. إلى التعبير عن حالة اكتشاف الإنسان المستمرة لذاته مع تجدد المواقف والأحداث بأن الإنسان هو مشروع دائم ومستمر لا يتوقف أو يكتمل إلا بموته، وهو ما أسماه (دا – زاين) Da- Sein بالألمانية؛ أي (الوجود- هناك) فعندما ينتقل الإنسان خطوة نحو هذا الـ (هناك) يكتشف أن وراءه (هناك) أخرى(15) وبذات المنطق لا يكون بمستغرب ولا بمشكل أن معرفة الإنسان وكشفه عن العالم الأخروي كحدث جديد بما فيه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، هو في نفس الآن كشف جديد ومعرفة جديدة لذاته وقدراته وردود أفعاله وإمكاناته التي لم يكن يعلمها عن نفسه من قبل. وهذا يؤكد أن التجارب بانواعها –وليس بالنوع المادي فقط- هي ما يولد المعارف لدى الإنسان عن عالمه وعن نفسه في ذات الوقت. الإشارة في هذا إلى قوله تعالى:
" والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً " (النحل:78)
" وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً " (الكهف: 68).
وكذلك النحو عندما نتحدث عن إشكالية العلاقة بين العلم والوحي (القرآن الكريم والسنة النبوية)، وضرورة التأسيس المقاصدي للبحث العلمي؛ فإن كشف زيف الإشكال هنا يعتمد على جانبين:
أولاً: أن هنالك نوعين لمنطق الكشف العلمي المتعلق بالقرآن الكريم. أولهما، ما يمكن الاصطلاح عليه بالكشف العلمي بالقرآن؛ ويقصد به الخاصية الوصفية أو الإشارات والدلائل الوصفية الواردة في النصوص القرآنية بصدد الحقائق الكونية، ويحدد هذا بالإشارات والدلائل الوصفية على اعتبار أن الحقائق الكونية في القرآن الكريم هي جزء من كل لنسق أو نظام كامل. والمهم في هذا الأمر أن ما يفاد من هذه الإشارات والدلائل الوصفية هو التركيز على دور القرآن في إدارة العلم وليس الكشف عنه فقط. وثانيهما، هو ما يمكن الاصطلاح عليه بالكشف العلمي للقرأن؛ ويقصد به كشف الخواص الإجرائية للحقيقة القرآنية في ذاتها وكيفيات استخدامها، وهو ما يمكن التعبير عنه بالتفاعل الكوني للنص/ الوجود، ومن قبيل ذلك ضبط أنظمة الاتزان عند قراءة القرآن وفق حقل الطاقة المتميز للسياق القرآني، وكذلك عمليات الاستشفاء والوقاية وما نحو ذلك. ومرجع ذلك إلى أن إعجاز القرآن الكريم إنما يكمن بصورة أساسية في التحدي للإتيان بمثله وهذا ليس قائماً على مستوى المفردات، إذ أن مفردات وعلامات القرآن هي ذاتها مفردات وعلامات اللغة العربية المتداولة في الحياة العادية للناطقين بها، وإنما هو قائم على مستوى السياقات التي ترد فيها هذه المفردات والعلامات؛ فالسياقات القرآنية هي المتميزة وهي التي تحمل أعلى درجات حقول الطاقة وضبط الطاقة وليس المفردات.
ثانياً: اعتماد التأسيس المقاصدي كإطار منهجي للبحث العلمي في إسلام العلوم قد ادى إلى ظهور مشكلة زائفة بصدد الاستنباط للفروض العلمية من القرآن الكريم بما يمكن أن يطور ويضبط البحث العلمي. وتمثلت هذه المشكلة في أن افتراض المقاصد لم يؤد إلى تحقيق ذلك الاستنباط بسبب أن نظرية أو نظريات المقاصد قد مثلت نظرية وسيطة بين النص القرآني والحقيقة العلمية على نحو أنها الرابط بينهما. ولكن افتراض هذه النظريات الوسيطة من شأنها أن تجتذب وتدير حولها كل المشروع البحثي فلا يصل البحث لا إلى النص ولا إلى العلم، فإزالة هذا الإشكال الزائف إذن لا يكون إلا بافتراض توسيط أدوات منهجية تحليلية وقواعد إجرائية لمعالجة العلم في النص بنحو مباشر، بدلاً عن افتراض (نظرية)
Theory تختزل في داخلها المعالجة البحثية التحليلية دون إثبات الحقيقة العلمية للنص. وذلك بحسبان أن مفهوم (النظرية) يقوم على كونها إطار تفسيري رابط لعدد من القوانين أو القواعد المتحققة دون أن يكون هو متحققاً بذاته وإنما هو أقرب إلى حالة (الباراديم) Paradigm وفقاً للمعنى الذي قدّمه (كون).
د/ خلاصة:
1.إن المراجعة التاريخية للمشكلات الزائفة يثبت أنها بالغة الخطورة لما يبني عليها من اعتقاد قد أدى ويؤدي إلى فساد الفعل في الواقع بدءاً من الرفض والخروج وحتى قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق.
2.قد لا يخلو افتراض ومعرفة المشكلات الزائفة من فائدة منهجية بكونها ثغرات فكرية سالبة يحدد الكشف عنها حدود ما يمكن أن يكون موجباً وظيفياً، وما هو الذي يمثل الإطار الحاسم للحقل الدلالي للعلامات وفق كيفيات استخدامها.
3.إن المشكلات الزائفة يمكن أن تكون قطعية مطلقة مثل التفكر في ذات الله تعالى. ويمكن أن تكون نسبية مؤقتة؛ أي محدودة بحدود زمانية ومكانية معينة بكونها فقط غير منتجة وظيفياً بما يفيد العمران في مرحلة ما. ولكن ذلك لا يمنع إمكان تحولها عن كونها إشكال زائف في مرحلة لاحقة أو وفق حدود أخرى.
المراجـع:
(1) راجع:
Ludwig Wittgenstein- Philosophical Investigations- Translated by: G.E.M. Anscombe, Basil Black Well, Oxford,1953, S.126, P.50.
(2) راجع:
Robert Ackomann- An introduction to many – Valued Logics- Routledge & Kegan Paul Ltd, London, 1967, PP.21- 23.
(3) راجع:
Hilary Putnam- Three- Valued logic- Philosophical Studies, 8, 1957, P. 74
(4) راجع:
محمد مهران، فلسفة بيرتراند رسل- دار المعارف، القاهرة، ط2، 1975، ص355.
(5) راجع:
A.F. Ayer- Language, Truth and Logic- Dover Publications, New York, 1962, PP.2-9.
(6) راجع:
Dictionary of Philosophy – Edited in:
I. Frolor, Progress Publisher, 1984, PP. 266- 267.
(7) راجع:
صلاح إسماعيل –النظرية القصدية في المعنى عند جرايس- حوليات الأدب والعلوم الاجتماعية، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، الحولية 25، يونيو 2005، ص86.
(8) راجع:
P.F. Strawsan- Logic – Lingwstic Papers- London, Methuen & Coltd, P.27.
(9) راجع:
إسماعيل صلاح – النظرية القصدية في المعنى عند جرايس – ص86.
(10) راجع:
زكريا إبراهيم- دراسات في الفلسفة المعاصرة- مكتبة مصر، القاهرة، ط1، 1968، ص276.
(11) راجع:
Brende Almond- Exploring Philosophy- BlackWell, 2201., 1995, pp.143- 144.
(12) راجع:
Thomas S. Kuhn- The Structure of Scientific Revolutions S- The University of Chicago Press, 1969, pp. 43- 46.
(13) راجع:
جمال المرزوقي- دراسات في علم الكلام والفلسفة الإسلامية – دار الآفاق العربية، ط1، 2007، ص19- 22.
(14) راجع:
وائل احمد خليل- نحو قواعد منهجية للتنوير المعاصر، تصوّر في المسألة العلمية بالقرآن الكريم- مركز التنوير المعرفي، العدد الأول، فبراير 2006م، ص159- 163.
(15) راجع:
Martin Hedgger – Being and Time.


الثلاثاء، 15 مارس 2016

تراجيديا (دون كيشوت) .. في تسعينات القرن العشرين د. وائل أحمد خليل الكردي

تراجيديا (دون كيشوت) .. في تسعينات القرن العشرين

د. وائل أحمد خليل  الكردي  
wailahkhkordi@gmail.com                           

أغلب النقاد كانوا يعتبرون رواية (دون كيشوت) Don Quixote لمؤلفها الفذ (سيرفانتس) M. de Cervantes عملاً كوميدياً يثير الرغبة في الضحك والهزأ على ذلك الرجل الذي أغلق نفسه في قسم كبير من حياته على قرأه قصص وبطولات النبلاء والأبطال السالفين .. ثم خرج منها ليتم تعميده على التقليد القديم بوسم السيف وقدم نصف راكعة .. ثم ينطلق ليقاتل الأشجار العملاقة ويبارز طواحين الهواء على فرس هزيل وتابع ساذج يرى في سيده أسطورة حية .. وكيف أنه يحفز على السخرية عندما يعود في كل مرة من معاركه الوهمية مكسور الرمح ، مسخن بالجراح .. ورغم ذلك ينتشي نشوة البطل المنتصر ..
والحقيقة ، أن كل ما فعله (سيرفانتس) في روايته (دون كيشوت) أنه أخرج ما يحدث في داخل كل واحد منا إلى الخارج في تصوير أدبي بديع ومعبر .. فمن منا لم يحلم أو يغضب ، أو يحب أو يكره .. ومن منا لم يفرح أو يحزن .. أو يأمل أو يحبط .. أو يبكي أو يضحك .. من منا لم يتعلق بالدنيا وأستار الحياة الزائلة لتمثل كل تلك المتناقضات في داخله أشجار (دون كيشوت) وطواحينه .. إن في داخل الإنسان عالم أكبر من عالم الحقيقة والشهود .. عالم لا يرى فيه الإنسان الأشياء بعينيه فحسب ، بل يضيف على تلك الشهادة وجدان وانفعال وقبول ورفض .. من منا من لم يسعى حتى انقطاع الأنفاس بين قمة النفس اللوامة صعوداً ، ووادي النفس الأمارة بالسوء هبوطاً وانحداراً .. لقد حكم في بلاد الإغريق على (سيزيف) أن يحمل صخرة كبيرة على كاهله ويصعد بها إلى قمة الجبل الشاهق .. فإذا بلغها أسقطت الصخرة إلى الأسفل لينزل ويحملها مرة أخرى ويصعد بها من جديد طوال الحياة .. ألم يعلمنا رسول الله صل الله عليه وسلم أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس ..
لقد قال الله تعالى (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) ، وقال العلماء في دلالتها أن الذبابة إذا سلبت شيئاً من الإنسان فإنها تجري عليه فوراً تفاعلاً كيميائياً فتتغير ماهيته تماماً ولا يعود كما هو في الأصل ، فلا يمكن بذلك للإنسان أن يسترده منه مرة أخرى .. كذلك الإنسان نفسه عندما يدرك شيئاً من الواقع والحياة لا يأخذه كما هو بذاته ، ولا يتركه داخل عقله على حالته وهيئته .. وإنما يسكب عليه من تفاعلاته وانفعالاته وعواطفه ومواجيده .. فقد يراه حسنا أو يراه قبيحاً ، وقد يراه محبباً أو يراه بغيضاً .. وقديماً قيل (لولا اختلاف الناس في أذواقهم لبارت السلع) ..
لقد ظهر الفكر (الوجودي) لدى (كيركيجارد) S. Kerkegard النرويجي ، و(سارتر) J. P. Sartre  الفرنسي يدعو كل فرد إلى الانكفاء نحو الداخل فيرى عالمه الفريد اللامتناهي والذي لا يشاركه فيه أحد لا بالتشابه ولا بالتطابق .. فكل إنسان هو كحبة الزمن في نهر جاري تأتي مرة في عمر الكون ثم تمر .. ثم يأتي غيرها وغيرها .. ولكنها لا تعود أبداً إذا مضت ..
كما قال أيضاً الوجودي الألماني (هايدجر) M. Heidgger أن كل فرد من الإنسان هو مشروع لم يكتمل مادام حياً ، وأنه يظل يتمدد داخل نفسه إلى أن تأتي ساعة الموت .. عندها يكتمل هذا المشروع . وكما أن لكل إنسان ساعة موته الخاصة وقبر لا يشاركه فيه أحد .. فكذلك كل إنسان في مشروعه لا يماثل الآخرين .. وفي القرآن الكريم نقرأ (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) .. هكذا رسمت رواية  (دون كيشوت) الإنسان والحقيقة في مأساة بالغة لمن يفقه رمزها ويقرأ ما وراء السطور ، وليس لمن يقرأها ثم يضحك من قلبه .. ثم يغلق الكتاب ناسياً أو متناسياً أن تلك الطواحين التي بين دفتي الكتاب إنما هي في داخل نفسه .. فهل يكون على نفسه بعد ذلك بصيراً ، أم على نفسه يضحك ..
لقد عرف السودان في منتصف التسعينات من القرن العشرين رجال عشقوا الموت وحاربوا طواحين الهواء في نفوسهم ولسان حالهم ومقالهم أن (وعجلت إليك ربي لترضى) .. فلك من الله الرحمة الواسعة أيها العميد الشهيد المجاهد (عبد المنعم الطاهر) المكحل بالشطه .. رمز الغضب الطاهر .. فقد ضربت المثل النبيل في القيادة العسكرية الأخلاقية المعاصرة .. وجدت في الميدان .. وظلت في الميدان .. ولقيت ربك أيضاً في الميدان ، سيان كان لديك الحال منذ أن أديت القسم العسكري المجيد برتبة (الملازم) أو عندما صرت برتبة (العميد) .. لقد وثق التاريخ قولة (عبد المنعم الطاهر) لكل جنوده (إذا ما لقيتنا واقفين على حيلنا جنبك سوي الدايره .. سوي الدايره والله) وأيضا (أبائنا لما ولدونا علمونا إنو بطن كراعنا دي ما يشوفا راجل) .. تلك المقولات ألتي أشعلت نار الحماسة والجهاد في نفوس جنوده ، فدمروا طواحين هوائهم وأحرقوا بعدها  وراؤه كل المراكب أن لا تولية للأدبار قط .. فظل هو على العهد واقفاً أمامهم ومعهم في كل المعارك .. ومات بين أيديهم شهيداً وهم قيام ينظرون بعد أن بلغوا النصر ..  فهل يجود الزمان الآتي بمثل أولئك الرجال تارة أخرى ..
وهكذا لم تكن (دون كيشوت) أبداً رواية هزلية ساخرة لرجل سعى إلى أمجاد الأبطال في زمان غير زمانها ..

فلنتعلم من (دون كيشوت) إذن أن الأمجاد والبطولات إن لم تأتي .. سعينا نحن إليها .