الخميس، 5 أكتوبر 2023

الشعور الزماني.. واقع افتراضي

 الشعور الزماني.. واقع افتراضي


د. وائل أحمد خليل الكردي


ومازال الإنسان يجادل ويسأل (ما هو الزمن؟).. لقد فرضت علينا ثورة الاتصالات وطفرات التطور التقني في عالمنا المعاصر تداول مصطلحات ظهرت إلى الوجود حديثاً أو هكذا نظن، ومنها مصطلح (الواقع الافتراضي) والذي هو واقع موازٍ لواقع فعلي حقيقي، وان هذا الواقع الافتراضي حتى لو تجاوز بكثير حجم الواقع الفعلي وأصبح هو سيد الموقف فسيظل افتراضياً بمعنى أقرب إلى الوهم بينما يبقى الواقع الفعلي قائماً فهو الحق الذي يكون عليه القياس فيما اختلف فيه الناس. ولكن هذا المصطلح ليس في حقيقة الأمر جديداً كلياً وإنما هو ضارب في القدم، ففي عهد الاغريق ما قبل ميلاد المسيح كان هناك الفيلسوف (بارمنيدس) وتابعه (زينون) قد افترضا أن العالم وحدة واحدة فقط وكل ما يراه الناس فيه من كثرة أشياء هو وهم، وافترضا أيضاً أن العالم ثابت تماماً وأن كل ما يحسه الناس فيه من حركة هو وهم.. وقدما حججهم وبراهينهم على ذلك، فمثلاً إذا أراد بطل الأولمب العداء (أخيلوس) أن يلحق بالسلحفاة فلن يلحق بها أبداً حتى ولو رأيناه نحن فعلاً قد لحقها وتجاوزها، فإن هذه الرؤية تعتبر عند (بارمنيدس) وتابعه إنما هي واقع افتراضي بحت بينما (أخيلوس) قائم ثابت في مكانه لم يتحرك أصلاً، فإنه لكي يصل إلى مكان السلحفاة يحتاج أن يقطع نصف المسافة أولاً وقبل ذلك يقطع نصف النصف.. وهكذا إلى ما لا نهاية له من نقاط المسافة التي يجب عليه أن يقطعها، لذا فهو في الحقيقة واقف أزلاً. 

ربما كانت هذه أول صفعة على وجه الإنسان ينتبه فيها لشعوره الذاتي بمشكلة الزمن وارتباطه بالحركة، فهل هذا الزمن وهم أم أنه حقيقة؟ وهل هو واقع حقيقي أم أنه واقع افتراضي؟.. وبقي السؤال مفتوحاً إلى يومنا هذا. فبعض الناس يرون أن الحركة هي العامل الأساسي والحاسم في الشعور بالزمن فكلما ازدادت الحركة تسارع الزمن، وبعض آخرين يرون أن الزمن ساكن في ذاته لا يتغير ولكن شعورنا به هو الذي يتحرك سرعة وإبطاءً، ثم تحضر النظريات العلمية ليفسر (أينشتاين) في (النسبية) أن الكون كله مجالات متعددة وأن لكل مجال زمن خاص ينتسب إليه ويتحكم في أبعاده الأخرى وقامت المعادلات الرياضية المعمقة برهاناً على هذا.. ولكن أحداً من الناس حتى الآن لم يخرج عن مجاله الكوني ليعيش زمناً مختلفاً في مجال كوني آخر. ولنتوقف هنا لحظة لنلاحظ أن القاسم المشترك في كل هذه الاتجاهات ليس هو حقيقة الزمن وإنما الشعور بالزمن هو كل ما هنالك، فنحن نشعر به على نحو ما ثم نحاول أن نخرج هذا الشعور عن ذواتنا ليكون واقعاً موضوعياً ونطالب الجميع أن يقروه وأن يفسروا به احوالهم. ولكن كل هذه التفسيرات للزمن في حقيقة ذاته هي طعن في ظل الكائن لا طائل كثير وراءه.. فماذا علينا لو عشنا الزمن هكذا كما نشعر به.. سريعاً، بطيئاً.. ليس هذا هو المهم ولكن المهم هو كيف نشعر به وكيف نعيش هذا الشعور، وكيف نحول هذا الشعور بالزمن إلى ساحة للإنجازات الإيجابية، فالزمن لا ينبغي أن يقاس بلحظات مروره.. ساعات وأيام وسنوات، وإنما بإنجازات تمت فيه طال أو قصر.. فالشعور الذاتي بالزمن أو الشعور الزماني هو إذن العامل الحاسم.

ولعل في الفيلم السنيمائي (الصحوة) صورة مثالية لمعايشة الانسان شعوره الزماني بغض النظر عن حقيقة الزمن في ذاته.. ذلك الفيلم الذي دارت أحداثه واقعيا في فترة اخريات الستينات من القرن العشرين، وذلك حينما عين (د. ساير) طبيباً معالجاً في مستشفى الأمراض المزمنة بالولايات المتحدة الأمريكية ليجد عالماً فريداً من البشر الأحياء الغائبين عن فاعلية الحياة اليومية لعقود طويلة من عمرهم نتيجة اصابتهم بمرض التصلب اللويحي، فظلوا طول فترتهم وراء جدران المستشفى لا يخرجون الى العالم الخارجي، منهم من غاب عن معايشة الحياة لأربعين سنة ومنهم ثلاثين ومنهم دون ذلك أو أكثر.. تحرك الطبيب (ساير) بالدافع الشعوري الإنساني نحوهم بتعاطف عميق كان سبباً في أن كرس نهاره وليله من أجل اكتشاف علاج لهؤلاء يعيدهم به إلى الحياة الواعية الواقعية من جديد إذ كان هو الوحيد من بين الأطباء من آمن بأن ذلك ممكن، وقد فعل.. وربما ليته ما فعل.. فلقد كان من الطبيعي أن يفكر الطبيب بمعايير يومه وخبرته السوية هو عندما قرر في شأن مراضاه أن الأصلح لهم هو إعادتهم مما هم فيه وتحريرهم من الأسر في الماضي ومن جدران المستشفى.. ولكن كانت الصدمة والدرس المستفاد في آن معاً عندما نجح الدواء وعاد الغائبون، ولكنهم عادوا بعقلياتهم ومشاعرهم القديمة وحدود خبراتهم التي توقفوا عندها يوم اصيبوا بالمرض منذ سنوات طوال، فمن هو بالسبعين عاد بروح وعقل وخبرة الشاب في العشرين حيث كان يومذاك، إنه الشعور الذاتي بالزمن.. هنا كان لابد أن ينشأ صراع نفسي كبير بين الماضي والحاضر الذي أتى فجأة في حياة هؤلاء، فالمنجزات التي تمت طوال هذه المدة كانت اكبر بكثير من تلك التي توقف عندها زمانهم، ثم ليتحول الصراع إلى نقمة وتمرد على الأطباء الذين وقع بظنهم أنهم يحولون بينهم وبين أن يمارسوا الحياة بحرية كما يعوها هم وليس كما يفرضها هذا الحاضر الغريب تماماً.. وكاد الأمر ليتحول إلى كارثة حقيقية لولا أن أدركهم قدر الله بلطفه بأن الدواء لم يحسم المرض نهائياً وانما فقط كان ذا تأثير جزئي مؤقت، فكانت مجرد لحظات (صحوة) رجعوا بعدها تدريجياً إلى مرضهم بسلام ولتطمئن نفوسهم وتهدأ في عالمهم الخاص وزمانهم الخاص الذي ألفوه طويلاً.. وهذا بدوره يقود إلى مثال آخر في علاقة الشعور الزماني الخاص بالعرف التقليدي لدى الناس هو ما ورد في القرآن الكريم عن أهل الكهف كيف أن الله تعالى أماتهم سنين عددا ولكن شعورهم الزماني عندما استيقظوا أنهم لبثوا فقط يوماً أو بعض يوم، وهذا نفسه ما يجري للإنسان في حال نومه العادي فكثرة الاحداث التي تمر به في الحلم قد تجعله يظن أنه لبث أياماً في حين أنه لم ينم إلا وقت وجيز.. إذن فالنعش الزمن كيفما شعرنا به ولا نسأل غيرنا عن شعوره به وإن اتفق معنا أو اختلف.




https://www.calameo.com/read/000145440681a380df9b5?authid=nmDv7l6S0Hk5

https://www.calameo.com/read/000145440681a380df9b5?authid=nmDv7l6S0Hk5

الأربعاء، 12 أبريل 2023

حالة (ميجالومينيا) Megalomania أو وسواس العظمة..

 حالة (ميجالومينيا) Megalomania أو وسواس العظمة..


د. وائل أحمد خليل الكردي


(أنا ربكم الأعلى) تلك هي كلمة السر لحالة وسواس العظمة (ميجالومينيا) ربما حتى ولو لم يكن الإنسان مريضا عقليا، ولكنه سلوك أصبح شائعا.. لقد كان هدف المنظمة السرية في رواية (الجحيم) Inferno للكاتب الأمريكي (دان براون) أن يتم التنزيل على الأرض في هذه الدنيا ما كان قد صوره خيال (دانتي) للجحيم وعذاب الناس في الدار الآخرة بكتاب (الكوميديا الإلهية) وربما ما صوره قبله (أبو العلاء المعري) في (رسالة الغفران).. فبدل أن يصير الإنسان إلى الجحيم في الأخرة يصير إليه الآن وهو في هذا العالم، وذلك من أجل ان يموت نصف البشر في العالم دفعة واحدة بدعوى أن ذلك إن لم يحدث فستفني الكثافة السكانية المتزايدة الجنس البشري كاملاً وينقرض الإنسان بعد سنوات.. كان قائد هذه المنظمة رجل مهووس قام بتخليق فايروس وبائي قاتل وسريع الانتشار ويعذب الانسان بالألم حتى الموت، واستطاع أن يكسب حوله الملايين من الاتباع والمريدين في جميع أنحاء العالم سحر عقولهم بكلمات منطقية محكمة الدلالات (نحن ندمر الوسائل نفسها التي تدعم الحياة.. كل مشكلة عالمية تعانيها الأرض نستطيع أن نعزوها إلى الاكتظاظ السكاني.. البشرية هي السرطان في جسمها.. هل نحب البشرية كفاية فننقذها.. لا نحتاج إلى كارثة لنتعلم الدرس، للفت الإنتباه.. لا شيء يغير السلوك كما يغيره الألم.. ربما يستطيع الألم أن ينقذنا.. (الجحيم) يكون في النهاية.. علينا التأكد من أن يُطلق (الجحيم)) فجعلوا كلماته ومخططه هذا دستوراً لحياتهم ينفذوه ولو أدى ذلك إلى موتهم في سبيله.. ولربما رأينا في أعماق نفس هذا الرجل ذلك الشعور الطاغي في داخله بأنه هو الفرعون الذي يحرك جموع هذه الملايين بحسب إرادته كأنما هو الاله الآمر وهم العبيد الطائعون، وحتى عندما قدر عليه رجال آخرون يريدون هذا الفايروس لمصلتهم ربما تذوق في ذهنه صورة البطل النبيل الذي سيخلد ذكره ويعظم أثره في نفوس اتباعه إذا هو آثر الموت منتحراً من أعلى البرج على تسليم سره لعملاء يتاجرون به.

إن الشعور الطاغي بالسيطرة والاحتواء والتأثير على الناس هو ما جعل الفرعون القديم يزعم أمام شعبه (ما علمت لكم من إله غيري).. وهو نف الشعور الذي يجعل من يبلغ سدة الحكم مع ادعاء الزهد فيه رعان ما يلصق جله بكري السلطة فلا ينفك عنه إلى الأبد ولسان حاله يقول (أنا ومن بعدي الطوفان) فالأصل في صاحب الحالة الفرعونية أنه يرى نفسه هو الثابت القائم وكل الجماهير هي المتغير التابع الذي يدور حوله.. وهو أيضاً الشعور الذي يجعل من التاجر ومالك رأس المال أن يسحق تحت ماكيناته ثروات بلاد بأكملها لمصلحته وزيادة ثرائه دون النظر الى ملايين الضحايا الذين يسقطون في الفقر والموت نتيجة استحواذه على الثروة بغير عدل وتحويلها الى عملات نقدية للمضاربة ورمي الفضول لعموم الناس، فيصبح الحال (دولة بين الأغنياء) ولا عزاء لمن دونهم.. 

وهو نفس الشعور الذي يجعل نفر من الناس يتوشحون بزيف ألقاباً غير مستحقين لها بنحو (المدرب.. الكابتن.. القائد.. المرشد الشخصي.. الخ) ويمنح نفسه الثقة أنه الأفضل على الاطلاق ليوهم جمع كثير من أصحاب النفوس الهشة والعقول السائلة بأنهم لابد ان يغيروا حياتهم، كأن حياتهم بوضعها الراهن على أي حال كانت ليست في محل الرضا او التميز لذا وجب عليهم تغييرها، فينشر بذلك فيهم الوهم بضعف الثقة في أنفسهم ورغبتهم في أن يصيروا جميعهم قادة ومتفوقون وعظماء، فيتدافعون نحو حلقات التدريب و(الكوتشينج) ليسقطوا ذواتهم بسهولة بين يدي ذلك الفرعون الدعي بأنه القادر الوحيد على تغيير حياتهم وشخصياتهم بما يمنحهم من تدريب وارشاد وقيادة، وهنا تكمن المصيبة.. إذ يزداد هذا الفرعون غروراً وتجاوزاً في تقدير قدر نفسه كلما كثر تابعوه، ثم لا يكون هؤلاء التابعين الضحايا من بعد لا قادة ولا متفوقون ولا تتغير حياتهم ولا يزدادون إلا وهماً.. وقليل من هؤلاء المدربين وقادة الكوتشينج صادقين مؤهلين نافعين للناس بحق فهم ليسوا فراعنة، ولكن الكثير الغالب هم غير ذلك. 

فمن بربنا يظن هؤلاء أنفسهم ليعطوا ذواتهم حق القضاء المطلق ليحكموا بقتل نصف البشرية ليعيش النصف الآخر.. ومن يظن هؤلاء أنفسهم لكي ينصبوا ذواتهم حكاماً على رقاب العباد إلى الأبد فكل الجماهير عندهم قطيع من الأنعام.. ومن يظن هؤلاء أنفسهم لكي يجعلوا ذواتهم أعلى من الناس بإرادتهم وأنهم مالكوا تغيير حياتهم وشخصياتهم كيفما يشاؤون.. 

ليتنا ندرك تلك الآفات التي تتسرب إلى حياتنا كرائحة العطر ولكنها تهلك السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولا يكون بعدها إلا أن ننتظر الساعة.



الجمعة، 31 مارس 2023

فلسفة الخلاص الشعري في دراما (جمعية الشعراء الموتى) ولزوميات (المعري)

 فلسفة الخلاص الشعري في دراما (جمعية الشعراء الموتى) ولزوميات (المعري) 

د. وائل أحمد خليل الكردي

(جمعية الشعراء الموتى) فيلم الدراما الانسانية من بطولة الممثل البارز الذي اشتهر بالكوميديا الإنسانية (روبين ويليامز) فكان هو المعلم في اكاديمية (ويلتون) الثانوية المحافظة الذي صحح الفكرة عن حقيقة الشعر وعدم جدوى محاكمة الشعراء.. كان ذلك في الستينات من القرن العشرين.. وفي اللحظة التي أمر فيها تلاميذه تمزيق مقدمة كتاب النقد للدكتور (بريتشارد) التي كانت تعد اقدس ما كتب في منهج النقد الشعري لدى الناطقين بالإنجليزية كان هذا اعلان لهم أن كل شيء يمكن تحليله ونقده على هيئة الرسوم البيانية وما فيها من


إحداثيات المحاور الحسابية افقياً ورأسياً إلا الشعر فهو لا يقاس بوصف الأشياء والوقائع من أجل أن يدركها الانسان كما يدرك المنطق والرياضيات، وإنما هو يقاس بما يجعل به الانسان يشعر بالحياة والاشياء والوقائع التي يعيشها ويتفاعل معها، وبما يجعل الانسان يلمس حقيقته الوجدانية فيشعر إلى أي مدى هو موجود في هذه الحياة وأي قيمة تعني هي له.

هناك، كان الاستاذ (كيتنج) يقول عن نفسه أنه القبطان وأن التلاميذ هم أبناء السفينة الذين يجب أن يعيشوا تجارب الشعر والشعراء على متنها.. الأستاذ (كيتنج) كان يؤمن أنه فقط في الأحلام يمكن للمرء أن يكون حراً كفاية، ولذلك عندما كان طالباً في الماضي بأكاديمية (دالتون) فقد أسس مع بعض من زملائه حينها جمعية شبه سرية أسموها (جمعية الشعراء الموتى) وفي ليال معلومة كان يجتمع أعضائها في الكهف الهندي القديم البعيد عن الأكاديمية ليحيوا هناك التجارب الشعرية للشعراء العظام الذين رحلوا قديماً وأيضاً ليمارسوا تجاربهم الشعرية الخاصة، كانوا هناك –على حد تعبير (كيتنج)- يسكبون الكلمات على السنتهم كأنها العسل من أجل أن يمتصوا بها جوهر الحياة.. ثم تلاشى الأمر، إلى أن أحيا تلاميذ الأستاذ (كيتنج) في الحاضر من جديد بعد أن ألهمهم معلمهم كيف ينظرون إلى العالم في كل مرة بنحو مختلف ومن زوايا متعددة وقد فعل هذا مثلاً عندما علهم كيف يمكن أن يقرؤوا (شكسبير) بغير تلك الطريقة المدرسية النمطية المتكلفة التي ارتسمت بنحو تقليدي في أذهانهم..

كل هذا هو ما يمكن أن يعطي دلالة أن (جمعية الشعراء الموتى) كانت دعوة للخلاص بالتخيل الشعري الحر من الإغراق في متطلبات العالم المادية والبهيمية، فلك أن تعيش كل الآمك ومسراتك واحزانك وأمالك بنحو شعوري وجداني خالص في غمرة الخيال الشعري في تجرد تام عن الوقائع والأحداث الفعلية في أيامك والتي تشدك إلى الأرض والتراب بعيداً عن روح الذات.. ولربما كان العمق الحقيقي لهذا النوع من الخلاص موجود عند (أبي العلاء المعري) كأسس في ديوانه الفلسفي (اللزوميات، أو لزوم ما لا يلزم) فيمكن تنسيب أفكار (جمعية الشعراء الموتى) إلى اللزوميات لدى (المعري) كانتساب الفرع إلى الأصل برغم الفارق الزمني والحضاري.. وديوان اللزوميات نفسه لديه أصل كبير في الفلسفة الأبيقورية الإغريقية –نسبة إلى مؤسسها (أبيقوروس)- من ناحية فكرة الخلاص للإنسان وهو على قيد الحياة في الدنيا باكتساب الطمأنينة السلبية –يصطلح لها في اليونانية بكلمة (اتراكسيا)- بفعل المجاهدة الأخلاقية والترقي نفسياً ووجدانياً بتذوق اللذات الروحانية.. وهكذا كانت دعوى (المعري) في لزومياته كأنما يقول لك أنك من أجل أن تعيش الحياة الحقيقية الخالصة فينبغي أن تتذوق فيها معنى وقيمة الموت وأثره الوجداني كيف يكون أثناء الدقائق والتفاصيل اليومية.. فكانت (العزلة) عنده هي الشرط لهذا الشعور بالموت وبالتالي الشرط لتحقيق هذا النوع من الخلاص الوجداني، والعزلة هنا ليس بمقاطعة الناس وإنما بمخالطتهم والنظر إليهم والتعامل معهم من خلال جدار زجاجي ا يسمح لهم بالنفاذ إلى خاصة النفس.. فأن جماعة (جمعية الشعراء الموتى) كان يمتثلون هذا الشرط فينعزلون معاً في وقتهم المعلوم لتدول الأشعار في كهف بعيد..

 يقول (المعري) صراحة:

ما أطيب الموت شرابه ... إن صح للأموات وشك التقاء

فإن التلذذ بالموت لا يكون عن وقت الاحتضار واستعداد الروح للخروج من البدن، بل يكون والإنسان في غمرة الحياة.. وعلى هذا الأساس للإنسان أن يتخلص من كراهية الموت كي يستشعر بذكر الدائم قيمة الحياة الشعورية الخالصة ويعبر عنها بالآداب والأشعار والفلسفة فإن سبب هذه الكراهية للموت هو سوء فهم الإنسان له إذ يضعه كنقيض للحياة (مثل الوجود والعدم) لا يجتمعان في آن معاً، فماذا لو وضعه كضد لها (مثل الأبيض والأسود) فهما حينئذ يجتمعان، فلذلك قال (المعري):

نحب العيش بغضاً للمنايا ... ونحن بما هوينا الأشقياء

فإن كراهية الموت عنده هي سبب حب الإنسان للحياة وليس أن حب الحياة هو سبب كراهية الموت. 

وفي هذا الشأن لعلنا نجد أن اغلب شراح لزوميات (المعري) قد فهموا أن لزوم ما لا يلزم هو لقالب معين في النظم الشعري، ولكن من زاوية أخرى أن لزوم ما يلزم هو عند (المعري) يكون على مستوى فكرة الخلاص بالعزلة واستشعار الموت في ثنايا الحياة وهو ما يتفرد به صفوة من الناس دون العامة. وهذا ما يسمح لنا بالقول أن ملكة يجهلها كثير من الناس عندما يقرضون شعرا او يتداولونه، هم يظنون الملكة الوحيدة لتذوق الشعر هي ما اسموه (ملكة التذوق الوجداني) وأنه لا يصح في وصف ونقل هذه الملكة الى الاخرين إلا ما قد وصف به القديس (اوجاستين) صناعة الله للتاريخ (أن سبل الله لا يمكن سبر غورها) ومن ثم فليس من سبيل للناس الى فهم التاريخ على الحقيقة، فكذلك لا سبيل للناس الى فهم وجدان الشاعر وراء شعره، ولا ضامن لدي الشاعر انه قد ابلغ ما اراد بشعره الى وجدان الناس  

ولكن تلك الملكة التي لا يعي أكثر الناس وجودها في ذواتهم عندما يقفون أمام الشعر إبداعا وتذوقا هي (ملكة التذوق المنطقي) هي نوع رفيع من المنطق ليس هو منطق قيم الصدق والكذب وانما المنطق القائم بالذوق. هذه الملكة تمكن الناس ليس فقط من لمس وجدانهم في الشعر وانما تمكن الناقد من النقد والفيلسوف من الفلسفة، وذلك بانها ترسم الصور الذهنية لمجريات الحياة، فيفهم الانسان ان للقصيد بيت له باب وحجرات وسقف وله مبتدئ ومنتهى وغاية وهدف وسبل يمكن سبر اغوارها

الاقليات وحقوق الأكثرية.. مونديال قطر

 الأقليات وحقوق الأكثرية.. مونديال قطر

د. وائل أحمد خليل الكردي



حتى ذلك الشاعر الأوروبي العظيم (جون ميلتون ) في فردوسه المفقود يقولها :

وجلس آخرون في عزلة على تل بعيد..

يطارحون أفكارا أسمى وآراء اعمق..

عن العناية الإلهية والعلم الأزلي والإرادة الحرة والقدر..

القدر الذي لا يحول والإرادة الحرة والعلم الأزلي المطلق..

فلم يهتدوا إلى شيء بل ضربوا في الشعاب فضلوا وما اهتدوا..

وايا كان ما يقصده الشاعر، فإن كلامه يوحي بالإيمان أن  لكل كائن أرضا ومجتمعا يخوض بين ضفتيه أفكاره، وأن لكل مقام مقال، وإلا فإن عزلة الأقلية بصلاحها وقيمها لن تثمر دون اقوام تروج بينهم تلك القيم ويقبلونها.. بغير هذا ستكون شعارات الحرية والإرادة والحقوق والواجبات، اقوال بلا افعال، وربما جنون زائف..

لقد تعودنا أن المهاجرين إلى أي مجتمع جديد كانوا دائماً هم الأقلية المقهورة المرغمة على الاتباع الصارم لنظم وقوانين وأعراف المجتمع الوافدين عليه، ولا خيار لهم.. ولكن التاريخ يقول غير ذلك أحياناً، فهو يقف هناك ليفاجئنا بشهادته على ما هنالك من الأقليات تجبرت على الأكثرية وطغت عليها وقهرتها وربما أبادتها عن بكرة أبيها.. التاريخ قال أن الأقليات البيضاء المهاجرة إلى الأراضي الجديدة منذ قرون خلت قد أبادت الأكثرية من الهنود الحمر المتوطنة على هذه الأراضي (أمريكا) وذلك لأنهم فعلاً كانوا أقلية ولكنهم كانوا ألأقوى وفي أيديهم سلاح مختلف قاتل.. وكذلك فعل الرجل الأبيض في غزو أفريقيا قديماً وجعل أعزة أهلها عبيداً لديهم، ثم اجتياحهم بلاد الشرق أعماق أفريقيا وأسيا بدعوى الاستعمار ولكنهم كانوا السلطة التي فرضت نفسها على هذه الشعوب برغم أنهم كانوا الأقليات..

والتاريخ أيضاً يشهد أن اضطهاد الأكثرية للأقليات يولد عند هؤلاء مطالبات على استحياء بحقوقهم وحرياتهم.. أما اضطهاد الأقليات للأكثرية يولد الثورة، تماماً كما قتل (غوردون) الغريب على شرفة قصره الملكي بيد أكثرية (الدراويش) من أهل السودان.. 

ولكن يبدو أنه كما تقوم بيوت الأزياء العالمية بصناعة موضات وصيحات في الملابس والعطور يتشدق بها فئة من الناس تشدقاً ثم يتركونها ليركضوا من جديد بنحو محموم وراء موضة أو صيحة جديدة، فكذلك انسحبت الموضات والصيحات على أمور الاجتماع والسياسة (والحديث هنا عن الأقليات الاجتماعية وليس السياسية).. وإحدى هذه الموضات الاجتماعية التي سادت في عصرنا الراهن بإفراط، موضة (حقوق الأقليات الفئوية) وصارت هي مجالاً للتلاعبات اللفظية وليس الواقع بقدر حقيقته وما يكون عليه.. فإن أي عاقل يعرف بداهة أن أي إنسان لابد أن ينال حقه في العيش والحياة والحرية، ولكن من وراء العقل أن نطالب بأن يعلوا حق لأقلية فئوية في سلوك معين على حق الأكثرية.. فإن الأقلية الفئوية هي دائماً ضيف في ديار الأكثرية وينبغي عليهم احترام حقوق الديار وحرماتها.. وهذا تماماً ما أرادته قطر من زوارها.

إن احتفالية كأس العالم لكرة القدم هي الأعظم كماً وكيفاً من أي احتفالية أخرى.. وبقدر اتساع كأس العالم هذا كان اتساع الزوبعة الإعلامية الداعية للإثبات اضطهاد قطر لحقوق الأقليات متمثلاً في رفضها لجماعات المثلية الجنسية أو من يدعون بمجتمع (الميم)، برغم العلم أن دولة قطر هي كأي دولة أخرى لديها هويتها الخاصة المتمثلة في أعرافها ونظمها وتقاليدها وما تربي عليه أبنائها جيلاً بعد جيل.. فأين إذن تكمن المشكلة؟ بالفعل إن الأقليات هم بشر لهم حق الحياة ولا خلاف على ذلك.. ولكن المشكلة تكمن في الدعاية والمجاهرة بغرض فرض وتعميم ما هو مخالف وشاذ لدى أقلية معينة على الأكثرية.. فماذا سيحدث لو حضر كل هؤلاء البشر الأقليات إلى قطر بصمت دون افصاح عن مكنون أنفسهم، أكانت قطر سوف تمنعهم؟ ومن أدرانا أن قطر الأن الان ليست ممتلئة بهؤلاء المثليين ممن وفدوا إليها من كل حدب وصوب لمناسبة كأس العالم ويمشون على أرضها أحراراً مطمئنين، فقط لأنهم ستروا عن خاصة أنفسهم ولم يصروا على الدعاية والمجاهرة بما يصادم هوية هذه الدولة المضيفة لهم.. إن المشكلة تكمن في أن جماعة مجتمع (الميم) يريدون وهم أقلية أن يفرضوا على اكثرية بلد غريب عنهم الخضوع لهم والاعتراف بهم علناً بإصرارهم على رفع شعاراتهم واعلامهم وعلاماتهم جهاراً على رؤوس الأشهاد، وهذا مناف تماماً لهوية دولة قطر وحقها كمضيف.. فالمنطق السليم يقول، لو أن الضيف كره ضيافة المضيف على شرطه فلن يجبره أحد على الحضور إلى دياره أصلاً.. ولكنه متى حضر فليلتزم.. لقد صدق رسول الله صل الله عليه وسلم أن قال (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) فيمكن لنا أن نفهم دلالة هذا القول على مستويين، مستوى متعلق بتثبيت الذنب على فاعله والمجاهر به من أمة المسلمين فيستحق العقاب على ذلك، ومستوى أخر هو بالقياس على الفكرة أن المجاهرة والدعاية هي السبيل المؤدي إلى أن تفرض الأقلية الفئوية نفسها عنوة على الأكثرية وبما يعارض حقوق هذه الأكثرية في حفظ هويتها وطرق حياتها.. وهكذا فإن مكمن الخطر هو في تلك الكلمة (الدعاية)، فيجب أن نحسب له حساباً وإلا فسوف يأتي الطوفان بفوضى لا يمكن تداركها.

هكذا ضاع الموتى.. في مجتمعات العزاء

 هكذا ضاع الموتى.. في مجتمعات العزاء

د. وائل أحمد خليل الكردي


(مات جاري أمس من الجوع.. وفي عزاءه ذبحوا كل الخراف)..

طالعنا (علي شريعتي) بهذا القول المخيف.. فكلنا جائع لحظة موته، ولكنه جوع إلى الدعاء بالرحمة.. إذ لا توجد لحظة يحتاج فيها الانسان إلى غيره بقدر وقت موته وانتقاله إلى حياة القبور بعد أن كان مستغنياً عن الناس منفرداً قائماً بنفسه وحدها.. ولكنه عند المبيت في القبر كأننا نسمعه يرجو من يقفون على حافته أن يقدموا له ما لم يعد يقدر أن يقدمه هو لذاته.. هي كلمات معدودات يدعون بها له بالمغفرة والرحمة ورضى الرب وهو الذي انقطع عمله إلا ما سلف عنده من صدقة أو علم أو ولد..

لن نعرف أبداً كيف تضيق اللحود بساكنيها إلا أن نسكنها.. لذلك ونحن ندفن ميتاً لا نعرف كيف هو لحده، كل ما نعرفه أنه الان قد مات وأن لي لنا وله إلا الدعاء وما يليه.. هذا هو حال من يموت، فكيف هو حال من الناس مع موته.. بكاء ثم سرد ذكرى ثم دق شادر وافتتاح ناد واضرام نيران وذبح ذبائح .. جميعنا يرى أن من طبائع الحياة الإنسانية أن يجتمع الناس ليسعدوا ويفرحوا بزفاف واحد منهم يتزوج، فكأنما هم بفرحهم هذا يدخلون المحتفى به إلى حياة جديدة أعلى وأرفع من حياته فرداً بل هو يذوق الأن معنى الحياة الحقيقية والتي فيها الأمل أن تمتد إلى عمر طويل، ولهذا فهم يفرحون ويطربون ويولمون بالذبائح وصنوف الطعام.. فما بالهم وهم يشيعون ميتاً خرج عندهم من الدنيا أيضاً بنصب الشوادر وذبح الذبائح، أتراهم فرحون بموته ويزفونه للخروج من الدنيا، أم تراهم يجدونها الفرصة لإثبات وجودهم وحضورهم لكونها محض عادات وتقاليد، أم تراهم لا يعلمون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.. وأياً كان الحال، فعقب مواراة الفقيد الثرى يرجع القوم إلى شادرهم للعزاء فيتحول المجلس ريعاً إلى ناد ومنتدى لتداول كل شيء إلا الدعاء للميت فلا يذكرونه في ذاك الخضم حينها إلا قليلا، هناك حيث تدور الأحاديث عن الدنيا والسياسة واحوال المجتمع واخبار الرياضة وأفعال الفاعلين وضرب الضاربين في الأرض.. ثم من بعد عناء النساء من خلف الأستار تأتيهم موائد الإفطار والغداء والعشاء مكدسة يأكلها القوم في مرهم هذا وهم المتخمين شبعاً في واقع معاشهم وبيوتهم، وإذا تسلل صبي من أبناء الشمس والشوارع جائعاً إلى شادرهم جذبته اليهم رائحة الطعام فربما اعطوه اليسير أو منعوه ومنهم من يحسبون أن أجر الله لهم بعد كل هذا، فأي أجر في هذا وأي فائدة يرجوها ميتهم الذي اجتمعوا لأجله.. أما كان الأجر في أن يدفعوا بكل هذه الطعوم والأموال التي انفقوها في إقامة العزاء لليال إلى فقراء ومساكين يرجون فقط ما يسد جوع يومهم فتكون لهم بذلك صدقة وعن ميتهم زكاة باسمه ينتفع بها بعد ان انقطع عمله.. لقد أرشد الرسول صحابته أن يصنعوا طعاما لآل الميت إذ جاءهم ما يشغلهم وليس أن يصنعوه لجمهور المعزي.. أما كان الأصح أن يصلي الناس على الميت ويدفنوه ثم يلبون حاجة أهله ثم يرحلون من فورهم ولا يكون في قلوبهم وعلى لسانهم إلا الدعاء للميت وليس الشغل بهٌم الدنيا وانتظار الطعام.. فالشاهد في واقعنا أن مجتمعات العزاء هذه ما هي إلا واجهات اجتماعية ومضارب للمظاهر، فغلمان يلعبون ونساء يصطنعن البكاء مع كل وافدة إليهم للعزاء ثم سرعان ما تعلو أحاديث وضحكات، وكثيرون يدفعهم الإتيان إلى مجتمعات العزاء في المقام الأول هو ظهورهم أمام الناس فيها فيثبتون له الواجب ويشكرون له الحضور ويقيسون عليه غياب من لم يحضرون.. 

هكذا تصير غالب مجتمعاتنا للعزاء في الموتى هماً اجتماعياً مظهرياً لمن هم أحياء وليس هماً إنسانياً وجدانياً خالصاً للميت، ولو أن الميت حبيب حقاً لذهلوا بموته عن الدنيا حين يأتي الخبر، فرثاء وبكاء حار وكثير كثير من الدعوات لله غفراناً ورحمة، ولا تخطر رغبة في طعام أو شراب واهتمام بمن جاء ومن لم يجيء.. ولكن هيهات، وللأسف

يوتوبيا الغائبين.. رؤية في فيلم (الصحوة)


يوتوبيا الغائبين.. رؤية في فيلم (الصحوة) د. وائل أحمد خليل الكردي (كان فصل الصيف رائعاً.. كان موسم الولادة من جديد والبراءة.. كان معجزة.. شعر بذلك خمسة عشر مريضاً، ونحن المشرفون أيضاً.. لكن الآن علينا التكيف مع حقائق المعجزات.. يمكننا إلقاء اللوم على العلم والقول أن الدواء لم يكن فعالاً أو أن الداء عاد من جديد أو أن المرضى عجزوا عن التأقلم مع خسارة العقود المنصرمة من حياتهم، في الحقيقة لا نعلم ما الخطأ الذي حدث بقدر ما نجهل ما كان الصحيح.. ما نعرفه هو أنه مع انغلاق النافذة الكيمياوية حدثت صحوة جديدة.. إن روح الإنسان أقوى من أي دواء، وهذا ما يجب تغذيته من خلال العمل واللعب والصداقة والعائلة.. هذه هي الأمور الأهم.. لقد نسينا أمرها.. أبسط الأمور).. تلك هي الكلمات التي ختم بها (روبين وليامز) R. Williams فيلم (الصحوة) Awakening والذي أدى فيه دور البطولة تحت شخصية (دكتور ساير) Dr. Sayer وشاركه في البطولة الرائع بحق (روبيرت دو نيرو) R. Deniro تحت شخصية (ليونارد)Leonard المريض النموذجي في تجربة العلاج.. وذلك حينما عين (د. ساير) طبيباً معالجاً في مستشفى الأمراض المزمنة في مقاطعة (برونكس) ليجد عالماً فريداً من البشر الأحياء الغائبين عن فاعلية الحياة لعقود طويلة من عمرهم نتيجة اصابتهم بمرض التصلب اللويحي ومتلازمة (توريت) ومرض (باركسون)، فظلوا طول فترتهم وراء جدران المستشفى لا يخرجون الى العالم الخارجي، منهم من غاب عن معايشة الحياة لأربعين سنة ومنهم ثلاثين ومنهم دون ذلك أو أكثر.. تحرك الطبيب (ساير) بالدافع الشعوري الإنساني نحوهم بتعاطف عميق كان سبباً في أن كرس نهاره وليله من أجل اكتشاف علاج لهؤلاء يعيدهم به إلى الحياة الواعية الواقعية من جديد إذ كان هو الوحيد من بين الأطباء من آمن بأن ذلك ممكن، وقد فعل.. وربما ليته ما فعل.. نحن كثيراً ما نضع معياراً للحقيقة والوجود والسعادة وفقاً لزماننا القريب وما عليه مقتضى الأمور في يومنا الراهن والذي بلغناه بتتابع السنوات المتصلة حين ننمو وتنمو معنا الحياة، إلى أن تشكلت خبراتنا التي نعالج بها ظروف عصرنا لكي نضع عليها تلك المعايير.. وكذلك كل الأفكار الحالمة بالمدن الفاضلة أو (اليوتوبيا) كانت لأجل تحقيق السعادة للإنسان حاضراً ومستقبلاً بحسب هذه المعايير التي وضعناها من واقع عصرنا وطرق حياتنا.. هكذا فعل (أفلاطون) في جمهوريته، وفعل (توماس مور) في يوتوبيا، وما أشار إليه الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة، وغير ذلك من جهود وأفكار مختلفة.. ولكن كلها كانت تشترك في تصور ما ينبغي أن يكون ورسم المستقبل بناء على الحاضر، ولكن ماذا لو كانت هناك يوتوبيا أو مدن فاضلة شعوبها موجودة بيننا في زماننا وحاضرنا ولكنهم يعيشونها في زمانهم هم الخاص.. إذن، كان من الطبيعي أن يفكر الطبيب بمعايير يومه وخبرته السوية هو عندما قرر في شأن مراضاه أن الأصلح لهم هو إعادتهم مما هم فيه وتحريرهم من الأسر في الماضي ومن جدران المستشفى.. ولكن كانت الصدمة والدرس المستفاد في آن معاً عندما نجح الدواء وعاد الغائبون، ولكنهم عادوا بعقلياتهم ومشاعرهم القديمة وحدود خبراتهم التي توقفوا عندها يوم اصيبوا بالمرض وغادروا عليها منذ سنوات طوال، فمن هو بالسبعين عاد بروح وعقل وخبرة الشاب في العشرين حيث كان يومذاك.. هنا كان لابد أن ينشأ صراع نفسي كبير بين الماضي والحاضر الذي أتى فجأة في حياة هؤلاء، ثم ليتحول الصراع إلى نقمة وتمرد على الأطباء الذين وقع بظنهم أنهم يحولون بينهم وبين أن يمارسوا بحرية الحياة كما يعوها هم وليس كما يفرضها هذا الحاضر الغريب تماماً.. وكانت الأزمة لتتحول إلى كارثة حقيقية لولا أن أدركهم قدر الله بلطفه بأن الدواء لم يحسم المرض نهائياً وانما فقط كان ذا تأثير جزئي مؤقت، فكانت مجرد لحظات (صحوة) رجعوا بعدها تدريجياً إلى مرضهم بسلام ولتطمئن نفوسهم وتهدأ في عالمهم الخاص الذي ألفوه طويلاً.. فتلك هي مدينتهم الفاضلة التي لا مفر منها لكي يقضوا ما بقي لهم في العمر براحة بال وبغير هموم جسام، وكأن لسان حالهم يقول للطبيب عتاباً (لماذا اخرجتنا أول مرة؟ ولو كنا علمنا حال زمانكم ودنياكم لرفضنا دوائكم هذا قولاً واحداً) تماماً كما هو حال أهل الكهف في سورتهم بالقرآن الكريم عادوا إلى الموت بعد صحوهم في زمان غير زمانهم.. إن هذا الفيلم البديع هو قصة واقعة بالفعل في أخريات الستينات من القرن العشرين، وهو بهذا العرض الدرامي المتقن كان ينطلق من مقدمة منطقية أساسية هي (أن المدينة الفاضلة ليست دائما كما يرها الأسوياء، وأن حياة الحاضر ورؤية المستقبل تبعاُ لها ليست هي المعيار الأوحد للسعادة في هذه الحياة، فرب أقوام أخر لديهم حسابات مختلفة).. وهذه المقدمة المنطقية تضمنت ما يلي من قيم: أولاً- أن هناك نوع من الصحة أهم بكثير للإنسان من صحة العقل والجسد، هي صحة التوافق الروحي مع الحياة ولو برغم المرض، فيجب أن لا نستسلم في حال لم يوجد الدواء فأرواحنا وعزائم النفس أقوى من أي دواء.. وفي حال تمكن المرض لا محالة فنعيش الحياة في داخله بأرواحنا القوية.. ولنا في (المعري) ضرب مثل حين داهمه كف البصر في ريعان الصغر. وثانياً- هنالك حوار قصير دار بين أم المريض (ليونارد) والطبيب (ساير) عند اللقاء الأول.. وجدها تكلم ابنها كأنها تحاوره، فسألها (هل يتكلم معك يوماً؟) فأجابت (بالطبع لا.. ليس بالكلمات) فسألها (ماذا تعنين، هل يتكلم بطرق أخرى؟) فسألته عما إذا كان لديه أولاد فلما أجاب بالنفي قالت له (لو كان لديك لعلمت).. فلعل أكثر لغات التعبير عن الأحوال الإنسانية سطحية هي الكلمات، وأن هناك من اللغات ما هو أكثر عمقاً تُفهم ولا تُنطق تماماً كلغة الشعور والحدس الفطري بين الأم وابنها، والمغذى في هذا أننا يجب أن نتعلم استخدام مثل هذا اللغات فقد تكون فعاليتها في تحقيق الأثر أكبر مما نتصور.. وهذا ما يدعم بقوة المقدمة المنطقية للفيلم .

الخميس، 2 فبراير 2023

القيم المتجذرة.. كيف لها أن تبقى


القيم المتجذرة.. كيف لها أن تبقى د. وائل أحمد خليل الكردي قد نعبر سريعاً وبلا مبالاة من أمام لوحة (الحذاء) التي صور فيها الرسام العالمي (فان جوخ) حذاءً ضخماً ملقىً في أرض فلاة ولا يحيط به شيء ولا يبدو خلفه أي طريق أو أي معلم من المعالم.. ولكننا إذا تمهلنا قليلاً وأمعنا النظر إلى الجزء الداخلي من هذا الحذاء لأمكننا أن نلحظ آثار الاعياء مرسومة عليه ولو أننا نظرنا إلى ثقل الحذاء وصلابته لتوقعنا أنه حذاء لفلاح يشق به طريقه نحو الحقول كل يوم، كما أن النعل الملطخ يدل على مدى معاناة هذا الفلاح فيما يعمل.. ورغم كل ذلك وكل تلك الالام والمعاناة والأوحال ومهما طرأت عليه من متغيرات الظروف والأحوال لم يتخلى الحذاء عن مهمته الاصيلة في حماية أقدام الرجل حتى يهلك دونها.. تلك هي صفة القيم المتجذرة، هي قيم وأحوال فطرية إيجابية خيرة. وطالما أنها متجذرة في قلب ووجدان كل فرد فهي بطبيعة الحال تكون عامة مشاعة لدى كل الأمم والشعوب لأنها من أصل التكوين الفطري للإنسان، جاء ذلك في قول الله تعالى (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله - الروم (30. علينا إذاً والحال هكذا، أن ننبه العقول الى وجود وحقيقة هذه القيم، فإن جزءاً كبيراً من مشكلاتنا الإنسانية يكمن فيما يمكن تسميته (التضليل النفسي) والذي يقع بفعل طريقة استخدامنا للمفاهيم والعبارات التي نتداولها. فيكون التضليل النفسي – على سبيل المثال - برسم صورة مأساوية اكبر من حقيقة الواقع بفعل الكلمات والاشارات والأوصاف التي نستخدمها فنضع لها دلالات معينة تستجيب لها امزجتنا النفسية فنتفاعل معها على نحو ما إما إيجاباً أو سلباً، فالتضليل النفسي لا يقتصر على السلبي فقط. ومن هذا القبيل، جملة مفاهيم القيمة التي نحملها في أذهاننا ونتعامل معها ونتفاعل بها، في حين قد تكون هذه المفاهيم ذات دلالات غير حقيقية في واقع الأمر؛ تماماً كما لو قلنا كلمة (وجود) ووضعنا في مقابلها كلمة (عدم) فإننا نضل نفسياً وعقلياً إذا تعاملنا مع كليهما بأن لهما نفس التجسد الواقعي العيني المشخص، فكلمة (وجود) هي فقط ما لها هذا التجسد الذي نشير إليه في الموجودات والكائنات، أما كلمة (عدم) فليس ثمة شيء هناك في العالم لكي نشير إليه بدلالة الماهية أو الكينونة، إذ العدم هو محض سلب للوجود الذي هو صفة للأشياء العينية. فعلى نفس هذا المثال نجد أن قيم الخير هي ما له وجود حقيقي أما ما يسمى بقيم الشر فليست بقيم أصلاً وإنما هي محص سلب للقيم الحقيقية. وهذا يحيلنا إلى ما هو (فطري غريزي) وما هو (ثقافي مكتسب) في مجال القيم. لما قال الرسول صل الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم صالح – وفي قول مكارم - الأخلاق) فإن ذلك مما يعطي دلالة أن هنالك أصل فطري للقيم بحكم أن الكائن الإنساني يحمل الغريزة الفطرية في قبول ورفض الأشياء كما باقي الكائنات ولكنه يتميز عنها بالتكليف بعمران الدنيا والذي يتطلب قدراً ضرورياً من حرية الاختيار، فالإنسان يتمم ما هو فطري غريزي بما هو ثقافي مكتسب من خلال الاختيار الحر لمزيد من القيم المركبة التي تمنحه إياها تفاعلاته المعرفية مع الطبيعة والمجتمعات ومن ذلك تلك القيم التي جاء بها الدين متمماً بها فطرة الله تعالى في خلقه. فهناك إذاً دور كبير لهذه القيم المتممة في عمران العالم وصلاح البشرية. ويبدو من هذا أن هناك قيم متممة سليمة وصالحة وهناك أخرى غير ذلك، فما الذي يمكن أن يحدث إذا لم يأخذ الانسان بالقيم المتممة الصالحة؟.. هنا يظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولنا أن نتوقف عند هذه النقطة لنضع ملاحظة قد تبدو مهمة؛ أن الاحتفاظ بالقيم المتجذرة – والتي هي الأساس – ثم الاكتساب للقيم المتممة يحتاج إلى نوع من (الإدارة) تماماً كما هي إدارة المؤسسات والهيئات. ولكي نحقق منظومة إدارية ناجحة للقيم المتجذرة تبنى عليها القيم المتممة الصالحة فلابد أن نميز بين مفهومي (تغيير القيم) و(تطوير القيم)؛ فتغيير القيم هو ازالتها وتحويل الإنسان عن فطرته القيمية فيفقد ما هو متجذر لديه منها بفعل التبعية غير الرشيدة وغير الواعية لقيم متممة وافدة من حقول ثقافية منقصة أو منافية للأصول الأخلاقية فيضل الإنسان بهذا عن فطرته قبل أن يضل عن قيمه. أما تطوير القيم، فهو اختيار الإنسان لمجموعة القيم المتممة التي تتوافق مع مبادئ الفطرة الإنسانية وما بها من قيم متجذرة فيسير بها تراكمياً في خط رأسي للتطور والتركيب والتكثيف مع كل مرحلة من مراحل الاستحداث والتقدم الثقافي والعلمي والتقني للمجتمعات الإنسانية وبشرط عدم تناقض المتطور مع ما هو متجذر في الأصل. وزبدة القول أن هذه القيم المتممة الصالحة هي ما جاءت به الأديان بعد حيرة البشر (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا - يونس19). لذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. إذاً، وباعتبار أن القيم المتجذرة هي قيم فطرية عامة مشاعة بين جميع البشر وأن الانسان ينحرف عنها عند تبنيه لقيم متممة غير صالحة، فإن القيم المتجذرة لها القوة في الأخير لأنها تظل باقية في الإنسان على هيئة ضمير حي وإلا فقول ربنا تعالى (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون – الأنعام1) هو دلالة على ذلك، وما قال الرسول صل الله عليه وسلم (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) هو حديث عن ذلك الضمير الحي بما تجذر فيه من قيم مثل قيم الحياء والشرف وهذا لكل الناس. ولذلك حينما دعا الفيلسوف البارز (فريدريش نيتشه) للتمرد على هذا الضمير الانساني العالمي بقلب القيم رأساً على عقب واعلاء قيم القوة والبطش التي يتصف بها عنده الإنسان الأعلى (السوبرمان) واعتباره قيم التسامح والإيثار قيم ضعف يتصف بها العاجزين، فإن دعوته هذه وإن كانت قد طبقت في بعض حقب التاريخ بقدر ما إلا أنها لم تعش طويلاً وكانت القيم المتجذرة تعلو في كل مرة من جديد. ولأجل تعزيز هذه القيم في بلادنا العربية والإسلامية فليس علينا محاربة الثقافات الوافدة ذات قيم غريبة وشاذة بقدر ما علينا واجب المبادرة بتقوية وعينا الشعبي لأمتنا بحقيقة تلك القيم المتجذرة فينا ليحقق ذلك واقياً تلقائياً تجاه كل وافد غير متوافق معها. وليست هذه التقوية فقط على المستوى الدفاعي لشعوبنا وإنما أيضاً على مستوى التأثير الإيجابي في الأمم الأخرى كافة، وهنا يكون هذا الدور منوطاً بالفنون البصرية والسمعية تأليفاً واخراجاً وأداءً ونقداً فنياُ بكونها رسائل جمالية تخترق وجدان الإنسان وعقله معاً بما تحمله من مضامين قيمية، وهو دور تفاعلي لا يقتصر على فهم المتلقي للرسالة القيمية فقط وإنما تفاعله معها من خلال انفعاله الوجداني وهو ما ينتج في الأخير وعياً متكاملاً. فإذا اتفقنا مع ما ذهبت إليه الفيلسوفة (سوزان لانجر) في تعيين الوظيفة الأولى للفن (إنما هي إحالة الوجدان إلى حقيقة موضوعية) فأن هذه الحقيقة الموضوعية تجد حتماً أرضاً مشتركة لها عند كل أبناء آدم. وخلاصة قولنا في هذا، أن تقوية الوعي الشعبي بالقيم المتجذرة ابتداءً وبالقيم المتممة الصالحة هو ما يحفظ لنا بقاء هوياتنا المجتمعية تماماً كما حفظ حذاء (فان جوخ) قدم الفلاح القديم في أشد وأحلك الظروف.

قسم الأطباء


قسم الأطباء.. 
 د. وائل أحمد خليل الكردي
 لعل قسم الحكيم الاغريقي (أبقراط) بما تضمنه من قيم أخلاقية في صون الحياة وحفظ كرامة الناس وعدم التمييز بينهم إنسانياً في المعاملة الطبية، لم يكن فقط نموذجاً للأخلاقيات الإنسانية المتجذرة التي يجدها كل انسان سوي في نفسه بحكم الفطرة بغض النظر عن معتقده الديني.. وإنما أيضاً هو قطعة أدبية فريدة بقوة تعابيرها وجمال تراكيبها.. فهكذا ربط (ابقراط) الحكيم بين الواجب الأخلاقي والنفاذ الأدبي ليصير قسمه دستوراً في الآداب الخلقية التي يتحلى بها كل طبيب كما ينبغي.. فمسوغ هذا القسم عند الناس أن الإنسان يصون كرامة الآخرين صوناً لكرامته هو ويحافظ على حياتهم لحفاظه على حياته هو ولا يميز بينهم لغرض أن لا يميزونه إنسانياً، وهذه ليست أنانية لأن الأنانية تعني أن تعطي الخير لنفسك فقط ولا تعطيه لغيرك. وإنما أراد (أبقراط) أن يجعل هذه الآداب الخلقية قسماً حتى يحرص بها كل طبيب أن لا ينحرف عنها بحرية إرادته فيكون غير إنسان سوي فلا يحق له حينها أن يلامس حياة الناس وقت حاجتهم إليه (إذ كيف يعطي الناس الحياة السليمة من يفقدها هو في نفسه) ولأجل هذا قال الله تعالى على قتل أحد ابني (آدم) أخاه بدافع الغيرة غير السوية (ومن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً - المائدة 33). فغذا كانت الأخلاق على العموم هي منظومة القيم التي تدفع الإنسان بوازع من داخله الى السلوك والتصرف نحو الأخرين بمعاملة إيجابية خيرة، فيمكن إذاً القول أن هناك اخلاق متجذرة فطرية في الإنسان وهناك آداب أخلاقية مكتسبة متممة لتلك الفطرية. فلما قال الرسول صل الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم صالح – وفي رواية مكارم - الأخلاق). فإن ذلك مما يعطي دلالة أن هنالك أصل فطري للقيم مشاع عند كل الناس بحكم أن الكائن الإنساني يحمل الغريزة الفطرية في قبول ورفض الأشياء كما باقي الكائنات ولكنه يتميز عنها بالتكليف بعمران الدنيا والذي يتطلب قدراً ضرورياً من حرية الاختيار، فالإنسان يتمم ما هو فطري غريزي بما هو ثقافي مكتسب من خلال الاختيار الحر لمزيد من القيم المركبة التي تمنحه إياها تفاعلاته المعرفية مع الطبيعة والمجتمعات ومن ذلك تلك القيم التي جاء بها الدين متمماً بها فطرة الله تعالى في خلقه. فهناك إذاً دور كبير لهذه القيم المتممة في عمران العالم وصلاح البشرية، ومن ذلك صلاح المهن والأعمال، وهي تلك الأخلاقيات المضافة التي اقتضتها تعقيدات الحياة الاجتماعية الانسانية واختلف الناس في أخذها وردها، فهي من دلالة قول الله تعالى (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا - يونس19)، لذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ومن هذا القبيل فإن الحد الأدنى البسيط من الآداب الأخلاقية المتممة للطبيب قد تكون بنحو ما يلي: عدم المباهاة بالعالمية: فمن تأخذه العزة الزائدة بنفسه وما كسب وحقق فقد وقع في عهد الكبر كما هو لدى (قارون) (قال إنما أوتيته على علم عندي – القصص 78) ووقع من قبله في عهد الغرور لدى (ابليس) بقوله (أنا خير منه – ص 76)، ولعل الأطباء هم أكثر الناس عرضة للوقوع في عهود الكبر والغرور بأنفسهم وما يملكون من علم إلا من جاهد نفسه وقاوم هواها، وهذا أمر وارد تماماً فالطبيب يرى عجز وضعف الناس بين يديه ويرى نفسه يهبهم أسباب الصحة بما يمنحهم إياه من دواء قد علمه بعد درس عميق وتعلم شاق ومعرفة غزيرة تكسبها دون غيره من الناس عن الحياة والصحة. ولكن الوقوع في المباهاة هذه بالعالمية والتعالي بالعلم على الآخرين ربما ينذر بصدمة كارثية شديدة تحيق بالطبيب إذا تمادى إذ الله تعالى يستدرج مثل ذاك ويمد له في الطغيان حتى إذا عماه الكبر أخذه فلم يفلته فالكبر والغرور ظلم. وكذلك يورثه كراهية الناس على حاجتهم إليه (فما بال طبيب يأخذ الناس عنه وهم كارهون ناقمون ولا يدعون له، وآخر يأخذ الناس عنه وهم راضون محبون شاكرون.. هل يستويان). تقليل الأخطاء: إن كل ابن (آدم) خطاء.. هكذا قال النبي. ولكن الواجب اللازم على الطبيب أن يحرص ويسعى بكل ما لديه من عقل وفن إلى تقليل احتمالية وقوعه في الخطأ الطبي فالخطأ الطبي حتى لو بدى بسيطاً قد يكلف الإنسان حياته أو يجعله معاقاً باقي عمره. ولذلك لا يجدر بالطبيب خوض المغامرات والمجازفة في علاج مريضه إلا إذا كانت تلك هي الضرورة القصوى وعندما تصبح نسبة احتمال موت المريض في حال العلاج أو عدم العلاج على السواء هي الأغلب، والله تعالى بذلك أعلم. أدب المقابلة الطبية: الإنسان كائن انطباعي.. واللحظة الأولى عادة هي اللحظة الحاسمة عنده. واللحظة الأولى في مقابلة المريض لطبيبه تحدد عنده إما الارتياح والقبول وإما الانقباض والرفض. ولذلك فإن المقابلة الطبية هي من أبرز المواطن التي يتجلى فيها خلق الطبيب. وهي تشتمل على عدد من المبادئ: أ- التعاطف/ فإذا كان قادة أجهزة المخابرات العسكرية في العالم يعلمون عناصرهم أول ما يعلمونهم أنه (لا دخل للعواطف في العمل) فإن القاعدة الأخلاقية في الطب تكون عكس ذلك تماماً (فينبغي إدخال العواطف في العمل) وهو نوع التعاطف السلوكي الإيجابي تجاه الأخرين (المرضى) وليس نوع العواطف الناجمة عن الأحوال الذاتية والمزاجية جراء الظروف الشخصية التي يمر بها الطبيب. ولعل أبرز صور التعاطف التي قررها النبي صل الله عليه وسلم في معاملة الناس قوله (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طلق) وقوله (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) وخير دلالة لهذا القول ما فسره به (ابن عيينة) حيث قال (البشاشة مصيدة المودة، والبر شيء هين، وجه طليق، وكلام لين) وبخاصة لما يكون الإنسان مريضاً ضعيفاً لاجئاً لطبيبه بالعشم ورجاء الشفاء بإذن الله. ب- الصراحة مع اللين/ وذلك سواء في التصريح بوضع الحالة أو في أخذ الموافقة بالعلم على العلاج من لدن المريض.. فإن ربنا قد قضى أنه (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك – آل عمران 159)، وأقر رسوله (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه). والصراحة مع المريض عن حقيقة مرضه وطبيعة علاجه لا تنافي اللين والرفق، بل إن الصراحة برفق ولين مما يعطي الأمل للمريض ويريحه نفسياً ويجعله متهيئا برحابة صدر لقبول أمر الله بغير جزع، فمن أدب الرفق أن يبث الطبيب في روع مريضه أنه يتخذ كل ما يمكن من أسباب للعلاج وإنما الشفاء من عند الله، وإن دس الحقيقة عن المريض قد يجعله يواجه الواقع بالتجربة المباشرة بغير تهيئة وهو ما قد يصيبه بحالة يأس واكتئاب بأن الطبيب يقول شيئاً وما يجري على الواقع شيء آخر فهذا هو التطمين الكاذب.. ولكن أيضاً قول الصراحة بنحو صادم جاف قد يضر المريض بما يصيب نفسيته بضرر بالغ ربما إلى الدرجة التي تحول بينه وبين الاستجابة للعلاج. فلا مناص إذاً من قول الصراحة مع اللين والهون والرحمة والرأفة والطرق المستمر على منح الأمل بالله. وبطبيعة الحال أن لكل قاعدة استثناء، فهناك أحوال يقدرها الطبيب قد لا ينفع فيها كثيراً قول الصراحة الكاملة حتى ولو كانت بلين، فهذا يتحدد بحسب دراسة وفهم البناء النفسي للمريض. الإدارة الطبية الناجحة: أنه كما أمر الله تعالى نبيه (يحيى) أن يأخذ الكتاب بقوة، فكذلك الطبيب إذا صار مديراً على مرفق طبي أن يأخذ هذه الإدارة بقوة أي بحقها وهذا أخذ أخلاقي في المقام الأول، إذ عليه أن يتبين القدرة على الإدارة هذه في نفسه فهي أمانة تخذي حاملها إلا من أداها بحقها، فإن لم يجد فلا يأخذ التكليف بالمنصب وكل إنسان على نفسه بصيرة. والقاعدة الذهبية في الإدارة الطبية هي قول الرسول صل الله عليه وسلم (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فرعاية الطبيب المدير في إدارته أن يعامل كل من يليه بالعدل بحسب ما يستحق، وأن لا يولي بالتكاليف إلا من هو أهل له ويشرف عليه اشراف مباشر، وأن يتخذ البطانة الصالحة لنفسه، والأهم أن يعين في إدارته الكادر الطبي الكفء ذا الخلق النبيل الذين يقومون بالأعمال الحيوية، وفي الأخير أن يكون كما كان الراشدين العظماء من قبل لا يغلقون بابهم دون أحد أياً من كان. هذا والله تعالى أعلم.

البيت الطائر.. قصة الغرام السامي

البيت الطائر.. قصة الغرام السامي
 د. وائل أحمد خليل الكردي
 مشكلتنا.. أننا لا نحيا كما الجمادات.. فقصة البيت الطائر ليست مجرد فيلم كارتون للفتية.. وليست مجرد قصة خرافية، وانما كان وضع الحكاية في هذا القالب الخرافي لجذب العقول والأفئدة والمشاعر نحو المغذى الحقيقي للعرض لدى من يشاهدون ولكي يلمسوا ما وراء الحكاية من معان وقيم إنسانية نبيلة.. فليس المقصد الأعلى والأعمق لقصة فيلم البيت الطائر هو ما يتبادر من ظاهر الفيلم أن بيتاً قد طار بصاحبه الآلاف الأميال بواسطة عدد كبير من البالونات المملوءة بالغاز.. وليس المقصد كذلك هو حكاية الطائر الخرافي النادر الذي صرف أكثر من منتصف الفيلم للدفاع عنه ضد المغامر القديم الشهير صاحب المنطاد الطائر والذي فقد رشده عندما انكر عليه الناس ادعاؤه بوجود هذا الطائر على الحقيقة، فعزفوا عنه وفقد هو شعبيته فعزم على اصطياد الطائر واحضاره عياناً للناس كي يعود له صيته مرة أخرى حتى ولو أضاع الشطر الأكبر من عمره في سبيل ذلك.. وقد اضاعه. وهذا ربما أحد الدلالات البارزة المستفادة من هذا الفيلم، أن فقد الشهرة بعد اكتسابها من أشق الأمور وأصعبها على النفس الإنسانية وربما لا يحتمل هذا الفقد للشهرة والجماهيرية إلا من كان قوياً في وجدانه وإيمانه، وإلا فإننا نرى كثيرين من هؤلاء إما أنهم يضعون حداً لحياتهم بالانتحار أو يفقدون عقولهم أو يتحولون إلى مجرمين ساديين أو يتوارون بقية حياتهم بحالة حادة من الاكتئاب النفسي.. ولكن المقصد الأكبر من وراء كل أحداث الفيلم هو تجسيد أروع الأمثلة لأعلى ما يمكن أن يصل إليه أنسان في محبة انسان ومنها إلى محبة الوجود.. فكل ما هنالك أن ذلك الرجل الطاعن في السن (بطل الحكاية) قد فقد زوجته.. ولكنها لم تكن بالنسبة إليه مجرد زوجة أو شريكة حياة بل كانت هي الحياة نفسها، فمنذ براءة الطفولة الأولى وهما يمضيان الطرقات سوياً ويخوضان تجارب الحياة مع بعضهما ويحلمان سوياً، وفي كل عام ينمو معهما ارتباطهما الوجداني ويزداد قوة في الشد.. لقد كانا واحداً وكنا نراهما وهماً اثنين.. وعندما بلغا أوائل عتبات الرشد تزوجا بعضهما لا محالة.. لم ينجبا اطفلا، ولكنهما اكتفيا ببعضهما البعض ليعيشا كل ذرات الحياة.. لقد كان صانع الفيلم بارعاً عندما ركز على اللمحات الصغيرة ذات الدلالات العظيمة كأن تلتحم ايديهما معاً عندما يجلسان يقرأن في الكتب والصحف كأنما ارادا أن تمتزج افكارهما وانفعالاتهما بما يقرأن.. ثم كان لديهم حلم كبير، أن يهجرا هذا العالم الصاخب ويذهبا إلى حيث أقاصي الأرض بعيدا ويبنيا بيتهما الصغير على قمة جبل ينبع منه الشلال لتكون تلك أرض احلامهم و(اليوتوبيا) التي يعيش فيها السعادة المطلقة ذلك الشعب المؤلف من زوجين فقط.. وفي سبيل ذلك كانا يدخران ما تيسر من العملات المعدنية في كل يوم، ولكن كانت دائماً تضطرهما ضرورات الحياة إلى كسر حصالة الادخار.. ولكن يبقى الحلم قائما هناك بلا يأس فيعود الادخار من جديد وفي نفس الوقت بلا توقف عن التفاعل معاً بكل لحظات الحياة. . ثم أتي يوم.. ومرضت الزوجة مرضاً لم يبدو له شفاء، وبدأت الرحلة نحو النهاية تقطعت فيها القلوب بتخيل كيف سيكون الفراق، حتى وارها الموت الحتمي.. عاش بعدها العاشق المسن لسنوات مشقوق الوجدان يكلمها ساعة بساعة وعن كل شيء كأن لم ترحل يوما، فلقد كان قبرها داخله، وكان يوقن أنها ليس فقط تسمعه وانما أيضا تنفعل وتتفاعل بكلماته.. وفي كل صباح بعد الافطار والقيام بأعمال النظافة المعتادة وتلميع التذكارات كان يجلس على الكرسي المعتاد والى جواره كرسيها خالياً ليتصفح بشيء من الغصة الحارقة الألبوم الذي حوى رسوماتها منذ الطفولة وعبارتها العذبة المكتوبة إليه، ثم يتوقف متأملاً صورة بيت الحلم التي رسمتها وهو قائم على قمة جبل الشلال وحيداً.. من هنا تبدأ القصة حقيقة، فقد عزم الرجل أن يحقق حلمها الكبير وإقامة البيت على جبل الشلال، ولكن لم يكن يصلح بعد أن ماتت أن يتحقق الحلم بأي بيت يبنيه هناك، لم يكن يصلح إلا البيت الذي عاشت فيه هي وضم حياتهما معاً.. فكان أن صنع العدد الضخم من البالونات في ليلة وطار بالبيت بكل ما فيه. ثم كانت المغامرات التي خاضها عبر وقائع الفيلم مع صديقه شبل الكشافة الصغير.. وفي اخريات الفيلم انفلت البيت من الرجل وطار لوحده بعيداً.. وربما كان ذلك قصداً، إذ لعل البيت الصامت قد استشعر الضرورة من فعل ذلك تماماً كما البشر أو حتى كما تلك الحجارة التي تهبط من خشية الله.. لم يعلم الزوج المتيم ابداً أن البيت استقر من تلقاء نفسه على نفس الموضع الذي رسمته زوجته الراحلة على جبل الشلال.. وكانت الرسالة وراء ذلك: أولاً- أن الرجل كان لا يمكن أن يعيش في ذاك المكان بمفرده وحيداً دون وجود حقيقي لشريكة حياته، وهذا من باب أن الإنسان حتماً هو كائن اجتماعي. ثانياً- أن الأحلام تنتهي بتحققها، فلو بقي الرجل مع بينه أو حتى علم بأنه قد بلغ واستقر في المكان المعلوم لتوقف الحلم ولم يبقى ثمة دافع نفسي نحو ما يمكن للرجل أن يهب له الرغبة في الحياة بالتفاعل معه، فقد كان ذاك الحلم هو الخيط الذي مازال حياً يربطه بزوجته وما يمكن أن يقدمه لها بعد موتها فسيستمر بهذا شاعراً بقيمة حياته. ولذلك فبرحيل البيت بمفرده ودون علم صاحبه بمصيره سيظل دائماً هناك شيء من الحلم قائماً في وجدانه. ثالثاً- برحيل البيت فإنه يتيح بذلك فرصة للرجل أن يكمل حياته بروح جديدة في بيت جديد غير بيته القديم، وبهذه الروح الجديدة المختلطة بروح وذكرى زوجته الراحلة يمكنه أن يقدم السعادة لمن بجواره من أطفال الحي الذي تمنى هو وهي يوماً في الماضي أن يكون لديهما مثلهم. رابعاً- لعلنا نحسب دائماً خاطئين أن أقلامنا للكتابة والمقاعد التي نرتاح عليها وأرصفة الطرقات التي نمر بها والمنازل الأسمنتية التي نقطنها إن هي إلا جمادات صماء صرف وأنها لا تحس ولا تشعر ولا تفرح ولا تحزن تماماً كما نفعل نحن، وربما أكثر.. ولكن البيت الطائر يؤكد لنا غير ذلك، فقد فهم البيت العتيق الرسالة وأحس بها، فرحل ولم يستقر إلا على جبل الشلال ليحقق بإيثار بالغ حلم العمر لمن كانوا يعيشون فيه والذي ربما صار مع الوقت والحنين والأشواق حلماً له هو أيضاً.. وليس كل ذاك محض خيال لكاتب دراما، ففي العالم الحقيقي توفي في زمن قريب (أحمد الكردي) وهو في أخريات الثمانين من عمره ولم يكن قد شاهد قط فيلم البيت الطائر وحكاية الغرام السامي تلك.. ولكن بعد أربعين عاماً من العيش الجميل معاً رحلت شريكة عمره (وداد) إلى جنات الخلد بإذن الله، فعاش هو بعدها ذات تلك الروح لصاحب قصة البيت الطائر.. حيث عكف لعقد ونصف من الزمان منذ رحيلها يكلمها بكل شيء شعراً ونثراً ومناجاة بنهار وليل والبكاء سراً والضحكات، هو أيضاً كان قبرها داخله، حتى أتى يومه المكتوب ورقد في قبره الحقيقي إلى جوراها.. كل هذا لنعلم أن الإنسان عندما يكون ذا قلب سليم فهو كائن عظيم مكرم في أخلاقه وعشقه وتفاعله مع كل من وما حوله، فيحبه الله ويباهي به الملائكة عنده.. ولنعلم أن العشق النقي والغرام السامي بين الزوجين ليس ضرباً من خيال وأوهام بل هو إمكان واقع حقاً لدى البشر من أصحاب القلوب السليمة تزدان به الحياة.. وهذا ما ينبغي أن يكون.

اثنا عشر رجلا غاضبون

اثنا عشر رجلاً غاضبون.. 

 د. وائل أحمد خليل الكردي
 في زمان الأبيض والأسود.. فيلم سينمائي أمريكي من مشهد واحد وداخل حجرة واحدة.. اثنا عشر رجلاً هم هيئة من المحلفين في محكمة الجنايات الأمريكية، منوط بهم الوصول الى قرار حاسم بإجماعهم في الحكم بالإدانة على فتى لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره اتهم بأنه قتل والده بطعنه في صدره بمطواة، فإما أنه مذنب أو غير مذنب ولا شيء آخر. وقد بنى الاتهام في القضية حكمه على شهادة سماع من رجل مسن وشهادة رؤية وسماع من امرأة تبدو في منتصف الأربعين من عمرها، ثم أيضاً المطواة الخاصة بالفتى والتي هي أداة الجريمة برغم أنه لم يكن عليها بصماته.. أغلق باب الحجرة على المحلفين الاثنا عشر من الخارج بالمفتاح لأجل أن لا يغادر أحد منهم الحجرة دون وصولهم جميعا إلى قرار موحد، مذنب أم غير مذنب، فإن كان قرارهم بأنه مذنب فسيتم إعدامه على الكرسي الكهربائي وإلا فسيطلق صراحه.. دخل المحلفون إلى الحجرة وهم جازمون بأنهم لن يمكثوا سوى دقائق قليلة هي تلك المدة التي يستغرقها التصويت بأن الفتى مذنب، فكان مما يبدو لأول وهلة أن الجميع مسلمون بذلك دون أدنى شك.. فعزموا على انهاء الأمر سريعاً بكونه مجرد اجراء روتيني محسوم سلفاً خاصة وأن الجو كان شديد الحرارة، وحرارة الحجرة أشد.. ثم كان التصويت كتابة، فجاءت كل الأوراق تحمل كلمة (مذنب) ما عدا ورقة واحدة (غير مذنب).. تصبب الجميع عرقاً للحرارة وبلغ بهم التعجب والاستياء مبلغاً من ذلك الرجل الوحيد الذي خالف الجميع في أمر بدى لهم بديهياً جداً وأن هذا الاعتراض ربما سيستغرق منهم زمناً أطول داخل هذه الحجرة في الشرح والتوضيح.. ثم دارت حول المائدة أسئلة وأجوبة بجدل منطقي حاد. وأظهرت المناقشة أن الرجل صاحب الصوت المخالف لم يقر أنه مقتنع ببراءة الفتى كما لم يكن أيضاً مقتنع بعدم براءته ولم يحاول أن يثبت اهتماماً شخصياً أو عاطفياً تجاه الفتى وانما كان محايداً تماماً في موقفه بأن كل ما هنالك فقط أن أدلة الإدانة لم تكن بعيدة عن (الشك المعقول) فيها، فهو إذن –بعكس موقف الآخرين- لم يعنيه أن يكون الفتى مذنباً أو غير مذنب وإنما فقط كانت تعنية البينة أو الأدلة التي استند عليها القضاة في اثبات الجرم على الفتى، وكان هذا مصدر القوة في موقفه.. وبعد كل جولة من النقاش كان يتم إعادة التصويت وفي كل مرة كان الرجل صاحب الصوت المخالف يكسب واحداً من الاثنا عشر رجلاً إلى صفه بالإقناع العقلي ليغير صوته إلى (غير مذنب). وهكذا أخذ عدد المخالفين يتزايد في كل مرة يصوتون فيها حتى انتهى الفيلم بإقرار الجميع أن الفتى غير مذنب بما فيهم من كان أشدهم تعصباً لموقفه الأول، فتضمن ذلك عدداً من الدلالات التي جعلت من الفيلم (نصاً واخراجاً وتمثيلاً وتصميماً درامياً) عملاً ابداعياً بامتياز.. أولاً- في مواقفنا في الحياة، كثيراً ما نسلم تسليماً قاطعاً بأمر معين ربما لدرجة أن نعتبره أمراً بديهياً معلوم بالضرورة ومعروف بمحض الفطرة فلا يحتاج إلى تفكير. ولكن ما أن نستدعيه من مؤخرة دماغنا لنضعه أمام وعينا المباشر كأنما نراه بأعيننا ونتأمل فيه مرات ومرات حتى نرى أنه طوال تلك المدة الماضية التي عرفناه فيها لم يكن بالفعل أمراً بديهياً، وأننا كنا نتعامل معه من زاوية ظهرت لنا وخفيت عنا منه زوايا.. وهذا تماماً ما فعله الرجل صاحب الصوت المخالف مؤكداً من خلال تساؤلاته المنطقية بأننا لا ينبغي مطلقاً عندما نكون بصدد ازهاق حياة إنسان أو حرمانه من حريته الطبيعية إلى الأبد أن نحكم بما نعتقد –أو نظن أننا نعتقد- أنه حكم مسلم به بداهة لدى جميع الناس ولا يحتاج بذاته إلى برهان قوي. خطورة هذا الأمر أننا كما لو كنا نبني احكامنا على قواعد من الرمال فتنهار قريباً بأن نكتشف -وكثيراً بعد فوات الأوان- أننا كنا مخطئون. وفي قضية مثل تلك ربما دفع ثمن هذا الخطأ إنسان بفقد روحه، فماذا يفيد الشعور بتأنيب الضمير بعد وقوع المقاصل على الرقاب.. لذلك تكلم أعمق الفلاسفة في هذا الشأن خصوصاً (فلسفة الظاهرات) التي أسسها (ادموند هوسرل) وقال فيها بضرورة أن يضع الإنسان خبراته وتجاربه ونتائج معاملاته كلها بين قوسين ليعزلها عن خلفياتها وكل ما يحيط بها من مؤثرات ومن آراء سابقة وانطباعات عند الآخرين، ثم النظر إليها بتفاعل شعوري خالص ومباشر في التو واللحظة، فيكسر الأقواس بعد أن يكون قد أعاد الحكم عليها على هذا النحو الجديد. وقديماً قال (فرانسيس بيكون) أن الإنسان لابد أن يتخلص في أفكاره وأحكامه مما أسماه (أوهام القبيلة) وهي ما يغذى به عقل الإنسان دون تفكير منه نتيجة انتمائه إلى مجتمع معين بما له من مفاهيم ومبادئ وتصورات عن الأشياء والحياة تمت تنشئته تربوياً على قبولها والتصرف على أساسها دون نقاش أو تمحيص أو نقد. ثانياً- لقد استعمل الرجل صاحب الصوت المخالف أسلوب الفيلسوف (سقراط) في التهكم والتوليد بالتساؤل، حيث أقر أمامهم منذ البداية أنه لا يدافع عن المتهم وأنه لا يعتقد أبداً أنه غير مذنب، هو فقط قال (لا أدري) إن كان مذنباً أم لا لأن الأدلة المساقة لا تجزم بتجريمه.. فهكذا هدم أول درجة في سلم اعتقادهم البديهي فعندما يكون الحكم متعلقاً بحياة إنسان فلا ينبغي أن تقبل أدلة الاتهام أدنى نسبة من الشك المعقول.. على هذا الأساس صار يتساءل ويولد السؤال من السؤال، والقوم يجتهدون في التفكير والرد ليكتشفوا مع كل سؤال جديد يتولد من ردودهم ما في موقفهم من مواطن شك واحتمال المخالفة لم تكن في وعيهم وانتباههم، وهذا يؤكد أنه من تمام الوعي السليم والفطنة في كل الأمور التوقف دائماً والسؤال، وليكن السؤال للذات قبل الآخرين عما هي الأوجه التي يحتملها أي حكم من احكامنا التي نصدرها على الآخرين.. ولذلك كانت كلمة (الشك المعقول) هي المحور الذي دارت حوله دائرة توليد التساؤلات والإجابات مما يعني إما التساوي في احتمالية الحكم المؤيد والحكم المناقض وإما الكسر في بنية الحكم الواحد. ولعل هذا ما جرى عليه المبدأ الفقهي (درء الحدود بالشبهات) والمبدأ القضائي (الشك هو في مصلحة المتهم).. وفلسفياً –لمزيد من الإيضاح- يوضع (الشك المعقول) الذي هو يفرض نفسه على عقل الإنسان بفعل الملاحظة والتجربة بصدد ما كان يظنه يقينياً، في مقابل، (الشك المنهجي) الذي يقصد إليه الإنسان قصداً ويصطنعه اصطناعاً من أجل أن يبرر أحكامه ونتائجه التي توصل إليها بالفعل أو لكي يجعلها يقينية. ثالثاً- الكثير من أبناء آدم في هذه الحياة يغلفون نوازعهم النفسية الذاتية الخاصة في أحكامهم على الآخرين بغلاف من البينات والأدلة الموضوعية.. فكان من بين الاثنا عشر رجلاً من تطرفوا في التمسك بالحكم على الفتى بأنه مذنب لا محالة، بل ولابد من إعدامه على الكرسي الكهربائي إمعاناً في تعذيبه، كل هذا وهم لا يعرفون الفتى مسبقاً ولم يروه قبل ذلك قط مما يثبت أن حرصهم على تحقيق العدالة والحق والقانون هو محض أمر ظاهري فقط بينما كان هدفهم الحقيقي الكامن في أعماقهم هو الرغبة في إشفاء غليل أنفسهم من أبناء هذا الجيل كله بأنهم جاحدون لآبائهم عاقون لهم، دون أن يفطنوا إلى أن هذا العقوق والجحود كانوا هم الذين أورثوه في نفوس أبنائهم بقسوتهم عليهم.. فيسقطون ما بدخيلة أنفسهم على القضية الموضوعية بلا حياد موضوعي.. وهكذا، إن أكبر الظلم في القضاء وفي معاملات الناس يقع بنحو هذا الإسقاط النفسي تماماً كما أثبت الفيلم.. وأن السؤال النقدي الصادق عن حقيقة مواقف الذين يحكمون يجعلهم يفطنون أن مشاعرهم هي التي كانت تحكم وليس عقولهم. حتى (سقراط) الحكيم نفسه حكم عليه بالإعدام لاتهامه أنه كان يفسد أخلاق الناس في حين أن ما كان يقوم به هو فعل تنويري توعوي، ومن يحكمون لا يريدون ذلك فأسقطوا في حكمهم عليه بالإدانة والإعدام رغباتهم الذاتية وغلفوها بغلاف العدل والحق وأن هذا ما تريده الآلهة ليسوغوا لأنفسهم وغيرهم ما أفكت يداهم.. وهكذا كثيراً ما نفعل نحن.. تم انتاج فيلم (اثنا عشر رجل غاضبون) في العام 1957م.