فك أختام الأمس..
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
كعادته، كتب الدكتور – بالألف واللام – (زكي نجيب محمود) مقدمة رائعة ثرة لترجمة محاورات الفيلسوف وعالم الرياضيات الانجليزي البارز (الفرد نورث هوايتهد) A.N.Whithead (1861- 1947م)، قارن فيها بين روحين مختلفتين لدى شخصين مختلفين لم يكن لهما أن يلتقيا مطلقاً في الحياة لبعد الزمان بينهما، فمن جهة كانت روح الشرق التي تحققت في (أبو حيان التوحيدي) من خلال كتابه الفذ (الامتاع والمؤانسة)، ومن الجهة الأخرى كانت روح الغرب التي تجسدت في الرجل الأوروبي الصميم (أ. ن. هوايتهد).. لم يكن الشاهد في هذه المقارنة هو درجة الاختلاف التي ميزت كل منهما عن الآخر، بل كان الأمر عكس ذلك تماماً بأنهما قد سارا معاً في خط واحد ليصلا إلى نفس النتيجة في فكرة معينة.. وبالرغم من التصنيف الثقافي الذي ميز بحسم بين الحالة الإنسانية الشرقية التي اتسم فيها الساميون بالصرامة والجهامة والجدية إلى حد الحزن بالفطرة كما عبرت عنهم (التوراة)، وما اتسمت به الحالة الإنسانية الغربية في طابع الروح الهيلينية لدى ورثة الثقافة اليونانية من فكاهة وتبسط واغراق في المرح إلى حد النشوة وربما إلى حد المجون.. إلا أن المقارنة جمعت بين المزاجين المتضادين في خلاصة واحدة اتفق فيها الرجلان فيما يتعلق بحقيقة الاجتماع البشري وتكون الأوطان، وعبر عنها (هوايتهد) بقوله (أن خير المدنيات هو ما جاء من شعب اختلطت في نسيجه خيوط العنصرية، وأنه كلما صفا الجنس عنصراً ولم تدخله أخلاط من الخارج كان أقرب إلى الانحلال)..
ومن هنا ننطلق..
لم يفهم (هتلر) الداعي إلى صفاء وسيادة العرق الآري وحده غي العالم، ولا (أفلاطون) الفيلسوف من قبله الداعي إلى سيادة الرجل من اثينا من طبقة معدن الذهب ليستولي على الحكمة والدولة معاً دون غيره، أن الخبرة البشرية الطويلة أثبتت أن البقاء فعلاً يكون للأصلح، وأن الأصلح في الشعوب هو ما اتصلت فيه اعراق وألوان البشر برباط موثق فصاروا مجتمعاً بمعنى الكلمة.. ولعل الآية القرآنية الكريمة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..) ارشدت بنحو بذلك عندما تقدم فيها ذكر الشعوب على القبائل.. فربما كان الظاهر في سنة التطور البشري أن القبيلة حالة مؤقتة وأن التمسك المفرط بزمام القبلية الحادة للحفاظ على الصفاء العرقي حتماً سوف يتخطاه تقادم الأزمان بفعل التوسع الحضري والعمراني فلا يعود الأمر يسيراً في لملمة أطراف العشائر لنصنع منها حدود القبائل لأنها ستكون قد احيلت شعباً ودولة.. ولذلك إن قلنا أن (القبيلة) هي حالة تاريخية مؤقتة فإن(الشعب) هو الحالة المستقرة التي تنتهي إليها دوماً هيئة الاجتماع البشري في استمرار تطورها، والمعادلة في تفسير هذا بسيطة.. (القبيلة) طريقة حياة الناس الواحدة فيها تقوم على العرق أو العنصر، وهذا أمر قد يختل بالتزاوج من خارجها. بينما (الشعب) طريقة حياة الناس الواحدة فيه تقوم على التعايش المشترك، وذاك أمر لا يبليه تباين الأعراق وتداخلها..
وليس المقصود هو قمع العشائرية القبلية على الإطلاق، فإن لها من الفائدة ما يمنح المرء معها الشعور بالانتماء الأسري، وهذا شيء مهم.. وإنما المقصود أن لا نجعلها عاملاً حكماً في تحديد الانتماء المجتمعي..
ولربما وجدنا في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول آسيا نماذج شاهدة على قوة بناء المجتمع القائم على التعايش المشترك لأعراق بشرية متعددة..
إذن، وإذا كان هذا هو سر البقاء للأصلح، فإن هذا التمازج الخلاق الموجود على أرض السودان قمين أن يجعله أهلاً للبقاء والتقدم بجلد.. والضرورة في هذا تفرض التجاوز لسطوة التعصب للقبلية خارج حدود الانتماء الأسري من أجل التوسع والتفسح في مجالس التعايش المشترك بين جميع من توطن هذه الأرض.. وهذا ليس مجرد إمكان للحدوث، بل هو قد وقع بالفعل، وكان ذلك في ملحمة الاعتصام الكبرى قبيل وفي رمضان المبارك.. حيث لم تكن الثورة الشعبية هناك أنجح في أيٍ من مناحيها من نجاحها في إثبات هوية الوطن عبر النسيج المجتمعي الذي تشابكت فيه كافة الخيوط العرقية للسودان، قلباً ووجداناً وهدفاً واحداً، ومعاناة إنسانية واحدة، وموت واحد وحياة واحدة.. وأمام ذلك المشهد الذي ختم التاريخ بخاتمه لا نملك ناصية للكلمات ويصير الصمت أبلغ في حضرة الأفعال.. والوصف لأناس هناك كانوا يدونون مفكرة الثورة على ما قال (مارون عبود) في إحدى صفحاته ) يقرأون على ضوئها الوهاج سطور المعضلات المبهمة، ويفكون أختام الأمس).
د. وائل أحمد خليل صالح الكردي
كعادته، كتب الدكتور – بالألف واللام – (زكي نجيب محمود) مقدمة رائعة ثرة لترجمة محاورات الفيلسوف وعالم الرياضيات الانجليزي البارز (الفرد نورث هوايتهد) A.N.Whithead (1861- 1947م)، قارن فيها بين روحين مختلفتين لدى شخصين مختلفين لم يكن لهما أن يلتقيا مطلقاً في الحياة لبعد الزمان بينهما، فمن جهة كانت روح الشرق التي تحققت في (أبو حيان التوحيدي) من خلال كتابه الفذ (الامتاع والمؤانسة)، ومن الجهة الأخرى كانت روح الغرب التي تجسدت في الرجل الأوروبي الصميم (أ. ن. هوايتهد).. لم يكن الشاهد في هذه المقارنة هو درجة الاختلاف التي ميزت كل منهما عن الآخر، بل كان الأمر عكس ذلك تماماً بأنهما قد سارا معاً في خط واحد ليصلا إلى نفس النتيجة في فكرة معينة.. وبالرغم من التصنيف الثقافي الذي ميز بحسم بين الحالة الإنسانية الشرقية التي اتسم فيها الساميون بالصرامة والجهامة والجدية إلى حد الحزن بالفطرة كما عبرت عنهم (التوراة)، وما اتسمت به الحالة الإنسانية الغربية في طابع الروح الهيلينية لدى ورثة الثقافة اليونانية من فكاهة وتبسط واغراق في المرح إلى حد النشوة وربما إلى حد المجون.. إلا أن المقارنة جمعت بين المزاجين المتضادين في خلاصة واحدة اتفق فيها الرجلان فيما يتعلق بحقيقة الاجتماع البشري وتكون الأوطان، وعبر عنها (هوايتهد) بقوله (أن خير المدنيات هو ما جاء من شعب اختلطت في نسيجه خيوط العنصرية، وأنه كلما صفا الجنس عنصراً ولم تدخله أخلاط من الخارج كان أقرب إلى الانحلال)..
ومن هنا ننطلق..
لم يفهم (هتلر) الداعي إلى صفاء وسيادة العرق الآري وحده غي العالم، ولا (أفلاطون) الفيلسوف من قبله الداعي إلى سيادة الرجل من اثينا من طبقة معدن الذهب ليستولي على الحكمة والدولة معاً دون غيره، أن الخبرة البشرية الطويلة أثبتت أن البقاء فعلاً يكون للأصلح، وأن الأصلح في الشعوب هو ما اتصلت فيه اعراق وألوان البشر برباط موثق فصاروا مجتمعاً بمعنى الكلمة.. ولعل الآية القرآنية الكريمة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..) ارشدت بنحو بذلك عندما تقدم فيها ذكر الشعوب على القبائل.. فربما كان الظاهر في سنة التطور البشري أن القبيلة حالة مؤقتة وأن التمسك المفرط بزمام القبلية الحادة للحفاظ على الصفاء العرقي حتماً سوف يتخطاه تقادم الأزمان بفعل التوسع الحضري والعمراني فلا يعود الأمر يسيراً في لملمة أطراف العشائر لنصنع منها حدود القبائل لأنها ستكون قد احيلت شعباً ودولة.. ولذلك إن قلنا أن (القبيلة) هي حالة تاريخية مؤقتة فإن(الشعب) هو الحالة المستقرة التي تنتهي إليها دوماً هيئة الاجتماع البشري في استمرار تطورها، والمعادلة في تفسير هذا بسيطة.. (القبيلة) طريقة حياة الناس الواحدة فيها تقوم على العرق أو العنصر، وهذا أمر قد يختل بالتزاوج من خارجها. بينما (الشعب) طريقة حياة الناس الواحدة فيه تقوم على التعايش المشترك، وذاك أمر لا يبليه تباين الأعراق وتداخلها..
وليس المقصود هو قمع العشائرية القبلية على الإطلاق، فإن لها من الفائدة ما يمنح المرء معها الشعور بالانتماء الأسري، وهذا شيء مهم.. وإنما المقصود أن لا نجعلها عاملاً حكماً في تحديد الانتماء المجتمعي..
ولربما وجدنا في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول آسيا نماذج شاهدة على قوة بناء المجتمع القائم على التعايش المشترك لأعراق بشرية متعددة..
إذن، وإذا كان هذا هو سر البقاء للأصلح، فإن هذا التمازج الخلاق الموجود على أرض السودان قمين أن يجعله أهلاً للبقاء والتقدم بجلد.. والضرورة في هذا تفرض التجاوز لسطوة التعصب للقبلية خارج حدود الانتماء الأسري من أجل التوسع والتفسح في مجالس التعايش المشترك بين جميع من توطن هذه الأرض.. وهذا ليس مجرد إمكان للحدوث، بل هو قد وقع بالفعل، وكان ذلك في ملحمة الاعتصام الكبرى قبيل وفي رمضان المبارك.. حيث لم تكن الثورة الشعبية هناك أنجح في أيٍ من مناحيها من نجاحها في إثبات هوية الوطن عبر النسيج المجتمعي الذي تشابكت فيه كافة الخيوط العرقية للسودان، قلباً ووجداناً وهدفاً واحداً، ومعاناة إنسانية واحدة، وموت واحد وحياة واحدة.. وأمام ذلك المشهد الذي ختم التاريخ بخاتمه لا نملك ناصية للكلمات ويصير الصمت أبلغ في حضرة الأفعال.. والوصف لأناس هناك كانوا يدونون مفكرة الثورة على ما قال (مارون عبود) في إحدى صفحاته ) يقرأون على ضوئها الوهاج سطور المعضلات المبهمة، ويفكون أختام الأمس).