السبت، 7 سبتمبر 2019

فك أختام الأمس

فك أختام الأمس..

د. وائل أحمد خليل صالح الكردي

كعادته، كتب الدكتور – بالألف واللام – (زكي نجيب محمود) مقدمة رائعة ثرة لترجمة محاورات الفيلسوف وعالم الرياضيات الانجليزي البارز (الفرد نورث هوايتهد) A.N.Whithead (1861- 1947م)، قارن فيها بين روحين مختلفتين لدى شخصين مختلفين لم يكن لهما أن يلتقيا مطلقاً في الحياة لبعد الزمان بينهما،  فمن جهة كانت روح الشرق التي تحققت في (أبو حيان التوحيدي) من خلال كتابه الفذ (الامتاع والمؤانسة)، ومن الجهة الأخرى كانت روح الغرب التي تجسدت في الرجل الأوروبي الصميم (أ. ن. هوايتهد).. لم يكن الشاهد في هذه المقارنة هو درجة الاختلاف التي ميزت كل منهما عن الآخر، بل كان الأمر عكس ذلك تماماً بأنهما قد سارا معاً في خط واحد ليصلا إلى نفس النتيجة في فكرة معينة.. وبالرغم من التصنيف الثقافي الذي ميز بحسم بين الحالة الإنسانية الشرقية التي اتسم فيها الساميون بالصرامة والجهامة والجدية إلى حد الحزن بالفطرة كما عبرت عنهم (التوراة)، وما اتسمت به الحالة الإنسانية الغربية في طابع الروح الهيلينية لدى ورثة الثقافة اليونانية من فكاهة وتبسط واغراق في المرح إلى حد النشوة وربما إلى حد المجون.. إلا أن المقارنة جمعت بين المزاجين المتضادين في خلاصة واحدة اتفق فيها الرجلان فيما يتعلق بحقيقة الاجتماع البشري وتكون الأوطان، وعبر عنها (هوايتهد) بقوله (أن خير المدنيات هو ما جاء من شعب اختلطت في نسيجه خيوط العنصرية، وأنه كلما صفا الجنس عنصراً ولم تدخله أخلاط من الخارج كان أقرب إلى الانحلال)..
ومن هنا ننطلق..
لم يفهم (هتلر) الداعي إلى صفاء وسيادة العرق الآري وحده غي العالم، ولا (أفلاطون) الفيلسوف من قبله الداعي إلى سيادة الرجل من اثينا من طبقة معدن الذهب ليستولي على الحكمة والدولة معاً دون غيره، أن الخبرة البشرية الطويلة أثبتت أن البقاء فعلاً يكون للأصلح، وأن الأصلح في الشعوب هو ما اتصلت فيه اعراق وألوان البشر برباط موثق فصاروا مجتمعاً بمعنى الكلمة.. ولعل الآية القرآنية الكريمة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..) ارشدت بنحو بذلك عندما تقدم فيها ذكر الشعوب على القبائل.. فربما كان الظاهر في سنة التطور البشري أن القبيلة حالة مؤقتة وأن التمسك المفرط بزمام القبلية الحادة للحفاظ على الصفاء العرقي حتماً سوف يتخطاه تقادم الأزمان بفعل التوسع الحضري والعمراني فلا يعود الأمر يسيراً في لملمة أطراف العشائر لنصنع منها حدود القبائل لأنها ستكون قد احيلت شعباً ودولة.. ولذلك إن قلنا أن (القبيلة) هي حالة تاريخية مؤقتة فإن(الشعب) هو الحالة المستقرة التي تنتهي إليها دوماً هيئة الاجتماع البشري في استمرار تطورها، والمعادلة في تفسير هذا بسيطة.. (القبيلة) طريقة حياة الناس الواحدة فيها تقوم على العرق أو العنصر، وهذا أمر قد يختل بالتزاوج من خارجها. بينما (الشعب) طريقة حياة الناس الواحدة فيه تقوم على التعايش المشترك، وذاك أمر لا يبليه تباين الأعراق وتداخلها..
وليس المقصود هو قمع العشائرية القبلية على الإطلاق، فإن لها من الفائدة ما يمنح المرء معها الشعور بالانتماء الأسري، وهذا شيء مهم.. وإنما المقصود أن لا نجعلها عاملاً حكماً في تحديد الانتماء المجتمعي..
ولربما وجدنا في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول آسيا نماذج شاهدة على قوة بناء المجتمع القائم على التعايش المشترك لأعراق بشرية متعددة..
إذن، وإذا كان هذا هو سر البقاء للأصلح، فإن هذا التمازج الخلاق الموجود على أرض السودان قمين أن يجعله أهلاً للبقاء والتقدم بجلد.. والضرورة في هذا تفرض التجاوز لسطوة التعصب للقبلية خارج حدود الانتماء الأسري من أجل التوسع والتفسح في مجالس التعايش المشترك بين جميع من توطن هذه الأرض.. وهذا ليس مجرد إمكان للحدوث، بل هو قد وقع بالفعل، وكان ذلك في ملحمة الاعتصام الكبرى قبيل وفي رمضان المبارك.. حيث لم تكن الثورة الشعبية هناك أنجح في أيٍ من مناحيها من نجاحها في إثبات هوية الوطن عبر النسيج المجتمعي الذي تشابكت فيه كافة الخيوط العرقية للسودان، قلباً ووجداناً وهدفاً واحداً، ومعاناة إنسانية واحدة، وموت واحد وحياة واحدة.. وأمام ذلك المشهد الذي ختم التاريخ بخاتمه لا نملك ناصية للكلمات ويصير الصمت أبلغ في حضرة الأفعال.. والوصف لأناس هناك كانوا يدونون مفكرة الثورة على ما قال (مارون عبود) في إحدى صفحاته ) يقرأون على ضوئها الوهاج سطور المعضلات المبهمة، ويفكون أختام الأمس).

أليس الله بكاف عبده ..

أليس الله بكافٍ عبده ..

د. وائل أحمد خليل الكردي

خدعوا الواعظ الشاب .. حينما أقنعوه بأن مذكرات موعظته التي سيلقيها في الصباح أن الله سوف يزيدها خصباً إذا تركها طوال الليل بين طيات الكتاب المقدس .. فأتى الصغار المحتالين في أمسية يوم السبت وأخذوا المذكرات ووضعوا بدلاً منها ورقة بيضاء .. وفي صباح يوم اﻷحد عندما صعد المنبر ليلقي موعظته ، كانت الورقة أمامه بيضاء وعقله خاوياً .. كانت الاشاعة قد انتشرت في كل مكان ، فجاء كل من هب ودب ليسمع ماذا يمكن أن يفعله الواعظ الشاب .. ولكنه لإلهام هبط على قلبه اﻵن أعلن أن موعظته ستكون بعيدة عن الترانيم التقليدية ، وأنه سوف ينطلق من اﻵية التي تقول (في البدء خلق الله السماء واﻷرض) .. ثم أمسك في يده بالورقة البيضاء ، ثم قلب الورقة ، ولا شيء أيضاً على الجانب اﻵخر .. وعلى مثل هذه الحالة لم يكن هناك شيء في الدنيا عند بدء الخليقة .. ولكن من هذا اللاشيء خلق الله السماوات واﻷرض وكل أساليب الحياة .. وبعد أن انتهى من الموعظة أحس أنها كانت من أحسن الخطب التي ألقاها (من رواية (قصة رجل طيب) ، تأليف (كونراد ريشتر)) .. ولو أن هذا الشاب كان قد تحسس وقع خطبته على الجمهور أثناء إلقائها لربما لم ينطلق فيها منذ البدء بعد أن اكتشف أن ورقته خالية وأن ذهنه بذات القدر خالٍ ، وأمامه جموع من الناس جاءوا لامتحان قدراته أمام هذا الموقف الصعب .. ولكني أرجح أن هذا الواعظ الشاب لكي يجتاز هذا الامتحان قد ألغى من حساباته ، ولو مؤقتاً، مواقف الجمهور وأهدافهم وجعلهم كمن يتكلمون تحت الماء بالنسبة إليه ، وكرس جل وعيه نحو سبك موعظة يفاجئ هو بها نفسه أولاً قبل أن يفاجئ بها هؤلاء الناس .. وكما أنه وجد الورقة خالية ، فكذلك قد أخلى عقله من السؤال عما إذا كانت موعظته ستحدث تأثيراً أياً كان نوعه على مستمعيه .. ولربما لم يدري بهذا التأثير عليهم إلا بعد أن نجح في جعل تأثيره على نفسه أولاً ، وأنه كان تأثير إيجابي مرضٍ ، وهكذا كان سر نجاحه ..
وكم من صديق يشكوا لصديقه عن أحزانه بأنه يبادر دائماً بالخير والاحسان لمن يهمه أمرهم وهم لا يولونه أَذن صاغية ولا قلوب واعية ، فيكره من نفسه أن جادت لهم يوماً بما جادت ، ليسلم نفسه لليأس والحزن وكثير من الشكوى .. ولعل أن اغلب مشكلاتنا والاحزان التي تنتابنا هي من فعل ايدينا.. كيف؟  لأننا عندما نقدم شيئا فيه خير للآخرين، نهتم كثيرا بردة فعلهم عليه واستجابتهم له ، فإذا كانت استجابتهم بخلاف ما نتوقع أو انهم تجاهلوا هذا العطاء فإننا نحبط ونيأس ونحس بالحزن الشديد .. فما الحل؟  الحل هو ان نتعامل مع كل الناس من وراء جدار زجاجي .. بمعنى ان نلقي للناس بالخير الذي لدينا إليهم دون ان نشغل انفسنا بضرورة أن يكون لديهم رد فعل عليه  .. الجدار الزجاجي يجعلنا نرى الناس وهم ايضا يروننا ونمد لهم بعطائنا ولكن دون ان تخترق ردود أفعالهم على عطائنا هذا حاجز الجدار الزجاجي الينا .. هكذا فعل الانبياء والرسل والا لكانوا توقفوا عن دعواهم في أولها مما يجدوه من جفاء ومحاربة الناس لهم وعدم قبول رسالاتهم .. اذن ، اعطي ما عندك ثم لا يعنيك ما يكون من ردود افعال واستجابات ، حيث سترتاح النفس انها افرغت ما عندها ولم تدخر شيئا .. ثم لا ندري ابدا إلى اي مدى اثرت كلماتنا في غيرنا فلربما التزموا الصمت ولربما كانوا يظهرون عكس ما يبطنون ، ولكنهم في كل الاحوال يتأثرون .. الفيلسوف الألماني (ارثر شوبنهاور) Schopenhauer لم يشتهر ولم يلمع أسمه كفيلسوف مهم في تاريخ العالم إلا بعد أن أوشكت حياته على نهايتها ، فلقد كان طلابه في مطلع حياته كأستاذ بالجامعة يتركونه قائماً ليلحقوا بقاعة درس فيلسوفهم العملاق آنذاك (فلهلم فون هيجل) Hegel.. ولكن حزنه بذلك لم يمنعه أن يكتب ويكتب ، حتى إذا مات انتبه الناس بموته إلى أنه ربما كان فيما كتب وألف أعظم من (هيجل) .. وهكذا كم من مبدعين بارعين لم يعرف الناس قدرهم إلا بعد موتهم ليدون التاريخ أنهم ربما كانوا ذوي أثر عميق في جماهيرهم ولكنهم فقط لم يروا هذا التأثير بياناً في أعينهم وأقوالهم ، ولكنهم بالفعل تأثروا .. ولو أن هؤلاء الكتاب قد شغلوا أنفسهم كثيراً بتأثر الناس بهم لربما لم يكتبوا سطراً .. وهكذا ، فإن شرط ترك اﻷثر هو قناعتنا بعمق ما نكتب وأحقية وفائدة ما نكتب أو نقول ، وأن هذه القناعة تأتي من الكنز الروحاني الذي منحنا إياه رب العلمين ، فكل اﻷمر رهين برضا الله عنه وهو من يأذن في نسأ أثره في الناس إذا كان دفعاً بالحق في القول أو الكتابة دون تزكية للنفس على الله والعباد ودون طلب لدعاية أو شهرة أو حمد من الناس بما لا استحقاق فيه ..
لم يكن أنبياء الله يرجون تمجيداً لذواتهم بما دعوا الناس إليه .. فثبت الله الفؤاد منهم على الطريق الشاقة بما طمئن به نبينا العظيم بأن قال له ولنا من بعده ولكل من كان كائناً في الدهر (أليس الله بكاف عبده . ويخوفونك بالذين من دونه) فكل ما دون الله فالله كفيل به .. فلتطمئن القلوب إذن وتقر ، ثم تقدم العطاء بإخلاص ..